موجز:

على الرغم من أن ثورات وانتفاضات الربيع العربي تمكّنت من خلخلة أركان أنظمة الاستبداد الاستنقاعي السائدة في المنطقة العربية، فإنها مع ذلك لم تنجح عمومًا في خلق نموذج جليّ للبديل السياسي المطلوب، ومع أن معظم القوى السياسية، باستثناء الأصوليات الإسلامية المتطرفة، تتفق على الديمقراطية في خطوطها العريضة، فإن هذا الاتفاق الهشّ يعاني كثيرًا من التجاذبات الحادة بين الأطراف المختلفة، كالعلمانيين والإسلاميين، حيث يضع كلّ منهم مواصفاته الخاصة لهذه الديمقراطية، ويريدها ديمقراطية بمقاييسه ومعاييره.

وفي وقت ما يزال فيه الشارع العربي شديد التدين، وللإسلام السياسي الحضور الأقوى فيه، يبدو مطلب العلمانيين بفصل راهن للدولة عن الدين مطلبًا غير واقعي، وغير متوافق لا مع الشارع ولا مع القوى الفاعلة فيه. ولذا يحتاج العلمانيون العرب إلى نموذج عربي أكثر واقعية ومرونة من العلمانية، لا يُفقدها مضمونها الحقيقي، ولكنه يضعها في مسارها التحقيقي الواقعي الصحيح.

في سياق البحث عن الشكل العربي المناسب من العلمانية، كثيرًا ما تجري المقارنة والمفاضلة بين العلمانية (بالأدق السيكولارية)، واللائكية، وينظر في أيّهما أنسب عربيًا. وهذه الدراسة تتناول مسألة النموذج العربي المطلوب من العلمانية، وتتضمن مقارنة لنموذجي العلمانية الغربية: السيكولاري واللائكي، ومدى مناسبة كل منهما للواقع العربي. وتخلص إلى أن المطلوب عربيًا هو نموذج عربي خاص يستفيد من التجارب العلمانية المختلفة، ويدرك الكيفيات الموضوعية التي تمت فيها، وذلك ليس بتقليد الأشكال التي اتخذتها أو الأساليب التي اتبعتها، أو استعارة النتائج التي وصلت إليها كوصفات جاهزة للتطبيق الفوري، ومنها “الفصل بين الدولة والدين”، وإنما بمعرفة العلاقة الجوهرية التي قامت بين المبادئ والأسس العلمانية، وبين العوامل والظروف التي وجدت في تلك المجتمعات.

فهرس المحتويات:

1- مقدمة

2- ضبط المصطلحات

3- العلمانية على الساحة العربية بين الجدل والاختلاف

4-العلمانية في العالم

5-السيكولارية

6-اللائكية

7- العلمانية من منظور تعددي

8- العلمانية الفرنسية والدين

9- الخيار العلماني العربي “سيكولاري” أم “لائيكي”؟

10- خلاصة

1- مقدمة:

أطروحة العلمانية على الساحة العربية ليست جديدة، سواء من الناحية المعرفية أو من الناحية السياسية، وتعود جذورها على هذه الساحة إلى النهضة العربية التي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر، وكان من روّادها وكبار أنصارها شبلي شميل ويعقوب صروف وفرح أنطون ونقولا حداد وسلامة موسى وولي الدين يكن ولويس عوض، وسواهم([1]).

وإنّ طرح العلمانية كمشروع سياسي، كما الحال في طرح المشاريع الأخرى مثل الوحدة العربية والديمقراطية والاشتراكية وسواها، واجهته مواقف مختلفة، تراوح بين التأييد المتحمّس والرفض القطعي، هذا على الصعيد الموضوعي، كما واجهته على الصعيد الذاتي العديد من الإشكاليات التي تتعلق بفهم العلمانية نفسها، حيث تعددت واختلفت مفاهيمهما، حتى بين من يدْعون أنفسهم علمانيين، وعلى الرغم من أن زمنًا طويلًا نسبيًا قد مرّ منذ أن ظهر مصطلح العلمانية على الصعد الفكرية والمعرفية والسياسية في الساحة العربية، فما يزال مفهوم العلمانية حتى الآن يشوبه كثير من التشوش والالتباس، وهذا ما يزيد من حدة التوتر والاستقطاب، بين أنصار العلمانية وخصومها، على هذه الساحة؛ فتبقى العلمانية مسألة حساسة وشديدة الخلافية، بل صدامية في أحيان كثيرة، وهذا يرفع من درجة الانقسامات والنزاعات في المجتمع، وفي أحيان عديدة، يصل هذا التناقض الخطير إلى ذروته القصوى، فيذهب المتطرفون الإسلاميون إلى حد تكفير العلمانيين، وتخوينهم، واتهامهم بالعمالة لأعداء الإسلام الخارجيين، فيما لا يتوانى العلمانيون المتطرفون بدورهم عن تأييد الدكتاتوريات الحاكمة، بذريعة التصدي للظلاميين والتكفيريين الإسلاميين.

عن الالتباس في مفهوم العلمانية، يقول د. كمال عبد اللطيف: إن العلمانية هي “واحد من أكثر مفاهيم الفكر العربي التباسًا، سواء على مستوى اللفظ والرسم والجذر اللغوي، أو على مستوى الدلالة المباشرة أو الدلالات المختزنة ضمن تلافيف طبقات معانيه المترسبة بفعل الزمن”([2]).

وعلى ذلك؛ يصبح من الضروري جدًا التعامل بحذر مع مصطلح “العلمانية”، والسعي لإيضاح الملابسات العالقة به، وتقديمه في الصورة الواقعية التي تعزز حوار الأطراف المختلفة لإيجاد الحل المشترك الذي يُخرج المجتمعات العربية من أزمتها، وبهذا الخصوص، يقول جون- نيكولا بيتر: «تثير مسألة العلمانية احتدام نقاشات ساخنة، تتّسم بدرجات عنف متفاوتة في أجزاء مختلفة من العالم، ومن أجل إجراء نقاش بنّاء يتّسم بقدر من النقد الموضوعي، من الضروري توخّي الحذر لدى استخدام هذا المصطلح، والأخذ في الاعتبار المعنى الذي يحيل إليه في سياق محدد»([3])، ويضيف متحدثًا عن تعدد مقاربات مفهوم العلمانية، ومشيرًا إلى حالة الاستقطاب الحاد بين أنصار العلمانية وخصومها في العالم الإسلامي، وإمكانية أن يتمكن طرح علماني يراعي الظروف الواقعية من أن يُخفف من حدتها ويقارب وجهات النظر: «في الواقع، هناك عدة مقاربات، عند التطرّق إلى مفهوم العلمانية، تستند إلى سياقات تاريخية واجتماعية مختلفة، ومن شأن مراعاة وتقدير هذا الواقع أن يسهم في التخفيف من حالة الاستقطاب التي تميّز النقاش المحموم والجدل القائم في العالم المعاصر، وفي العالم الإسلامي، على سبيل المثال، حيث غالبًا ما يختلط الوضع في أذهان “مناهضي العلمانية”، انطلاقًا من فرضية خاطئة تخلط بين “العلمانية” و”المناهضة للدين”، ومن ثم، فمن شأن انتهاج مثل هذه المقاربة المميزة أن تقرّب وجهات النظر، وتساهم بشكل كبير في تعزيز ظروف العيش المشترك في جو من السلام»([4]).

