المحتويات
أوّلًا: لماذا الثورات في العالم العربي؟
3- تدهور الحياة الثقافية العربية
5- التحولات الاجتماعية وبروز دور الشباب
ثالثًا: الانتقال الديمقراطي ليس مضمونًا
مقدمة
يصلح ربيع الثورات العربية كي يكون مدخلًا لعملية تقييم وإعادة نظر، في كثير من الأفكار والأحكام التي هيمنت على الثقافة السياسية العربية، في العقود الممتدة منذ هزيمة حزيران 1967 إلى اليوم. فبينما يدخل سنته السادسة، يستمر في كونه مجموعة مترابطة للغاية من الديناميكيات، إذ يمثل بحق بداية “التحرر الوطني” الحقيقي بعدما أخطأت أغلب شعوب المنطقة موعدها مع التاريخ، لتحقيق تحررها الحقيقي يوم إعلان استقلالها، حيث كان من المفترض أن تثور ضد الاستبداد والشمولية منذ سنوات.
ولا تقلّل المآلات التي شهدتها الثورات العربية، في مصر وسورية واليمن وليبيا، من أهمية السيرورة التاريخية التي أطلقتها هذه الثورات في عام 2011، والتي تتجه نحو الإصلاح والتغيير والقطع مع الاستبداد في مسيرة شعوبنا العربية.
أليس التعدّي على الحريات وانتهاك حقوق الإنسان، والتوقيف الاعتباطي خارج إطار القانون، والتعذيب الذي تعرّض له معتقلو الرأي والضمير، والهيمنة على القضاء والتدخل الفاضح في شؤونه، واحتكار الثروات الوطنية من جانب فئة قليلة على حساب الأكثرية، وانتشار الفساد والمحسوبية، وتراجع الاقتصاد، وتقهقر التعليم، وزيادة حدة التفاوت الاجتماعي وانحسار دور الطبقات الوسطى، ألا تشكّل كل تلك الظواهر أسبابًا كافية لاندلاع الثورات في مجتمعاتنا؟
في كل الأحوال، لا شك في أنّ العالم العربي يمرُّ في لحظة الحقيقة، لحظة انعطافة تاريخية، لا يمكن أن يحيا بعدها كما كان قبلها، لأنّ الحراك الشعبي العربي رفع حرارة المنطقة، وأخرجها من جمود وجليد طويلين.
وفي الواقع، ليس في الكون صدفة، أو حدث يأتي من فراغ، بل لابد من مقدمات وأسباب، أي أنّ الثورات العربية لم تسقط من علُ، ولم تتفجر دون أسباب ومقدمات، بل ولدت من رحم الشعوب العربية ومن أحزانها.
إنّ ربيع الثورات العربية في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وسورية، هو مآل سياسي وثقافي حتمي لعقود من تهميش الإنسان العربي، إنه نهاية رهانات أخيرة لجيل من أتباع عروبة لم تنجز النهضة المنشودة.
إنّ مقاربتنا تريد القول بأولوية معركة التقدم والارتقاء الحضاري على ما عداها؛ فلو كانت إدارتنا لمواردنا الاقتصادية والبشرية إدارة عقلانية، وكانت مدارسنا وجامعاتنا ذات مستوى لائق، وبرلماناتنا تنهض بأدوارها التمثيلية والتشريعية والرقابية، وسلطاتنا القضائية تضمن العدالة للسكان، ومواطنونا يستطيعون انتقاد حكامهم على نحو ما غدا شائعًا اليوم في تونس، ولو كانت سجوننا خالية من سجناء الرأي والضمير. لو كان كل ذلك لما لاحقتنا الهزائم والانتكاسات منذ النكبة الفلسطينية عام 1948 إلى اليوم.
وعلى الرغم من أن هذا الربيع ألغى -إلى حد كبير- الخصوصيات والحدود، وأظهر وحدة الشعوب العربية بشعارات ويافطات موحدة، إلا أنّ كل شعب ابتكر وسائله وأساليبه واجترح لنفسه منهجًا خاصًا به، كما أنّ كل ثورة وتجربة اصطبغت بمميزاتها، وأنتجت عِبرها ودروسها. لكنّ قاسمًا مشتركًا واحدًا يجمع بينها هو بداية نهاية مرحلة مديدة، استمرت أكثر من ستين عامًا، وجعلت من المنطقة ما تعارف العالم، وحتى العرب أنفسهم، في الأعوام الأخيرة على وصفه بـ “رجل العالم المريض”.
لقد التهبت الشوارع والساحات العربية في غياب أية قيادة كارزمية أو فكرية ملهمة أو سياسية قائدة، ما منح الربيع العربي فرادة في التاريخ، إذ استطاعت الجموع الشعبية تحقيق إنجازات استثنائية، عبر تعبئة جماهيرية اتخذت مسارات تلقائية، تبلورت حول مجموعة أفكار: أولاها، فكرة التغيير مقابل فكرة الثبات، فقد ظلت شعوب العالم العربي طوال فترة ما لا يقل عن الخمسين سنة الماضية، شعوبًا يفرض عليها سيادة فكرة المحافظة على الوضع القائم والخوف من تغييره، لذلك فإنّ من انعكاسات حالة الربيع العربي انتصار فكر جديد لدى المواطن العربي، قوامه رفض الثبات والمحافظة ونزع الخوف من التغيير.
وثانيتها، فكرة الحرية مقابل فكرة الكبت، فقد اتسمت الحالة العربية طوال الفترة السابقة بغياب الحرية، بمعنى أنّ الإنسان العربي لم يكن يستطيع أن يعيش حياته وفقًا لما يريده ويختاره هو لنفسه، بل ظل رهينة لسيطرة سلطة الدولة على فكره واختياراته، أما اليوم، فعلى الرغم من مآلات هذا الربيع، فإنّ فكرة الكبت في طورها للتلاشي لصالح فكرة الحرية التي تجعل المواطن العربي حرًا في بلده، وغير مكبل بسلاسل الخوف ومصالح الآخرين.
وثالثتها، فكرة الديمقراطية مقابل فكرة الاستبدادية، فلم تعرف الدول العربية الممارسة الديمقراطية إلا في نطاق ضيق في بعض الدول العربية، إلا أنّ الممارسة الديمقراطية الفعلية، التي تقوم على فكرة تداول السلطة بشكل سلمي وعادل للجميع، لم تكن هي السمة الأبرز في المجتمعات العربية، حيث أصبح الاستبداد هو السائد في الحالة العربية قبل الربيع العربي.
