“سنغرقكم، إن لم يكن بأعمال التفرقة والخطف والسلب ونتف الريش.. فبالحشيش”!
من منّا لم يقرأ حكاية البريطانيين كيف استطاعوا استعادة أطنان الفضة التي كانت قد أرهقت كاهلهم منذ سنة 1839 وما بعدها، ثمنًا لصفقات الشاي والحرير الصيني المستوردة؟ حتى صار يُقال إن الخزينة الصينية امتلأت يومها بالجنيهات البريطانية الفضية، بالمقابل خوت تمامًا خزينة المملكة من هذا المعدن الثمين.
كان الصينيون حينذاك شديدي الانغلاق بمواجهة كل آخر، عملًا بشعار الاعتماد على النفس والذات، لذا قاوموا استيراد أي شيء من بريطانيا وغيرها، وعندما طالب الملكُ البريطاني الإمبراطورَ الصيني بالسماح لبريطانيا بتصدير منتجاتها إلى الصين، بحكم المصلحة المتبادلة، رفض الإمبراطور ذلك، مُعللًا رفضه “بأن إمبراطورية الصين السماوية تُنتج ما يكفيها من السلع، وبالتالي لا تحتاج إلى أي شيء من البرابرة”.
يومها، اشتعل الغضب الإنكليزي، وقالوا قولتهم الشهيرة: “سنحاربهم بالأفيون”، وكان لهم ما أرادوا، إذ استطاعوا خلال سنتين فقط إغراق الصين بهذا السلاح الفتاك، حتى بلغ عدد المدمنين لديها على الأفيون عام 1838 أكثر من 12 مليون شخص، وهو ما قاد إلى تدمير ملايين الشباب الصيني، لدرجة أن الصيني كان يقوم ببيع أرضه ومنزله حتى زوجته وأولاده، من أجل الحصول على هذا السم الهاري.
القصة بالطبع طويلة، لكنها تختصر المشهد القائم والقاتم جدًا اليوم في (السويداء)، حيث لسان الحال يقول: سنُسكِت حوائجكم بالحشيش، سنشغلكم بالبلطجية والشبيحة والزعران، سنغرقكم بالخلافات والمشكلات، فإن لم يكن بالتهجير والعوز وضيق اليد وشدة الحاجة، فبالأزمات المعيشية الخانقة، وإلا فبشعارات الصمود، سنتاجر بما تبقى من زهرة شبابكم في كلّ جبهات الحروب!
لا الأمن ولا الأمان يتوفران اليوم لدى أهالي السويداء، والتشبيح والسطو على أرزاق الناس وبيع الحبوب المخدرة، عينك عينك، لا يحصل في أنصاف الليالي، بل في وضح النهار، أشخاص منفلتون يشكلون مثل هذه العصابات، لا تتجاوز أعدادهم في طول المحافظة وعرضها المئة شخص، أو كحدٍ أقصى مئة وخمسين شخصًا، هؤلاء هم أنفسهم من يقومون بهذه الأفعال المتكررة، إنهم ليسوا أشباحًا يتوارون فجأة، ولا صحونًا طائرة قدمت من الفضاء، إنما هم أشخاص من بين عامة الناس.
المدهش في الأمر أن هؤلاء لا يحاولون إخفاء أنفسهم! وإنما يتفاخرون بما يفعلون، لا بل يهددون ويرعدون، يتجولون في كامل ساحة المحافظة، بالرغم من وجود الحواجز الأمنية وما سمي بالدفاع الوطني، من دون حسيب أو رقيب! ينعمون بسيارات مسروقة آخر طراز، بنمرة تخصّص بتصنيعها شخص بعينه في المنطقة الصناعية، والمفارقة الكبرى أن حالة الانفلات الأمني والقيمي والمجتمعي، وفوضى السيارات المسروقة هذه، لن تجد مثلها إلا في السويداء وحدها. هكذا يقول أبناؤها، ويضيفون: “نتحدى أن يقوم أحد هؤلاء بالذهاب بسيارته إلى دمشق، أو غيرها من المناطق التي تقع تحت سيطرة السلطة، حيث هناك الأمن والأمان”!
