قبل عقدٍ من الزمن، حاول السوريون الخلاص من نظام استبدادي، بتوجيه مطالبهم نحو دولة القانون (المشروعية، فصل السّلطات، الرقابة القضائية، الحقوق، الحريات) وغيرها من المبادئ الدستورية التي تجعل من الناس مواطنين أحرارًا ذوي حقوق وواجبات متساوية، وتمكنهم من الخلاص من فساد النظام، ومن (المرسوم رقم 51 الصادر في 22 كانون الأول/ ديسمبر عام 1962) وحالة الطوارئ والأحكام العرفية، التي فُرضت على إثر الانقلاب العسكري لحزب البعث في 8 آذار/ مارس 1963 بالأمر العسكري رقم 2، لتشلّ إمكانية السوريين على الفعل السياسي أو المدني. إلا أنّ أبواب الخلاص من الاستبداد كانت موصدة، وبناء دولة القانون التي يُعمل بها في معظم دول العالم، اليوم، بقيت داخل المقالات السياسية للسوريين.
كانت الاستجابة التي قدّمها النظام السوري لرفع “الظلم القانوني” عن السوريين، والسير في ركب “الدول الحديثة”، غير متوقعة بسرعتها، وتضاهي سرعة تعديل الدستور السوري عام 2000 لتسليم “ميراث” الحكم في “دولة جمهورية” من (الأب إلى الابن). ففي 21 نيسان/ أبريل 2011، صدر مرسوم تشريعي يقضي بإنهاء حالة الطوارئ، ومشروع مرسوم تشريعي يقضي بإلغاء محكمة أمن الدولة العليا. واتجه النظام نحو بناء “منصته القانونية”، بتنظيم حق الاحتجاجات (قانون التظاهر)، والعمل السياسي (قانون الأحزاب)، وحرية التعبير (قانون الإعلام)، والإدارة المحلية، وغيرها من “إصلاحات”، ومن ضمنها دستور 2012، وكلها تُفضي إلى أن يركن السوريون لحكم الاستبداد، باسم القانون، أو”القانون في خدمة النظام”، بدءًا من:
قانون التظاهر- لا احتجاج بعد اليوم: علىإثر الاحتجاجات التي هزّت سورية منذ منتصف مارس/ آذار 2011، اعتبر النظام أن أهمّ الأولويات عنده سنّ قانون “لأول مرة” لتنظيم التظاهرات والاحتجاجات السلمية، وفق المرسوم 54 الصادر في 21 نيسان/ أبريل 2011، باعتبارها حقًا من حقوق الإنسان الأساسية التي كفلها دستور عام 1973 (المادة 39)، ولاحقًا كفلها دستور 2012 (المادة 44): “للمواطنين حق الاجتماع والتظاهر سلميًا، في إطار مبادئ الدستور، ويُنظّم القانون ممارسة هذا الحق”.
قانون التظاهر لم يحتج إليه السوريون سابقًا، بحكم قانون الطوارئ الذي منح (الأمن والشرطة والجيش والسجون) -“جهاز الدولة القمعي” بحسب تعبير لوي ألتوسير- صلاحيات واسعة لمنع تجمع ثلاثة أفراد أو أكثر، وقمع الاحتجاجات والتظاهرات، وملاحقة المشاركين فيها، ومحاكمتهم في محكمة أمن الدولة العليا. وإن إيقاف العمل به يفترض بالنسبة إلى النظام صياغة قانون آخر أكثر “حيوية”، ليتسع لواقع مختلف يبشر بإمكانية الاحتجاج، ويحتاج ضبطه إلى شروط “شبه مستحيلة”، تضمن ملاحقة المتظاهرين وإيقافهم من خلالها، بتهم مختلفة مثل عرقلة المرور والدوريات، مخالفة أوامر إدارية، بأن تكون الجهة المسؤولة عن التظاهر (حزب، نقابة مهنية، منظمة شعبية أو منظمة مجتمع أهلي) غير مرخصة أصولًا، والتظاهر دون ترخيص من وزارة الداخلية، وكذلك يستدعي الأمر الالتزام أمام الكاتب العدل بالمسؤولية عن كل ما قد تتمخض عنه التظاهرة، وتحديد المكان والزمان والشعارات التي ستطرح وعدد المتظاهرين.
