اسم الكتاب: السُّرعة والسِّياسة: من ثورة الشارع إلى الحق في الدولة (مقالة في الدرومولوجيا)
اسم المؤلّف: بول فيريليو
ترجمة: محمد الرحموني
مراجعة: منى زاهد سويلمي
دار النشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر
مكان النشر: بيروت
تاريخ النشر: 2017
المحتويات
القسم الأول: الثورة الدروموقراطية أو سلطة السرعة
الفصل الأول: من الحق في الشارع إلى الحق في الدولة
في الفصل الثاني: من الحق في الطريق إلى الحق في الدولة
القسم الثاني: التطور الدرومولوجي أو تطور علم السرعة
الفصل الثالث: من الحق في الفضاء إلى الحق في الدولة
في الفصل الرابع: الحرب العملية
الفصل السادس: عقلنة الأجساد الحية
الفصل السابع: نهاية البروليتاريا
الفصل الثامن: الأمن بضاعة مستهلكة
يعد “بول فريليو” الذي فارق الحياة منذ أيام قليلة من كبار المفكرين الفرنسيين، معاصرًا فوكو ودريدا وريكور. جاء إلى الحقل الثقافي والفكري من مجال التخطيط العمراني والفضاء الحضري فهو مهندس معماري؛ يجمع توجهه الفكري بين الفلسفة والاقتصاد والسياسة والعمران، أسس لحقل معرفي يتعلق بإشكالات الزمن والتنقل السريع والتواصل الفوري، يرى أنه لفهم العلاقة بين التكنولوجيا والسرعة يجب التركز على دراسة جوهر السرعة في الوقت الذي كان غيره من المفكرين يتناولون جوهر التكنولوجيا. لقد اهتم بموضوع السرعة منذ حوالى أربعين عامًا؛ فكتابه الراهن صدر بالفرنسية في عام 1977 وليس عبثًا يلقب بفيلسوف السرعة.
تأتي أهمية الكتاب من تركيزه على مقولة الدورمولوجيا، فالأسرع هو الأكثر سلطة، كونه يمتلك الوسائل والمعدات الأسرع؛ فيزداد نفوذه وتزداد ثروته كونها مرتكزات العالم والمجتمعات الحديثة. يتمحور هذا المؤلف حول انحسار المدينة (البعد المفقود)، وفقدان المركز، والتشرد في مجتمع المعلومات وما بعد الصناعة، وضياع الكائن بصورة حاسمة، وعن الخبرة المعيشة في عالم التمثيلات المتولدة تكنولوجيًا، وعن أنماط الرؤية، وبالنسبة إلى فيريليو فإن المدينة تتزحزح بعيدًا عن المركز بسبب صعود الضواحي، ومن ثم بسبب الاتصالات السلكية واللاسلكية، ومراكز العمل والتفاعل الجديدة في مجتمع ما بعد الصناعة. تناول علاقة السرعة بالسلطة، لا سيما السياسية، ما يخلق تصورًا جديدًا عن الدولة بأنها مركز لإدارة مرورية، وتكون الثورة أشبه بعلبة سرعة؛ إذ من خلال التداخل بين مفهومات السلطة والسرعة والثورة تنشأ الحرب.
لم يتناول فريليو الحرب من الزاوية التاريخية بل من كونها بعدًا أصليًا من أبعاد المجتمع يتطور مع تطوره. فإن كانت الحروب قديمًا تركز على الجانب التكتيكي؛ فإن ظهور المدينة والسلطة السياسية نقل الحرب من التكتيك إلى الاستراتيجيا (مرحلة الفكر العسكري والإعداد المسبق للمعارك)، ومع التطور المذهل لوسائل النقل والاتصال وظهور السلاح النووي والبالستي انتهى التفكير الاستراتيجي، وظهرت مرحلة اللوجستيك؛ ذلك كله نتيجة لعلم السرعة وسلطة السرعة، وبذلك يعدّ فريليو الحرب هي المحرك الفعلي للتاريخ كونها مصدرًا للخطاب الكلياني؛ مخالفًا بذلك ماركس الذي يعدّ صراع الطبقات هو الأداة المحركة للتاريخ. لا سيما أن السياسة كانت ترتبط بالمجال الترابي، لذا فإن الحقوق كانت ترتبط بالمكان، فمن يمتلك المكان يمتلك السلطة، ومع تطور السرعة جرى تجاوز الجغرافيا وإلغاء مفهوم الزمان كون من يتحرك بسرعة يسيطر على من يتحرك بسرعة أقل، بذلك لا تكون الأرض لمن يملك عقودًا وقوانين، وإنما لمن يمتلك سلطة السرعة والحركة والتقدم التكنولوجي والتنقل والتداول.