2- ضبط المصطلحات:

كلمة “عَلمانية” في العربية، بالعَين المفتوحة لا المكسورة، مشتقةٌ من الجذر “عَلم”، أيضًا بالعين المفتوحة، التي تعني “العَالم”([5])، وبالتالي فهي تعني “العَالمانية”، وهذا هو معنى المصطلح، من الناحية اللغوية المحض.

ولو أجرينا مقارنة لغوية مع اللغة الإنكليزية، لوجدنا أن المقابل الأنسب لمصطلح “علمانية” العربي، وفقًا للمعنى اللغوي في الإنكليزية، هو “mundanity” التي تعني بدورها “العالمانية” أو “الدنيوية” بالمعنى المضاد لـ “الآخروية”، وهذه الكلمة الإنكليزية مشتقة من الأصل اللاتيني “mundus” أي “عالَم”([6]). لكن كلمة “mundanity” في الإنكليزية ليست هي المصطلح المستخدم للدلالة على العلمانية، بمفهومها الفكري والسياسي المعاصر، والمصطلح المستخدم هو “secularism”، وهذا هو المصطلح العام، فيما يستخدم مصطلح “laicty” للدلالة على “العلمانية الفرنسية” أو “اللائكية”.

عربيًا أيضًا، بالمعنى الفلسفي أو السياسي، لا تستخدم كلمة “علمانية” كمقابل لـ “mundanity”، بل كمقابل لكل من “secularism” و”laicty”. وأحيانًا يقصر البعض استخدام مصطلح “علمانية” كمقابل لـ “secularism”، فيما يستخدمون مصطلح “لائكية” كمقابل لـ “laicty”، وبموجب هذا، يجعلون العلمانية واللائكية مختلفتين، وهذا ليس دقيقًا لا من ناحية الاصطلاحية ولا من الناحية المنطقية، ذلك أن “اللائكية” لا تعتبر في الفكر السياسي شيئًا مختلفًا منفصلًا عن “الـسيكولارية” (secularism)، ولا تستخدم كمصطلح في الإنكليزية بهذا المعنى، فمثلًا وفق المادة الأولى من الدستور الفرنسي، “السيكولارية هي المبدأ الدستوري للعلمانية في فرنسا”([7])، كما يقول مقال “تناقضات العلمانية الفرنسية”، على موقع “”Statesman: «اللائكية هي الكلمة الفرنسية المقابلة للعلمانية، وهي تشير في تعريفها الأصلي إلى الفصل بين الكنيسة والدولة، وإلى حياد الدولة في الأمور الدينية» ([8])، ويقول مقال”العلمانية الفرنسية” على موقع “Drishti”: «تـُفهم اللائكية أو العلمانية الفرنسية بشكل أفضل على أنها مشروع للتماسك الاجتماعي ومكون أساسي للمواطنة الفرنسية»([9])، وفي كل هذه الاقتباسات المقابل الإنكليزي المستخدم لعلمانية هو “secularism”.

وبشكل عام، يمكن القول إن مصطلح (secularism) هو المصطلح المستخدم عمومًا في الإنكليزية للدلالة على العلمانية، أما laicty”” فيختص بـالعلمانية الفرنسية، وهذا ينطبق على العديد من اللغات الأخرى، وفي بعض الأحيان، يمكن أن توجد مصطلحات محلية خاصة، فمثلًا في اللغة الروسية هناك مصطلح “светскость” (svetskost) الروسي الأصل، وهو يستخدم جنبًا إلى جنب مع مصطلح “سيكولاريزم” وبالمعنى العام نفسه، ولكنه لا يشير إلى تجربة علمانية روسية خاصة، على غرار اللائكية الفرنسية، وفي اليونانية الحديثة أيضًا هناك مصطلحا “kosmikismós” اليوناني الأصل و””sekoularismós ذو الأصل اللاتيني، وكلاهما يستخدمان للدلالة على العلمانية بالمعنى العام.

مع ذلك، فأحيانًا حتى في الغرب يتم التمييز بين اللائكية الفرنسية، بسبب اختلافها ببعض المسائل المهمة عن العلمانيات الأخرى في غرب أوروبا وأميركا التي تسمى عمومًا “سيكولاريزم”، وبذلك توضع “السيكولارية” كنموذج علماني مقابل “اللائكية” كنموذج علماني آخر، ولكن هذا لا يعني قطعًا تحوّل اللائكية والعلمانية إلى شيئين مختلفين ككل.

في هذه الدراسة، من أجل تسهيل المقارنة بين النماذج العلمانية، سيتم استخدام مصطلح “سيكولارية” كتعريب لـ “secularism” بصفتها نموذجًا علمانيًا مختلفًا عن النموذج العلماني الفرنسي المسمى “لائكية”، وبذلك، سيكون استخدام مصطلح “علمانية” العربي شاملًا لكل من السيكولارية واللائكية وسواهما من النماذج العلمانية الأخرى التي لا يمكن إدراجها بدقة تحت هذا الصنف أو ذاك.

3- العلمانية على الساحة العربية بين الجدل والاختلاف:

عربيًا -كما سلف القول- كثيرًا ما يتم الخلط بين “العلمانية” و”اللادينية” أو حتى “الإلحاد”، فتفهم العلمانية بأنها “توجه رافض للدين” أو “ضد الدين”، وهذا بالطبع أمرٌ يثير ردة فعل سلبية كبيرة ضدها، في المجتمعات العربية المتدينة؛ وفي أحيان أخرى توضع “العلمانية” في مواجهة مع “اللائكية”، فيتم الحديث عن “علمانية لا تتناقض مع الدين”، مقابل “لائكية مناهضة أو معادية للدين”، ومن ذلك مثلًا يميز الأستاذ عبد الصمد بلكبير، بين “فصل الدين عن الدولة” و”فصل الدولة عن الدين”، ويرى أن العلمانية تفصل الدين عن الدولة، وهذا برأيه أمر إيجابي، يجعل الدين ضميرًا وموجهًا ورقيبًا أخلاقيًا في المجتمع، أما اللائكية فهي تفصل الدولة عن الدين، وهذا يعني من الناحية النظرية عدم قبول الدين([10])؛ وكذلك أيضًا تكثر الخلافات حول العلاقة بين العلمانية والدين، فمثلًا يقول الدكتور عدنان إبراهيم: «قد نجد في قلب الإسلام جوهر العلمانية»([11])، وهذا الرأي قريب من رأي الدكتور حسن حنفي الذي يرى أن الإسلام بحد ذاته هو دين علماني، وهو لا يحتاج إلى العلمانية الغربية، ويرى أن الشريعة الإسلامية هي شريعة وضعية([12])، وهذا ما لا يوافقه عليه الدكتور محمد عابد الجابري، الذي يدعو إلى استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي واستبداله بشعاري “الديمقراطية والعقلانية”، لأن “شعار العلمانية” ملتبس، وهو يفقد المطالب السياسية الموضوعية المعقولة كالديمقراطية موضوعيتها ومشروعيتها([13])، أما الدكتور برهان غليون فيقول: “تبدو إشكالية فصل الدين عن الدولة عندنا كإشكالية مصطنعة منقولة عن الغرب. إن مشكلة الدولة في العالم التابع هي بالضبط أنها بلا دين ولا عقيدة… وليس هناك مؤسسة دينية مسؤولة في المجتمع العربي الراهن عن انعدام هذه الحرية([14]).