ماذا يعني ذلك؟ وكأن هذه السيارات وهذا السلاح المنتشر وهذه المخدرات وهذا الانفلات الأمني، وما ينتج عن ذلك من تحلل وتفكك مجتمعي، أمرٌ مخططٌ له بعناية! وإلا فمن يفسّر لنا كيف أن الدولة تغيب، ثم فجأةً وبقدرة قادر تحضر، عندما يتعلق الأمر بتحقيق مصالحها؟ في حين تتوارى عندما يتعلق الأمر بضبط تلك الظواهر ومواجهتها؟!
فعند جباية الأموال العامة وتحصيل الضرائب تجدها، وعند المطالبة بالتحاق أبناء السويداء بالجندية الإجبارية تجدها، وعند تنصيب سياسي أو تلبيس عباءة زعيم أو وريث والمصادقة على تنصيبه والطبطبة على ظهره تجدها، وعند إقامة الاحتفالات والمناسبات والكرنفالات الوطنية التي تحتاج إلى هتاف الجماهير وتصفيقها تجدها بقوة، كذلك الحال عندما تريد صناعة بطل لخدمة مصالحها عندها تحضر، تُمجِّد به ترعاه ثم تقرأ الفاتحة على نهايته، الشيء نفسه أيضًا عندما تريد محاصرة البطل الحقيقي وتهميشه.
لكن الغريب في الأمر أنه عندما توجد مثل تلك السيارات وهذه المافيات، تغيب الدولة، كذلك عندما تتزايد أعمال الخطف والقتل بين صفوف الناس، يضيع الدليل ويذوب الفاعل، مهما كان حجم الجريمة ودرجة خطورتها، ليقع اللوم في كل مرة على الضحية نفسها، هذه الضحية هي التي تبتلع اليوم طعم الكبتاغون والحشيش في السويداء، وغيرها من المناطق السورية. كذلك الأمر عندما يُباع الحشيش والحبوب المخدرة في الشوارع والأكشاك والبيوت وحتى المدارس، عندها لا تجد أثرًا لهذه الدولة، بالمقابل عندما يتفوه أحدهم بكلمة واحدة أو يتنفّس بموقف سياسي، تستنفر الدولة كل طاقاتها، وكل أدواتها الضاربة، ثم تحضر على وجه السرعة لاعتقاله، بحجة “وهن إرادة الأمة”، أو بذريعة الإرهاب! والسؤال: كيف علمت بما جرى؟ كيف استطاعت تحديد مكانه؟ كيف استطاعت الحضور خلال ساعات معدودات؟ كيف استطاعت القبض عليه؟ كلّ ذلك يبقى في علم الغيب؟
والأمر الأكثر غرابة هو أنه عند اقتراب كلّ استحقاق دستوري، خصوصًا الانتخابات الرئاسية التي يحتفون بها اليوم، تُسارع هذه السلطة إلى التمسّك بالنصوص الدستورية، وإلى تذكير الناس بواجباتهم الوطنية حيال تلك النصوص وحيالها، لكنها عندما تريد تحقيق مآربها الشخصية تضرب عرض الحائط بتلك النصوص، وإلا فليدلنا هؤلاء من أين يعتاش الرفاق البعثيون اليوم؟ ومن أين يأتون بالأموال، من رواتب ومصاريف سيارات واجتماعات ومقارّ حزبية ورواتب منظمات شعبية ونفقات مهرجانات ومنشورات وصور ولافتات ودعايات انتخابية وهدايا الأزواج والزوجات والخلان والخليلات، مع أن نص المادة (8) من الدستور المطبق حاليًا 2012 يذكر بوضوح وصراحة أن (لا يجوز تسخير الوظيفة العامة أو المال العام لمصلحة سياسية أو حزبية أو انتخابية)؟
ما يحصل في السويداء، منذ سنوات حتى اليوم، هو استثناء عما يحصل في بقية المناطق السورية التي تسيطر عليها السلطة، والواقع يستوجب استنفار الدولة وكل كياناتها، لا أن تدير ظهرها للشعب والوطن كما هو عليه الحال اليوم، ولو أن السلطة جادة في القضاء على هذه الظاهرة المدمّرة، لكان عليها -بدلًا من أن تُرسل إلى المحافظة وزير زراعتها للاطلاع على سلالة الماعز الناتج عن التزاوج بين الماعز الشامي والماعز الجبلي- أن تُرسل وزير داخليتها ليقيم بالسويداء، حتى يفكّ التزاوج بين تلك العصابات وبعض المتنفذين فيها، مثل ما سبق لها أن أرسلت وزير داخليتها (محمد حربا)، وأقام طوال أيام ما سمي بأحداث البدو عام 2000.
