لاحظ جيمس ماتيس، وزير الدفاع الأميركي الأسبق، بعد مغادرته منصبه، افتقارَ واشنطن إلى الإستراتيجية والتخطيط الإستراتيجي الفعّال، ووصفها بأنها «منطقة خالية من الإستراتيجيات»! ملاحظة ماتيس هذه بدت وكأنها صدًى لما يتردّد على لسان العديد من المحلّلين والمهتمين بالسياسة الخارجية الأميركية في عالمنا العربي ومنطقة الشرق الأوسط.
وفي تعليقٍ على ذلك، تمنّى أنتوني كوردسمان، المحلل والخبير الإستراتيجي المعروف، لو أنّ العاصمة الأميركية تشكو من غياب الإستراتيجية فحسب، واعتبر أنّ الإستراتيجيات المتبعة والمعمول بها عرجاء وعقيمة، ووصف واشنطن كـ «منطقة إستراتيجية خاطئة». وفي دراسةٍ له في «مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية» (CSIS)، رأى كوردسمان أنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أشبه بـ«مستنقع للإستراتيجية الأميركية»، على خلفية ما شهدته خلال العقدين الأخيرين من تدهور مطرد في استقرارها الإقليمي، وفي نفوذ الولايات المتحدة، على حدٍّ سواء.
وللتدليل على موقفه، يسوق كوردسمان بعض الأمثلة؛ مثل الغزو الأميركي للعراق الذي أفضى إلى «فتح أبوابه أمام النفوذ الإيراني، وخلق ممرّ آمن أمام طهران يمتد من بلاد الشام إلى غرب أفغانستان». وكذلك السياسة الأميركية في سورية التي «سمحت لروسيا وإيران وحزب الله بأن يصبحوا جهات فاعلة رئيسية في سورية، وأطرافًا معادية أقوى بكثير في المنطقة»1.
وفي الواقع، ليس كوردسمان وحده من يوجّه انتقادات للسياسات الأميركية المُتبعة في غير مكان من العالم، بل يشاطره في ذلك بعض المخضرمين من واضعي الإستراتيجيات الأميركية منذ عقود، (من أمثال زبغنيو بريجنسكي وهنري كيسينجر). فقد انتقد الأول، الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي الأميركي بين عامي 1977 و1981، الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ووصفه بـ «المغامرة التي ألحقت ضررًا كارثيًا بالموقف الأميركي العالمي، وأسقطت مصداقية القيادة الأميركية العالمية، وكانت خسائرها المالية والبشرية باهظة ومرهقة»، فضلًا عن «تحول أفغانستان والعراق والصومال إلى ملاذات آمنة للجماعات الإرهابية المسلحة التي صعدت على نحو غير مسبوق من قبل»2.
أما كيسنجر، مهندس السياسة الخارجية في عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، فقد ربط بين تراجع القوة الاقتصادية للولايات المتحدة (من 55 % من الناتج القومي الإجمالي في العالم، عند نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى قرابة 22 % منه في نهاية العام 2016)، وبين تزايد التحديات التي تواجهها على صعيد سياستها الخارجية. ورأى أن مشكلة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط تكمن كذلك في «غياب الرؤية الإستراتيجية».
ويرى كيسنجر أن «الولايات المتحدة لا يمكنها الانسحاب من الشرق الأوسط، بل تحتاج إلى وضع إستراتيجية واضحة، وتحديد الأولويات على نحو صحيح». قبل أن يضيف أنّ عليها أن توصل رسالة واضحة إلى طهران مفادها أنّ “تحقيق علاقات جيدة مع واشنطن لا يمكن أن يترافق مع شنّ حروب بالوكالة ودعم الإرهاب وخلق كيانات متشددة في لبنان، سورية، العراق، واليمن”، وقال: “إننا سوف نحكم على أفعالكم لا على أقوالكم”. وحذر من أن «تصبح عقيدة أوباما السلبية المتخاذلة صفة أساسية للسياسة الخارجية الأميركية»3.