وأخيرًا وليس آخر فإنّ فكرة العدالة استطاعت أن تتنصر على فكرة الظلم، حيث أصبح الجمهور العربي رافضًا للممارسات السابقة التي كان النظام السياسي يقوم بها، بوصفها ممارسات ظالمة في حق الشعب، من خلال سعيها لتحقيق مصلحة فئة معينة على حساب مصلحة الشعب بأكمله. أما اليوم فإنّ التأكيد هو على ضرورة أن يكون العدل هو سمة الحكم، سواء كان ذلك على مستوى السياسة الداخلية، من خلال مساواة الجميع بشكل عادل أمام القانون ومحاسبة الفاسدين، أم على مستوى السياسة الخارجية من خلال الشراكة العادلة والمتساوية في الفوائد والمصالح مع الدول الأخرى.
وهكذا، تتردد الأسئلة حول أسباب اندلاع الربيع العربي، والأسباب الكامنة في السياق السياسي والاجتماعي العربي نفسه التي أدت إلى تلاحق الثورات في تونس، ومصر، وليبيا، وسورية، واليمن.
لعل أول ما يمكن قوله، في شأن ربيع الثورات العربية، إنّ هذا الربيع سحب من سوق التداول الإعلامي، والتصنيف السياسي، تلك الصورة النمطية التي كانت رائجة في الغرب، المتعلقة بما كان يسمى الاستعصاء الديمقراطي العربي. كما أنّ الربيع العربي، لم ينشأ من فراغ، أو لأسباب مثالية طوباوية مرتبطة فحسب بالتعلق بأشواق وسرديات لاهوت الديمقراطية والإصلاح، إنما هنالك أسباب موضوعية ملموسة من واقع مفردات الحياة اليومية للإنسان العادي، هي التي أدت إلى كل ما جرى. ففي سياق تفسير ما جرى كانت كلمة السر هي الفشل التنموي والانسداد السياسي، ما أدى إلى تراكم الإحباط والاحتقان، ومهّد الظروف لسقوط آخر تبريرات تلك النظم السياسية والاقتصادية، أمام الاستياء الشعبي العام. ففي سياق تبلور نمط من الاستبداد الرباعي (استئثار بالسلطة والثروة والمرجعية والإعلام) كما رأى الدكتور طيب تيزيني، راحت تُضبط احتمالات متسعة من تجفيف معظم المجتمعات العربية، وتُستكمل اتجاهات التقاطب الحاد بين 80 في المئة من سكان أغلبية تلك المجتمعات، يعيشون في أحوال من الفقر والإفقار وكذلك من مظاهر الإذلال والاستباحة، وبين 20 في المئة من السكان المعنيين يحوزون ويملكون 80 في المئة من ثروة العالم العربي.
وهكذا، فإنّ الفئات الوسطى، التي قامت – في مراحل سابقة – على تحفيز الحركات السياسية والثقافية في المجتمعات العربية كما في غيرها، راحت تتراجع عن إنجاز ذلك، وتفسح المجال أمام نشوء فئات وجيوب بشرية فقيرة ومُذَلَّةٍ ومقصيَّة عن مصادر التنوير الثقافي والاعتدال السياسي.
لقد اكتشفت الشعوب العربية، بخبراتها وتجاربها، جوانب هامة من تهافت سياسات بلدانها، وخداع قادتها. كما اكتشفت توجهات السياسات الدولية، وبدأت تمتلك وعيًا كونيًا يضغط لوضع أية معركة وطنية أو قومية في إطار النضال الإنساني من أجل حياة كريمة للمواطنين، في ظل أنظمة حكم ديمقراطية تحترم كرامات الناس وتوفر حقوقهم الإنسانية المعترف بها في مواثيق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
لا تدّعي هذه المقاربة احتكار حقيقة فهم طبيعة الثورات العربية، ولكنها محاولة في اتجاه ذلك الفهم. إذ أنّ انفجار الثورات لم يأتِ من فراغ، بل جاء استكمالًا لتاريخ سابق من النضالات والانتفاضات والتضحيات على امتداد عقود طويلة. وهي حركات قمعتها أنظمة الاستبداد بوحشية، وعطّلت استمراريتها عناصر الخلل في داخل مكوّناتها السياسية وأدوات نضالها.
أوّلًا: لماذا الثورات في العالم العربي؟
تقاطعت عدة سلاسل سببية لتفجير الثورات: أولها، شعور عام بالمهانة من دور القرابة في السياسة العمومية ومشاريع التوريث، فكأن الحكام مالكون لبلدانهم وليسوا مجرد حاكمين، بتفويض محدود ومؤقت. وثانيها، سخط قطاعات واسعة من السكان على إدارة الشؤون العامة، وبخاصة تلاحم احتكار السلطة مع الاستئثار الواسع وغير الشرعي بالثروة. وثالثها، تتصل بالمحرك الظرفي العارض الذي يستحيل التنبؤ به وتقدير آثاره، وقد تمثل في تونس بإشعال محمد بوعزيزي جسده احتجاجًا على مهانة تعرّض لها.
وبما أنّ انتشار العولمة الإعلامية وتوسّع شبكات التواصل الاجتماعي بين الناس، قد فتحت المجال أمام الإنسان للاطلاع الحي المباشر والسريع على كل شيء، والوقوف الواعي المتأمل أمام كل الأحداث، والتغيّرات بتفاصيلها ودقائق أمورها، فقد رأى الناس ما حدث في تجارب الشعوب الأخرى من تطورات مذهلة انعكست إيجابًا على مستوى معيشة تلك الشعوب، ودخلها العالي المرتفع، وعلى مستوى تنميتها الاقتصادية، التي سجلت أرقام نمو عالية، وعلى مستوى حرياتها الكاملة، وحياتها السياسية القائمة على الفرد الحر والتداول السلمي للسلطة، وإشاعة أجواء السلام المجتمعي، والتسابق في خدمة الصالح العام. وهكذا توصل كثير من الناس، في عالمنا العربي، إلى قناعة راسخة بأنّ السبب في معاناتهم وفقرهم وتخلفهم وتقهقرهم هو وجود تلك النخب والطبقات ومراكز القوى، المحمية بالقوانين والأنظمة الممسكة بتلابيب دولهم من الأعلى إلى الأسفل، ما منعها من التطور والنمو وتلبية متطلبات شعوبها واحتياجاتها، ومواكبة تطورات الحياة المعاصرة، ومنع الناس من أخذ حقوقهم في العيش الحر الآمن الكريم، وهنا جاءت وتفجرت لحظة الثورة في حالة تجلٍّ راقٍ لقيم الوعي الإنساني، وانتفضت الشعوب العربية في اتجاه تحقيق وجودها، وثارت لكرامتها المفقودة وحريتها الضائعة.
