مع اقتراب موعد الانتخابات الألمانية المقرر إقامتها في شهر أيلول القادم، يزداد صخب الحملات الانتخابية للأحزاب الألمانية التي تتنافس على احتلال مقاعد البرلمان وكرسيّ المستشارية الذي تتربع عليه أنجيلا ميركل منذ 15 عامًا، كثاني أطول فترة حكم لمستشار، بعد هيلموت كول، وأول مستشار ألماني لا يترشح للولاية التالية طواعية.
تغصّ شوارع المدن الألمانية، ومنها برلين، بصور المرشحات والمرشحين، وبعبارات الدعاية السياسية التي باتت مكررة وخالية من التجديد إلى حد بعيد، كما يعتقد العديد من الناس هنا، فالجميع يحاول فعل كل ما هو ممكن من أجل كسب آراء الناخبين، ومن بين هؤلاء الناخبين، تجد الناخبين العرب، وفيهم أعداد متزايدة من السوريين الذين نجحوا في الحصول على الجنسية الألمانية، هؤلاء يراقبون البرامج السياسية المختلفة للأحزاب السياسية، بانتظار يوم الانتخابات، وأبرزها الحزب المسيحي الديمقراطي وشريكه المسيحي الاجتماعي، الاشتراكي الديمقراطي، الخضر، الديمقراطي الليبرالي والحزب اليميني الشعبوي الذي يسمي نفسه “البديل من أجل ألمانيا”.
يرى كثير من المراقبين هنا أن الناخبين العرب لا يمتلكون حتى اليوم ثقلًا انتخابيًا وازنًا، يمكن أن يحدث تغييرًا، ولو كان طفيفًا، في مجريات العملية الانتخابية، لكن هذا لم يمنع بعض الأحزاب من التوجّه إليهم ومنحهم خطابًا خاصًا، للإفادة من أصواتهم في بعض المناطق أو الدوائر الانتخابية التي يتركزون فيها، ومنها حي نويكولن البرليني، على سبيل المثال. ولكن ما هي الدوافع التي تدفع الألمان من أصول عربية نحو التصويت لحزب دون سواه؟
يمتلك المقيمون تاريخيًا من العرب في ألمانيا الذين شهدوا العديد من العمليات الانتخابية في السابق فهمًا واقعيًا للبرامج الانتخابية التي تطلقها الأحزاب هنا، لذلك هم غالبًا لا يرفعون سقف توقعاتهم منها، خاصة ما يتعلق منها بالسياسة الخارجية، وعلى وجه التحديد السياسة التي تلامس القضايا العربية، فالأحزاب السياسية ترسم خطوطًا عامة لسياساتها الخارجية، لكي تترك لنفسها هامش حركةٍ أوسع في تفسير أو ممارسة سياستها الدولية عند وصولها إلى السلطة، ولأنها ستجد نفسها مجبرة على إبرام تحالفات مع أحزاب أخرى تشاركها الحكم كي تتمكن من تشكيل الحكومة. وعلى ذلك؛ فمن غير المرجح أن تجد تباينات فاقعة في برامج الأحزاب السياسية على الصعيد الخارجي، ولذلك لا يمكن اعتبار الأجندة السياسية الخارجية للأحزاب سببًا واضحًا لاستقطاب الصوت العربي في ألمانيا، وأكثر ما يمكن الرهان عليه هنا هو استمرار المواقف المعتدلة تجاه القضايا الكبرى للعرب، مثل قضية فلسطين أو الموقف من الأنظمة الدكتاتورية العربية ومدى عمق العلاقات معها. وليس هناك أوضح مما قاله المستشار الألماني الأسبق هيلموت كول، الذي عرفت فترة حكمه سقوط جدار برلين والوحدة الألمانية، عندما سأله أحد الصحافيين عن ماهية المصالح الألمانية في الشرق الأوسط، فكان جوابه أن “ليس لألمانيا سياسة في الشرق الأوسط بل مصالح”. ومنذ ذلك الوقت، بات الأمر أكثر وضوحًا، فالمصالح الألمانية هي الناظم لعمل السياسة الخارجية قبل كل شيء. وهو ما بات أقرب إلى نهج براغماتي تجري عليه الأحزاب الألمانية، على اختلافها، في الملفّ الخارجي.
بالنسبة إلى اللاجئين السوريين، فإن برامج حزبي الخضر أو الاشتراكيين ينظر إليها بمنظور إيجابي للغاية، حيث إن وصولهما إلى السلطة من شأنه توفير مناخ أكثر أمنًا لهم، بمعنى انتفاء مخاوف الترحيل التي اشتعلت أخيرًا، خصوصًا عقب القرارات الأخيرة التي ظهرت في الدانمرك وفتحت الطريق أمام نقاش واسع حول إعادة اللاجئين السوريين إلى سورية. كما أن الوعود بمزيد من التسهيلات في الإجراءات المتعلقة في الحصول على الإقامة ولمّ الشمل والحصول على الجنسية الألمانية، بالنسبة إلى اللاجئين الذين يمثل السوريون الكتلة الأكبر فيهم، تُعدّ أبرز النقاط التي من شأنها منح اللاجئين السوريين وضعًا آمنًا في ألمانيا. بالطبع، يمكن النظر إلى ما ورد في برنامج الحزبين أيضًا حول تقييد أو منع بيع السلاح الألماني إلى الأنظمة الدكتاتورية، كنظام الأسد، على أنه عامل إيجابي يُنظر إليه بارتياح.