يدلّ ما تقدم على أن ثمة كثيرًا من الجدل ومن الاختلاف الكبير، في أوساط المفكرين العرب، بخصوص العلمانية، وهذا كما هو واضح مرتبط بالدرجة الأولى بالعلاقة بينها وبين الإسلام، وفي هذا السياق، تحظى “اللائكية” بقسطها الخاص من الأهمية، وعلى الرغم من أنها تجربة خاصة بفرنسا، فإن خصوصيتها السياسية، وارتباطها بالثورة الفرنسية التي تعتبر حدثًا مفصليًا كبيرًا في التاريخ الحديث، إضافة إلى الدور الفاعل الكبير الذي لعبه وما يزال يلعبه الفكر الفرنسي في دفع عجلة التقدم في العالم الحديث، تعطيها موقعًا استثنائيًا بين التجارب السياسية الحديثة المشابهة.

وستحاول هذه الدراسة إيضاح الفرق بين النماذج العلمانية الغربية، اللائكية وغير اللائكية، ومدى مناسبتهما للعلمانية العربية.

4- العلمانية في العالم:

تشير المعطيات التاريخية إلى أن نماذج مبكرة من الفصل بين الدولة والدين، ومن الفكر الذي يدعو إلى مثل هذا الفصل، ظهرت بدرجة ما في الأزمنة القديمة في مناطق مختلفة من العالم القديم، قبل الميلاد بقرون، منها مثلًا الصين والهند واليونان.

أما في الغرب الحديث، فقد بدأ الفكر العلماني بالظهور في عصر النهضة الأوروبي، ويعود تصاعد الروح العلمانية في أوروبا إلى بدايات القرن الرابع عشر الذي شهد انتشار الطاعون الأسود، وكان حافلًا بالكوارث الطبيعية والحروب، وأخذت فيه سلطة البابوية الكاثوليكية بالتفكك، فانقسمت البابوبة بين مدينتي روما الإيطالية وأفينيون الفرنسية، وكان الملك الفرنسي يدعم باباوات أفينيون، ومكّنهم ذلك من الهيمنة على البابوية، وفي تلك الآونة، راح السكولائي مارسيل البدواني (Marsilius of Padua) يدعو إلى نبذ السلطة الدينية، حيث دعا في كتابه (المدافع عن السلام) إلى الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية، واستقلال المَلك بشكل كامل عن البابا، وقد أيّده في ذلك اللاهوتي وليام (أو ڠيوم) الأوكامي (William of Ockham)([15])،وانتقد اللاهوتيان جوهن ويكليف (John Wycliffe) وجان -أو يان- هُوس (Jan Hus) ثراء البابوات والأساقفة ورؤساء الأديرة، وشهّروا بهم، وانتقدوا العقائد الدينية، ووصفوا المتصارعين على العرش البابوي بأنهم يتقاتلون “كما تتقاتل الكلاب لأجل عظمة”([16])؛ ثم واصل الفكر العلماني تطوره لاحقًا في سياق عملية التطور المتكاملة التي كان يشهدها الغرب الحديث، وقد لعب أدوارًا مهمة في هذا فلاسفة ومفكرون ورجال دولة وسياسيون وسواهم، منهم جون لوك وفولتير وباروخ سبينوزا ودينيس ديدرو، والعديد من الآباء المؤسسين لأميركا مثل جيمس ماديسون وتوماس جيفرسون وتوماس بين، وغيرهم…

وفق لوك دبليو جالين، في كتابه “غير المتدينين: فهم الناس والمجتمعات العلمانية – جامعة أكسفورد”، فإن «العلمانية هي مبدأ السعي لإدارة الشؤون الإنسانية على أساس الاعتبارات الزمنية والطبيعية، ويتم تعريفها بشكل شائع على أنها فصل الدين عن الشؤون المدنية والدولة، ويمكن توسيع مفهومها ليشمل موقفًا مشابهًا فيما يتعلق بالحاجة إلى إلغاء أو تقليل دور الدين في أي مجال عام. المصطلح له مجموعة واسعة من المعاني… وقد يشير ضمنيًا إلى مناهضة الأكليروس، أو الإلحاد، أو المذهب الطبيعي، أو إزالة الرموز الدينية من المؤسسات العامة…»([17]).

وتقول الموسوعة البريطانية (البريتانيكا): «العلمانية هي أية حركة في المجتمع تتجه بعيدًا عن العالم الآخر إلى الحياة على الأرض. في العصور الوسطى في أوروبا، كان هناك ميلٌ قوي لدى المتدينين إلى احتقار الشؤون الإنسانية، والتأمل في الله والحياة الآخرة. كردة فعل على هذا الاتجاه في العصور الوسطى، أظهرت العلمانية، في عصر النهضة، نفسها في تطور الإنسانية، عندما بدأ الناس في إبداء المزيد من الاهتمام بالإنجازات الثقافية البشرية وإمكانيات تحقيقها في هذا العالم»([18]).

فيما يقول موقع هيومانيستز البريطاني: «نحن ملتزمون بالعلمانية: المبدأ القائل بأنه في مجتمع تعددي ومنفتح حيث يتبع الناس العديد من أساليب الحياة الدينية وغير الدينية المختلفة، يجب أن توفر المؤسسات المجتمعية التي نتشاركها (وندفع مقابلها معًا) مساحة عامة محايدة حيث يمكن أن يجتمع الجميع على قدم المساواة. إن علمانية الدولة، حيث تكون مؤسسات الدولة منفصلة عن المؤسسات الدينية أو تكون الدولة محايدة فيما يتعلق بمسائل الدين أو المعتقد، تضمن أقصى قدر من الحرية للجميع، بما في ذلك المؤمنون بالديانات. في مثل هذه الحالة، لا ينبغي تمييز أي شخص أو حرمانه على أساس معتقداته الدينية أو غير الدينية».