وبغضّ النظر عن علاقة الأمر بغياب الإستراتيجية (أو بخطئها)، لدى صنّاع القرار في العاصمة الأميركية، أو أن نقد هذه الإستراتيجية هو محض تعبير عن رفض السياسات الأميركية المعمول بها هنا أو هناك، فإنّ ما تجدر ملاحظته هو مقدار التأرجح والارتباك، فضلًا عن الانزياح والتبدل في الإستراتيجيات الأميركية (الخارجية)، وخصوصًا تجاه ما يسمّى بالشرق الأوسط؛ هذه المنطقة الطافحة بالمتناقضات والتعقيدات والحبلى دائمًا بالأزمات.
تراجع الدور الأميركي
بعد الانتصار الذي حقّقته الولايات المتّحدة في الحرب الباردة، ساد الاعتقاد لدى المسؤولين الأميركيين، (وغيرهم)، بأنّ القرن الحادي والعشرين سيكون قرنًا أميركيًا بامتياز، من دون وجود منافس لهم. بيد أن التطورات والأحداث المتلاحقة التي حصلت منذ بدايات القرن أفضت إلى نتيجة معاكسة لهذه التوقعات؛ من هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، إلى دخول الولايات المتحدة في حربين متتاليتين في أفغانستان والعراق، وما صاحبهما من أخطاء وخطايا إستراتيجية ارتكبتها إدارة جورج بوش الابن، مرورًا بالأزمة المالية التي شهدتها في عام 2008، والركود الاقتصادي الذي ترتب عليها وما رافقه من تصاعد للمديونية الأميركية، وصولًا إلى تنامي الشكوك لدى عدد من العواصم العالمية في قدرة الولايات المتحدة على قيادة العالم، اقتصاديًا وسياسيًا، في وقت كانت فيه الصين تحقق معدلات نمو عالية، وتصعد على سلّم المنافسة الاقتصادية للولايات المتحدة.
ذلك كلّه أدى في حصيلته إلى بداية تراجع الدور الأميركي في السياسة الدولية، وأقلّه تراجع هذا الدور في الشرق الأوسط. ويرى كثيرون أن تخفيض الوجود العسكري في المنطقة سينجم عنه انحسار مؤكد في الدور السياسي والدبلوماسي الأميركي، وسيشكل بداية أفول الحقبة الأميركية الطويلة في منطقة الشرق الأوسط. وقد أعرب فرانك ماكينزي، القائد الأعلى للقوات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، عن خشيته من أن يؤدي تقليص الوجود العسكري لبلاده في المنطقة لصالح التركيز على المنافسة مع القوى العظمى إلى نتائج معاكسة. وحذّر بأن الولايات المتحدة تخاطر من جرّاء ذلك بـ«منح الصين وروسيا فرصة لسدّ الفجوة وتوسيع نفوذهما في المنطقة»4.
ولاحظ البعض أن هذا التخفيض يتم بالتزامن مع بداية نهاية الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان، وتوجّه إدارة بايدن إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي مع طهران، والأهم أنه يأتي في أعقاب توقيع اتفاق “الشراكة الإستراتيجية الشاملة” بين الصين وإيران، (وهو اتفاق اقتصادي وعسكري مدته 25 عامًا)، ويقضي بقيام بكين باستثمار حوالي 400 مليار دولار في قطاعات النفط والتعدين والمواصلات في إيران، وتعزيز العلاقات العسكرية والاستخباراتية بين البلدين، مقابل حصول الصين على إمدادات الطاقة التي تحتاج إليها بأسعار مُخفّضة.