وهكذا، تتعدد أسباب ومقدمات الثورات العربية، وفي مقاربتنا هذه سنتناولها كما يلي:
1- الفشل التنموي
تجلى التعبير عن ذلك من خلال سوء توزيع الدخل الوطني في الدول العربية، حيث تتحكم أقلية من السكان بالقسم الأكبر من هذا الدخل، في حين بقيت أكثرية المجتمعات العربية عرضة لتفاقم ظاهرة الفقر والبطالة، ما انطوى على تفاقم الاحتقان السياسي والاجتماعي، واتساع دائرة الإحباط، وارتفاع درجة التوتر والاستعداد للانفجار والانفلات والعنف أمام أغلب الأوساط الاجتماعية وعلى جميع المستويات. إذ لا يمكن لسياسات الإقصاء والعزل والحرمان ومنع المشاركة، في ظروف تفاقم الأزمة العامة وتراجع قدرة الدولة على تلبية الحاجات الاجتماعية الأساسية، أن تؤدي إلى شيء آخر غير إلحاق مزيد من الفئات الاجتماعية بقوى الاحتجاج، وإعادة إنتاجها كقوى انشقاق وتغيير.
لقد حقّقت حصيلة السياسات العربية في مجال التنمية فشلًا في نهوض المجتمعات العربية، على الرغم من الموارد المادية والبشرية التي تملكها. وتكفي الإشارة إلى بعض المصائب التي تتخبط فيها المجتمعات العربية: نسبة الأمية العالية، والهوة السحيقة بين الأغنياء والفقراء، واكتظاظ المدن بالسكان، وهجوم التصحر على الأراضي الزراعية، والأحياء شبه العشوائية، والطرق الخالية من الأرصفة، والمرافق والخدمات التي تُبنى وتُدار بلا تفكير في رأي المواطن وراحته واحتياجاته. ولو أخذنا واقعنا على حقيقته لوجدنا أنّ الشباب، بين سن الخامسة عشرة والثلاثين، يشكلون حوالي 70 في المئة من مجموع العرب، وأنّ نسبة العاطلين عن العمل منهم يزيد عن 30 في المئة، فإذا أضفنا إليهم عدد النساء غير العاملات لأدركنا حجم المصيبة التي نحن فيها. كما أنّ ظاهرة البطالة تعدّ من التحديات الكبرى التي تواجه العالم العربي، إذ تزايد حجم القوى العاملة سنويًّا بمعدل 2.511 مليون خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، وقد ترتفع الزيادة خلال العقد الحالي إلى 3.350 مليون سنويًا، وبالتالي فثمة حاجة إلى ما يزيد عن مليونين ونصف مليون فرصة عمل مطلوب توفيرها سنويًا. وتكمن خطورة البطالة في ارتباطها بعدالة توزيع الدخل، ومحاربة الفقر، وحرمان العامل من تلبية احتياجاته الأساسية، وممارسة حق العمل الذي لم يترسخ حق الاعتراف به حتى الآن.
ويبدو أنّ الفقر العالمي ليس كالفقر في العالم العربي، فقد قال تقرير التنمية البشرية لعام 2009: إنّ شعوب العالم العربي من أكثر شعوب الأرض فقرًا، حيث متوسط دخل الفرد السنوي لا يزيد على ألف دولار لنسبة تزيد على 70 في المئة من سكان العالم العربي.
كما أنّ أغلب الحكومات العربية لم تتمكن من تحقيق أثر فعّال للتخفيف من الآثار السلبية التي انتابت أريافها، وشكّل سوء توزيع الدخل في الأوساط الريفية عنصرًا مهمًا في تسخين الاحتقانات الاجتماعية التي تصاعدت إلى درجة لم تفلح معها المسكّنات في تقليص أوجاعها.
والأرجح أنّ الريفيين الجدد في العالم العربي لم يعلنوا تفاعلهم مع الواقع الثوري الجديد في فضاء “الإنترنت” بمنأى عن الأرض، بل تمكَّنوا من إيجاد المعادلة الصعبة التي جعلت العالمين الافتراضي والواقعي عالمًا واحدًا، وكان بارزًا تشكيل ائتلافات شبابية وجمعيات أهلية، إضافة إلى تأسيس صفحات على “فايسبوك” و”تويتر” وغيرها من أدوات التواصل الاجتماعي التي طالما افتقدها الريف كثيرًا، وهو ما يؤشر إلى أنّ واقعًا جديدًا وُلد من رحم الثورات العربية.
أما الملمح الآخر للفوات التاريخي العربي، فقد تجلى في الضعف المعرفي، فعلى الرغم من الانتشار والتوسع الكمي في عدد المدارس والجامعات والمعاهد العليا، فقد صاحب ذلك التوسع الكميّ تدنٍّ مريع في نوعية ومستوى التعليم في كل المراحل.
وإذا كان الفساد ظاهرة عالمية، تعاني منها كل المجتمعات، وتعرفها كل النظم، ويدفع ثمنها المواطن العادي في كل الشعوب؛ فإنّ شيوع الفساد وتجاوز معدلاته النسب المعتادة في العالم العربي، هو الأمر الذي يدعو إلى القلق، ويحتاج إلى المراجعة، علمًا بأنّ الفساد كلٌّ لا يتجزأ ترتبط عناصره المختلفة بالجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في ظل مناخ عام تغلب عليه المعايير السطحية، وتختلط فيه السلطة بالثروة، وتغيب عنه ضوابط حماية المال العام، ويضعف فيه الشعور بالانتماء إلى الوطن، وعندئذ يتفشى الفساد، وتشيع المحسوبية، وتنتشر الرشوة، وتختفي القيم الإيجابية، وتسود السلوكيات المظهرية، وتبدأ حالة من الغليان عند الفئات الشعبية وهي تشعر بالتناقض بين ما تعيش فيه وبين ما تراه حولها.
2- الانسداد السياسي
تبدأ محنة الأمة -أي أمّة- من نقص كفاءة النظم السياسية السائدة، وضعف قدرتها على تفادي توريط شعوبها في مأزق جديد بين حين وآخر، حيث تكون النتيجة هي أن تدفع الشعوب الفاتورة الغالية، بينما تستمتع بعض النظم بميّزات متزايدة وإمكانات ضخمة. وغالبًا ما يرتبط ذلك بديكتاتورية الحكم وغياب الديمقراطية وسيطرة التخلف السياسي، بل وشيوع الفساد أيضًا. فقد ألّه النظام السياسي العربي الفرد الحاكم، وامتهن كرامة الشعب وأذلّه ورعبه بالقمع الوحشي، وأشاع الفساد، واضطهد الأحرار، وأعطى، دومًا، القدوة السيئة في الكذب والتزوير والتعصب والمحاباة، وفرّط في استقلالية القرار الوطني والقومي.
وفي الواقع، فإن ثمة عوامل ثلاثة تظل هي المحرك الأساسي للثورات العربية: أولها، تأكّل صلاحية المشاريع الوطنية للدولة العربية، وذلك إما بفعل الفشل السياسي والفساد الاقتصادي والظلم الاجتماعي، أو لانعدام القدرة على تحقيق التماسك الداخلي. وثانيها، زيادة النزعة الإقصائية والاستئصالية لسلطة الدولة العربية، والتي تعبّر عن نفسها يوميًا في السلوك القمعي لأجهزتها ومؤسساتها الأمنية، ما يوّلد احتقانًا مجتمعيًا يعزز نزعات التمرد ويدفع ببدائل التفتت الداخلي إلى الواجهة. وثالثها، وجود أدوار وقوى خارجية تسعى لاستثمار ما سبق من أجل تعزيز حضورها في العالم العربي.