ويضيف الموقع المذكور: «يمكن أن تعني “العلمانية” أشياء مختلفة لأناس مختلفين، فنستخدمها لتعني الفصل بين الكنيسة والدولة، والمساواة في المعاملة للجميع، بغض النظر عن الدين أو المعتقد، بقدر ما هو مذكور أعلاه، والشخص الذي يدعم العلمانية هو شخص “علماني”، وبالتالي فإن منظمة “الإنسانيون البريطانيون” (Humanists UK ) هي منظمة علمانية»([19]).

أما موقع “الجمعية العلمانية الوطنية” (National Secular Society) البريطانية، فيقول: «المبادئ العلمانية التي تحمي وتدعم العديد من الحريات التي نتمتع بها هي: فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة والمجال العام الذي يمكن أن يشارك فيه الدين دون أن يهيمن؛ حرية ممارسة المرء لعقيدته أو معتقده دون الإضرار بالآخرين، أو تغيير معتقده أو عدم امتلاكه، وفقًا لضميره؛ المساواة حتى لا تضع معتقداتنا الدينية أو عدم وجودها أيًا منا في ميزة أو ضرر»([20]).

وكما نرى في هذه التعريفات، التي يؤكـَّد في أكثر من موضع منها أن العلمانية هي مفهوم قابل للاختلاف، أن المشترك فيها، وما يتم التركيز عليه، هو حيادية الدولة والمجال العام والمؤسسات العامة تجاه الاختلافات العقائدية والدينية، ومساواة المواطنين في الدولة والمجتمع، بصرف النظر عن اختلافاتهم هذه، وتمتعهم جميعًا بالحرية في الأديان والمعتقدات وممارسة النشاطات والفعاليات المرتبطة بها، ولا يردّ في تلك التعاريف أي شيء ضد الدين.. ولا هي تتضمن ما يمكن أن يدلّ على التناقض والتضاد العلائقي بين العلمانية والدين، أو اتخاذ الدولة العلمانية لأي إجراءات ضد الأديان أو المعتقدات المختلفة، بل على العكس من ذلك، تُجمع تلك التعاريف على وجوب ضمان حرية الاعتقاد والتدين إيمانًا وممارسة، ووجوب تساوي جميع المختلفين في المجتمع وأمام الدولة، وعدم التمييز بينهم بتاتًا على أساس الاختلافات العقائدية والدينية.

5- السيكولارية:

مصطلح “سيكولارية” (Secularism) يستخدم في الإنكليزية ومعظم اللغات الغربية وكثير من اللغات الأخرى في العالم للدلالة على العلمانية بشكل عام، ويمكن أن يستخدم في بعض الأحيان للتمييز بين النموذج العلماني الذي تمّ في أكثر الدول الغربية وغيرها عن النموذج الفرنسي، وهذا المصطلح هو عبارة عن مصدر صناعي مشتق من كلمة (saecularis) اللاتينية، التي تمثل حالة صفة مشتقة بدروها من كلمة (saeculum) التي تعني في اللاتينية “جيل أو عصر”([21])، وبهذا المعنى، يمكن لمصطلح “سيكولارية” أن يفهم كحالة من التمييز والفصل بين ما هو “زمني” وما هو “روحي أو ديني”.

ووفقا للجمعية الوطنية العلمانية البريطانية ، فأول من استخدم كلمة “سيكولاريزم” بمفهومها الحديث، كان الكاتب البريطاني الملحد جورج هوليواك (George Holyoake) في عام 1851، الذي وجد أن “الإلحاد” أمرٌ شديد الوطأة، فبحث عن مصطلح آخر يصف به الموقف الذي يدعو إلى إدارة الحياة على أساس الاعتبارات الطبيعية فقط، ولكن دون رفض الدين بالضرورة، ما يتيح التعاون مع المؤمنين، فاستخدم مصطلح “Secularism” لهذا الغرض([22]).

وكما سلف الذكر، يستخدم مصطلح “سيكولارية أو سيكولاريزم” بشكل خاص، للمفارقة بين النموذج العلماني الفرنسي اللائكي والنماذج الغربية الأخرى في إنكلترا وألمانيا وأميركا وكندا والبرازيل وسواها، التي تطلق عليها جميعًا تسمية “سيكولارية”، وتتميز هذه النماذج بأنها من ناحية جرت بشكل تطور اجتماعي عفوي تدريجي داخل المجتمع، وتم فيها الفصل بين الدولة والدين أو الدولة والكنيسة بشكل سلمي، وبدون صراع، كما تتميز أيضًا بوجود علاقة إيجابية بين الدولة والدين بشكل عام، وبعدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية والمعتقدية لمواطنيها، أو اتخاذها إجراءات ضد دينية، وتتميز أيضًا بالمساواة بين مواطنيها جميعًا، سواء في شؤون المعتقد أو في كل حقوق المواطنة.

فهل لدى اللائكية موقف مختلف؟

6- اللائيكة:

هي بالفرنسية (laïcité) وبالإنكليزية (laicity)([23])، وهذه الصيغة المصدرية بدورها مشتقة من كلمة (laïque) الفرنسية، التي يقابلها بالإنكليزية (laic)، ويمكن أن تعني “من هو ليس من رجال الدين، أو من هو من العامة، أو ما هو زمني…”([24])، وقد بدأ في الإنكليزية في القرن الخامس عشر استخدام مصطلح “laic” من الأصل اللاتيني “laicus”([25]) ، الذي يعني بدوره أن ذلك الشخص “عاديّ أو عامي أو غير كهني”([26])، وتعود جذور هذا المصطلح إلى أصل إغريقي هو (Λαός (laós))([27])، كان يعني في اليونانية القديمة “الناس أو جميع الناس أو رعايا الحاكم أو الجنود”([28]).

 في مسيحية القرون الوسطى، أصبح مصطلح “لائكي” يستخدم للدلالة على “الشخص العادي” (layperson)، مقابل “من هو شخص ديني أو عضو في سلك رجال الدين (clergyman)”، وعلى أساس هذا التقابل والتمايز بين العامة ورجال الدين، تطوّر لاحقًا في الفكر الفرنسي مفهوم مصطلح “اللائكية” ليحمل بشكل عام مفهوم الموقف المغاير أو المقابل أو المواجه للدين، ليصل في المحصلة إلى الفصل بين الدولة والكنيسة بشكل خاص، وبينها وبين الدين بشكل عام؛ أما مصطلح “لائكية” بحد ذاته فقد ظهر تاريخيًا في أوروبا في القرن الميلادي الأول، وفقا لـ “الموسوعة السياسيّة” العربية([29])، ولكن أول استخدام معروف له بالمعنى المعاصر بدأ عام 1909، وفقًا لقاموس ويبستر([30]).