تضمن هذه الكتاب بنسخته المترجمة مقدمة للمترجم، وأربعة أقسام تضمنت فصول الكتاب التسعة؛ إضافة إلى ثبت المصطلحات وقائمة المراجع. حاول المترجم في مقدمته أن يعرف بالمفكر وبمفهوم السرعة وسلطة السرعة. إذ كلما تزايدت سرعة وسائل النقل والاتصال تقلص المكان والزمان وتغير مفهوم السفر والهجرة، وكل ما تعلق بهما؛ إلا أن أهم مجال تأثر بتطور السرعة هو المجال السياسي، وتحديدًا السلطة السياسية، لذا أصبحت السرعة مولدة للسلطة، وعبر التاريخ الأسرع هو الأكثر سلطة. أما عن أقسام الكتاب فقد كانت على النحو الآتي:
القسم الأول: الثورة الدروموقراطية أو سلطة السرعة
قام فريليو بنحت مصطلح الدروموقراطية Dromocratie الذي يتألف من مقطعين؛ الأول: Dromos ويعني السباق أو السرعة، والثاني: Crator وتعني إله القوة والسلطة عند الإغريق؛ لهذا فالدروموقراطية هي سلطة السرعة التي تتحكم في المجتمعات المعاصرة والحديثة. فإن كانت الديمقراطية تعني سلطة الشعب فإن الدروموقراطية هي سلطة السرعة[1]، وقد احتوى هذا القسم على فصلين:
الفصل الأول: من الحق في الشارع إلى الحق في الدولة
ينطلق فيه من مقولة يطرحها جوزيف غوبلز، وزير الدعاية السياسية في زمن هتلر، بأن (من يستطيع السيطرة على الشارع يسيطر في الوقت نفسه على الدولة)؛ ليتساءل فريليو: هل يكون الإسفلت هو ميدان العمل السياسي؟ وهل تمارس الدولة البورجوازية سلطتها في الشارع أم على الشارع؟ وهل تمتد هيمنتها إلى الأماكن ذات الكثافة الحركية وإلى طرق التنقل السريعة؟
يؤكد فيريلو أن الاعتقاد القديم الذي يرى أن كل ثورة لا تقوم إلا في المدينة يجب ألا يدفع إلى المقابلة التقليدية بين الريف والمدينة، وإنما المقابلة بين “السكون والحركة”، ربما يصدق ذلك على بعض البلاد العربية التي شهدت ما اصطلح عليه مفهوم الربيع العربي؛ إذ بدأ الحراك الثوري من الأطراف (الأرياف والمناطق التي تحيط بحزام المدينة)، وليس المدن، ربما لكثرة إشارات المرور.
يظهر السكن البورجوازي في المدينة كما لو كان ميناء بحريًا يتحدد منه حجم الدفق الاجتماعي. فأحزمة المدن وأحياء الصفيح الفقيرة والتكايا والثكنات والسجون ليست حلًا لمشكلة العزل أو الإقصاء، وإنما هي بمنزلة أماكن معتمة تؤدي دور الكوابح التي تمنع تسارع اجتياح الجموع المهاجرة للمدينة. هكذا نشأت الضواحي بوصفها مجالًا لإنفاذ قوانين المنع، ومكانًا وزمانًا خارج المدينة، أي مصبًا للتخلص من عبء هذه المادة الاجتماعية (المهاجرة)، وكأن “الحق في السكن” ليس هو “الحق في المدينة” فحشود البروليتاريا الهائجة فوضوية تشبه فصيل الحيوانات الوحشية التي تشكل تهديدًا، لذا ينظر إليها على أنها مستأنسة تجتمع وتتناسل بالقرب من مساكن الآدميين (المدينة) وتحت أنظارهم. والبورجوازية هنا لا تستمد سلطتها من التجارة والصناعة (أي ليس من الاقتصاد)، وإنما من تموقعها الاستراتيجي الذي يمكنها من مقر ثابت بوصفها قيمة (نقدية اجتماعية) ناتجة من المضاربة العقارية. ويمكنها من الحق في أن تحتمي بأسوار المدن المحصنة ومن الحق في الأمن والمناعة وسط عالم المهاجرين الخطر، إذ لا يوجد في المدينة سوى الاستيطان السائل Circulation habitable. هذه الفكرة تتقاطع مع فكرة زيغموند باومان “فيلسوف السيولة” في نقده الحداثة عندما افترض أن عالم اليوم تحكمه سياسة الخوف اليومي، وهي سياسة شديدة الخطر على الثقافة العامة، لأن ذلك الخوف الذي يسيطر على الشارع يبعد الناس عن فضاءات المجال العام؛ لهذا فإن التقدم الحضري يستمد هويته من حدوده المنيعة، وحراسته الشديدة، لا من موضوعه وفكرته ورسالته.
عمومًا ينظر فريليو إلى السلطة البرجوازية على أنها سلطة عسكرية بالدرجة الأولى قبل أن تكون اقتصادية، هي عنده سلطة الحصار الدائم وغير المرئي (سلطة القلاع المحصنة)، فحيثما تتوافر طرق مواصلات والتقاء الطرقات توجد أماكن سكانية، وحيثما توجد حركة مرورية يوجد تكتل سكاني حضري؛ فالشروط التي هيأت لنشأة الحواضر الكبرى هي نفسها تصنع المراكز الاستراتيجية المهمة، إذ إن التوقف عن الحركة يعني الموت. لذلك فإن سلطة الدولة السياسية بوصفها “سلطة طبقة تضطهد طبقة أخرى” ليست إلا سلطة ثانوية؛ سلطة الدولة الفعلية هي سلطة حركة، والدولة ما هي إلا شرطة مرور يتلخص دورها في مراقبة حركة مرور الناس والبضائع والأفكار. لهذا فإن المساكن الاجتماعية (التي تشييدها الحكومة لذوي الدخل المحدود) في بقاع العالم كلها، والأحياء الملحقة بالمدينة ومقرات الشرطة غير البعيدة من المدينة ما هي إلا إحياء لروح القلعة -أي لفكرة الحصار القديمة- بهدف المراقبة الأساسية للجموع البشرية عن طريق وسائل حماية المدينة. تشبه فكرة القلعة عند فريليو فكرة الفئات اللاتعاقدية أي تلك التي هي خارج العقد الاجتماعي عند ميشيل فوكو التي تسكن في الهامش (الشارع، السجون، المستشفيات) حيث يمارس عليها نوع من العزل الاجتماعي؛ هذا نوع من التأسيس للعلاقة بين القوة والسلطة. ويشير فوكو إلى تصميم “السجن البانبويتي” الذي يسمح بمراقبة المسجونين كلهم من برج المراقبة ولكن لاي سمح للمسجونين بمراقبة الحارس، ما يؤدي الى إحساس الفرد بأنه مراقب على الدوام، فيؤدي إلى انضباطه، هذا التصميم يسحبه فوكو على المجتمع لكي تكون هناك مراقبة دائمة على الأفراد، لكن هذه المساكن عند فريليو نفي نحو الموت؛ فصعود الأنظمة الشمولية مرتبط بتنامي قبضة الدولة على حركة الحشود؛ لذا فإن الجغرافيا البشرية لا يمكن أن تكون وليدة المصادفات بل وليدة تقنيات تنظيمية قادرة على التحكم في فضاءات شاسعة إلى حد ما؛ فتخطيط المدينة وشوارعها وتركيز علامات المرور مع عقلنة أوضاع الإقامة يجعل المدينة كلها تضحي شفافة في نظر الشرطة.
