لا يمكن الإلمام بما يزيد على نصف قرن من وقائع وتفاصيل وبيانات وقرارات الأمم المتحدة منذ نشوئها بعيد الحرب العالمية الثانية، وحتى يومنا هذا، لكن القابل للإيجاز في هذا التاريخ، يمكن أن يحمل السمات الرئيسية التي طبعت الهيئة الدولية بطابعها، والاستنتاج إلى ماذا انتهت هذه السمات في عصر الأحادية الدولية، التي يمثلها استفراد الولايات المتحدة بالعالم اليوم، ويمكن بادئ ذي بدء أن نتصور الهيئة الدولية التي اكتسبت اسم الأمم المتحدة، بأنها انعكاس لنسبة القوى العالمية، بحيث يمكن القول بأن توازن القوى المذكورة في الأساس، كان هو الحائل دون اختلال المكاييل في المواقف الدولية، وقد تصادف في سنة من سنوات الخمسينات، أن الأمين العام للأمم المتحدة نفسه، وهو داغ همرشولد، كان قد أعلن بكل جرأة وصراحة عقب العدوان الثلاثي على مصر أن اثنين من أكبر الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وهما بريطانيا وفرنسا، قاما بانتهاك حرمة ميثاق الأمم المتحدة، ولهذا فإنه وضع استقالته تحت تصرف مجلس الأمن، وارتجت قاعة الأمم المتحدة، وكأن زلزالًا ضرب قواعدها من أساسها.

كانت السمة الأبرز في حياة هذه المؤسسة الدولية، أن وفودِ الدول ومندوبيها إلى هذه المؤسسة، كانوا على أعلى المستويات، إلى درجة أن العديد من الجلسات كان يتطلب حضور العمالقة آنذاك ايزنهاور – خروتشوف – ديغول – ماكميلان بعد تشرشل – تيتو – نهرو – عبد الناصر وكاسترو وغيفارا وغيرهم، أيام كانت القرارات الصادرة هي قرارات حقيقية يُحسب لها حساب على مستوى العالم، وحسابات الأصوات كانت تعبيرًا حقيقيًا عن توازنات لها قدرة الفعل والتأثير إلى درجة الاقتراب من حافة الخطر الكوني.

غير أن وضع التوازن الذي استمرّ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى أزمة الصواريخ الكوبية بداية الستينات مرورًا بالحرب الكورية سنوات بداية الخمسينات، هذا التوازن العالمي لم يبق على حاله بالطبع، إذ مع ميل ميزان القوى الاقتصادي، العسكري الفضائي، التجاري والتسليحي، إلى جانب الولايات المتحدة والغرب عمومًا، فإن واقع الحال المتصل بالأمم المتحدة، بدأ يفقد توازنه لصالح النظام العالمي الجديد، الذي باتت تمثّله الولايات المتحدة، ومما لاشك فيه، أن اختلال هذا التوازن، كان المقدمة الطبيعية لاختلال معايير العدالة تجاه قضايا العالم المختلفة.

لابد هنا من الإشارة التوضيحية، إلى أنه لا العدالة، ولا أية مفاهيم أخلاقية أخرى، هي التي كانت تقود الأمم المتحدة أو دول العالم، قبل هذا القرن الأميركي، بل المصالح والمصالح فقط، فمنذ العام 1916 اتهم آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا الشهير، الرئيس ويلسون الأميركي بالانحياز لصالح الصهيونية، وقد كان مما قاله بسخرية مريرية “يصعب عليّ أن أفهم كيف يمكن للرئيس الأميركي ويلسون أن يوفق بين مبدئه في حق تقرير المصير بالنسبة لسائر الشعوب، وبين تأييده للحركة الصهيونية التي تريد أن تحلّ محل شعب آخر في أرضه”.

ويضيف بلفور معترفًا: “هناك الآن ما يربو على 640 ألف فلسطيني مقابل 50 ألفًا من اليهود في فلسطين، فما الذي نفعله بحرية تقرير المصير هناك؟!”. (غارودي ـ أرض الرسالات، ص212 – 213).