“لائكية” (laïcité) هي الكلمة المستخدمة في تعريف فرنسا في الدستور الفرنسي بلغته الأم، حيث تـُعرّف فرنسا في المادة الأولى منه كـ “جمهورية لائكية”([31]).

وعن اللائكية يقول المركز الوطني الفرنسي للمصادر النصية والمعجمية: «اللائكية في القانون هي “مبدأ فصل الدولة عن المجتمع المدني والمجتمع الديني”، و”عدم انحياز الدولة أو حيادها فيما يتعلق بالطوائف الدينية”، وتشير الكلمة بالمعنى الموسع إلى صفة “المؤسسات، العامة أو الخاصة، المستقلة عن الإكليروس والكنائس”. اللائكية تعارض الاعتراف بدين للدولة، ومع ذلك، فإن مبدأ الفصل بين الدولة والأديان يمكن أن يجد تطبيقات مختلفة في بلدان مختلفة، من اللائكية الخاصة إلى العلمنة أو العلمانية البسيطة (sécularisme)»([32]).

ليس لللائكية تاريخ خاص منفصل تمامًا عن تاريخ العلمانية في الغرب، فكلتاهما تنتميان عمومًا إلى نفس السياق التاريخي والوسط الاجتماعي والثقافي في الغرب الحديث، ولكنّ ما يميز اللائكية هو فرنسيتها، بحيث يمكن القول إن “اللائكية هي النسخة الفرنسية الخاصة من العلمانية العامة”، ولكن هذا لا يستنفد تميز اللائكية عن سواها من التجارب العلمانية، وهي ليست مجرد نسخة علمانية خاصة بفرنسا، وهناك نسخة بريطانية ونسخة ألمانية ونسخة أميركية منها، وهلمّ جرًّا، فكل هذه النسخ لديها مع بعضها البعض قواسم مشتركة أساسية عديدة، ولذا يطلق عليها جميعًا تسمية “سيكولارية”، فيما تتفرد العلمانية الفرنسية المسماة “لائكية” ببعض السمات المهمة، كما سنرى لاحقًا.

ترتبط اللائكية ارتباطًا كبيرًا بالثورة الفرنسية وتداعياتها اللاحقة، وهي تمثل مرحلة طويلة من المواجهة الحادة بين الجمهورية والكنيسة، أقرت في محصلتها قوانين فصل الدولة عن الكنيسة في عام 1905، “لكن هذا الفصل لا يعني إلغاء الدين، بل عدم تدخل الدولة في المجال الديني”، كما يقول د. عادل لطيفي الأستاذ بجامعة السوربون، ووفقًا له، الفرق بين العلمانية (السيكولارية) واللائكية هو في أن اللائكية هي حالة فرنسية متميزة، يتم فيها التحييد القانوني لمؤسسة الدولة عن تأثير الدين، أما العلمانية فهي حركة تطورية عفوية وتلقائية تتم داخل المجتمع، ويتم فيها تجاوز حدود الثقافات، وبذلك يمكن القول إن اللائكية تقوم على حالة من الصراع، وأنها موقف سياسي وأيديولوجي على عكس العلمانية..([33]).

وبدوره يقول جون- نيكولا بيتر كلامًا مشابهًا عن اللائكية، إذ يقول إنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ من الصراع بين الدولة والكنيسة، ويقول إن اللائكية في فرنسا ترتكز للحفاظ على وجودها بشكل ضدي على كل ما هو ديني، وينظر إليها بالتالي كـ “معركة مستمرة ضد الكنيسة، من أجل تحقيق الفصل الفعلي بين الكنيسة والدولة والحفاظ عليه، إذ يُخشى على هذا الفصل باعتباره غير مضمون أو مكتسب بشكل نهائي”، ولذلك توصف اللائكية أحيانًا بأنها “أيديولوجيا” أو “أصولية”، وفي سياق المقارنة بين النموذجين الفرنسي والأميركي من العلمانية، يقول إن النموذج الفرنسي يركز بشكل رئيس على فصل الدولة عن الدين وحمايتها من الكنيسة، فيما يركز النموذج الأميركي على حماية المجتمع المدني من تدخل الدولة، وفي الوقت نفسه، يرتبط النموذج الفرنسي بـ “العقلانية الفرنسية” التي تميل إلى إعطاء معنى ثابت للرموز بحد ذاتها، كما هو الحال في الموقف من الحجاب مثلًا، فيما لا يعطي الموقف الأميركي القائم على “البراغماتية الأميركية” أهمية للرموز بحد ذاتها، بل يعطي الأهمية للكيفية التي يتم فيها التعامل مع هذه الرموز وتوظيفها([34])، لكنه مع ذلك لا ينظر إلى اللائكية، كتوجه مختلف عن العلمانية فيقول: «”العلماني” و”اللائيكي” أو -العلمانية واللائيكة- هما مصطلحان بديلان. يستخدم مصطلح اللائكية في الفضاء الفرانكوفوني، ويحمل في طياته معنى خاصًا يرتبط بفرنسا تحديدًا»([35]).

مع ذلك، فهذا لا يعني أن الدين مقيّد في فرنسا، حيث يؤكد قانون 1905 على حرية الضمير والتدين، وتقول مادته الأولى إن “الغرض من هذا القانون هو ضمان “حرية الضمير”، وضمان “حرية ممارسة الدين”([36])، وهذا ما يؤكده الدستور الفرنسي الذي ينص في مادته الأولى على أن الجمهورية الفرنسية هي جمهورية علمانية ديمقراطية اشتراكية، تكفل المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون دون تمييز في الأصل أو العرق أو الدين، وتحترم جميع المعتقدات([37]).

7- العلمانية من منظور تعددي:

رأينا أعلاه في التعريفات المقدمة للعلمانية أن العلمانية لا يُنظر إليها كعقيدة نسقية مؤطرة محددة، بل هي مسألة مفتوحة قابلة للاختلاف والتعدد، ومن المهم هنا ذكر رأي المفكر والمؤرخ الفرنسي الكبير جان بوبيرو، المتخصص في علم اجتماع الأديان ومؤسس علم اجتماع العلمانية([38])، الذي يقول في كتابه (العلمانيات في العالم) إن العلمانية في العالم المعاصر قد انتشرت وأصبحت ظاهرة عالمية، ولم تعد أمرًا يخص فرنسا أو أوروبا، وهي في البلدان والحضارات المختلفة تتخذ أشكالًا مختلفة، فهناك ظروف وعوامل محلية في كل بلد تؤثر في كيفية تشكل العلمانية فيه، وبالتالي فليس هناك علمانية واحدة وحسب، بل هناك علمانيات متعددة، فهناك علمانية فرنسية، وعلمانية ألمانية، وعلمانية أميركية، وغيرها، منها ما هو متخاصم مع الدين، كما كانت العلمانية الفرنسية بشكل خاص في صراعها الطويل والعنيف مع الكنيسة الكاثوليكية، ومنها ما كانت متصالحة نسبيًا مع الفهم المستنير للدين، كما كان الحال في إنكلترا وألمانيا؛ ويضيف بوبيرو أن هناك دولًا عدة سبقت فرنسا في تطبيق العلمانية كالبرازيل، وكندا، والولايات المتحدة، والمكسيك، ولكن فرنسا تظل الدولة الأكثر علمانية في أوروبا، وينبّه إلى أن “العلمانية هي عبارة عن صيرورة تاريخية، لعبت فيها الحداثة الغربية دورًا حاسمًا، فلا علمانية دون حداثة”؛ و يشير إلى إمكانية ظهور علمانية إسلامية ذات يوم، وأنها عندها “ستكون مضادة للفهم الأصولي المتعصب للدين، فالفهم العقلاني للدين يؤدي إلى العلمانية بالضرورة وعدم تدخل رجال الدين في السياسة بشكل يومي أو كثيف، والتراث العربي الإسلامي يحتوي على بذور العلمانية، أي العقلانية”، ومؤلفات الفارابي أو ابن رشد هي برأيه أحد الأمثلة على ذلك([39]).