وفضلًا عن كون هذا الاتفاق سيخفف حتمًا من وطأة المأزق الاقتصادي الذي تعانيه إيران، فإنّه -في حال تطبيقه- «سيعزّز لا محالة من نفوذ الصين الاقتصادي والسياسي في المنطقة»5. وعلى ذلك، رأى محللون أن الاستعجال الأميركي للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران قد ينطوي، في جانب منه، على محاولة الحدّ من آثار هذا الاتفاق، والسعي إلى احتوائه وتطويق التمدد الصيني في المنطقة.
ولعلّ إستراتيجية الرئيس باراك أوباما (التي اشتهرت فيما بعد بـ«عقيدة أوباما») كانت مؤشرًا يؤذن ببداية هذا التراجع. حيث أكد فيها تغيّر الأولويات الخارجية، معتبرًا أنّ الشرق الأوسط لم يعد مهمًا للمصالح الأميركية، وينبغي عدم إدراجه ضمن أولوياتها، وذلك بالتزامن مع تناقص الاعتماد الأميركي على نفط الشرق الأوسط، واكتشافات الطاقة البديلة. ورأى في المقابل أنّ مركز الاهتمام الأميركي ينبغي أن ينتقل إلى الشرق الأقصى، لمواجهة النفوذ الاقتصادي والإستراتيجي المتنامي للصين، بوصفها التحدّي الرئيس للمصالح الأميركية، وبأنّ على واشنطن أن تعمل على كبح جماحها والحدّ من سعيها المتزايد للسيطرة.
أولويات مختلفة
بحسب جيفري غولدبرغ، فقد بدا واضحًا أنّ إدارة أوباما لن تورط نفسها في أيّ تدخّل عسكري جديد في المنطقة، في وقتٍ تسعى فيه إلى إنهاء حربين في العراق وأفغانستان والانسحاب منهما. هذا فضلًا عن اعتبار أن مشكلة الدول الخليجية الرئيسة ليست في الخطر الإيراني، بل في مقاومة هذه الدول لضرورات التغيير الداخلي، والاستجابة للتحوّلات التي تجري في مجتمعاتها والعالم. ولم يكتف أوباما بذلك، بل طالب بـ “إيجاد طريقة لتشارُك المنطقة بين السعوديين والإيرانيين..”، وكأنه يفترض أنّ إيران تملك حقًا مشروعًا لممارسة نفوذها في العالم العربي. معتبرًا أنّ المنافسة بين الطرفين «ساهمت في تغذية الفوضى والحروب التي تُشَنّ بالوكالة في سورية والعراق واليمن..»6.
يُذكر أنّ السعي الأميركي إلى الانسحاب من أفغانستان، وكذلك من العراق وسورية، استمرّ بوصفه هدفًا للإدارات المتعاقبة، ولم تختلف في ذلك إدارة الرئيس دونالد ترامب (الجمهورية) عن إدارة سلفه أوباما (الديمقراطية)، بصرف النظر عن التوجهات المتباينة في ما بينهما، وعلى الرغم كذلك من الأصوات الكثيرة، داخليًا وخارجيًا، الداعية إلى التأني في الإقدام على هذه الخطوة، محذرة من أنها ستصب في مصلحة طهران بشكل رئيس.
وفي ظلّ سياسته القاضية بنفض يديه من أزمات المنطقة، وشعور الكثيرين بانحيازه إلى إيران، على حساب أمن ومصالح الدول العربية والخليجية واستقرارها، وعدم اكتراثه السياسي والأخلاقي بموت مئات آلاف الضحايا الأبرياء في سورية والعراق وليبيا واليمن، ذهب البعض إلى حدّ القول بأن سياسة الرئيس أوباما تندرج في إطار المؤامرة، أو تلامس حدودها على الأقل. وخلص بعضهم إلى أنّ تراجع أوباما عن ضرب سورية (بعد تجاوزها لخطّه الأحمر الكيمياوي)، تمّ بقصد عدم تعكير صفو المفاوضات التي كانت تجري بسرية في عُمان مع الإيرانيين. وثمة من يقول الآن بأن إدارة بايدن قد تُقدم على مزيدٍ من التنازلات في سياساتها (السورية) على مذبح إنجاح مفاوضاتها مع طهران، على غرار ما فعله أوباما تمامًا.