وفضلًا عن أنّ هذا كلّه لا ينطبق على المسيرات التي لا تحتاج إلى موافقة (لكونها تُفرض قسرًا على كل الهيئات الرسمية بالدولة: مدارس وشركات وغيرها)، فإن قانون التظاهر -بالمقارنة بقانون العقوبات الذي لا يُجرّم ممارسة حق التجمع السلمي أو التظاهر، إذا لم يؤدِّ إلى اضطراب في الأمن العام، وتم الامتثال لأوامر السلطات بالانصراف- يُثبت “كفاءته” في قمع ومنع التظاهر والاحتجاج. وهو ما حدث في تظاهرات السويداء “بدنا نعيش”، في حزيران/ يونيو 2020، التي اصطدمت بتحركات استباقية من جانب الأفرع الأمنية لنظام الأسد، وطُوِّقت المنطقة المحددة للتظاهر (ساحة المحافظة)، ونُشر العشرات من عناصر الأمن، وقوبلت باعتقالات من جانب النظام، شملت أكثر من 15 شابًا، أُفرج عنهم فيما بعد عبر وساطات محلية.
قانون الأحزاب- لا أحزاب خارج غطاء النظام: بعد عقود طويلة عاشتها سورية تحت سلطة الحزب الواحد، قرر النظام (عقب الحراك) الاعتراف بتعددية الأحزاب، وأصدرالمرسوم التشريعي 100 لعام 2011، وعلى الرغم من ترحيب البعض به، كونه يُيسّر العمل السياسي “المفقود” لأسباب قسرية، فإن إعادة هذا العمل السياسي للحياة كانت “مقيّدة”، وفقًا لقانون الأحزاب، حيث إن (المادة 7) فيه تجعل هذه الأحزاب تحت سلطة النظام “التنفيذية” ممثلة بوزير الداخلية شخصيًا، والبعثي حكمًا، بصفته رئيسًا للجنة شؤون الأحزاب، يساعده -في الضبط- قاض يسمّيه رئيس محكمة النقض، وثلاث من الشخصيات العامة “المستقلة” يسميهم (رئيس الجمهورية لمدة ثلاث سنوات)، وأن عمل هذه الهيئة وصلاحياتها، بحسب هذا القانون، يجعل منها هيئة قيادية أعلى من الهيئات القيادية للأحزاب نفسها، ولها حقّ التدخّل في كل الأمور والحياة الداخلية لعمل هذه الأحزاب.
وتجدر الإشارة إلى أنه خلال العقد الماضي تشكلت أحزاب سياسية، وأخذت ترخيصًا للعمل وفق قانون الأحزاب، لتحمل قائمة “الأحزاب المرخصة” (15) اسمًا لأحزاب، من بينها أحزاب الجبهة الوطنية، بحسب صفحة مجلس الشعب بتاريخ 19 شباط/ فبراير 2015. إلا أن هذا لا يعني عودة الأحزاب والتعددية السياسية المُغيّبة عن الشارع السوري؛ فالعمل الحزبي السياسي في إطار المعارضة للنظام ترسّخ بالأذهان كـ “خطر” لا يمكن الخروج منه بسهولة، ولم يعرف السوريون عن تعددية الأحزاب سوى واجهة الجبهة الوطنية “بقيادة حزب البعث”.
ليكون قرار النظام “المتأخر”، بإحياء التعددية السياسية ممثلة بالأحزاب، من خارج “المألوف”، حيث يمكن الآن منع أي حزب معارض من النشاط السياسي، وعدم الاعتراف بوجوده، واعتبار المكان الرسمي للمعارضة داخل السجون “بفضل” قانون الأحزاب. فالتعددية التي يريدها النظام تنص على تشكيل أحزاب “تحت عهدته” وغطائه متمثلًا بوزارة الداخلية. وقد استخدمت، في 27 آذار/ مارس الماضي، حجة عدم وجود ترخيص من لجنة “شؤون الأحزاب” التي يترأسها وزير الداخلية، كسبب لمنع النظام عقد مؤتمر تأسيسي لـ “الجبهة الوطنية الديمقراطية” (جود)، وحوصر مكان انعقاد المؤتمر، وطُلب من المراسلين الإعلاميين (فريق قناة الميادين، وصحافية روسية) الذين كانوا داخل المبنى المغادرة، ووردت اتصالات من جهات أمنية لشخصيات مشاركة في المؤتمر، بمضمون تهديدي، بحسب كلام المُنسّق العام لـ “هيئة التنسيق الوطنية” حسن عبد العظيم، في موقع “المدن”.