وبناء على هذا الفهم الواقعي والعقلاني للعلمانية، الذي يربطها بشكل وثيق بالعوامل الفاعلة والظروف المؤثرة في المجتمعات المختلفة، يمكن القول إن اللائكية الفرنسية، وما اتسمت به علاقتها من توتر مع الدين خلال تاريخها، هي ليست تعبيرًا عن حالة إرادوية تسلطية أو توجهات عقيدية ضد دينية كانت قائمة عند العلمانيين الفرنسيين، وإنما هي نتيجة لجملة من العوامل الواقعية الموضوعية، وُجدت في فرنسا حينها، والصراع الذي نشأ بين العلمانيين الفرنسيين والكنيسة الكاثوليكية لا يتحمل المسؤولية عنه العلمانيون وحدهم، فالكنيسة الكاثوليكية في فرنسا تتحمل بدورها قسطًا مماثلًا من المسؤولية، فقد كان لهذه الكنيسة نفوذ كبير في الدولة والمجتمع الفرنسيين في القرون الوسطى، لدرجة أن فرنسا كانت تسمى بـ “الابنة الكبرى للكنيسة”، وكان الملوك الفرنسيون -منذ القرن الميلادي الثامن- من أكبر المدافعين الدائمين عن البابوية، وكانت هذه الكنيسة بالطبع ترفض التنازل عن امتيازاتها ومصالحها([40]).

8- العلمانية الفرنسية والدين:

قد يبدو للبعض أحيانًا أن الموقف السلبي المناهض للدين هو سمة خاصة من سمات العلمانية الفرنسية أي اللائكية، لكن النظر إلى اللائكية بهذا الشكل ليس واقعيًا، فهذه الحالة الخصامية بين العلمانية والدين قد نشأت في فرنسا بنتيجة ظروف خاصة حينها، وقد ظهرت حالات مشابهة لها في دول أخرى، مثل روسيا وتركيا، وكما كان الحال في الثورة الفرنسية التي وجدت نفسها مضطرة إلى الاصطدام بالكنيسة ذات الحضور والنفوذ القويين والمتداخلة مع المَلـَكية، التي رأت بدورها -أي الكنيسة الكاثوليكية- أن الثورة تهدد مصالحها، فقد اصطدمت الثورة البلشفية الروسية بدورها بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية ذات النفوذ الكبير في المجتمع والموالية للقيصرية، وبذلك نشأت حالة عنيفة من (العلمنة) الثورية في روسيا الاشتراكية، وإلى حد ما كان الأمر مشابهًا في تركيا التي كانت السلطنة العثمانية فيها تعتبر نفسها مركز الخلافة الإسلامية، وكانت المؤسسة الدينية المؤيدة للسلاطين فيها ذات سلطة ونفوذ كبيرين، لكن هذا لا ينفي أيضًا أن درجة كبيرة من السلطوية والإرادوية والتسلط كانت أيضًا موجودة في الحركة الأتاتوركية بدورها، كما كان هناك تطرف ثوري كبير في أوساط قسم من الثوريين والقيادات الثورية في كل من الثورتين الفرنسية والروسية.

لكن الحال اليوم أصبح مختلفًا جدًا في فرنسا، وعلى الرغم من أن تاريخ النزاع الطويل بين الجمهورية والكنيسة ترك آثارًا مهمة على العلمانية الفرنسية ما يزال بعضها ممتدًا حتى اليوم؛ يمكن القول إن العلمانية الفرنسية الراهنة لا تختلف كثيرًا عن سواها من العلمانيات في البلدان الأخرى، في موقفها القابل للتعدد الثقافي ومساواتها بين المختلفين ثقافيًا واحترامها لحرياتهم وخصوصياتهم، وهذا ينطبق على المسلمين الفرنسيين كغيرهم، والإشكاليات التي تنشأ في بعض الحالات، بين الدولة الفرنسية ومواطنيها المسلمين، تبقى دومًا محكومة بعلاقة هؤلاء المواطنين بهذه الدولة، كدولة خاصة بهم كمواطنين مثلهم مثل غيرهم جميعًا، ولهم فيها وعليها نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، وبالتالي فحلّ هذه الإشكاليات يحتاج إلى حوار وتفهم وتفاهم مشترك، ولا يكون الحلّ بالتشنج وشيطنة الآخر.

مع ذلك، يجدر التنبيه إلى أن في فرنسا اليوم أكثر من توجّه في الخطاب العلماني، فهناك مثلًا تيار يجمع بين يمينيين ويمينيين متطرفين، ويسمي نفسه بـ “العلمانية الجديدة”، وهو يتبنى نمطًا تسلطيًا من العلمانية، ويعطيه هوية “غاليكانية” أو “غالية”، ويريد فرضه على الأقليات الفرنسية، وهذا ما يراه جان بوبيرو تنكرًا لروح العلمانية الفرنسية وخروجًا عن قانون 1905 وتناقضًا مع الديمقراطية، ويسميه “علمانية مزورة”، ولا يستهين بخطره، ويضع في مواجهته مفهوم “العلمانية التاريخية” التي تحترم حقوق وخصوصيات كل الثقافات بقدر متساو، ويدعو كل القوى اليسارية للتكاتف لمواجهته، لأنه قد يتطور وينمو، إن لم يواجَه، وقد يؤدي إلى انقلاب في المجتمع الفرنسي([41]). ومع ذلك، لا يجب خلط الأمور ببعضها وتوهم أن ما يسمى بـ “العلمانية الجديدة” هو حصريًّا ما يمثل اللائكية، ويعبّر عن جوهرها الحقيقي، فاللائكية -كأي ميدان آخر في المجتمع- تتطور وتتغير وتتنوع بدورها، ولائكية اليوم في فرنسا هي لائكية تعددية، فيها كثير من التنوع والاختلاف في وجهات النظر، وهي ليست مذهبًا أحاديًا مغلقًا، ومقابل “العلمانية الجديدة” اليمينية المتطرفة، هناك مثلًا العلمانية اليسارية المعتدلة التي يسميها بوبيرو “العلمانية التاريخية”، وينتمي بدوره إلى تيارها.