وبصدد الحديث عن التنازلات، رأى آخرون أن سياسة أوباما وبايدن ليست غامضة ولا مبهمة، بل مدروسة جيدًا، وهما لا يمانعان أن تهيمن إيران على المنطقة، وتحلّ مكان واشنطن عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، ما دامت الأخيرة تريد المغادرة وترك أبناء المنطقة «يقلعون أشواكهم بأيديهم»!. أما المحللون الأكثر رصانة، فاكتفوا بالقول بأنه من الطبيعي أن تستثمر طهران في الليونة التي تبديها أي إدارة أميركية لتحقيق المكاسب، ومن بينها الاعتراف بها كشريك إستراتيجي في الحوار حول قضايا المنطقة7.
بايدن على خطى أوباما
وتماشيًا مع نهج أوباما و«عقيدته»، في الانفتاح على إيران والتغاضي عن أنشطتها المهددة للأمن الإقليمي (التي باتت وكأنها سياسة للحزب الديمقراطي ككل، وليس لهذه الإدارة أو تلك فقط)، شدد الرئيس بايدن على اللجوء إلى الدبلوماسية وعدم استخدام القوة العسكرية في حل مشكلات المنطقة. وأكد أنّ بلاده «لن تُنفق بعد الآن تريليونات الدولارات على حروب بلا نهاية، وجاءت بنتائج عكسية»8.
وقد تجاهل بايدن الشرق الأوسط على نحو شبه تام في خطاب حال الأمة، (نيسان/ أبريل الماضي)، ولم يكترث بأيٍّ من ملفاته. وجعل جهود إدارته تركّز على «الصين، المنافس الوحيد المحتمل للولايات المتحدة..»، إلى جانب روسيا وملف إيران النووي، كأبرز أولويات إدارته. مع التشديد على أنها تريد تلافي أزمات أخرى يمكن أن تحوّل انتباهها عن هذه الأولويات. وبالفعل، رمت إدارة بايدن بثقلها في مفاوضات جدية لإحياء الاتفاق النووي مع طهران. وتشير المعلومات المتداولة إلى أنّ الطرفين في طريقهما إلى العودة قريبًا إليه.
وفي المقابل، فهي ماضية في تخفيف وجودها العسكري في منطقة الخليج، ووجّهت انتقادات حادة بشأن وضع حقوق الإنسان في بعض الدول العربية (مثل السعودية ومصر)، وجمّدت مبيعات أسلحة متطورة للسعودية والإمارات. وأكّدت أنها ستوقف الدعم «للحرب التي تقودها السعودية في اليمن»، وتخلّت عن تصنيف الحوثيين «تنظيمًا إرهابيًا» (الذي أقرّ في عهد ترامب). وقد اعتُبر ذلك أنه يصبّ في خانة تقديم «أوراق حسن النية» تجاه طهران.
وتأكيدًا لهذه التوجهات، شدّد وزير الخارجية أنتوني بلينكن على أن إدارة بايدن لن تشجع الديمقراطية حول العالم، من خلال التدخلات العسكرية أو محاولة الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية بالقوة. وهنا يجدر التساؤل: أليس بإمكان واشنطن (إن هي أرادت) أن ترمي بثقلها الكلي وتضغط لتحقيق هدف محدد، ومن دون تدخل عسكري؟! ألم تفعل ذلك عند العدوان البريطاني والفرنسي والإسرائيلي المشترك على مصر عام 1956، حين اتخذ الرئيس الأميركي أيزنهاور موقفًا صارمًا تجاهه، وطلب من الدول الثلاثة، على نحو حاسم، سحب قواتهم فورًا من الأراضي المصرية؟ وشكل موقفه هذا نقطة انعطاف بالنسبة إلى النفوذ الأميركي في المنطقة، على حساب كلّ من القوتين الاستعماريتين التاريخيتين فيها؛ بريطانيا وفرنسا.