قانون الإعلام- سياسة كَمّ الأفواه: لأن الإعلام يُمثل السلطة الرابعة، فإنه على تماس مع أوجه الحياة كافة، وعلى تماس مع كفالة الدستور لحرية التعبير، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها سورية، وقد جاء قانون الإعلام الصادر في المرسوم التشريعي رقم 108 للعام 2011 ، ليؤكد هذا الحقّ بـ “شفافية”، حيث تحظر (المادة 12) نشر أي محتوى، من شأنه “المساس بالوحدة الوطنية والأمن الوطني، أو الإساءة إلى الديانات السماوية والمعتقدات الدينية، أو إثارة النعرات الطائفية أو المذهبية”، وكلها مصطلحات تُعبّر عن حق حرية التعبير بصيغة “مراوغة” و”متناقضة”.
بالمعنى العام، إن مراجعة مواد قانون الإعلام هي مراجعة للأمور التنظيمية “الترخيص والإدارة وغيرها”، لوسائل الإعلام والنشر، ومراجعة لقانون المحظورات والعقوبات على “جرائم حرية التعبير”، تراوح الغرامة المالية فيها من 20 ألف إلى مليون ليرة، وكل جريمة لم يرد عليها نص في هذا القانون يطبّق بشأنها قانون العقوبات والقوانين النافذة، حسب (المادة 99).
قوانين متفرقة- لاستكمال منصة التعسف القانونية: لا توجد دولة في العالم تسمح بوجود الإرهاب والإرهابيين على أراضيها، وإنّ “مكرمة” الإصلاحات القانونية التي قدّمها النظام السوري بإلغاء قانون الطوارئ كانت تتطلب توجهًا مختلفًا، حيث أمر الرئيس الأسد بتاريخ 31 آذار/ مارس 2011 بتشكيل لجنة قانونية تُعدّ مشروعًا لمكافحة الإرهاب، ليكون القانون رقم 19 تموز/ يوليو 2012 الذي أسماه النظام بقانون “مكافحة الإرهاب”، المؤلف من 15 مادة، بمصطلحات سياسية ومفاهيم “مطاطة”، تشمل الجميع “أفرادًا ومنظمات وأحزابًا، ومعارضين وصحفيين، وعاملين في المجال الطبي والإغاثي”، لضبط هذه “الحالة الإرهابية” المنتشرة في صفوف السوريين، وأُنشئت محكمة الإرهاب بالمرسوم التشريعي رقم 22 لعام 2012، لتكون بديلًا عن محكمة “أمن الدولة العليا”، في فترة تتسم بأن (الكل إرهابي حتى يثبت العكس).
وقد أُلحق قانون “مكافحة الإرهاب” بقوانين ومراسيم وقرارات أخرى، كالقانون رقم 20 لعام 2012، لتسريح العاملين في الدولة، والقانون رقم 10 في 2 نيسان/ أبريل 2018، لسلب ممتلكات اللاجئين، وقرارات الحجز الاحتياطي، ومصادرة أملاك المعارضين، ويشمل عائلاتهم حتى الأطفال، وأصدرت وزارة المالية السورية قرارات بحجز أموال ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، بتهمة كتابة تدوينات تطال النظام. إن جملة القوانين والقرارات التي شهدتها سورية كانت تتجه للحفاظ على وظيفة “جهاز الدولة” الذي يعرّف الدولة بصفتها قوة تنفيذ وتدخل قمعي “إحقاقًا لمصالح الطبقات الحاكمة”، وإن كان استخدام هذا التعريف في النظرية الماركسية-اللينينية، في سياق الصراع الطبقي الذي أطرافه هم البرجوازية وحلفاؤها ضد البروليتاريا، فإنه في الحالة السورية يأتي مناسبًا في سياق تمرّد الشعب ضدّ الدولة ممثلة بالنظام وأجهزته الأمنية.
خاتمة
قبل عقدٍ، شكّل بناء دولة القانون المُستمدّة من “روح الشرائع” لمونتسكيو، التي يُعمل بها في معظم دول العالم، حلمًا مغريًا للسوريين، ولكنهم لم يتوقعوا أن استجابة النظام لتهدئة الحراك من الناحية القانونية كان لها “مناخ” مختلف عن “مناخ” السوريين، وأن القوانين التي ستنهال عليهم تُستمدّ من “روح قانون الطوارئ”، فالنظام الاستبدادي -كما ذكره مونتسكيو وعَهِدهُ السوريون- لا يقيم حسابًا لأي فضيلة سياسية، ويتأسّس أصلًا على الخوف، ليحقق “سلام المقابر” وصمت المدن التي يرابط العدو على أطرافها بغرض احتلالها.