سلّط الدكتور عزمي بشارة، في لقائه الأخير المفتوح مع (التلفزيون العربي)، الضوء على مسألة فشل السوريين في العمل المؤسسي، وقد دفعتني هذه الإضاءة إلى التفكير مرة أخرى في هذه المسألة التي لعبت دورًا رئيسًا في فشل انتفاضة الشعب السوري، التي انفجرت في آذار/ مارس 2011 طلبًا للحرية وتجاوز الاستبداد إلى الديمقراطية وتداول السلطة، في أن تحقق الغايات التي نهضت من أجلها، على الرغم من الشجاعة والتضحيات الكبيرة، وبخاصة فشلهم في تكوين مبادرة سورية جامعة كبيرة تكون قادرة على فرض ذاتها، كما دفعتني إلى التفكير في المسألة الأهمّ: “ما يجب ويمكن فعله”، وهو ضرورة المبادرة للقيام بعمل مؤسساتي كبير، خاصة أن مجموعات كثيرة تُعرب اليوم عن ضرورة هذه المبادرة، وهذا يعكس وجود إدراك عميق لأهمية العمل المؤسسي، ووجود استعداد للالتزام به.
ولعلّ من المهمّ أن نشير إلى أن هذا “المرض العضال” ليس جينيًا وراثيًا، بل هو مكتسب، وقد اكتسبه السوريون يوم بدأت أنظمة مستبدة تحكمه وتكتم أنفاسه، فقبل 1958 نما العمل المؤسسي في سورية نموًا كبيرًا، وتشكلت أحزاب صبغت الحياة العامة في سورية بصبغة سياسية قوية، وتشكلت النقابات والجمعيات، ونمت منظمات المجتمع المدني، وكانت التظاهرات والإضرابات جزءًا من الحياة العامة، وكان من اللافت أن العديد من الشركات الكبرى التي قامت قبل 1958 كانت شركات مساهمة، يتشارك فيها عدد من كبار رجال الأعمال مع آلاف المستثمرين الصغار، مثل معمل إسمنت دمّر، ومعمل زجاج دمّر، ومعمل إسمنت حماة، والشركة الخماسية وغيرها.
بدأت حالة النفور من العمل المؤسسي مع عهد الوحدة السورية المصرية شباط 1958 – أيلول 1961، واستمرت مع سلطة البعث بدءًا من آذار 1963، بعد استراحة قصيرة بين أيلول 1961 و آذار 1963، ثم تكرّست وتضخمت مع سلطة الأسد المطلقة في تشرين الثاني 1970؛ إذ كانت هذه الأنظمة تقوم على تسليط أجهزة الأمن على الحياة العامة بجوانبها كافة، وزرع مخبريها في كلّ مكان، وربط أعداد كبيرة من العملاء بأجهزة الأمن ممّن يكتبون التقارير، بل حوّلت فرق حزب البعث إلى مكاتب تعمل في خدمتها، وحولت أعضاء النقابات والمنظمات الشعبية إلى مخبرين، وأصبح السوري يُعتقل بسبب كلمة صغيرة، وأحيانًا بسبب تقرير كاذب، ويُودع في المعتقل من دون محاكمة إلى أجل غير مسمى؛ وحرصت الأجهزة الأمنية السورية المستبدة على زرع النزعة الفردية الأنانية، وثقافة “اللهمّ أسألك نفسي”، وعلى منع أي عمل جماعي أيًا كان، فمنعت تنظيم الأحزاب والجمعيات المدنية، ولم يصدر في سورية قانون للأحزاب، لذا كانت جميع الأحزاب السورية غير مرخصة، حتى حزب البعث الذي تُحكَم سورية باسمه، وقامت سلطة البعث باعتقال كل من انضم إلى حزب سياسي أو سعى لتنظيم عمل سياسي، طبعًا عدا الأحزاب التي دخلت خيمة “الجبهة الوطنية التقديمة” التي قامت “بإخصاء” هذه الأحزاب وجعلها عاقرًا. فنمت حالة الشك والاشتباه بالآخر في نفوس السوريين، ومع الزمن، انتشرت عادة الاتهام بالعمالة. وقد شملت الروح الفردية والخوف والشك بالآخر قطاع الأعمال أيضًا، وأصبح رجال الأعمال بعد انقلاب البعث لا يرحّبون بأي شراكة، وأصبحت الشركات جميعها عائلية، وانتشر القول بين رجال الأعمال: “اللي عندو شريك عندو معلّم”، و”العب وحدك بترجع مبسوط”.