9- الخيار العلماني العربي “سيكولاري” أم “لائكي”؟

المقصود هنا بـ “سيكولاري” هو ذلك النموذج من العلمانية التطورية السلميّة الذي يحدث بشكل عفوي تدريجي في المجتمع، كالحال في إنكلترا وألمانيا وأميركا وغيرها، كما سلف الذكر.

في الواقع، الأمر لا يتم عن طريق الاختيار الصرف، فكلٌّ من السيكولارية واللائكية وسواهما من التجارب العلمانية المختلفة في العالم لم تتم بخيار أو قرار إرادويين محضين، من متبنيها وأنصارها، وإنما جاءت أو تمت بالشكل الذي يتوافق مع العوامل والظروف القائمة في مجتمعاتها والإمكانيات المتاحة فيها، ولذا على العلمانيين العرب ألا يحاولوا تقليد أي نموذج علماني آخر، سواء كان سيكولاريًا أم لائكيًا أم غيرهما، لأن هذه النماذج نشأت ونجحت وتطورت في ظروف فيها كثير من الاختلاف عن الظروف العربية، التي تختلف بدورها كثيرًا حتى بين دولة عربية وأخرى، وبالتالي على العلمانيين العرب أن يفهموا تلك التجارب، وأن يستفيدوا منها جميعها بشكل يخدم توجهاتهم لتطوير بلدانهم.

ويجب الاعتراف بأنّ ثمة خللًا شائعًا في أطروحة العلمانية عربيًا، في فهم العلمانية كفصل بين الدولة الدين، فكثيرون يفهمون أن هذه العملية يجب أن تتم كإجراء فوري، فتؤخذ فيه الدولة والدين، ويتم الفصل بينهما كما يتم الأمر في عملية جراحية للفصل بين توأمين ملتصقين، هما من حيث المبدأ كائنين منفصلين تمامًا، ولا يجب أن يكونا ملتصقين، وفصلهما عن بعضهما البعض يصحح الأمور ويعيدها إلى نصابها الطبيعي.

في العلمانية السليمة، الأمر لا يتم -قطعًا- بهذا الشكل، وفي المجتمعات التقليدية الطبيعي هو أن تكون الدولة غير منفصلة عن الدين، وكلاهما لا يكون جاهزًا بعد لهذا الفصل، وفصلهما بالقوة يعني اللجوء إلى العنف، الذي سيلحق الضرر الفادح بكل من الدولة والمجتمع والدين والحرية.

تحتاج العلمانية إلى مجتمع حديث لتنمو فيه وتزدهر، أي إلى بيئة “حديثة” أو “حداثية”، بالمفهوم العام للحداثة، وكما يقول جان بوبيرو: «إن العلمانية هي عبارة عن صيرورة تاريخية لعبت فيها الحداثة الغربية دورًا حاسمًا، فلا علمانية دون حداثة. العلمانية هي ثمرة الحداثة الفلسفية التنويرية، وكذلك الحداثة العلمية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية والفنية»([42])، ولذا، بدلًا من صراع طواحين الهواء، مثل دون كيشوت، في معركة خاسرة لفصل الدين عن الدولة، كهدف مرسوم مسبقًا لهذه المعركة، على العلمانيين العرب أن يجعلوا الحداثة بمفهومها الواسع غايتهم، وأن يضعوا العقلانية في مركز نضالهم من أجل هذه الحداثة، فالتحديث الصحيح هو علمنة فعلية، وهو ينتج البيئة الاجتماعية السياسية المناسبة للعلمانية، وبقدر ما تتقدم الحداثة في المجتمع، يتحقق فيه قدر مماثل من العلمانية، وبدرجة تتناسب طردًا مع درجة عقلنة وعصرنة ثقافة المجتمع، وفي المحصلة، إن تمّت العقلنة والتحديث بنجاح، فستنحو الأمور من تلقاء نفسها باتجاه فصل الدولة عن الدين.

وهكذا، يصبح ممكنًا القول إننا إذا أردنا أن نجد طريقنا العلماني العربي، فعلينا ألا نتبع الأشكال أو العلمانية التي ظهرت ونجحت في المجتمعات الأخرى، وإنما علينا أن نبحث عن الأسس الموضوعية التي انطلقت منها وقامت عليها هذه التجارب، ونميز فيها بين الخاص الذي يخص كل مجتمع من تلك المجتمعات، والعام الذي يمكن أن يكون مشتركًا بين جميع المجتمعات، وسنجد أن المنهجية العقلانية لها دور أساسي كبير في نجاح كل تلك التجارب، ما يعني أن الطريق العربي الصحيح إلى العلمانية لا يمكن أن يتم بطرحها كوصفة جاهزة لفصل الدولة عن الدين، على الطريقة الفرنسية أو الأميركية أو البرازيلية أو الهندية أو سواها، وإنما يجب طرح العلمانية فيه كغاية طويلة المدى، وكمسار متواصل متطور في سياق عملية تنوير حداثية متكاملة تقوم على منهجية عقلانية، وهذا الأمر بالطبع يختلف كثيرًا بين بلد عربي وأخر.

وهذا يعني أن على العلمانيين العرب بشكل عام أن يكفّوا عن المطالبة اللحظية بفصل الدولة عن الدين، ويجب عليهم فعل هذا من منطلق واقعي عملي بحت، لأن الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي العربي ما يزال غير جاهز لتحقيق هذا الفصل، وإن كان هذا الأمر يختلف بشدة بين مجتمع عربي وآخر، ولكن هذا الكف لا يعني قطعًا إرجاء هذا المطلب، بل يعني وضعه كهدف يتم الوصول إليه عبر العمل السليم منذ هذه اللحظة على تهيئة مقتضياته وضروراته الواقعية الموضوعية على الصعد كافة، فالعلمانية سواء كانت تطورية أو إصلاحية أو ثورية لا تتحقق قطعًا في أي مجتمع من المجتمعات بدون الظروف والعوامل المناسبة، وهذا ما حدث في كل من السيكولارية واللائكية في الغرب، الذي جرت فيه العلمنة كجزء جدلي متكامل مع كلّ يتمثل بعملية نهضة وتحديث شاملة وطويلة المدى في المجتمع، حتى اللائكية الفرنسية التي ارتبطت بشكل وثيق بالثورة إنما ارتبطت بثورة لم تكن لتحدث لو لم تكن الظروف الاجتماعية المختلفة اللازمة لحدوثها متوفرة، ومن أهمها العامل الثقافي، ومع ذلك، فاللائكية نفسها أيضًا استغرقت وقتها الكافي، ولم تحدث دفعة واحدة وبحركة واحدة، واحتاجت إلى أكثر من قرن لتتمكن من الفصل النهائي بين الدولة والكنيسة.

