قبل أن يظهر فيروس كورونا (COVID-19) في الصين، وقبل أن تطغى آثاره الكبيرة على مستوى العالم، من حيث تقييدات حركة البشر والتجارة والتواصل، كانت هناك تقييدات من نوع آخر، فرضتها ظروف أمنيّة على شعوب بأكملها في عالمنا العربي. ففي مصر وسورية والجزائر وغيرها من البلدان العربية، بقيت سيطرة أنظمة الحكم شبه مطلقة في أثناء ثورات الربيع العربي، كما كانت قبلها. وقد استدعى هذا -مع تفاوت بالمستويات- من العاملين بالشأن السياسي، والمحسوبين خاصّة على صفوف المطالبين بالتغيير، العمل بطرق خلاّقة ومبتكرة. فوجدنا كثيرًا من الكيانات والأجسام السياسية والمدنية قد بدأت عملها واستمرّت فيه طويلًا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
لم تعد هذه الوسائل البديلة مجرّد منصّات للاتصال الفردي أو للتعبير عن القضايا الشخصية والأفكار والمشاعر الفردية لأصحابها، ولم تبقَ كذلك مجرّد منصات للاستثمار التجاري، من خلال الإعلانات والدعاية للمنتجات والخدمات، بل تطوّرت لتصبح مثل الصالونات الفكرية والأدبية أو حتى مقارّ الأحزاب والنوادي السياسية ومجالس البرلمانات، التي تجمع بين جنباتها فئات مختلفة من بنات وأبناء الشعوب الثائرة على أنظمة الاستبداد الحاكمة.
أتاحت هذه الوسائل للأفراد المتباعدين مكانيًا أن يلتقوا بلا انقطاع، فلم تعد ضروريّة جدًا تلك اللقاءات الفيزيائية الوجاهيّة بينهم. يكفي أن تكون هناك حاجة إلى بحث أي موضوع كان، حتى يلتقي أصحابه، عبر شاشات الكمبيوتر أو الهواتف الذكية، لمناقشته والوصول إلى مرادهم منه. صحيح أنّ اللقاءات الافتراضية هذه بدأت تأخذ طريقها إلى كثير من الفعاليات الإنسانية، على أعلى المستويات السياسية والعلمية والاقتصادية في زمن كورونا، إلا أنها باتت جزءًا رئيسًا من نمط حياة فئات كثيرة في مجتمعاتنا العربية.
لا شكّ في أنّ هذه الوسائل قد أتاحت بدائل عملية وحقيقية لأساليب اللقاء والاجتماع التقليدية، لكنها بالمقابل ليست مثالية إلى الدرجة التي تجعلنا نسلّم بها نموذجًا أوحد يمكن أن يزيح من طريقه النماذج التقليدية.
من أهم عيوب هذه الوسائل أنها غير قادرة على تلبية كثير من الاحتياجات الطبيعية للبشر، فالناس بحاجة إلى التعبير عن هواجسهم، مشاعرهم، عواطفهم وانفعالاتهم بشكل مباشر وطبيعي، وهذا ما تعجز عن توفيره منصات التواصل الاجتماعي بشكل دقيق. خاصّة إذا كانت وسائل التواصل ليست مرئيّة أو مسموعة بل كتابيّة. فالكلام المكتوب يعجز -في كثير من الحالات- عن نقل الصورة الحقيقية لصاحبه، وقد يكون جامدًا ويعطي الفهم المعاكس للمراد منه، أو قد يورّث انطباعات مغايرة لما يريدها كاتبه.
من العيوب الكبيرة لهذه الوسائل البديلة أيضًا، أنها لا تساعد كثيرًا في خلق القيادات الميدانيّة، كما أنها لا تفسح المجال واسعًا أمام تمييز الأشخاص عن بعضهم البعض بشكل كبير، فإضافة إلى الفكر المتّقد والمعرفة الواسعة والخبرة العملية والتجربة العميقة، تحتاج السياسة إلى تمتّع ممارسيها بصفات شخصية أخرى لا يمكن إظهارها إلّا بتماسّ مباشر مع الناس، مثل الخطابة والقدرة على التأثير بالمستمعين. وعلى سبيل المثال، تلعب لغة الجسد دورًا مهمًا في التأثير على الجمهور، وهذا من نقاط القوّة التي يستخدمها السياسيون المحترفون، والتي تحرمهم منها -بشكل أو بآخر- وسائل الاتصال البديلة عن اللقاءات المباشرة.
وعلى الرغم من أنّ هذه الأساليب غير التقليدية قد شكّلت عونًا كبيرًا لممارسي العمل الثوري على أصعدة كثيرة، منها السياسي والمدني والإعلامي، في مجتمعات البلدان التي اندلعت فيها الحركات المطالبة بالتغيير، فإنها فتحت أيضًا مجالات واسعة لظهور شخصيات غير مؤهلة للعمل، أو غير مؤهلة لقيادة بعض النواحي التي كانت سابقًا حكرًا على المتخصصين المؤهلين. يمكن -على سبيل المثال- الحديث عن معايير جديدة بدأت تُؤخذ بعين الاعتبار لتوظيف الأشخاص في بعض الوسائل الإعلاميّة التقليدية التي ناصرت ثورات الربيع العربي، أو في منظمات المجتمع المدني التي نالت -بشكل أو بآخر- حصّة كبيرة من الدعم الدولي. فاعتبارات الخبرة الميدانية أو الثورية، أو الحضور الواسع على صفحات التواصل الاجتماعي، والعلاقات الشخصية مع أصحاب القرار السياسي، تفوّقت في بعض الأحيان على اعتبارات التأهيل الأكاديمي أو التخصصي.
بالتأكيد، لا يمكن لهذا الشكل من وسائل التواصل أن يكون بديلًا كاملًا عمّا درج عليه البشر منذ مئات بل آلاف السنين، لكنّه، مع ما سببته جائحة كورونا على مستوى العالم، لا يمكن إلا أن يترك أثرًا بالغًا على المجتمعات البشرية، سيظهر آجلًا أم عاجلًا، وستجد كثير من المؤسسات، حتى البرلمانات والأحزاب، أمامها إمكانات واسعة تفتحها لها هذه الأساليب، ومن الممكن جدًا أن يتحوّل كثيرٌ منها إلى العمل عن بعد، كما هي حال عدد لا بأس به من المؤسسات والشركات التي يعمل قسم كبير من موظفيها من المنزل.
يرتبط هذا -بلا شك- بالمقومات والبنى التحتية الهائلة التي لا بدّ من توفرها في دول المجتمعات المختلفة، فبعض الدول تكاد تعجز عن توفير المياه الصالحة للشرب أو الكهرباء أو حتى طرق المواصلات بين بعض أجزائها، فما بالنا بالبنية اللازمة لإدارة الدولة عبر الشبكة العنكبوتية. ومع ذلك يكفي -حتى الآن- بالنسبة إلى كثير من الناس، أنّ هذه الوسائل قد خلقت لهم فضاءات واسعة رحبة بعيدة عن أعين عسس أنظمة الاستبداد.