إن نشدان العدالة بالنسبة للشرعية الدولية هو الأساس، فكيف إذا كانت العدالة مكسورة سواء عبر الشرعية الدولية أو عبر العلاقات من خارج الشرعية الدولية بين القوة الأكبر التي هي أميركا وبين إسرائيل.

مازالت الولايات المتحدة حتى يومنا هذا تمدّ إسرائيل بكل أسباب القوة والغطرسة الناجمين عن الدعم الاقتصادي والعسكري والمالي دون انقطاع، وبالعودة إلى الوراء، فقد عوملت إسرائيل أميركيًا، كولاية كاملة الحقوق والواجبات من ولايات أميركا المتحدة دون فارق، وبالعكس فإن أية مقارنة جادة، تظهر أن الحكومات الأميركية بشقّيها الديمقراطي والجمهوري، كانت أشد حنّوًا على إسرائيل من أية ولاية أميركية أخرى.

من أجل تنشيط الذاكرة، فإن الولايات المتحدة في عهد الرئيس ترومان كانت أول من اعترف بكيان إسرائيل الرسمي بعد ساعات معدودة من إعلان هذا الكيان. وقد واظبت السياسات الأميركية في إداراتها المختلفة من ترومان إلى مبدأ كيندي (الذي اعتبر إسرائيل موازية لبريطانيا في علاقتها مع الولايات المتحدة) إلى الرئيس ليندون جونسون الذي كان أكثر استجابة من كينيدي لنداءات أنصار إسرائيل في الولايات المتحدة، ثم إلى جميع الرؤساء اللاحقين الذين مثّلوا الإدارات الأميركية المتعاقبة دون استثناء.

لقد مثلت هذه المواقف المتواصلة تاريخيًا، دون انقطاع، انحيازًا أميركيًا ظل يفتقر إلى روح العدالة عبر الزمن، ومع هذه المواقف التي ظلت تنعكس في مليارات الدولارات سنويًا، مع أنظم تسليحية كاملة من البندقية الأميركية (إم 16) إلى طائرات (إف 16) وأباتشي، مرورًا بصواريخ “باتريوت” وقبلها صواريخ “توماهوك”، فقد أصبحت إسرائيل واقعيًا، سادس قوة اقتصادية – عسكرية في العالم.

من ناحية أخرى، بسبب هيمنة القوة الأميركية على المؤسسات الدولية الكبرى، وعلى رأسها هيئة الأم المتحدة، فقد بات من المستحيل، إدانة إسرائيل بسبب حربها الإبادية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، كما بات من المستحيل، كما نرى ونسمع، أن يصوت مجلس الأمن لصالح قرارات حقة وعادلة، إضافة إلى ذلك فإن اختلال المكاييل في الشرعية الدولية، لصالح الحليف المدلل إسرائيل، لم يكن بالأمر الطارئ أو الراهن، فمنذ العام 1948 (إدارة ترومان)، رفضت إسرائيل قرارًا صادرًا عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ألا وهو القرار 194 الداعي إلى حق العودة والتعويض على كامل الشعب الفلسطيني الذي أجبرته المذابح الإسرائيلية على الرحيل بالقوة الغاشمة. ومنذ العام 1949 ومازالت الجمعية العمومية تكرر التذكير بهذا القرار سنويًا، وتصرّ على التأكيد بضرورة إدانة إسرائيل، التي ترفض علنًا الأخذ بقرارات الشرعية الدولية.