10- خلاصة:

كثيرًا ما تتكرر، في الخطاب العلماني العربي الراهن، فكرةٌ مفادها أن علينا ألا نتبع النموذج اللائكي في العلمانية، بل النموذج الآخر، أي السيكولاري! وما قد يكون حسنًا في هذه الفكرة هو أنها تراعي مسألة حضور الدين القوي في المجتمعات العربية. بالطبع، إذا لم يكن هذا الطرح ضربًا من التكتيك السياسي من قبل بعض العلمانيين، يهدف إلى طمأنة المسلمين على دينهم، وقطع الطريق على القوى الإسلامية المتطرفة التي تشوّه العلمانية وتشيطنها، وتصورها بصورة العدو للدين. لكنّ السيئ في هذا الخطاب أنه أولًا لا يرى اللائكية في إطارها الواقعي، ببعديه التاريخي والحاضر، فيصوّرها كأنها حالة من رفض الدين المتعمّد والمسبق، فيما هي في حقيقتها نتيجة واقعية لواقع فرنسي له خصوصياته، كما لأيّ واقع آخر خصوصياته، واللائكية اليوم، بصفتها مجالًا متطورًا، لم تعد كما كانت في الماضي خصمًا متنازعًا مع الدين، ومثلها كمثل أي علمانية ناضجة أخرى، انتقلت عمومًا من موقع الخصام مع الدين إلى موقع التعايش والاستيعاب، وتشعّبت وظهر فيها التعدد والاختلاف، فأصبحت بدورها “لائكيات وليس لائكية واحدة”؛ وإضافة إلى ذلك، فالقول بعدم اتباع نموذج في العلمانية واتباع آخر، هو بحد ذاته قول غير علماني، إذا ما فهمنا العلمانية كقاعدة عقلانية للعمل الاجتماعي والسياسي والثقافي؛ فمن يعمل بعقله لا يتبع أحدًا غيره، بل يختار مساره بناءً على المعطيات الواقعية والموضوعية المتوفرة لديه، ويبقي مساره منفتحًا ومفتوحًا على احتمالات مآلية ونتائجية متعددة ومختلفة، وهذا يعني -باختصار- أننا إذا أردنا علمانية عربية ناجحة، فعلينا ألا نقتدي بأي من التجارب العلمانية الأخرى في العالم، وألا نقلّد أيًّا منها، مهما كانت هذه التجربة ناجحة، بل علينا أن نستفيد منها جميعًا بشكلٍ يمكّننا من أن نمتلك “علمانية” عربية خاصة، وهذا ليس من منطلق قومي عاطفي قطعًا، بل من منطلق واقعي عملي تمامًا، يرتبط ارتباطًا تامًا باختلاف وقائع وحيثيات مجتمعاتنا العربية عن تلك المجتمعات.

ويجب علينا أن ندرك أن “العلمانية هي ليست فصل الدين عن الدولة”، ففصل الدين عن الدولة هو نتيجة أو ثمرة من ثمار العلمانية، وليس قاعدة تنطلق منها العلمانية أو تقوم عليها، والعلمانية تعني باختصار “انتهاج طرق العقل، والتعامل بعقلانية مع الواقع بكلّ جوانبه، والعمل بالتالي بشكل عقلاني واقعي، في كلّ ميادين الحياة الإنسانية العامة حتى ميداني الدولة والمجتمع”.


[1] – حسن حنفي & محمد عابد الجابري، حوار المشرق والمغرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1990، ط1، ص 35.

[2] – كمال عبد اللطيف، التفكير في العلمانية.. إعادة بناء المجال السياسي في الفكر العربي، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة 2007، ط1، ص 10.

[3] – جون- نيكولا بيتر، العلمانية واللائكية في السياسة الدولية، مؤسسة قرطبة بجنيف، 2015، ص 7.

[4] – المرجع السابق.

[5] – المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، دار الدعوة، إسطنبول، 1989، ص 624.

[6] – The Concise Oxford Dictionary, Sixth Edition, Clarendon Press, Oxford, 1976, pg717.

[7] Constitution of the Fifth Republic

[8]Joan Wallach Scott ,The contradictions of French secularism, The Newstatesman

[9]French Secularism, Drishti

[10]عبدالرحمن حسنيوي، بين العلمانية واللادينية، الجزيرة نت، 10 نيسان/ أبريل 2018.

[11]المرجع السابق

[12] – حسن حنفي & محمد الجابري، المرجع السابق، ص 35-38.

[13] – المرجع السابق، ص 39- 40.

[14]برهان غليون، ردا على وائل السواح “من أجل علمانية إنسانية”، بوابة زمان الوصل، 25 أيلول/ سبتمبر 2007.

[15] – جورج مينوا، الكنيسة والعلم، دار الأهالي، دمشق 2005، ص331

[16] – المرجع السابق ص336

[17]لوك دبليو جالين. “غير المتدينين: فهم الناس والمجتمعات العلمانية”

[18]Secularism Definition & Facts Britannica

[19]Secularism – Humanists UK

[20]What is Secularism – National Secular Society

[21]– The Concise Oxford Dictionary, Sixth Edition, Clarendon Press, Oxford, 1976, pg. 1026.

[22]150 years of the National Secular Society

[23]laicity – Wiktionary

[24]– The Concise Oxford Dictionary, pg. 604.

[25]Laic definition and meaning, Collins English Dictionary

[26]Latin Definition for laicus, laica, laicum – Latin Dictionary and Grammar Resources – Latdict

[27]laic – Wiktionary

[28]λαός – Wiktionary

[29]اللائكية – Secularism، الموسوعة السياسية

[30]Laicism, Definition of Laicism by Merriam-Webster

[31]Constitution de 1958, Ve République – 4 octobre 1958

[32]Centre National de Ressources Textuelles et Lexicales

[33]عادل لطيفي، العلمانية واللائكية والإسلام.. رفعًا للالتباس، شبكة الجزيرة، 19 أيلول/ سبتمبر 2011.

[34] – جون- نيكولا بيتر، المرجع السابق، ص5.

[35] – المرجع السابق، ص4.

[36]1905 القانون الفرنسي بشأن الفصل بين الكنائس والدولة، Stringfixer.com.

[37]دستور فرنسا لعام 1958 مع تعديلاته لغاية 2008 عام، Constituteproject.com.

[38]موسوعة ويكي نيو، جان بوبيرو

[39]العلمانيات في العالم، صحيفة البيان، 21 كانون الثاني/ يناير 2008

[40]عادل لطيفي، المرجع السابق

[41]جان بوبيرو العلمانية المزورة، أو في التحوير الفرنسي لروح قانون 1905، موقع كوة – couua

[42]العلمانيات في العالم، مرجع سابق