عندما يشهد المجتمع ثورة، فإن الثورة هي الحركة، ومع أن الحركة ليست ثورة، إذ ليست السياسة سوى علبة السرعة، وليست الثورة سوى مضاعفة لهذه السرعة؛ فالثورة ما هي إلا تحويل للحركة الاجتماعية التقليدية، إذ إن بقاء جندي على قيد الحياة رهن بسرعته، وكل شي في الحرب الجديدة رهن الوقت؛ إذ إن “الخلاص يكمن في الهجوم لا في الهرب”، فالأسلحة البالستية الجديدة تجعل الهرب ضربًا من العبث فهي أسرع وأبعد مدى من الجندي. فالخلاص الشامل لا يمكن أن يتأتى مستقبلًا إلا عندما تتحرك الجماهير بسرعة؛ لأن القدرة على الحرب هي القدرة على الحركة.
في الفصل الثاني: من الحق في الطريق إلى الحق في الدولة
يشير فريليو إلى ما قامت به الحكومة النازية حال استيلائها على السلطة بتوجيه العمال الألمان نحو التمتع بالرياضة والتنقل، فلم يعد هناك مجال للشغب، ولا كثير من القمع؛ إذ يكفي إفراغ الشارع وجعل الطريق هبة للجميع، ذلك هو الهدف “السياسي” من تصنيع سيارة الفولكس فاغن. وكذلك أميركا تجاوزت أزمة الثلاثينيات الاقتصادية، وعملت على شفاء جموع الأميركيين من “غواية الشارع”؛ إذ تجلت عبقرية السلطة في الاستعاضة عن القمع المباشر للتظاهرات، وعن الخطاب السياسي؛ من خلال طاقة النقل التي وفرتها الأعداد الكبيرة من سيارات شركة فورد التي أحدثت ثورة اجتماعية غيرت نمط معيشة المواطنين عبر تجديد حاجات المستهلك كلها، وإعادة تشكيل المجال برمته. فالتغيرات المطردة التي شملت الشكل المرعب للسيارة الأميركية فائقة السرعة، وهيكلها المفرط في الإثارة وأغطية إطارتها تشهد كلها بديمومة الثورة الاجتماعية (الترقي نحو طريقة عيش الأميركيين).
القسم الثاني: التطور الدرومولوجي أو تطور علم السرعة
تضمن هذا القسم؛
الفصل الثالث: من الحق في الفضاء إلى الحق في الدولة
ينطلق المؤلف هنا من رسم كاريكاتيري إنكليزي يعود إلى القرن التاسع عشر يصور نابليون بونابرت ووليام بت الأصغر، وهما يتقاسمان بحد السيف قطعة من الحلوى بشكل كرة أرضية؛ فكانت اليابسة من نصيب الفرنسيين، في حين استأثر الإنكليز بالبحر. تلك الطريقة لاقتسام العالم بأن يتوجه الخصمان إلى ابتداع صراع جغرافي طبيعي حيوي بين إنسانيتين، واحدة تعمر البر والأخرى تعمر المحيطات، ومن ثم خلقا أممًا ليست من أمم الأرض في شيء، ومن ثمة أوطانًا لا يمكن وطؤها بالأقدام، إنه البحر، فيه يعانق الشعب شرط حرية الحركة، يبدو إذًا أن الحق في البحر هو اختراع غربي مثل ما سيكون لاحقًا الحق في الفضاء الجوي.
وما إن أصبح أسطول الردع البحري معطى أساسيًا، ظهر في المحيطات صنف جديد من الحقوق السياسية هو الحق في البحر، وهذا الحق كان في البدء إحساسًا وجدانيًا وشاعريًا أكثر من كونه عقلانيًا، وسرعان ما انقلب “الحق في البحر” إلى “الحق في الجريمة” ومن ثم تحول إلى عنف منفلت. لقد استحدث أسطول الردع تصورًا جديدًا لسطوة السرعة، وهي سرعة التنقل من دون وجهة محددة ومن دون زمن معلوم، وهو ما يؤسس لفكرة أصيلة، فكرة التبخر في الفضاء عوضًا عن التحطم في المواجهات الحربية، وعليه فإن الانتصار في عالم بلا معالم وبلا حواجز، يقتضي الاستعاضة عن عدم تموقع العالم الغربي في أي موضع أرضي بالتموقع على الأقل في الزمن، أي ضمن التوقيت العالمي المنسق ولهذا السبب ظل الإنكليز ردحًا من الزمن من أفضل صانعي الساعات، ذلك أن التحكم في البحر يتطلب التحكم في الوقت. السرعة من جهة كونها مجردة وبلا مضمون قد نشأت في البحر، وأن الكون ازدان بروعة جديدة، وروعة السرعة، لقد أفضى الحق في البحر إلى حق الدول الحديثة في الطريق وبذلك أضحت دولًا شمولية. فالإنسان الغربي قليل العدد متفوق ومهيمن لأنه أسرع. في اللحظة التي تحقق تطورًا من النوع الذي تنتجه السرعة ستفقد الإنسانية تنوعها، إذ تتجه إلى أن تنشطر إلى شطرين: الشعوب المتفائلة وهي المسموح لها بأن تأمل في المستقبل، وهي أيضًا التي تفتح لها مدخراتها من السرعة باب الممكن، أي إنجاز المشروعات واتخاذ القرارات، فالسرعة هي أمل الغرب. أما الشعوب المحيطة هي شعوب مشلولة الحركة بفعل تخلف معداتها التقنية ومحكوم عليها أن تعيش في عالم محدود. بذلك قد استبعد المنطق الذي يربط السلطة بالمعرفة ليحل محله منطق آخر يربط السلطة بالحركة.