أما قرار “تقسيم فلسطين” السابق على قرار حق العودة، فإن إسرائيل رفضته لاحقًا بذريعة رفض العرب له في العام 1947، وهي ذريعة لا تستقيم مع مواثيق الشرعية الدولية، خاصة وأن الفلسطينيين عادوا وقبلوا بقرار التقسيم في الخمسينات من القرن الماضي، ولا تتعلق المسألة بقرارات الشرعية الدولية الصادرة عن الجمعيات العموميات لهيئة الأمم المتحدة فحسب، بل وقرارات مجلس الأمن أيضًا، ففي تشرين الثاني/ نوفمبر 1967 اتخذ مجلس الأمن قرارًا برقم 242 يدعو إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي التي احتلت في الخامس من حزيران/ يونيو من العام المذكور، كما يدعو لحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين بحقهم في تقرير مصيرهم والتعويض عليهم، ومع ذلك فإن إسرائيل أدارت ظهرها لمثل هذا القرار متذرّعة بغموض مضمونه والتباس معانيه، كذلك وقفت الموقف نفسه من القرار 338 الذي اتخذه مجلس الأمن في تشرين الأول/ أكتوبر 1973، ويقول الباحثون السياسيّون، أن إسرائيل منذ نشوئها وحتى اليوم، فقد رفضت 25 قرارًا صادرًا عن مجلس الأمن، وأكثر من 110 من القرارات الدولية الصادرة عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة.

ليس ذلك فحسب، فقد بلغ اختلال المكاييل في قرارات الشرعية الدولية، بسبب الهيمنة الأميركية، مبلغًا بات يهدد العالم الأفقر باندلاع فوضى دموية لا نهاية لها، فالانحياز الأميركي لمصالحه العُليا على حساب العالم، بات لا يحتاج إلى شرح أو برهان، ويكفي أن نسوق بعضًا من القرارات الأميركية الصادرة باسم مجلس الأمن، كيما نرى مدى ضراوة هذه القرارات عندما يتعلق الأمر بدولة عربية معادية لإسرائيل.

اليوم، تقف الولايات المتحدة مع حليفتها الأثيرة، بريطانيا العجوز، بمفردهما مع براغماتية نفعية لا حدود لجشعها، فيما يبدو العالم الآخر المتمثل في أوربا، وكأنه على النقيض تمامًا، فمسرح اللامعقول الأميركي، بات يهز المليارات من الشعوب في هذا العالم، وهي اهتزازات باتت تقترب من الزلزلة، بدءًا من سياتل إلى جنوا وباريس ومدن اوربية كثيرة رأت الدم المسفوح في شوارعها، اعتراضًا إلى انعدام العدالة والذوق لدى الكبار في هذا العالم.

لا مانع، عند المصالح الأميركية العليا ومعها، أن يتحول العالم إلى غابة من الكائنات الوحشية، التي يأكل فيها القوي الضعيف دون تبكيت، إذ ما يجري اليوم فوق رقعة هذا العالم، لا يختلف كثيرًا عن مشهد الغابة الوحشية إلا بطريقة الالتهام المصحوبة بآيات الدبلوماسية الراقية التي تطنّ بين جنبات القصور المنيفة لمؤتمرات العولمة الطاغية، أما الحقائق غير الإنشائية على أرض الواقع، فإن ما يزيد على خمسين مليون طفل يموتون جوعًا كل عام في هذا العالم، وما يزيد على ثمانين بالمئة من سكان الأرض لا يحصلون على أكثر من ألف دولار للعائلة الواحدة بالمتوسط سنويًا، وأن في أميركا الشمالية (الولايات المتحدة) نفسها، هناك ثلاثة من عشرة أطفال يبيتون على الطوى كل ليلة، وأن الحياة الخلفية في الأزقة الرثة وراء كبريات المدن المكهربة في عالم أميركا، لا تختلف كثيرًا عن مآسي الحياة في بلدان العالم الثالث، ومن هنا، فإن بؤر الانفجارات في عالم القرن الواحد والعشرين تتهيأ بسبب من انعدام العدالة الذي منشأه الحرص الطاغي على ازدهار المصالح الأميركية الكبرى، ولو على حساب فقر ومرض وتخلّف الشعوب البائسة في هذا العالم.

بقي أن نقول، بأن فقدان الحسّ الإنساني بآلام الآخرين، الذي تمثله الإدارات الأميركية على التوالي، هو الذي سيبرهن على عدم نهاية التاريخ، ولا نهاية الزمان، حسب النبوءات التوراتية، إنه يؤكد، مع شرعية دولية عرجاء، على اقتراب العالم من بؤر الانفجار الدموية، أكثر فأكثر.