تعمل أغلب الأحزاب أو التيارات الإسلامية على تطبيق الشريعة الإسلامية التي تتعدد تفسيراتها وتختلف من دولة ومن حقبة إلى أخرى. ومع ذلك، تبرز قضايا ثلاث تُباعد بين التفسير أو التطبيق السائد للشريعة الإسلامية، من ناحية، وحقوق الإنسان ودولة المواطنة من ناحية أخرى. تتعلق أولها بانتهاكات الحق في الحرية الدينية، ولا سيما المساواة بين المسلمين وغيرهم، والسماح باعتناق وممارسة شعائر “الأديان غير السماوية” أو حتى بعض المذاهب الإسلامية المختلقة، والإلحاد والردة عن الإسلام؛ أمّا القضية الثانية، فترتبط بحرية المرأة ومساواتها بالرجل، ويبدو ذلك بشكل أساسي من خلال منع زواج المسلمة بغير المسلم وعدم مساواتها في مجال الميراث وحضانة الأطفال وحظر التنقل بغير محرم.. إلخ؛ وترتبط القضية الثالثة بالعقوبات الجسدية التي تطبّقها أو تسعى إلى تنفيذها التياراتُ الأكثر تشددًا، مثل الرجم وقطع يد السارق. وتؤثّر الشريعة الإسلامية في حقوق أخرى، كحرية التعبير ذات الصلة بانتقاد الدين ورموزه، حرية الأهل في اختيار الدين والتربية الدينية لأطفالهم وما يتعلق بسلامتهم الجسدية التي تُنتهك بقبول زواج الأطفال، وبحرية التوجه الجنسي للأشخاص، فضلًا عن حظر المشروبات الكحولية والتدخل بطريقة اللباس.. إلخ. في إطار ذلك، لا يمكن إقامة دولة مدنية تعامل مواطنيها على قدم المساواة وتحترم حقوقهم وحرياتهم، في ظلّ حكم إسلامي، وهو ما يتبيّن من الدول والمناطق التي يستمر فيها تطبيق الدين أو تسييسه.
ما سبقَ ذكره لايعني أنّ الشريعة الإسلامية أو الحكم باسمها هو المسؤول فقط عن انتهاكات حقوق الإنسان، وأنّ الأنظمة غير الدينية تحترم هذه الحقوق؛ فهناك أديان وأنظمة غير إسلامية تؤدي دورًا أساسيًا في ذلك؛ حيث تنتشر -على سبيل المثال- ظاهرة ختان الأطفال عند اليهود، والتمييز ضدّ غير اليهودي في إسرائيل، وتنصّ العديد من قوانين الأحوال الشخصية المسيحية على وجوب طاعة المرأة للزوج، وتجرد المسيحيين من حقوقهم، في حال “مروقهم” من الدين المسيحي. كما شهدت أنظمة الحكم غير الدينية، كالشيوعية والعروبية، انتهاكات منهجية واسعة النطاق بحق غير معتنقي أيديولوجيتهم ومعارضي حكمهم بشكل عام. وعلى الرغم من ذلك، ترى بعض الشرائح المجتمعية أنّ “الدكتاتور الديني” أسوأ من غيره، لا سيما في ظلّ تقديس حكمه باسم الدين، من ناحية، وتدخله في الحياة الشخصية والمعتقدات الدينية للمواطنين، من ناحية أخرى. هذا وتستخدم العديد من الأنظمة الاستبدادية الحاكمة الإسلامَ السياسي كداعم لإحكام سيطرتها على مقاليد الحكم، من خلال تعزيز الصراع بين دعاة الدولة المدنية، من جهة، والساعين لإقامة “دولة إسلامية”، من جهة أخرى. كما تسعى هذه الأنظمة لتقديم نفسها، على الصعيدين المحلي والدولي، على أنها الخيار الوحيد البديل عن الإسلاميين. فما هو الحلُّ، اليوم، في ظلّ وجود تيارات دينية إسلامية في السلطة أو ساعية لتبوئها؟!