من المساعي الأخرى لسلطة الأسد لنشر الروح الفردية، أنها طوال 37 عامًا بين 1963 و 2010، لم تبنِ مسارح ولا دور سينما، بل ضيّقت على الموجود منها من قبل، حتى تحوّل العديد من دور السينما إلى محالّ تجارية، وكان تأسيس دار الأوبرا في دمشق هو المبنى الوحيد الذي شيدته هذه السلطة، ووضعته تحت رقابة أمنية صارمة، بينما بنت بالمقابل نحو 150 مركز ثقافي حكومي في كلّ منطقة أو ناحية في سورية، تعمل تحت رقابة أجهزة الأمن، وتقدم ثقافة معلّبة بعلب سلطوية. وبالمقابل، شجعت انتشار التلفزيونات وإنتاج الدراما السورية، وتساهلت مع دخول “الستالايت”، كي يبقى أفراد العائلة في البيت يجلسون إلى جانب بعضهم صامتين، بدلًا من أحاديثهم المشتركة، يشاهدون برامج التلفزيون ومسلسلاته وأخباره التي يجب أن تبدأ بخبر وصورة عن حافظ أسد، أيًا كان الخبر. في هذا المناخ الأمني، نمت الفردية، وأصبح السوري يبتعد عن أي عمل منظم، بل بات يشتبه في كلّ من يدعو لذلك.
تغليب الجزء على الكل، والثانوي على الرئيسي
أدت سياسات الاستبداد إلى تنمية عامل آخر له جذرٌ في ثقافتنا، نحن السوريين بل العرب عمومًا، يؤدي بنا إلى النفور من بعضنا لأسباب ثانوية، ويجعل عملنا المشترك أمرًا صعبًا، ويأتي ذلك بسبب الأحكام العرجاء التي يحكم بموجبها السوري على السوري الآخر، وردة فعلنا المبالغ فيها على أخطاء الآخرين الصغيرة. حيث أمسينا نغلّب الجزء على الكل، والثانوي على الرئيسي، أي نرفض الشخص الآخر بكليته، إن رأينا فيه خطأ صغيرًا أو اشتبهنا أو ربّما سمعنا بأنه قد ارتكب خطأ ما، أو فَعَلَ أمرًا لا يعجبنا، متناسين صفاته وأعماله الأخرى. وأخذنا نطلق أحكامنا القاسية على بعضنا، بسبب أخطاء بسيطة، أو قول لم يعجبنا من شخص آخر، أو توتر نشأ لأي سبب صغير أو كبير؛ فنرمي بعلاقتنا بالآخر، وأحيانًا بأحد الأصدقاء، ونسارع إلى تصديق النميمة وإلى ترويج الإشاعات، ونرغب في تداولها مع ميل إلى التفسيرات السلبية دائمًا. وهذا يفسر انتشار فيديوهات لبعض الشتّامين الذين لا همّ لهم سوى شتم الآخرين، مخترعين حكايات وأخبارًا وروايات من مخيلاتهم الخصبة.
أذكر ذات مرة، أيام كنت في المدرسة الإعدادية، أن الأستاذ قد رسم نقطةً بقلم الحبر على ورقة بيضاء، وسألنا: “ماذا ترون؟”، فقلنا “نقطة سوداء”؛ فعلّق: “إذن، لم ترَوا الورقة البيضاء، بالرغم من أنها أكبر من النقطة السوداء بمئات المرات”. ثم بدأ يحدثنا عن الأخطاء الصغيرة، وعن ضرورة النظر إليها بموضوعية، ثم قال: “يجب ألا تحجب الأشجار عنّا الغابة”، وشرح معناها، ثم شرح لنا أبياتًا من قصيدة لبشار بن برد:
إذا أنتَ لَمْ تَشرَبْ مِرارًا على القَذَى ….. ظَمِئْتَ وأيّ الناسِ تَصفو مَشَارِبُه
ومَنْ ذا الذي تُرضى سجاياهُ كُلُّهـــا ….. كَفَى المـرءَ نُبْلًا أنْ تُعَدّ مَعَايبُـــــهْ
أسباب مباشرة:
ضمن هذه المناخات، جاءت انتفاضة السوريين مفاجئة دون تحضير، شيء أشبه بـ “القومة” بالعامية، عندما يقوم عوام الناس، بحسّ جماعي من دون تنظيم ولا قيادة، فيدخلون معركة محتدمة، وحينها سيكون من الصعب الانتظام في عمل مؤسسي، وهم يواجهون عدوًا منظمًا ومؤسسًا جيدًا، يملك أجهزة هرمية عديدة بنظام انضباط عسكري، وقد راكم تجارب على مدى أربعة عقود، وكان يُعِدّ ويستعدّ دائمًا لمثل هذا اليوم، ويمتلك مقدرات الدولة بكاملها، وقد سخّرها لمواجهة شعبه الذي قام مطالبًا بحقّه في اختيار قيادته واختيار شكل نظام حكمه، والتخلّص من سلطة مغتصبة مدعومة بقوة من إيران وروسيا؛ فكانت معركة غير متكافئة أبدًا، وعلى الرغم من ذلك، شكل المتظاهرون تنسيقيات تنظم خروج التظاهرات وتنظم التواصل، وشكلوا اتحادات كان لها دور جيد في الشهور الأولى، واستمر دورها بارزًا في السنوات الأولى، وكانت قابلة للتطور، ولكن النظام حرص على دفع الحراك السلمي نحو حمل السلاح، كي لا تبقى الصورة صورة تظاهرات سلمية تواجهها بنادق نظام مستبد، وأراد جرّ الحراك إلى الملعب الذي يمتلك هو تفوقًا فيه، وهو ملعب السلاح، وهو يمتلك منه أكثر بكثير وبفارق كبير. ومع السلاح، أصبح الحراك المعارض المسلح بحاجة إلى تنظيم وانضباط وهرمية أعلى بكثير من مرحلة التظاهرات، ولم يُفلح المعارضون بتنمية وتطوير عمل المؤسسة سريعًا ليلبي متطلبات صراع عسكري مفتوح، مع فارق القدرات الكبير عند النظام، وفي مقابل حماس المتظاهرين وشجاعتهم، كان هناك جنود النظام وميليشياته المجبرون على القتال تحت تهديد القتل، أو المرتزقة الطامعون بالمال والمغانم.
ولأنّ الصراع أصبح يتطلب إمكانات كبيرة لا قبل للمواطنين السوريين بها؛ أصبحت الحاجة إلى المساعدة الخارجية كبيرة، فجاءت هذه المساعدة لتصادر قرار الفصائل المعارضة من أيدي السوريين، وتضعه في أيدي الداعمين بالسلاح والمال، وكان على الداعمين حينذاك أن يشكّلوا غرفة عمليات واحدة وصندوقًا ماليًا واحدًا، وأن ينظّموا مركزَ قيادةٍ، سياسيًا وإعلاميًا وعسكريًا ودبلوماسيًا، واحدًا، على غرار منظمة التحرير الفلسطينية، وقد فعلها الداعمون العرب، مع (فتح) ومنظمة التحرير، إذ حُصر الإمداد بالمال والسلاح بيد ياسر عرفات، فأصبح القرار مركزيًا بيده، وأصبحت (فتح) المنظمة الأكبر، وأصبحت بقية المنظمات الفلسطينية المنضمة إلى منظمة التحرير الفلسطينية عمليًا تحت جناح (فتح) -ياسر عرفات- التي تسيطر على التمويل والسلاح وتتحكم في عملية توزيعه. ولكن هذا النمط من التنظيم الممركز لم يُتبع في دعم المعارضة السورية، بل تُركت الفصائل العسكرية مشرذمة، وصارت تعدّ بالمئات وأصبحت تتنافس بدلًا من أن تتعاون، ويبدو أن وراء هذا الأمر سببين: الأول هو التنافس وعدم التوافق الخليجي، وقد تحدّث عن هذا رئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، في أحد لقاءاته المتلفزة؛ والثاني هو إرادة أوباما الذي كان له قناعته التي تقوم على جملة أسباب: وهي 1) إرضاء إيران التي وضعت عدم إسقاط نظام بشار الأسد شرطًا من ضمن شروط إبرام الاتفاق النووي الذي حرص أوباما على توقيعه بأي ثمن؛ 2) تجربة ليبيا التي قدمت له مثالًا سلبيًا عن نتائج إسقاط النظام عسكريًا، في حال غياب معارضة موحدة مؤهلة للحلول محله؛ 3) قناعة أوباما بعجز المعارضة السورية المشرذمة سياسيًا وعسكريًا عن الحلول محلّ النظام، مما يهدد بالفوضى؛ 4) خشيته من أن سقوط النظام سينتهي بسورية مثل ليبيا: فصائل إسلامية عديدة متنافسة ومتحاربة تنمو بينها فصائل جهادية تسيطر على المشهد.