ويبدو أنّ إحدى المشكلات الكبرى للدولة العربية، التي ظهرت بعد نيل الاستقلال الوطني، أنها لم ترتبط بفكرة الحرية وفكرة العقلانية، بل ارتبطت بفكرة التوازن بين البداوة والدولة، حين مثّلت البداوة حرية الأصل السابقة للدولة، ومثّلت العشيرة المحافظة على بعض حرية التصرف داخل الدولة. وازداد الأمر سوءًا حين بدا أنّ التربع في سدة الحكم والسلطة لم يخرج أكثر الفئات الحاكمة من فئويتها، بل فاقم هذه الفئوية وغذّاها بالموارد التي وضعها الحكم المركزي بين يديها. وهكذا تحولت مرافق السلطة إلى أدوات تدعم مصالح الفئة الحاكمة، ونُظِّمَتِ الحياة السياسية بصورة حالت دون الطعن في مدى شرعية ذلك.
وهكذا، انطوى الوضع في العالم العربي على عدد من المعوّقات السياسية والاجتماعية والثقافية:
- تضخم دور سلطة الدولة وغياب الدور الأساسي لمؤسسات المجتمع المدني، والتي تتعرض لقيود تعوق حركتها في تطوير الممارسة الديمقراطية، بسبب إحكام النظم السياسية قبضتها على تلك المؤسسات.
- الافتقار إلى سيادة القانون وتساوي كل المواطنين حكامًأ ومحكومين أمامه، ما جعل معظم الناس يعيشون ثقافة تولد أجيالًا عربية لا تحترم القانون وتنظر إليه على أنه تنظيم لردع الأقلية غير المنضبطة، وليس نظامًا للمجتمع وتوفير أساس لضوابط الحريات والحقوق والواجبات وتحديد المسؤوليات.
كما أنّ ثمة فجوة كبيرة تفصل بين الشعوب وأغلب الحكام، وأزمة شك تاريخية تغلّف العلاقة بينهما، إلى حدٍ أدى إلى عزلة من يحوزون السلطة عن الجماهير العريضة بآمالها وآلامها وأحلامها، وهو أمر يؤكد أنّ جزءًا كبيرًا من الاحتقان السياسي الذي تشهده عدة أقطار عربية ناجم عن الفراغ السياسي، الذي يحتل المساحة بين الحاكمين والمحكومين عند معظم الشعوب العربية.
إذ إنّ الشرعية السياسية، لدى معظم الحكومات العربية، تعود إلى مرجعيات يصعب الأخذ بها أو التسليم باستمرارها، فبفقدان النخب الحاكمة لمعنى المسؤولية، واستفرادها بتحديد معايير القيادة ومهامها، من دون منافسة ولا نقد ولا محاسبة أو مساءلة، لم يكن هناك ما يحول دون استباحتها مصالح الناس وحقوقهم، وتحوّلها إلى عدو رئيسٍ للمجتمع، تستجلب نقمته أكثر مما يستجلبها العدو الخارجي نفسه.
ومن نافلة القول أنّ أغلب النظم العربية، تفتقد لأي شرعية دستورية وتعاني في مجملها من إشكالية في أدائها السياسي، وتفتقر إلى الشفافية في طريقة تعاطيها مع مواطنيها. وهذا يبدو جليًا عند متابعة الممارسات السياسية التي ينتهجها أكثر المسؤولين العرب على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وقد مثلت أزمة الشرعية عنصرًا أساسيًا في ربيع الثورات، إذ أدى حرمان المواطن العربي، خلال عقود، من التعبير والتصويت الحر والحضور السياسي والاحتجاج والشراكة الحقيقية إلى إثارة الأسئلة حول نظام الحكم في بلاده. وقد ساهم فشل الأنظمة في التعامل مع الاحتياجات العادية للناس، ومنها البطالة والتراجعات الوطنية، في تعميق التساؤلات. ومع الوقت، كبر التساؤل العربي حول شرعية الحكام، خصوصًا مع انطلاق مشاريع التوريث في الجمهوريات، والتي فهمها المواطن على أنها احتقار مكثف للشعب.
ويتضح من السياق التاريخي أنّ أبناء الشعوب، وخصوصًا النشطاء من الجيل الجديد، فهموا أنّ معركة التخلص من الديكتاتورية لن تحتمل التأجيل والانتظار. فهموا جيدًا مصدر قوتهم، ففي الجوهر، لا يوجد نظام سياسي في التاريخ قادر على الاستمرار إذا قررت الأغلبية إسقاطه عبر سحب الشرعية منه. هذا أساس اكتشاف الشعب لمعنى قوته عند مقارنتها مع شرعية تقليدية مستمدة من أقلية مستبدة تعتمد على أجهزة الأمن والقمع.
وقد شكَّل اتجاه كثير من المواطنين العرب نحو التدين، الوجه الآخر لمأزق الشرعية العربية. إذ احتاج الناس إلى ملاذ آمن في ظل تحريم العمل السياسي المفتوح في معظم الدول العربية. فقد زحف الناس أفواجًا وجماعات نحو الجوامع بصورة مضاعفة، حيث وجدوا المكان الذي يعطيهم بعض الطمأنينة في ظل الخوف والقلق ونقص الحياة الكريمة.
ولكنّ التديُّن تحول إلى قوة للمجتمع وحصانة، فهو نفسه المسؤول عن تلك الشجاعة التي تحلّت بها الشعوب العربية في مواجهة القمع والرصاص، وهو نفسه المسؤول عن الانتقال -في لحظة تاريخية مفصلية-من التركيز على الحلال والحرام، والشرعي وغير الشرعي، إلى العادل وغير العادل، والمنصف وغير المنصف.
وما إن اندلعت الثورات، حتى أصبحت بعض الأنظمة نفسُها أحدَ مسببات انتشار الثورة، وبهذا دمرت تلك الأنظمة ما تبقى لها من الشرعية، فهي لم تكن قادرة، بحكم ضعف شرعيتها وتفككها الداخلي وفسادها، على القبول بمطالب الثوريين في حدِّها الأدنى، بل نجدها اتجهت فورًا إلى استخدام القوة والعنف ضد المحتجين، كما حصل في سورية منذ انطلاقة الحراك الشعبي في آذار 2011، في ظل محاولة خداعهم وإيهامهم بأنها بدأت الإصلاح الموعود.