في الفصل الرابع: الحرب العملية
يتحدث فريليو هنا عن الحرب الشاملة بأنها حرب ذات نطاق واسع ودائم. تكون أولًا في البحر لأن سطح البحر أملس لا يشكل بطبيعته عائقًا ثابتًا أمام حركة المركبات فتجول بقاع العالم كلها، هذا العالم الذي حُوِّل من الموقع “الورشة” إلى الموقع “المخطط”، ثم إلى فضاء إمبراطوري بمعنى نحن موجودون في كل مكان يقودنا إليه الواجب والنصر. ويمكن تطبيق هذا النموذج من الحروب الشمولية (البحرية) على اليابسة بشرط إقامة بنية تحتية تحتمله. فمع السرعة أصبحت ظاهرة الحرب تتغذى ذاتيًا عبر خلق موارد صراعاتها الخاصة وتنميتها، كما حدث بعد حفر قناة السويس التي بسببها أعيد رسم خريطة العالم، إذ أنتج هذا الطريق “شحن الحرب” باتجاه المشرق إضافة إلى انفتاح الشركات الاحتكارية الجديدة ذات التكامل الرأسي.
إن هذا النوع من حروب الاستنزاف حرب شرسة تعدّ حرب إفناء واستهلاك (للرجال والعتاد والمدن). ولأن تلك الحروب لم تجد لها مساحات كافية، اتسعت، وكان اتساعها في الزمن الإنساني؛ خصوصًا أن السرعة هي أمل الغرب، فهي التي ترفع معنويات الجيوش ووسائل النقل هي التي تجعل حروبها سهلة المراس؛ فبفضل السيارة المصفحة مثلًا تغير مفهوم المسافة الخطية القديمة الذي ارتبط بالطريق والسكة الحديد، وبفعل انعدام المساحات امتدت حرب الاستنزاف في الزمن، وأصبحت النجاة من الموت رهينة الديمومة، فالهجوم الذي لا تعجزه عقبات الميدان يوسع الحرب لتضحي بلا ميدان، فكل ميدان هو ميدانها، هكذا وفجأة ظهر حق جديد، هو “الحق في الأرض”، إنه حق شمولي شأن “الحق في البحر”، وهو يفرض على الجماهير فينومينولوجيا جديدة للمصير؛ إن سرعة التنقل العسكري، أي عداد السرعة في آلة الهجوم هو مقياس تلك الجماهير لبقائهم على قيد الحياة. فالحرب العملية لا تبقي ولا تذر، تستهلك كل شيء، وتبيد كل ما يأتي في وجهها.
القسم الثالث: مجتمع السرعة
واشتمل على:
الفصل الخامس: الأجساد العاجزة
في خضم مختلف الصراعات التي عرفتها أوروبا بداية من القرن السابع عشر تفاقمت المشكلات الناتجة عن عدم الأهلية البدنية لبعض العسكريين؛ فازدهر تبعًا لذلك فن جديد هو فن جراحة العظام؛ إذ جرى التفطن إلى إمكان اللجوء إلى الجراحة الترقيعية باستخدام آلات لتعويض أعضاء الجسد الآدمي الناجي من الموت؛ فقامت فرنسا بإعادة تأهيل المعوقين، وأعفتهم من أداء الواجب العسكري إلا أنه في ألمانيا أعيد تشغيل ذوي الإعاقات الجسدية؛ إذ من المفارقات أن دكتاتورية الحركة هذه التي مارستها السلطة العسكرية على الجمهور قد أدت إلى الرفع من الأجساد المعطوبة. فالجسد الآدمي القابع داخل القبة الفولاذية ليس هو الجسد المحارب لا شأن له بالحرب، بل هو جسد بروليتاري محارب يعاني عجزًا مزدوجًا؛ فهو بطبيعته مسلوب الإرداة، وهو في حاجة ماسة إلى مركوب آلي حتى يكون قادرًا على إنجاز مهمته التاريخية؛ ولكن القوة الحركية الهائلة التي يتمتع بها الإنسان المهووس بالحركة فقدت قيمتها فجأة، فتلك الحشود الهائلة تعامل بازدراء عندما تفقد قدرتها على الحركة، فلم تعد قوة محركة ومنتجة للسرعة في أوروبا، وعقل سلطة السرعة لا يتسلط على عدو عسكري معين بل هو انتصار متواصل على العالم، ومن ثم على الطبيعة الإنسانية، فالحرب الاقتصادية التي تنخر الأرض ما هي إلى انقضاض سريع وحاسم وحتمي، هذه الحرب هي التي تكرس القوة العسكرية سلطة طبقية؛ فما لم يتحقق بالسلاح يتحقق بالحرب الاقتصادية.