بالمقابل، ماذا فعل أهالي السويداء بأنفسهم؟ بل أي انتحار ذاتي هذا الذي يسكتون عليه؟ قبل أكثر من عشرة أعوام، وقبل أن تصطلي نيران المحرقة السورية، كان كبار بنو معروف يرددون عبارة: (نيالو اللي عندو مربط عنزة بالجبل)، على اعتبار أن هذا المربط هو الملاذ الأخير الذي سيجنبهم نوازل الدهر وملماته. واليوم، سقطت تلك المقولة التي رافقتهم منذ ما يربو عن ألف عام، اليوم طارت العنزة وطار مربطها، بعد أن تحوّلت ساحة الجبل إلى ميدان لأعمال القتل والسلب والنهب والتشليح، بل طارت قبل أن ينتشر بين أطفالهم وشبابهم “حبوب الكبتاجون والحشيش وأخيرًا الكريستال ميث”، وفقًا لما تكشف عنه العديد من التقارير المحلية والدولية.
ليس ذلك فحسب، وإنما يكاد أن يطير كلّ ما لدى أهالي السويداء من مفاخر ومقولات تتعلق بحكمة العقل وحماية الأرض والعرض، اليوم يقوم البعض بالسطو على أرزاق الناس وأعراضهم ودمائهم، اليوم يضيع الأبناء والبنات في متاهات الحبوب المخدرة والحشيش، فيما كبارهم يهادنون ويساومون، لا بل يتراقصون بمجون، ليعلنوا بشكل فاضح أنهم بهذا المخطط مشاركون.
اليوم، إن صاح صائح في أحد شوارع السويداء أو أحيائها “وين راحوا”؟ فلن يجد هناك من يُغيث، سلطان الأطرش الذي عاداه هؤلاء أنفسهم، بالوقوف إلى جانب المستعمر الفرنسي، لكنهم يتغنون باسمه بمناسبة وبدون مناسبة، أشعل هو ورفاقه حربًا لا هوادة فيها، حفاظًا على الكرامة والأرض والعرض، ولم يتوانوا لحظةً واحدة، إلا بعد أن تحقق طرد المستعمرين.
ماذا بعد؟ لطالما تمسك أبناء السويداء وتفاخروا بما يحملونه من قيم وتراث الأجداد، لذلك تجدهم يتغنون بهذا التراث، فيحدون ويرددون الأغاني والأهازيج الجبلية الوطنية، واليوم بعد أن تحولت السويداء إلى مرتع من الفوضى والاستزلام، وبعد أن شارك ويشارك كبارهم في مواجهة ما يعصف بهم من فناء أخلاقي ومجتمعي ووطني، ومع غياب صوت الحكمة والعقل، فقدت كلمات تلك الأغاني والأهازيج معناها، بل يكاد الأبناء أن يفقدوا كل ماضيهم ورصيدهم الوطني.
ختامًا، تقول إحدى أهمّ أهازيجكم: “يا باشا واظهر ساعدنا”! السؤال على ماذا سيساعدكم الباشا يا ناس؟ على خنوعكم وصمتكم على ما يحصل لكم ولأبنائكم على مدار الساعة، من إذلال وإفساد وهدر كرامة العرض والأرض؟ أم على سكوتكم وتواطئكم على صحة بناتكم وأبنائكم وضياع مستقبلهم؟ أم على تخاذلكم في استقبال الجيوش المستعمرة، التي سبق للباشا ورفاقه من أصحاب العبي المرقعة أن دفعوا الغالي والرخيص حتى تمكنوا من طردها؟ لذلك إما أن تكونوا كما كان أجدادكم، أو أن تصمتوا إلى الأبد.
فهل وصلت الرسالة قبل فوات الأوان؟ اللهمّ إني بلغت.