واليوم، يتأسس أمام أعيننا منطق سياسي جديد لشرعية عربية جديدة صاعدة. وقد حققت هذه الشرعية الجديدة نجاحات سريعة في تونس، ولكنها في طريقها إلى الانتصار في سورية وغيرها من الدول العربية، عبر استمرار النضال لإزاحة الديكتاتورية. وتمتاز الشرعية الجديدة للثورات العربية، بمقدرتها على احتلال الساحات العامة والميادين بطرائق سلمية، وبمقدرتها على اتباع وسائل سلمية للنضال، تؤدّي إلى شلّ إرادة النظام السياسي وتشتيت قواه.
3- تدهور الحياة الثقافية العربية
تشير إحصائيات التقرير الأول للتنمية الثقافية، الصادر عن ” مؤسسة الفكر العربي ” في عام 2009، إلى أنّ كتابًا واحدًا يصدر لكل 12000 مواطن عربي مقابل كتاب لكل 500 بريطاني وكتاب لكل 900 ألماني. وأنّ معدل القراءة في العالم العربي لا يتجاوز 4 في المئة من معدل القراءة في بريطانيا، أي أنّ معدل قراءة المواطن العربي سنويًّا هو ربع صفحة، في الوقت الذي تبين فيه أنّ معدل قراءة الأميركي 11 كتابًا والبريطاني 7 كتب في العام.
كما أنّ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “ألكسو” أعطت صورة سوداوية أكثر تشاؤمًا عندما أعلنت أنّ نسبة الأمية وصلت إلى 30 في المئة (ثلث سكان العالم العربي)، أي حوالي 100 مليون أمي عربي يرزحون تحت نير الأمية والفقر والتخلف ويشكلون قنابل متفجرة داخل أوطانهم وخارجها. وفي المقابل أُعلن أنّ 50 في المئة من الأدمغة العربية وأصحاب الخبرة، أطباء ومهندسين وعلماء وأيدي عاملة من المهرة والفنيين، أُجبروا على الهجرة من أوطانهم، لتستوعبهم الدول المتقدمة، وتستفيد من قدراتهم وإمكاناتهم وخبراتهم.
ولا شك في أنّ هناك مسؤولية تتحمّلها النخب السياسية التي أنتجت رؤية بيروقراطية وأمنية ثقيلة، ركزت على إخماد حيوية المجتمعات العربية، وإجبارها على الاستقالة من الساحة السياسية والثقافية وإخراجها من التاريخ، لضمان انفراد الرئيس أو الزعيم بكل الفضاء السياسي الوطني، مهما كان حجم القهر اللازم لإنجاز المهمة. إضافةً إلى مسؤولية عديد المثقفين الذين سلّموا لسلطة الجهل والقهر، وفشلوا في إنتاج معارف ونماذج للسياسة والفعل الاجتماعي، تطلق جدلية التقدم والإنجاز، متجاوزة القوالب الأيديولوجية المبسطة، وتحل معضلة العلاقة بين التغيير في الداخل والحد من تدخلات الخارج.
وعلى صعيد الثقافة السياسية العربية، تتعدد أوجه القصور: فمن جهة، تهيمن الأدلجة العميقة على العقل السياسي العربي المعاصر بصفة خاصة، ما جعله لا يهتم إلا بالعموميات وينسى التفصيلات. ومن جهة ثانية، لا يمتلك الوعي المطابق لحاجات الواقع العربي.
وهكذا، ثمة ثقافة بكاملها تحتاج إلى المساءلة، بمرجعياتها ومؤسساتها ونماذجها ورموزها وإعلامها وخبرائها، هي ثقافة المكابرة، وتبجيل الذات، والثبات على الخطأ، والتستر على الآفات، والهروب من المحاسبة، فضلًا عن القفز فوق الوقائع، والخوف من المتغيّرات، والتعاطي مع المستجدات بالقديم المستهلك، بل بالأقدم أو الأسوأ من المفاهيم والتقاليد أو الوسائل والأدوات والمؤسسات.
إذًا، لا مفر من تفكيك مقولات الخطاب السياسي العربي، من أجل إجراء تغيير جذري يقلب الأسس الفلسفية التي يقوم عليها، تغيير تكون نتيجته التحول إلى خطاب ديمقراطي مع الذات، ومع الآخر، ومع المجتمع، ومع الواقع، ومع التاريخ: ديمقراطي مع الذات بصفتها مالكة قرارها ومصيرها ورهاناتها وحقها في التحدي والرفض والمساءلة، وديمقراطي مع الآخر باعترافه به كآخر وكمختلف، لا من باب التسامح والتعايش، إنما من باب الإيمان بالتعددية في التعاطي المجدي مع الأسئلة والتحديات التي يطرحها الواقع بكل ما فيه من غنى وتعقيد. وديمقراطي مع المجتمع في تعامله معه بوصفه الصورة الحيّة لنضالات الأفراد والجماعات، وتوقها ومخاوفها ورغباتها ودأبها اليومي، وليس كحقل تجارب للأيديولوجيا وأوهامها ومشاريعها. وديمقراطي مع التاريخ في النظر إليه بصفته حركة وتحولًا وصراعًا، وليس بوصفه مرآة لأفكار ومبادئ وأحكام الخطاب السياسي، وبرهانًا على صحتها وتكرارًا أبديًا لها.
4- تعثر الإصلاح العربي
جرى الحديث عن الإصلاح لدى أغلب الحكومات العربية، من دون مضمون حقيقي أو اقتناع كامل؛ إذ لم تبادر لتأسيس حياة ديمقراطية دستورية تتجاوز حكم التسلط وتكون قابلة للتطور بحسب حاجة تقدم المجتمع وتطلعاته، وبحسب المعايير العامة التي كرستها المواثيق العالمية. كما لم تسعَ لتحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين، بما يتجاوز معسكرَي الغنى الفاحش والفقر المدقع، ويتفادى تفجير الصراعات الأهلية والنزعات المتطرفة وانقسام الوطن بين من يملك ومن لا يملك.
ومما لا شك فيه أنّ المسؤول الأول عن وضع مجتمعاتنا العربية في المأزق الذي أدى إلى انفجار الثورات هو النظم الاستبدادية نفسها، التي قطعت على هذه المجتمعات طرق التحول السلمي وحرمتها من جميع الوسائل السياسية التي تسمح لها بالتعبير عن إرادتها بحرية. بل إنها بدأت تساوم على خطوات وإجراءات سطحية، من قبيل الاكتفاء بالإصلاح في المجال الاقتصادي وتأجيل أي إصلاح سياسي، أو إثارة مشكلة وهمية بين قابلية المجتمعات للرضا ببعض الحريات دون التداول السلمي للسلطة، بحكم أنّ المجتمعات العربية “ليست ناضجة بما فيه الكفاية” لكي تقوم على شؤون نفسها بكل كياسة وحكمة.