ما أودّ قوله هو أنّ مطالبة واشنطن، بممارسة الضغط في هذه الساحة أو تلك، لا يساوي ولا يعني بالضرورة دعوتها إلى التدخل العسكري المباشر. وبوسعنا الافتراض كذلك أنه كان بإمكان إدارة الرئيس أوباما أن تسعى إلى «صفقة» أفضل مع موسكو، بشأن ملف سورية الكيمياوي، في مقابل التراجع عن «خطها الأحمر» واستخدام آلتها العسكرية، وذلك لجهة ممارسة الضغط المطلوب لإنجاز تسوية سياسية تحقّق مصلحة جميع الأطراف المعنية (وفي مقدّمها الشعب السوري المنتفض)، أو على الأقلّ صفقة لا يكون المستفيد الوحيد منها هو نظام دمشق وحلفاؤه، الذين يُفترض أنهم في خانة أعداء وخصوم واشنطن!
وعلى الغرار نفسه، يمكن التنبيه إلى الاتفاق النووي مع طهران والتساؤل: ألم يكن بإمكان المفاوض الأميركي (في عهد أوباما) التوصل إلى اتفاق أفضل يأخذ بالحسبان الحيثيات والحساسيات والمصالح المتضاربة والمتناقضة لدول وشعوب المنطقة جميعها؟! والتساؤل ذاته ينسحب على المفاوضات الجارية حاليًا، تُرى هل ستهتم إدارة بايدن حقًا بمعالجة الثغرات والملاحظات التي أُخذت وما زالت تؤخذ على الاتفاق الموقع، أم أنها غير مكترثة ولا تأبه لذلك أصلًا؟
وفي هذا الصدد، يتذكر المرء قصة أيزنهاور و«العدوان الثلاثي» على مصر، فموقفه منه لم يكن بريئًا طبعًا، بل كان ينطلق من السعي إلى الحلول محلّ بريطانيا وفرنسا في الهيمنة على المنطقة من جهة، والرهان من جهة ثانية على إمكان استمالة الرئيس عبد الناصر (كقوة صاعدة)، ولو على حساب حلفاء بلاده التقليديين. بيد أنه أخفق في رهانه، ويقال إنه ندم عليه، بعد أن أدرك متأخرًا أنّ التنازلات التي قدمها لكسب ودّ عبد الناصر لم تنفع، وأن الأخير كان يماطل ويشتري الوقت، وأنه لن يكون، في أيّ حال، الصديق الموثوق الذي تبحث عنه واشنطن!
فهل يكرّر التاريخ نفسه إزاء الرهان الأميركي (أوباما سابقًا وبايدن حاليًا) على إمكان كسب نظام الملالي في طهران؟! تُرى، متى سيدرك «الديمقراطيون واليساريون» في أميركا وسواها، أن هذا النظام لا يُعوّل عليه، ولا يكترث بأيّ اتفاق، إنما يسعى إلى تحقيق أهداف إستراتيجية خاصة بآيات الله و«نظام الولي الفقيه». وهدفه الأساس هو تصدير «ثورته» ونهجه القروسطي، ومنطقه وأدواته المعتمدة في سبيل ذلك لا تتناسب أبدًا مع منطق وأدوات وأساليب دولة حديثة تتصرف على نحو عقلاني ومتوازن ومسؤول!