التوقف هو الموت، ذلك قانون كوني، والدولة/ الحصن سلطتها وقوانينها كلها كامنة في الأماكن الأكثر كثافة مرورية، ومن ثم سيادة دولة السرعة على الأرض هي في الآن نفسه سيادة على أبعادها. فما الحركة إلا تعبير عن التغيير، أما السرعة فهي سلطة ذلك التغيير على الزمان والمكان والأشخاص. يطرح فريليو مثالًا في كتابه عن عالمه الغربي الذي ينظر إلى السرعة في هذا الكتاب، فيقول إنه عندما غزت النخب المتسلحة بالسرعة أوروبا الغربية قادمة من جرمانيا لم تعد القوة هي التي تصنع القانون بل يصنعه الغزو وسرعة الغزو؛ فسلطة الإغارة التي تنشأ من مسارات الهجرة السائبة تنتهي إلى إمضاء اتفاقات هدنة وتقسيم، وعندما انتهت سلطة السرعة هذه إلى أن تتوطن ظلمًا أرض أوروبا، فإنها لم تغير من طبيعة هيئتها الأصلية، لذلك ظل نظام المجتمع الإقطاعي شبيهًا بانتظام فرقة زاحفة؛ إذ إن مهمة الإقطاعية هي مهمة شبه استعمارية بما أنها تميز بين سيادة المحتل العسكري على الأرض وملكية الساكن الأصلي العقارية لها.
وضوح الرؤية البصرية أمام المحتل بفعل عملية تجديب الأرض، يعني تمسكه بحقه المميز في الاستيلاء على الأرض التي يروم الاستقرار فوقها، أي تمسكه بقدرته على الاختراق، فبناء الأبراج ما هو إلا طريقة أخرى لأجل السيطرة على الأبعاد التي أضحت أفقًا وهندسةً بصرية تدرك من نقطة ثابتة، والتمييز الاجتماعي يرتكز على وجهة النظر البصرية قبل أن يكون مرتبطًا بالثروة أو المولد أي يرتكز على المنزلة النسبية التي نتبوؤها، ومن ثم نرتبها في فضاء يتحكم في مسارات الحركة كالنهر والبحر والطريق والجسر؛ فامتلاك الأماكن المرتفعة وسيلة هيمنة اجتماعية دائمة كمفهوم “سجن البانبيتكون” عند فوكو الذي ينمي حس المراقبة والسلطة الداخلية لدى الأفراد في المجتمع، إذ إن حصار قلعة أو حصن ليس حدثًا عسكريًا ولا حتى سياسيًا وحسب، وإنما حدث اجتماعي؛ فالصراعات الناجمة عندما يجمع الإقطاعيون بين نمطي التملك الفضائي للمجال (السيادة والتملك) فيجردون الأهالي من ممتلكاتهم ويعملون على تحويل نسلهم إلى أقنان (يد عاملة محرومة من حقها في استعمال السلاح للدفاع عن نفسها)
الفصل السادس: عقلنة الأجساد الحية[2]
يرى فريليو أنه عندما فرض تطور علم السرعة فكرة وجود نوعين من الأجسام بحسب وضعهما في الفضاء فإنه فرض في الآن نفسه فكرة نوعين من الأرواح؛ أرواح ضعيفة متقلبة هشة لأنها سجينة أرضها، وأخرى مقتدرة لأنها حررت إراداتها من كل قيد بفضل عدم تأرضنها. إذًا الحرب لا تخلو من مُشَكِلِ القوة أي تنفيذ مشيئة الأقوى؛ فالأمر لا يتعلق بفن الحرب وإنما بفن “الأجساد الحيوانية” بوصفه انشطارًا أزليًا بين قدرة المحتل على الحركة وعجز قطعان العمال النسبي عن أن يتحرروا من حركاتهم (هو مسألة التأسيس لحضور الأجساد مسلوبة الإرادة). ظهرت على مدى الزمان والمكان كثرة من الأجساد مسلوبة الإرادة، وذلك من خلال انتهاج اقتصاد حرب حوّل الجموع البشرية إلى قطعان وطرائد للصيادين النهابين؛ تلك الأجساد مسلوبة الإرادة تضم أطفالًا ونساء ملونين وبروليتاريين، وهي الفئات الأضعف.
لما كانت السياسة مسألة مجال ترابي فنحن مقابل تقطيع فعلي للزمان والمكان الإنسانيين، من شأنه أن يضع نهاية لأمة السلم المدني. فقد اقتضى إرساء المجتمع العسكري في القرون الوسطى زوال سكن كان إلى ذلك الوقت يعد سكنًا جماعيًا، أي هو اختفاء الفضاء المدني، ومعنى ذلك الاختفاء إلغاء حق الناس العاديين في الفضاء، وفي تكييفه، ولعل ذلك فيه إشارة في اللغة الجرمانية القديمة إن كان “الكائن هو الساكن” فإن اللاساكن يعني انعدام الكينونة أي المحروم من فضاء خاص ومن هوية، يفضل الموت العاجل على الموت البطيء، فالإقصاء الاجتماعي المطرد هو الأهم لتشتغل آلة الحرب، ولعل فكرة الإقصاء والدمج إلى اللامكان تحدث عنها “باومان” باستفاضة في نظريته الناقدة للحداثة والحياة السائلة فإقصاء الآخر المختلف والغريب، وتجنب الحاجة إلى التواصل والحوار المتبادل معه يؤدي إلى الشك في العلاقات الاجتماعية ضعيفة الروابط والهشة، هذا اللامكان كفيل بتحويل الزمن إلى زمن بداوة عالمي تتصاعد فيه موجات العنف والإزاحة من المكان لتتحول إلى غيتوات منتشرة في العالم، في الوقت الذي يرى فريليو أن في ذلك ذوبان للوقت واضمحلال للجغرافيا والمكان. ذلك ينطوي على قمع مقنن يدفع نحو الرحيل والمهجر أي فقدان الأرض على غرار فقدان الهوية، إذ إن تلك الفواصل البشرية في وعثاء طرق الهجرة يتحولون إلى قوى مادية متحركة لا وجهة لها ولا حصر ممنوعون من الإقامة داخل القلعة المحصنة يضربون بالسياط ويطردون، يمنع الحضر من استقبالهم في بيوتهم وإلا غُرموا.