في حين أنّ ثمة أربع ركائز للإصلاح، بحسب الدكتور أحمد زويل: أولاها، إقامة نظام سياسي جديد، يستند في جوهره إلى دستور يحدد المبادئ الديمقراطية لحقوق الإنسان وحرية التعبير والحكم من خلال انتخابات قائمة على المنافسة. وثانيتها، تطبيق سيادة القانون في الممارسة على كل فرد، بغض النظر عن طبقته أو طائفته أو قوميته أو جنسه. وثالثتها، إعادة النظر في الأساليب المستخدمة في التعليم والممارسات الثقافية والبحث العلمي ومراجعتها وضخ حياة جديدة فيها، إذ ينبغي أن يكون الهدف ترويج تفكير نقدي ونظام قيم قائم على التحليل المنطقي والانضباط والعمل الجماعي. ورابعتها، ضرورة إصلاح الإعلام العربي، بهدف تحفيز العقول وتشجيع التفكير النقدي من أجل إطلاق مناقشات وحوارات متحضرة.
5- التحولات الاجتماعية وبروز دور الشباب
انبثقت الثورات العربية من تراكمات سياسية واقتصادية واجتماعية، وتطورت بنيتها، التي لا تزال في حيّز النمو، في بيئة وطنية حاضنة للتغيير، من أهمها مشاركة شعبية واسعة النطاق في حركات الاحتجاج السلمية. وكان الوضع العربي عشية الثورات بركاني المزاج، ينتظر حادثة بسيطة ليعبِّر عن مكوّناته في عدد من الدول العربية. فما حدث ارتبط برغبة الشعوب العربية في التخلص من الأنظمة الديكتاتورية العربية، وبناء شرعية سياسية جديدة جوهرها إنساني وديمقراطي.
إنّ ثورات الربيع العربي ذات الطابع الجماهيري الواضح، كشفت سلسلة من الحقائق التي لم تكن متوقعة بالحسابات السياسية المجردة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: التناقض الكبير بين الوعي الاجتماعي والوجود الاجتماعي، والحالة الشبابية المتطلعة للمستقبل، والمُقيمة في جوهر القضية، وهو ما لم يكن مرصودًا في أذهان النخب، ممن أجمعوا دون حق على ركاكة شباب اليوم وسطحيته؛ فقد امتلكت هذه الثورات قوة تعبوية هائلة بفضل التطور التكنولوجي، فاقت في ذلك القدرة التي امتلكتها الدولة واحتكرتها لسنين طويلة.
ومن عناصر قوة الثورات أنها غير “مؤدلجة”، أي أنها ليست مرتبطة بفكر سياسي أو ديني. كذلك فهي ثورات غير طبقية، بمعنى أنها لم تتولد إثر صراع طبقي. وهي ليست ثورات طائفية أو عرقية، فقد انضوت تحت لوائها طوائف المجتمع كافة. وأخيرًا فإنّ من طبيعتها أنها ثورات سلمية، سلاحها صدور عارية، باستثناء الثورتين السورية والليبية اللتين فُرض عليهما السلاح فرضًا.
وإذ نتحدث اليوم عن هذه الثورات في بلداننا، فلا بد لنا من أن نرى بأنها، حين انطلقت في تونس ثم في مصر ثم في البلدان العربية الأخرى، إنما كانت العفوية طابعها الطاغي. وما إن سلكت طريقها وكونت جمهورها حتى بدأ الوعي الحقيقي يحتل مكان العفوية عند أقسام واسعة من جمهورها. والعفوية في هذه الثورات إنما تتمثل في أنّ الحراك الشعبي، الذي كان الشباب والعمال والمهمّشون والفقراء وكثير من المثقفين يشكلون قوته الأساسية، كان في جوهره رد فعل غريزي على قهر دام عقودًا، في ظل استبداد استخدم قادته كل ما في ترسانة الاستبداد من عمل، لتدمير حياة البشر وتحويلهم إلى أدوات فاقدة للوعي والإرادة، ومستسلمة لواقعها المرير.
إنّ شباب الثورات العربية أكثر إلمامًا بتقنيات التواصل الحديثة، خاصة شبكات التواصل الاجتماعي التي تُمَكِّنُ من ربط العلاقة بين الأفراد من دون المرور من الوسائط التقليدية كالأحزاب؛ إذ وجدنا شبابًا وشابات ليس لهم اسم معروف، ولا يملكون إنتاجًا علميًا أو ثقافيًا يذكر، ولكنهم يملكون مدونة أو صفحة على “الفايسبوك” أو حسابًا في “التويتر” يطرح رأيًا أو ينقد وضعًا، فتجد أنّ الألوف قد تفاعلوا معهم وحللوا أفكارهم وآراءهم، وهم، في المقابل، يتفاعلون معهم، ويناقشون ملاحظاتهم، ويتراجعون عن بعض آرائهم اقتناعًا بما طرحوه، ويستمر التفاعل والنقاش بعقول ناضجة -في الأغلب- مستعدة للتراجع عن آرائها، وتقبل الرأي المخالف بأريحية ورضا تام.
وهذا هو حال معظم الشباب العربي ممن هم دون الثلاثين من العمر، الذين يشكلون أغلبية السكان في العالم العربي، وهذا الشباب لم تتمكن المؤسسات الرسمية العربية من تلبية تطلعاته، ولم تستطع النخب العربية المثقفة إشباع حاجاته، ما أدى إلى أن يعتمد على نفسه ويتجه نحو بناء عالمه الخاص، الذي لا يقبل فيه إملاءات من أحد، وهذا في تصوري يمثل تحديًا كبيرًا لابد من التعامل معه بوعي وحكمة، من خلال بناء وعاء ثقافي وسياسي مقنع لهذا الشباب، يلبي تطلعاته ويفي باحتياجاته ويتوافق مع متطلبات مستقبله.
ولعلّ أهم أسباب تفجر هذه الثورات، هو تغيير علاقة السلطة مع منابع المعرفة، أي انتقال الأفكار الإنسانية والقيم الكونية والمبادئ المشتركة بشكل أفقي تراكمي، ما ساهم تدريجيًا في التأسيس لوعي جمعي فعّال، بعد أن كانت هذه الأفكار والحقائق محتكرة من جانب الإعلام السلطوي، لتخرج من السياقات التي تولدت عنها، وتتلقّن بشكل عمودي انتقائي وعظي، بغية تمييع الإرادة المستقلة والاختيار الحر.
بهذه السياسة تحول المواطن من متلقٍ سلبي مهمش ومسحوق إلى مساهم فعّال في صناعة الحدث، إذ بدأ الفرد يتحسس دواخله ويدرك أنّ الشعوب هي التي تصنع الأنظمة التداولية، وتفرض عليها محاسبتها ورقابتها الشرعية، وليس الأنظمة المطلقة هي التي تصنع الجماهير، وتفرض عليها رقابتها الأيديولوجية الخانقة، وتغرس قبضتها الأمنية في رقاب الناس.