كان أبرز تجليات هذه السياسة التي تعمّدت الإبقاء على حالة الشرذمة هو تشكيل غرفتي عمليات (الموم) و (الموك) اللتين وضعتا ما يشبه “اللجام” في فم أحصنة فصائل المعارضة المسلحة لتوجهها بحسب إراداتها، فلا تذهب إلى أبعد مما تؤمر به، وكانت إرادة الإدارة الأميركية ألا تنهزم المعارضة، وألا ينهزم النظام. وهذا ما جرى، وأدى إلى دمار عظيم غير مسبوق.
ولكن.. ما العمل الآن؟
لقد انتهينا إلى ما نحن عليه الآن، فسورية مقسمة إلى أربع مناطق سيطرة: (منطقة النظام وتدعمه روسيا وإيران؛ منطقة شرق الفرات تدعمها الولايات المتحدة؛ مناطق “الجيش الوطني” والسيطرة التركية؛ منطقة سيطرة النصرة) إضافة إلى مناطق في البادية تنشط فيها فلول داعش. ومن جهة أخرى، يكاد الصراع العسكري يصل إلى نهاياته، وأصبحت معاناة السوريين لا تُحتمل، ويستمر تراجع اهتمام المجتمع الدولي بالقضية السورية، ويستمر النظام وروسيا في نشاطهم الدولي لإعادة تأهيل النظام وإعادته للساحة الدولية، ومن ثم “عودة حليمة لعادتها القديمة”، وكأن شيئًا لم يكن، وذهاب كل تضحيات الشعب السوري هباءً منثورًا. فهل علينا -السوريين- أن نبقى عاجزين عن العمل المؤسساتي؟
بالرغم من كل ما قلته، فالصورة ليست قاتمة؛ فكثيرٌ من السوريين عملوا في منظمات وفي شركات، ونجحوا، والآن يوجد ما يشبه الـ “فورة” في المطالبة بالعمل المؤسسي، والنقد هو أحد أشكال الدعوة للتحرك والفعل، وتشكيل مبادرة كبيرة لها وزن تستطيع أن تفرض نفسها على اللاعبين والمتلاعبين بمصير السوريين، ويوجد اليوم العشرات من الأحزاب الصغيرة والعشرات من مجموعات (واتساب)، وهي تعمل على نحو منظم جيدًا وبتفاهم جيد بين منظميها، و تضم كل منها عشرات الشخصيات، وبعضها تضم المئات، وجميعها تعبّر عن عميق إدراكها لحاجة السوريين إلى مبادرة كبيرة، يطلقها سوريون ويموّلها سوريون، والأمر الذي ينقصُ هو أن تنهض مجموعة من المبادرين، وتعمل على تحضير إطلاق مبادرة بطريقةٍ تجمع أكبر عدد من هذه المجموعات، وتبدأ بعمل تشاوري طويل النفس فيما بينها، لإطلاق عمل كبير في يوم محدد، وأن تحضر لذلك جيّدًا، وتحدد غاياتها وأهدافها، بوثيقة بسيطة تتضمن أهدافًا وغايات عريضة يُجمع عليها السوريون اليوم، وتقوم على مبدأ الحاجة إلى انتقال سياسي منظم إلى نظام ديمقراطي يحافظ على الدولة، ويعيد بناء سورية، ماديًا ومجتمعيًا واقتصاديًا وسياسيًا وتشريعيًا وثقافيًا، ويجب أن تُطلق هذه المبادرة في يوم واحد، على أن تكون حين إطلاقها ذات جسم كبير منظّمٍ عنقوديًا، بحسب أماكن التواجد، وأن يمتلك هذا الجسم أذرعًا/ مكاتب وفرق عمل متخصصة، من دبلوماسيين وإعلاميين وسياسيين وناشطين، وبرنامج عمل سياسي ودبلوماسي ومدني واجتماعي.. وبذلك تكون مبادرة بكتلةٍ كبيرةٍ تُرغم الجميع على أخذها بعين الاعتبار، وعليها أن تمثل السوريين وتنقل صوتهم، وتُرغم الجميع على الاستماع له، فالسوريون هم أصحاب القضية.
فهل سنرى مثل هذه المبادرة قريبًا؟ الأرض حبلى وننتظر ولادتها!