ظلت المطالب الاجتماعية للبروليتاريا العسكرية مقتصرة مدة طويلة على ما يقيم أودها تركز على الأجور وسلامة أحوال الشغل والتكفل بمعوقي حوادث الشغل وجرحاها، لذا اقتصرت أحداث الشغب والتمرد التي قامت بها على سلسلة من الإضرابات غير المؤثرة؛ إذ كانوا دائمًا يسعون للاستيلاء على مكان محصن يرابطون به إلى أن يجبروا مستأجريهم على الخضوع فيمكنونهم من مستحقاتهم، وعندها يرحلون. لقد أدت تمردات الجنود هذه -على محدوديتها- دورًا مهمًا في التطور السياسي، لأن الاستجابة لمطالبهم ساهمت في الدفع بأجهزة الدولة إلى أن تعجل في تطوير الالتزامات المادية للسكن الناشطين والمنتجين. فالفكرة التي ما زالت منتشرة إلى اليوم بخصوص الأجساد الهائمة عديمة الهوية هي حتمية أن تتمكن منهم إرادات أخرى تسكنهم، تجعل منهم مسلوبي الإرادة حقًا.
الفصل السابع: نهاية البروليتاريا
يرى فريليو فيه أنه لا توجد نقطة التقاء بين تطور السرعة وما اتفق على تسميته التطور الإنساني والتكنولوجي، ولكن يوجد تزامن بينهما؛ فالبروليتاريا العمالية ليست سوى صيغة من العسكرة، ولكنها صيغة موقتة. فنهاية ديكتاتورية البروليتاريا ونهاية التاريخ تتمان بفعل حروب الوقت، وإن سرعة اتخاذ القرار السياسي مرهونة بمدى استحكام وسائل النقل العسكري: كيف ننقل القنبلة الذرية؟ وبأي سرعة؟ إنها بالتأكيد قنبلة سياسية لكونها أقصى تمظهرات إدارة المراقبة المرورية العسكرية. لذا يجب على الثورة البروليتارية أن تمر من هنا فصاعدًا عبر ثورات المؤسسة العسكرية (صلب الجهاز الدستوري للدولة؛ تأكيدًا لذلك لم تعد الأحزاب السياسية هي الفاعل المهيمن في الساحة السياسية، بل تركت زمام المبادرة بيد الجيش والنقابات، بما فيها النقابات العسكرية)، وشيئًا فشيئًا انفصلت الطبقة العسكرية عن شريكها البورجوازي وتخلت عن مهماتها القديمة من موضعيها الطبيعين: الشارع والطريق، لتشتغل “فتوة” تحمي المؤسسات الصغرى والمتوسطة.
لقد كان للمحاولات الأولى للاختراق أو الغزو المستتر للجسم الاجتماعي هدف محدد هو استغلال القوات العسكرية لطاقات الأمة الخام، وما الحرب الشاملة إلا حرب إبادة للحضارات الراسخة. فالبروليتاري الذي نشأ عسكريًا ثم أضحى عاملًا يمتلك حركة دائبة لا تفتر أبدًا يتناسل بعضه من بعض بلا هوادة وهو يمسك بمقود التاريخ الذي يسير به ويوجهه في المكان والزمان ويلهمه الحركة؛ هو إلى ذلك كله قائد حربي.
إن ما يجعل الحرب -بوصفها مشروعًا متجانسًا نشيعه في الزمان والمكان ويفيد إنتاجه على الدوام لنفرضه متى أردنا على خصمنا- محركًا للتاريخ ليس كونها أداة، بل كونها مصدر خطاب كلياني في التاريخ. هذا الخطاب هو السعي المشترك بين الدول الأوربية وبقية العالم نحو الجوهر المطلق للحرب الذي هو السرعة، وبذلك يتخذ هذا السعي معنى السيطرة المطلقة للعقل العسكري الغربي على التاريخ الكوني. وهكذا لن يكون التاريخ الخالص سوى ترجمة للسبق الميداني الاستراتيجي المحض لهذا العقل العسكري، وفي النتيجة ستنحصر قوة هذا التاريخ في الريادة والانتصار على الآخرين وستحول المؤرخ إلى قائد حرب الوقت.
الفصل الثامن: الأمن بضاعة مستهلكة
افترض المؤلف أن الثورة أسرع خطى من الشعب، وسبب ذلك أن الثورات المزعومة في الغرب لم تكن في الحقيقة من صنع الشعب، بل هي من صنع المؤسسة العسكرية. فليبرالية الغرب الاقتصادية لم تكن سوى تعددية ليبرالية من جنس تعددية سرعة الاختراق العسكري، وكثيرًا ما عمد الغرب إلى مواجهة ثقل وطأة نموذج البرجوازية المعزولة والخطة الأحادية الماحقة التي مزجتها أيديولوجيا التعبئة الشاملة (الرقابة الصريحة على المنقولات من ممتلكات وأشخاص وأفكار) إلى التنويع في بيئته اللوجستية إلى أيديولوجيا الثروة الوطنية التي تستثمر في شراء السيارات والرحلات ومشاهدة الأفلام، أي الرأسمالية، رأسمالية الفئات فاحشة الثراء دائبة الحركة. هذا فائض من الوهم الاجتماعي. فالنجاح رهن بلوغ أقصى مقدرة توفرها السرعة، وهو إلى ذلك يعني أن يتملكنا إحساس بالإفلات من حظيرة التدجين الاجتماعي. فاليوم انزاحت الحدود فأضحت داخل المدينة نفسها، وبالفعل أضحى الطريق مثله مثل الشارع.