ثانيًا: ملامح المستقبل العربي
تتحدد ملامح المستقبل العربي على خطوط صدع اجتماعي جديدة، وضمن توازن قوى سياسي بازغ، وعلى نحو مختلف -إلى حد بعيد- عما كان عليه الحال منذ ظهور الدول الوطنية العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. النظرة إلى الشعوب العربية، واستطرادًا إلى الإنسان العربي، بدأت تتغير الآن في الغرب والشرق معًا، على الرغم من سلبيات الصورة التي يقدمها المتطرفون من كل حدب وصوب، حيث بدأ كثير من الصور النمطية عن الإنسان العربي يتغير.
إنّ ربيع الثورات العربية فتح آمالاً كبيرة، فيما يخص تحرر الأفراد والشعوب، وأعطى فرصة تاريخية وغير مسبوقة لشعوب المنطقة لربح رهان التحرر والتقدم، وهو ما يحتم عليها إما أن تربح هذا الرهان، وإلا فستكون هذه فرصتها الأخيرة بعد سلسلة من النكسات. وإذا ما نجح التغيير الديمقراطي في الدول، التي شهدت ثورات، إلى القضاء على بنيات الأنظمة الاستبدادية، فسوف تكف شعوب المنطقة عن النظر إلى سلطات بلدانها كقوى غامضة وغير شرعية، وتستوجب، بالتالي، محاربتها أو على الأقل معاداتها. كما أنّ السلطة التي ستنبثق عن كل تغيير ديمقراطي ستتعامل مع الغرب على قدم المساواة، لأنها لن تحتاج إلى تأييده لحمايتها من ثورات شعبية ممكنة، بل ستنطلق من عَدِّ شرعيتها الشعبية والديمقراطية ورقة في يدها للتعاطي مع الغرب بندية، ومن دون الشعور بعقدة النقص، التي كانت الأنظمة -التي سقطت وتلك التي ما زالت قائمة- تشعر بها كلما خاطبت الغرب.
ومن الأمور التي ينبغي التركيز عليها في هذه المرحلة، بعيدًا عن الشعارات الكبرى التي لم نستطع تحقيقها تكمن في:
(1) نشر ثقافة الحقوق والكف عن التذكير بالواجبات، التي حفظتها شعوبنا العربية عن ظهر قلب، والاستعاضة عنها بثقافة الحقوق والواجبات مجتمعة، حتى يكون كل منها داعمًا للآخر.
(2) بث روح المشاركة الوطنية وفتح مجالاتها أمام كل إنسان في العالم العربي، فهو مشارك أساسي في بناء مجتمعه، وهو عامل حاسم في تنمية ورقي الدولة التي ينتمي إليها، وذلك عن طريق تفعيل دوره في كافة أوجه النشاط القائم في محيطه. كل ذلك يمكن أن يتحقق بإعطائه الفرصة للمشاركة الحرة في العمل الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي، وكذلك تشجيع العمل التطوعي وإبراز آثاره الإيجابية.
(3) إعطاء الشعوب مزيدًا من الحرية في اتخاذ قراراتها وفق تصوراتها الخاصة وكذلك نقدها لما يدور حولها، وخصوصًا في الأمور ذات العلاقة المباشرة بها، ناهيك عن الأمور الكبرى التي قد تحدد مستقبلها، سواء في المنتديات العامة أم وسائل الإعلام المتعددة، وعدم اقتصار الخوض في هذه الأمور على جهات معينة ذات توجهات معروفة مسبقًا، فلم يعد المجال مقتصرًا على وجهة النظر الواحدة، فالحياة العامة أرحب ويمكن أن تستوعب أكثر من وجهة نظر.
(4) إرساء مبادئ العدالة في المجتمع بجميع شرائحه وطبقاته، فالجميع أمام القانون سواء، والجميع مسؤول عن تصرفاته، الجميع تطالهم يد القانون، لا استثناء، فالقاعدة القانونية وضعت عامة مجردة، لم يُنظر عند وضعها إلى شخص من تطبق عليه أو مركزه في المجتمع. وكذلك تفعيل دور رقابة المواطن لما يدور حوله ومساءلة القائمين على الشأن العام عند تقصيرهم في أداء أعمالهم، بل وإحالتهم إلى الجهات الرقابية والقضائية لاتخاذ ما تراه مناسبًا تجاههم.
(5) إعادة النظر في سياسات التربية والتعليم المبنية على التلقين والكم وليس الكيف، الذي عطّل عقول الناشئة والاستعاضة عنه بأسلوب الإقناع والحوار والمشاركة، حتى تكون هذه العقول على إيمان بما تتعلم وتتربى عليه، كما أنّ هذا الأسلوب يعطيها القدرة على الإبداع والابتكار، بل إنّه يساعدها -عندما تنتقل إلى حياتها العملية- على تطوير أدائها وتنمية مهاراتها لأنها نشأت على ذلك.
إنّ رهانات التحول الجاري في المنطقة ترتبط في الأغلب بتحقيق التنمية، ودعم دولة الحق والقانون، واحترام حقوق الإنسان، والقطع مع الفساد والاستبداد، وإعلاء قيم الحرية والعدالة الاجتماعية، وتجاوز هدر الثروات والطاقات.
وطالما كان التاريخ بأحداثه وتحولاته يتمخض دائمًا عن عبر ودروس واستنتاجات، فإنّ ثمة عبرًا ودروسًا يمكن استخلاصها من تجربة الثورات العربية، تشكّل في حد ذاتها مقدمات خطاب سياسي عربي جديد، ينزع عنه أوهام الأيديولوجيات الآفلة، ويؤسّس لتصور آخر، لمستقبل الحراك السياسي في العالم العربي.
ثالثًا: الانتقال الديمقراطي ليس مضمونًا
لا شك في أنّ العالم العربي يعيش مخاضًا غير مسبوق فيما بات يُعرف بربيع الثورات العربية، ولكن ككل مخاض تبقى التخوفات واردة، ليس بالضرورة من باب التشكيك في الثورات بل من باب الخوف عليها وأحيانًا منها. إذ تدل الشواهد التاريخية بأنّ الحكم على الثورات لا يكون من خلال خروج الجماهير للشارع ضد النظام، ولا من خلال إسقاط رأس النظام، بل من خلال مخرجاتها النهائية، بمعنى التغيير الجذري للنظام سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وأيضًا، إنّ الثورات لا تؤتي أكلها مباشرة، فقد تحتاج إلى سنوات حتى تستقر أمورها ويشعر الشعب أنّ تغييرًا إيجابيًا قد حدث.
إنّ العديد من الثورات انهارت في الماضي، وأفضت إلى تجدد الديكتاتورية، أو تراجعت لتتحول إلى حروب أهلية. وليس ثمة شيء مضمون في شأن الانتقال إلى الديمقراطية، ولذلك دعونا نركّز على إنجاح عمليات الانتقال إلى الديمقراطية في الربيع العربي، كي يكون نجاحها محفّزًا وأنموذجًا للآخرين.