تتعالى أصوات المسلمين المطالبين بإعادة قراءة الإسلام أو التوقف عن زجّه في السياسة وأمور الحكم؛ حيث يرفض علي عبد الرازق، في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، اعتبار الفقه من المقدّسات، ويدعو إلى الدولة المدنية غير القائمة على فكرة الخلافة. ويؤيدهُ في ذلك العديد من المفكرين الإسلاميين، أمثال جمال البنّا ومحمد عبده و محمد رشيد رضا. ويطالب عدد من المفسّرين بتطبيق قراءة معاصرة وإنسانية للدّين الإسلامي، والأخذ بروح الإسلام، وأيضًا بتفسير الآيات القرآنية بما ينسجم مع متطلبات العصر. إن التفسير الإنساني المعاصر للشريعة الإسلامية يقلّص حتمًا من تعارضها مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان. ويستند هؤلاء إلى نصوص قرآنية عديدة منها “لا إكراه في الدين”، و”جعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا..”. غير أنّ وضوح النص الديني يشكّل عائقًا، أحيانًا، أمام تجاوز بعض التقييدات الدينية. في هذا الإطار، يطالب كثير من المفكرين بتطبيق العلمانية، ويرفضون زجّ الدين وإقحام الشريعة في أمور الحكم. وفي هذا الإطار، يقول المفكر خالد محمد خالد، في كتابه المشهور (من هنا نبدأ): “إذا مزجنا الدين بالدولة فسنخسر الدين ونخسر الدولة”.
يقتصر تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، اليوم، في كثير من الدول ذات الغالبية المسلمة، على مجالات محدودة جدًا، لا سيما الأحوال الشخصية التي تشمل قضايا الزواج والطلاق وما يرتبط بهما. ونجد في هذه الدول قوانين جنائية ومالية واقتصادية ومدنية بعيدة كلّ البعد عن الدين الإسلامي. هذا وقد ألغت هذه الدول العقوبات الجسدية وألغت حتى نظام الذمّة الذي كان يُطبّق على غير المسلمين من يهود ومسيحيين، إثر الفتوحات الإسلامية. يتطلب تحديث الإسلام أو فصله عن الدولة، ومن ثم إتاحة المجال لإنشاء الدول المدنية الديمقراطية التي تُحترم فيها حقوق الإنسان، اتخاذ خطوات عديدة. فلا بدّ من دعم تحرر هذه الدول ذات الغالبية المسلمة من نير النظم الاستبدادية التي تبقى الداعم الأبرز للتطرف الديني، في ظلّ تسييسها للدين وتكريسها الطائفية وانتهاكاتها المستمرة لحقوق الإنسان، وإيلائها الأهمية القصوى للحفاظ على السلطة، في ظلّ تجاهل قضايا التنمية والتعليم، ومكافحة الجهل والتخلف والفقر. كما تقمع هذه الأنظمة الناشطين الحقوقين ومنظمات المجتمع المدني التي من المفترض أن تلعب دورًا أساسيًا في عملية إصلاح الإسلام والتأصيل لدولة القانون والمواطنة. وقد لعبت أيضًا بعض الدول الغربية دورًا سلبيًا في عرقلة الديمقراطية، ومنعها عن الدول ذات الغالبية المسلمة، في ظلّ دعمها لأنظمة دكتاتورية، والاستمرار في سياساتها الاستعمارية الساعية إلى تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية، دون الاكتراث بحقوق الشعوب و بمبادئ الديمقراطية المطبّقة على أراضيها.
يبدو أنّ معركة شعوب الدول ذات الغالبية الإسلامية ستستمر خلال العقود القادمة، للخروج من دوامة العنف والاستبداد بشقيه الديني والسياسي، من ناحية، وللتحرر من تحكم بعض القوى الدولية والإقليمية في مقدراتها، من ناحية أخرى. وستبقى الشريعة الإسلامية أو تطبيقاتها من أبرز معرقلات الوصول إلى دول ديمقراطية تحترم كرامة وحرية الانسان، ما لم يتم فصل الدين عن الدولة أو الأخذ بقراءة إنسانية للدين الإسلامي تستبعد أي تعارض فيه مع حقوق الإنسان ودولة المواطنة.