فلسطين وإدارة بايدن
يمثل الموقف من القضية الفلسطينية نموذجًا صارخًا لتخبّط واشنطن وإنكارها للمبادئ والقوانين الدولية، والتمسّك بموقف ينحاز، على نحو شبه مطلق، إلى طرفٍ على حساب طرف آخر. وقد شكلت المواجهات الأخيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين أوّل أزمة واجهتها إدارة بايدن على الصعيد الخارجي. فبعد تلكؤ وتردّد واضحين، تدخلت لدى إسرائيل من أجل وقف عدوانها على غزّة، قبل أن توفد وزير خارجيتها أنتوني بلينكن إلى المنطقة، للبحث عن فرص تثبيت وقف إطلاق النار فقط، وليس السعي من أجل إطلاق مفاوضات متعثرة وعالقة منذ سنوات بين الجانبين.
الإدارات الأميركية المتعاقبة انحازت، على نحو دائم، إلى جانب إسرائيل، وشكلّت مظلة سياسية لها ولسياساتها العدوانية تجاه الفلسطينيين والعرب، غير أنّ الموقف الأميركي بقي، إلى ما قبل مجيء ترامب، ملتزمًا بعض العناوين العامة؛ مثل حلّ الدولتين، وعدم الاعتراف بالمستوطنات، أو بالقدس عاصمة لإسرائيل.
ولكنّ ترامب تجاوز هذا كلّه؛ واتخذ قراراته المعروفة بشأن القدس والمستوطنات والأرض، التي تُسقط الحد الأدنى من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وتؤدي في حصيلتها إلى تثقيل جديد في كفة إسرائيل (الراجحة أصلًا في ميزان الصراع المزمن)، وخصوصًا أنها ترافقت مع موجة التطبيع العلنية الجديدة، التي كان الغرض منها إعادة صياغة معادلات المنطقة وخارطة التحالفات فيها، على النحو الذي ينسجم مع المصالح والأهداف الأميركية الإسرائيلية التي تنطلق من رؤية اليمين القومي والديني الإسرائيلي بأن «الحلّ السياسي للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي يأتي لاحقًا، وبالشروط التي نريدها، فلِمَ الاستعجال»!
أما مقاربة بايدن فهي مختلفة، وهو غالبًا سيُخرج «صفقة القرن» من نطاق التداول السياسي خلال ولايته، مع ترجيح عودته إلى السياسة التقليدية للولايات المتحدة في هذا الشأن. ويجدر بالذكر هنا أنّ إدارة أوباما كانت قدّمت للفلسطينيين «هدية ثمينة» قبل رحيلها، حين وافقت ضمنًا (عبر الامتناع عن التصويت) على قرار مجلس الأمن رقم 2334 (23/ 12/ 2016)، الذي يدين الاستيطان ويطالب إسرائيل بوقفه، ويعيد تعريف القدس والضفة الفلسطينية كأراضٍ محتلة.
ومن الناحية النظرية، لا العملية، نجد أن سياسة أوباما كانت تقوم على أنه من أجل الحفاظ على إسرائيل كـ «دولة يهودية ديمقراطية» فلا بُدّ لها أن تتخلى عن الاحتلال والاستيطان في أراضي 1967، وإتاحة المجال أمام إمكان قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جوارها، وهو ما اعتبره (أوباما) «أفضل ضمان لأمنٍ طويل الأمد لإسرائيل، مسنودًا بدعم الدولة الأقوى في العالم»9.
وعلى الرغم من الخطوات الإيجابية التي بادرت إدارة بايدن إلى اتخاذها، أو الإعلان عن نيّة اتخاذها، على الضد من الإجراءات التي أقدمت عليها إدارة ترامب، فإنّ هذه الخطوات جميعها لا ترقى إلى المستوى الذي يُمكن أن يدفع نحو التفاؤل وإمكان الرهان على هذه الإدارة في الضغط على إسرائيل لتطبيق قرارات الشرعية الدولية، وإنهاء احتلالها للأراضي العربية.