فعلى أي نحو سيكون حضور حركات الإسلام السياسي في الفضاء العام لدول التحول العربي؟ وهل ستكون الأوضاع الاقتصادية الحرجة، في أكثر من بلد عربي سائر في طريق التحوّل الديمقراطي، عائقًا أمام أشواق التنمية الشاملة، أم ستكون دافعًا ومحركًا قويًا لها على طريق مسارها غير المفروش بالورود؟ وهل ستتجه إكراهات وتشنجات علاقة الغرب، مع العالم العربي المتحول، من الآن فصاعدًا، نحو التصعيد أم التراجع؟ والسؤال الأهم من هذا كله: هل سيكتب للديمقراطية أخيرًا أن ترى النور وتتكرس وتترسخ في هذا السياق العارم من التغيّرات متعددة الأوجه، وعلى ركام الأوضاع الحالية التي لا يُعرف حتى الآن على أي جوانبها ستستقر في النهاية؟
إنّ ما تعـــانيه الثورات في بعض البلدان العربية من مشكلات وتحديات لا يقلل من أهميتها ولا من شرعية قيامها، ولا من قيمتها التاريخية. بل ربّما هذه المشكلات والتحديات هي التي تؤكد الثورة كضرورة تاريخية، بوصفها ممرًّا إجــباريًّا نحو التغيير، في واقع يـــسوده نوع من أنظمة وسلطات شمولية مغلقة، تغوّلت على الدولة والمجتمع، طوال عقود مديدة. وهنا يجب إدراك حقيقة أساسية مفادها أنّ هذه الأخطار وتلك التخوّفات والتحديات إنما هي من طبيعة الثورة ذاتها، وجزء من ثمن التغيير، وولوج عالم الحداثة، ومحاكاة العالم، في ســـبيل الحرية والكرامة والعدالة، فلكل شيء ثمن.
وما نحتاج إليه اليوم هو ثقافة سياسية جديدة، فلا يكفي تغيير حاكم أو ذهابه لنحقق الهدف، وإنما يجب تغيير بنية الثقافة السياسية في المنطقة. إذ أنّ التحدي الأكبر أمام العقل السياسي العربي يكمن في كيفية اشتقاق مناهج وأدوات للموازنة بين الثورة والتغيير من جانب، والمحافظة على الاستقلال الوطني من جانب آخر، وكيفية التوفيق بين المأمول من ثورة تحرر الوطن من ربقة عبودية الاستبداد، والمحافظة على وحدة الشعب من جانب، وتجنيب البلاد مخاطر نزعات الهويات الفرعية ما قبل الوطنية.
والأمل كبير بأنّ هذا الطور الانتقالي، سيفضي إلى قيام نظم تعيد إنتاج الدولة والسلطة والمجتمع في حاضنة المواطنة، وحقوق الإنسان والمساواة والعدالة والدولة المدنية، التي تكفل حريات المواطنين، بغض النظر عن دينهم أو انتمائهم الطبقي أو أصلهم، وتعاملهم كذوات قانونية حرة متساوية في الحقوق والواجبات، وفي فرص العمل والتعليم والتقدم. وكيفما ستجري الأمور، ستبقى تونس في خاتمة المطاف، على الرغم من تعثرها المؤقت، هي المرجعية الدستورية والديمقراطية الأولى التي سترنو إليها الشعوب العربية.
خاتمة
إنّ الشباب العربي، التواق إلى نيل حريته وكرامته المسلوبة والتمتع بالعدالة، يرنو إلى دولة مدنية ديمقراطية تحترم حرية وكرامة بناتها وأبنائها، وتقف على مسافة واحدة منهم جميعًا، على أساس مبدأ المواطنة، بصرف النظر عن الانتماء للسياسة والدين والعرق واللون والجنس. ما يستوجب أن تنتقل كل قوى الأمة الفاعلة والنخب الفكرية والسياسية منها، على وجه التحديد، من حالة التنظير إلى حالة الفعل الإيجابي بالسعي لتشكيل توافقات وطنية داخل كل قطر عربي، أو ما يمكن تسميته بـ “الكتلة العربية الواحدة من أجل التغيير” حيث يعطى هذا التجسيد العربي من الصلاحيات ومن القدرات ما يؤهله للقيام بعملية إصلاح سياسية شاملة، تهدف إلى صياغة رؤى فكرية معاصرة، تتعايش مع ثوابت الأمة وتنطلق مع العصر لبناء مؤسسات المجتمع المدني، وإرساء قواعد دولة الحق والقانون، وانتهاج الديمقراطية مسارًا والتعددية ثراء وإغناء للحياة العربية، واعتماد الحرية متنفسًا إنسانيًا للتعبير والنقد البنّاء والمشاركة الخلاقة، وإشاعة روح البحث العلمي في كل ميدان من الميادين، وإتاحة المناخات الصحيّة، التي تفجر طاقات المبدعين من أبناء الأمة.
فهل سنتمكن من محو الأمية، وتأمين مقعد دراسي لكل تلميذ؟ هل سنقضي على الرشوة وأنواع الفساد؟ هل سنعمل على تشكيل رأي عام عربي فاعل؟ هل سننعم بانتخابات شفافة ونزيهة؟ هل سنترك للإعلام الحرية اللازمة، ونسمح له بالعمل، حتى ولو تعارض مع مصلحة زعيم أو رئيس؟ هل سنضع قوانين عصرية تعطي المرأة كامل حقوقها المدنية؟ هل سنجهر بانهيار حقبة عربية بأزمنتها ورموزها لكي يكون في إمكاننا أن نرمم، أو نعيد، بناء عروبة جديدة وإنسان عربي جديد، بحيث لا نترك الإنسان العربي محبطًا ويائسًا؟
إنّ أجمل ما في هذه الثورات أنها أعادت ترتيب أوراق الأولويات، فلا مقاومة بلا حرية، ولا ممانعة بلا كرامة، ولا تصدٍّ لأعداء الأمة بلا جبهة داخلية يحميها الشعب أولًا. ويخطئ من يعتقد أنّ المسألة تنحصر في خطاب أيديولوجي معيّن، فتيارات الأمة كلها معنية بصوغ خطاب عربي عصري يتضمن أصالة شعوبنا، ويستوعب مجمل التوجهات الحضارية والمدنية المعاصرة، ويستشرف مصالح الأمة وأهدافها.
وهكذا، لن يستطيع العرب الخروج من تخلفهم الحاضر دون إيجاد نظام سياسي كفء، يتناسب مع متطلبات العصر ومعايير الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، تستطيع فيه جميع مكوّنات المجتمع المشاركة والتفاعل من أجل حلول أفضل لمشكلاته. نظام ديمقراطي يتوازن فيه الحاكم والمحكوم، ويتم تداول السلطة فيه بطريقة حضارية وتتطور فيه القوانين والأداء بشكل حضاري من دون اللجوء إلى قعقعة السلاح والمهاترات الكلامية.