إن الأمن لا يتجزأ فالحاجة إلى حفظ الأمن الدائم أي وجود جسم اجتماعي منظم وفقًا لحاجاتنا الأمنية، وتلاعب السلطة بمتطلبات أمن المواطنين بطريقة إرهابية مكشوفة هي الحل الأمثل لمجمل القضايا غير المسبوقة التي واجهتها الديمقراطيات الغربية. فلقد سعت الديمقراطيات الغربية لإحياء فكرة الاتحاد عبر خلق حالة إجماع جديدة حول احتياجات المجتمع، فكلما خلفت سابقًا وسائل الإعلام الحاجة إلى السيارة والثلاجة يجري الآن خلق شعور جماعي بانعدام الأمن، ما سيفضي حتمًا إلى خلق نوع جديد من البضاعة الاستهلاكية هي بالتأكيد الحماية، وتدريجيًا قفزت هذه البضاعة إلى الصدارة وأصبحت حصيلة الدورة الاستهلاكية كلها. فإشاعة فكرة الحاجة إلى الأمن من شأنها أن تخلق مواطنًا بملامح جديدة، فلم يعد المواطن هو ذاك الذي يُغْني الأمة بما يستهلكه من بضائع بل هو ذاك الذي يبادر إلى استثمار أمواله وجهده في تأمين نفسه، فيوفر لها أفضل حماية، إنه في النهاية يشتري أمنه على حساب حاجاته الاستهلاكية الأخرى؛ ليس في ذلك تناقض فالمجتمع الرأسمالي قد دأب على الربط الوثيق بين السياسة وإظهار الخوف، والأمن الاجتماعي ووفرة الاستهلاك والرفاهية. ولقد وقفنا سابقًا على أن الوجه الآخر لهذه الحركة الإجبارية هو تقديم المساعدة، فمع حرب الحركة أضحى لأصحاب الأجساد العاجزة حضور اجتماعي قوي، وذلك من خلال استحقاقات العمل العسكري. فقانون الإنتاج نفسه يهدف دائمًا إلى خلق استهلاك بلا حدود، ولكن هذا الاستهلاك أصبح استهلاكًا للأمن كله. إن القضاء على حليف البورجوازية السياسية ليس سوى تحقيق لحلم استراتيجي مبني حصريًا على الفكر العلمي والتكنولوجي (أمم معسكرة ولكن من دون الحاجة إلى جيوش).
القسم الرابع: حالة الطوارئ
يرى فريليو هنا أنه بما أن السرعة هي جوهر الحرب أضحى تقلص المسافات حقيقة استراتيجية ذات نتائج اقتصادية وسياسية خطرة نظرًا إلى اقترانه بنفي الفضاء، وقد اقتضت السرعة أن يكون للاّمكان قيمة استراتيجية بدل المكان؛ لذلك جرت الاستعاضة عن موضوع امتلاك الأرض بموضوع امتلاك الوقت، وبذلك تتخذ العلاقة بين “إطلاق النار والحركة” معنى جديدًا مفاده أن التمييز بين القدرة التدميرية لإطلاق النار والقدرة الاختراقية للحركة وللمركبة العسكرية بدأ يفقد صلاحيته، فحركة الناقلات المخترقة لجدار الصوت هي في الآن نفسه اختراق وتدمير، إذ إن سرعة فعلها الفائقة عن بعد يصارعها اندحار العدو بفعل المفاجأة ويصارعها اندحار العالم بوصفه مجالًا ومسافة ومادة.
إن الاختراق المباشر يعني التدمير الفوري للوسط الذي يعيش فيه الإنسان بما أن تطور فاعلية وسائل النقل العسكرية المتزايد (الدقة- المدى- السرعة) قد أفقدت الإنسان المساحة/ الزمن عندما فقد المساحة/ الفضاء. من هنا فإن التسمية الثنائية إطلاق النار/ الحركة لا يمكنها أن تستمر في الوجود إلا بمعنى حركة مزدوجة (هي حركة الانبجار والانفجار). ففي أقل من نصف قرن تقلصت المساحات الجغرافية تقلصًا مطردًا بسبب تزايد السرعة، فإذا كانت العقدة هي وحدة قياس سرعة (قوة الردع) البحري في الأربعينيات، وهو قوة تدميرية هائلة آنذاك، فإن هذه السرعة أصبحت بداية من الستينيات تقاس بالماخ أي سرعة آلاف الكيلومترات في الساعة، وستصل في المستقبل إلى سرعة الضوء بفضل سلاح الليزر؛ استراتيجية اليوم فضائية جديدة قوامها استعمال أصغر التقنيات وأجودها. فإذا كانت السرعة تبدو من التداعيات الأساسية الأكيدة لأساليب الصراع والحرب، فإن “السياق الحالي نحو التسليح” ليس في النهاية سوى تسليح للسباق نحو إفناء العالم بوصفه مسافة أي بوصفه مجالًا للفعل. وما عملية نزع السلاح اليوم إلا تخفيض من السرعة. فالحرب اليوم ترتكز على التخلص من ضوابط المكان والزمان ولهذا حلت الاستراتيجية التقنية محل الاستراتيجية التكتيكية الميدانية؛ إذ إنه في الحروب الحديثة لم يعد الأمر يتعلق بموضوع الانفجار بل بناقل (حامل) الأسلحة النووية، أي بفاعلية هذا الحامل، فإذا كانت مخلفات الانفجار (الجزئية أو النووية) تجعل الفضاء غير صالح للحياة فإن، مخلفات الانبجار (الوسائل الناقلة للسلاح) هي التي تسعف المعنين بالوقت الكافي للرد عسكريًا ولأخذ القرار سياسيًا. فالانبجار أسس لما يسمى حرب الوقت والسرعة في وقتنا الراهن مرادفة للحرب، بل هي منتهى الحروب كلها.