وقد لاحظ كثيرون أن بند إعادة إحياء المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين لم يُدرج على أجندتها. وأنّ حديث الرئيس بايدن عن مبدأ «حل الدولتين» لا يتضمن أسسًا أو تصورات محدّدة لترجمته على أرض الواقع. والأدهى من ذلك أنه يعتبر أنّ هذا المبدأ يستوجب إقرار الفلسطينيين والعرب بإسرائيل كـ «دولة يهودية» أولًا. وأكد أخيرًا أنه “ما لم تقل المنطقة بشكل لا لبس فيه إنها تعترف بحق إسرائيل في الوجود، كدولة يهودية مستقلة، فلن يكون هناك سلام»!10.
سورية تغيب أيضًا!
سورية أيضًا غابت عن قائمة الأولويات الأميركية، بدلالة أنّ الرئيس بايدن لم يأتِ على ذكرها في أيّ من خطبه الرسمية، ولم يُعيّن مبعوثًا خاصًا لها، كما لم يصدر عقوبات جديدة بموجب «قانون قيصر» منذ وصوله إلى البيت الأبيض. وإذا قُيض لها أن تحضر على مائدته، فهي تفعل ذلك بالإنابة، وليس بالأصالة عن نفسها، أيّ من خلال مواقف وسياسات الدول المتدخلة في الصراع السوري وعلاقتها مع واشنطن؛ (روسيا، إيران، تركيا، وإسرائيل)، انطلاقًا من الأولوية التي تحتلها سورية على أجندة هذه الدول.
وفي الوقت الذي تقتصر الأولويات الأميركية في سورية على أمور ثلاثة: المساعدات الإنسانية، والملف الكيمياوي، ومحاربة «داعش»، قدّر بعضهم أنّ إدارة بايدن قد تتوجه نحو تبني خطة لـ «تسوية تدريجية» مع الأسد، وذلك على خلفية تعيينها لروبرت مالي، مبعوثا رئاسيًا خاصًا بإيران، وهو معروف بمواقفه المعارضة لأي ضغط على الأسد، إضافة إلى تعيين مسؤولين آخرين معروفين بمواقفهم الداعية إلى التخلّي عن المطالبة برحيله، وينادون برفع العقوبات عنه، والانخراط معه في حوار من أجل تحسين أوضاع السوريين. ومن هؤلاء فيل غوردون، الذي كان عضوًا في مجلس الأمن القومي في عهد أوباما، ويشغل الآن منصب نائب لمستشارة الأمن القومي لنائب الرئيس كاميلا هاريس.
وكان «الديمقراطيون» قدّموا تصورهم بشأن سورية، ضمن دراسة صدرت عن «مركز كارتر»، تحت عنوان «مسار تحول الصراع في سورية: إطار لنهج مرحلي»11، ورد فيها أن من الممكن اقتراح مفاوضات مع الأسد حول ملفات محدّدة، مثل: «الإصلاح السياسي، المعتقلين، عودة اللاجئين، حماية المدنيين ووصول المساعدات الإنسانية إليهم، وقف إطلاق النار في إدلب، اللاعبين الدوليين، والأسلحة الكيمياوية»، على أن تتم «خطوة خطوة»، ويجري من خلالها «مكافأة الأسد على تجاوبه، إزاء كل نقطة يتحقق تقدّمٌ فيها»، ويمكن عكس المكافأة وفق آلية «سناباك» وإعادة العقوبات الأميركية والدولية في حال تراجع الأسد عن وعوده.
إن طرح مثل هذه المشاريع يعني أن الرهان الأميركي لا يزال قائمًا على إمكان المفاوضات مع نظام الأسد، على الرغم من كل الصلف والتعنت والرفض والتسويف الذي يُبديه إزاء الحلول والتنازلات التي تُطلب منه، منذ بدايات الحراك الشعبي والانتفاضة ضده.