تحديد سقف أعلى للإيجارات أيضًا يُعدّ أيضًا واحدًا من المسائل المهمة للاجئين السوريين الذين يقيمون في بيوت مستأجرة حتى اليوم، وكذلك تخفيض الضرائب على أصحاب الدخل المنخفض والمتوسط التي أكد عليها حزبا الخضر والاشتراكيين، وكذلك ما جاء في برنامج حزب اليسار، حول تحديد الحد الأدنى للأجور بـ 13 يورو للساعة، الأمر الذي يصبّ في مصالح اللاجئين السوريين الذين يتعرّض قسم كبير منهم للاستغلال، عندما يتم تشغيلهم وفقًا للحد الأدنى للأجور، بسبب حاجتهم إلى العمل.
في الجهة المقابلة، يستهدف برنامج الحزب اليميني الشعبوي اللاجئين؛ إذ إنه يريد العودة إلى مراقبة الحدود، ووضع أسوار حدودية على الحدود لمنع وصول اللاجئين، كما يريد منع قرار حظر الترحيل، ومنع لمّ شمل عائلات اللاجئين، وقد سبق لقيادات من هذا الحزب أن قاموا بزيارات للنظام في سورية، من أجل الإيحاء بأن سورية بلد آمن، بهدف الضغط على اللاجئين السوريين من أجل العودة.
الاندماج في سوق العمل هو أمرٌ جوهري في الخروج من تصنيفات اللجوء أو الهجرة، لكن معايير سوق العمل العالية ما تزال تحول دون إتمام عملية الاندماج هذه، بالنسبة إلى السوريين، ولا يُعرف على وجه التحديد أعداد السوريين الذين تخلصوا من صفة لاجئ إلى اليوم، ولكن المؤكد أن تبعات تفشي فيروس كورونا أثّرت عميقًا في سوق العمل الخاص باللاجئين، وحرمت آلاف السوريين الذين يعملون في مهن، مثل المطاعم والمقاهي والفنادق، من أعمالهم. بصورة عامة، لا تتطرق البرامج الانتخابية إلى هذه الخصوصية، ولكنها تأخذ بعين الاعتبار خططًا وبرامج للتعافي من آثار حقبة كورونا بشكل عام في البلاد.
اعتبارات الجيل الأول من العرب الألمان، في اصطفافهم السياسي، تبدّلت لدى أبنائهم من الجيل الثاني الذين يُقبلون على المشاركة السياسية في الحياة الحزبية وتنويعاتها أكثر من جيل آبائهم، ويمكن تسجيل حضور متزايد لهم، بدءًا من أحزاب اليسار وصولًا إلى الأحزاب ذات الطروحات الليبرالية، كما يمكن مشاهدة عدد من المرشحين من أصول عربية على القوائم الحزبية لمختلف الأحزاب، في إشارةٍ إلى نوع ما من الاندماج في الحياة الحزبية. الجيل الجديد بات يمتلك دوافع لتأييد حزب دون آخر، تراعي جيل الآباء، ولكنها تتشابه مع دوافع أقرانهم الألمان، كتوفير فرص العمل والازدهار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وتبني سياسات تدعم المهاجرين بالتأكيد. بالنسبة إلى اللاجئين السوريين، الأمر ما يزال حاليًا يتوقف عند الجيل الأول، فالحضور الجديد للاجئين منذ العام 2015 ما يزال في مراحله الأولى، لكن هذا لا يمنع من اتخاذ موقف مؤيد لأحزاب دون غيرها، كحزب الخضر الذي تضمّن برنامجه الانتخابي وعودًا وخططًا طموحة تتعلق بالمهاجرين.
الحماسة الواضحة في أوساط اللاجئين لحزب الخضر لم تمنع من اتخاذ موقف عقلاني منه، لجهة أجندته السياسية الخارجية، إذ إنّ تصريحات رئيس حزب الخضر (جيم أوزدمير)، عقب قرار ترامب اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل في العام 2017، التي حثّ فيها اللاجئين على إظهار الامتنان لألمانيا والتوقف عن المشاركة في تظاهرات معادية لإسرائيل، ما تزال ماثلة في أذهان اللاجئين.
الحزب الاشتراكي الديمقراطي أيضًا يمتلك قاعدة واسعة في أوساط اللاجئين السوريين، ولا يمكن أيضًا تجاهل التأييد لحزب السيدة ميركل، الحزب المسيحي الديمقراطي، الذي سهّل وصولهم إلى البلد قبل أعوام، شيء واحد يجعلهم متحفظين في إبداء التأييد الكامل له هو أن السيدة ميركل في طريقها للخروج من الحياة السياسية قريبًا، وليس من ضامن حتى الآن في أن يستمر حزبها أو خليفتها في اتباع سياستها نفسها.
باستثناء حزب البديل من أجل المانيا اليميني الشعبوي الرافض للاجئين والأجانب عمومًا، لا يوجد حزب ألماني لديه أجندة سلبية تجاه اللاجئين السوريين، لكنّ الأحزاب التي تُبدي اهتمامًا واضحًا باللاجئين، فضلًا عن أنها منسجمة مع أدبياتها، تضعُ في الاعتبار تغيّرات المشهد الانتخابي في السنوات القادمة، مع انتقال مزيد من السوريين -سنة بعد أخرى- إلى قائمة المقترعين، الأمر الذي يؤمل معه امتلاكهم لثقل انتخابي يمكن الالتفات إليه، ويكون أكثر تأثيرًا في الحياة السياسة لألمانيا.