غير عصر السرعة من مفهوم الحرب من حالة الحصار المرتبطة بحروب المكان إلى حالة الطوارئ المرتبطة بحرب الوقت، فتوارى الزمن السياسي لرجل الدولة ليحل محله الزمن اللاسياسي لجهاز الدولة، ونحن هنا في مواجهة ظاهرة أكبر من أن تكون ظاهرة زمنية لهذا يعيش الإنسان زمن تحسين غريب للفعل يسمى الفعل الآلي الذي هو بديل من إمكان الخطأ البشري، وهذا الفعل الآلي هو الذي ينقل هذا الإمكان من مرحلة الفعل إلى مرحلة المفهوم كون الخطأ التقني في أقل حدوده. إذ إن الفتوح التكنولوجية هي آخر شكل من أشكال حرب الحركة، فاختفى الفاصل بين السلم والحرب، ما يؤدي إلى عمى سياسي؛ الانتقال من زمن الحرب إلى حرب زمن السلم الذي يسميه بعضهم (التعايش السلمي) تحول مهم. فالسرعة العمياء لوسائل الاتصال التدميرية ليست تحريرًا للإنسان من العبودية الجيوسياسية، بل إبادة للفضاء بوصفه مجال حرية الفعل السياسي.
ما يحدث من حالة ترقب قلق لاحتمال حدوث كارثة في حالة سائق سيارات السباق يجري استنساخه في الميدان السياسي عندما تحتم الأوضاع إنجاز العمل في وقت حقيقي. لا سيما أن تقليص هامش الأمان السياسي أدى إلى الإشراف على حافة وضعية حرجة قد تبطل “دولة الطوارئ” كل إمكان لفعل سياسي حقيقي. إن فورية المعلومة قد تكون سببًا فوريًا في الأزمة، ومن ذلك هشاشة القدرة على التفكير بوصفها نتيجة حتمية لعملية تقليص الفعل الناتجة بدورها من ظاهرة تقليص الفضاء بوصفه مجالًا للفعل. ففي دولة الطوارئ تحرر من الجغرافيا بسبب تطور ناقلات السلاح التدميري وتضاعف مداها، ولكي يستمر التهديد ويشرع لاستراتيجية الردع ينبغي تطوير وسائل اتصال تدميرية ذات فاعلية متجددة والاستعاضة عن الفتوحات الجغرافية بالفتوحات التكنولوجية؛ بذلك مرت الحرب منطقيًا من مرحلة الفعل إلى مرحلة الفكر التي تميز مرحلة التشغيل الآلي للمعدات الحربية.
خاتمة
يمكن إدراج الكتاب الراهن تحت عناوين نقد الحداثة وما بعدها التي تدرس العلاقة بين مثلث (السرعة والسلطة والبشر) في عالم أخذ ينتشر فيه الخوف والحروب والاستغلال والتفاوت. ففي عالم المعلومات المتنامي والتكنولوجيا المتسارعة في التقدم، عالم السرعة لم يعد الناس يصدقون ما يرونه بأعينهم فقد أصبحوا خاضعين لمجال الرؤية التقنية واستطالت الرؤية من خلال الأدوات التي تؤمن رؤية بلا نظر. في هذا إعادة إنتاج العمى المكثف الذي يؤمن بالآلة ولا يؤمن بالمجال الطبيعي.
دولة السرعة والتقنية والتكنولوجية لا الحرب ولا السلم، هي دولة الطوارئ، دولة ضاعت فيها معالم الإنسان، وتلاشى فيها التاريخ تمامًا واختفى المكان وقيمته وزمنه، فعلى الرغم من أن السرعة هي محرك التاريخ إلا أنها تمثل شيخوخة المجتمعات. رؤية فريليو للسرعة رؤية تحليلة نقدية لانحسار المدينة وتفكيكها بسبب السرعة ليصبح البشر جنودًا لدكتاتورية الحركة مؤكدًا أن هيمنة سلطة السرعة تدمر اندماج الإنسان في الفضاء الزماني والمكاني الذي يحيا فيه، ما يعرضه لمخاطر جمة ناجمة عن حركة السرعة التي أزالت الحدود في العالم وجعلته ينكمش ليغدو لا شيء.
يعلق المترجم على نسخة الكتاب الفرنسية بأنها نسخة صعبة كونها تمزج بين البحث الأكاديمي والأسلوب الروائي والفلسفي إضافة إلى القفزات الزمانية والمكانية في أثناء سرد الأمثلة التي لا يمكن فهمها إلا بالعودة إلى التاريخ، واسترسال المؤلف في الكتابة مع قلة عناوين فرعية إضافة إلى عدد من المفهومات التي قام بنحتها، وصعوبتها في أنها لا تنتمي إلى حقل معرفي معين (كالتاريخ، أو الجغرافيا، أو علم النفس، أو علم الاجتماع…) وبخاصة أن العصور كلها تمر على عصر السرعة ولكل عصر مصطلحاته ومفهوماته. وإن كان أسلوب الترجمة جيدًا، وعباراته واضحة إلا أن ملاحظة المترجم يمكن تأكيدها عند قراءة الكتاب في النسخة العربية لأنها مربكة للقارئ.
أخيرًا إن عالم فريليو الذي تجلى في السرعة والدروموقراطية يقوم على العسكرة وانحسار الزمان والمكان، يتقاطع مع العالم الحديث السائل عند باومان، وعالم مجتمع المخاطر عند أولريش بك من جهة وعالم ميشيل فوكو الذي يفرض السلطة بالقوة عبر نظام المراقبة، إنها عوالم تتقاطع مع بعضها في أنه كلما تقدم العالم إلى الأمام نحو الحداثة والتحديث يتزايد توحشه وعدم انضباطه ولا إنسانيته.
[1]توضيح كتبه المترجم لمفهوم الدروموقراطية.
[2]منح عقل أو روح للأجساد مسلوبة الإرادة حتى تُستَعمل وسائل نقل ومركوبات.