أما الأخذ على محمل الجد، بما صرح به أنتوني بلينكن في برنامج تلفزيوني (أيار/ مايو 2020)، قبل أشهر من تعيينه وزيرًا للخارجية، واعترافه بـ «الفشل» في ما يتعلق بالسياسة الأميركية بشأن سورية. وبأنّ ذلك «شعور يراوده بقوة وسيحمله بقية عمره». أو الاعتقاد بأن ما ارتكبه نظام الأسد من إجرام وسوء إدارة داخل البلاد، وافتقاره إلى الشرعية، توفر أسبابًا كافية لإدراك الإدارة الجديدة أنّ بقاءه ستترتب عليه تداعيات خطيرة، في مقدّمها توفير أرضية خصبة للمنظمات الإرهابية المتطرفة، والاستنتاج تاليًا بأن إدارة بايدن ستسعى إلى تغيير نهجها والمبادرة إلى تصحيح أخطاء الإدارات السابقة، والتعويض عنها بسياسات حازمة تستعيد من خلالها مكانتها وهيبتها في سورية والمنطقة، فإن هذا كلّه يدخل، كما أعتقد، في باب التمنيات والتعبير عن رغبات أصحابها وأوهامهم، أكثر من كونها رؤية تتوفر على حد أدنى من شروط السياسة التي يُفترض بها أن تتعامل مع الوقائع العيانية الملموسة، مهما كانت مُخيّبة ومُحبطة!
وفي ضوء ذلك كلّه، ماذا بوسع السوريين (مثَلهم مثَل الفلسطينيين من قبلهم) أن يفعلوا، إذا كانت الجهة الخارجية المُعوّل عليها للتدخل إيجابًا لمصلحتهم تتعزّز وتستكثر عليهم ذلك؟! هل يتبقّى لهم سوى الاعتماد على أنفسهم، والسعي إلى «حكّ جلدهم بأظفارهم»، عبر تطوير عوامل استنهاض ووحدة «الذات الجمعية» بأطيافها ومكوناتها كافة؟!
1ـ Anthony H. Cordesman / «Looking Beyond Syria and ISIS: America’s Real Strategic Needs in the Middle East» l Center for Strategic and International Studies (CSIS) l February 28, 2019
2ـ «الجزيرة نت» / «زبيغنيو بريجنسكي.. منظر السياسة الخارجية الأميركية»: 8/ 5/ 2017.
3ـ من حوار مطول أجراه معه جيفري غولدبيرغ في صحيفة «ذي أتلانتيك»: 15/ 11/ 2016.
4ـ «زعماء الشرق الأوسط يسألون واشنطن: باقية أم راحلة»؟ / صحيفة العرب: 5/ 6/ 2021.
5ـ هشام ملحم: «بداية أفول اللحظة الأميركية في الشرق الأوسط» / «المركز اللبناني للأبحاث والاستشارات»: 9/ 4/ 2021.
6ـ مقالة غولدبرغ «عقيدة أوباما» في مجلة «ذي أتلانتيك»، كما وردت مترجمة في «مركز إدراك للدراسات والاستشارات») / (27/ 3/ 2016).
7ـ مايكل يونغ / سقوط المسلّمات / مركز كارنيغي: (25/ 1/ 2021).
8ـ كما جاء في وثيقة «إستراتيجية الأمن القومي المؤقتة»، التي أعلنها الرئيس بايدن (3/ 3/ 2021)، ونقلتها وكالات الأنباء.
9ـ هذا هو فحوى خطاب أوباما الذي ألقاه أمام مئات من الطلبة الجامعيين الإسرائيليين في القدس (21/ 3/ 2013)، ونقلته مصادر إعلامية عدة.
10ـ أشار إلى ذلك فيصل علوش في «القضية الفلسطينية وأولويات السياسة الأميركية الراهنة»: وكالة قدس نت للأنباء: 9/ 6/ 2021.
11ـ وردت لدى حسين عبد الحسين/ «بايدن يعود إلى سياسة الانخراط مع الأسد»/ صحيفة «الرأي»: 4/ 2/ 2021.