لم يعد التبسيط في إطلاق الأحكام مقبولًا، بخصوص التطورات السياسية الحاصلة في بلداننا، كما لم تعد ثنائيات، من مثل الدكتاتورية والديمقراطية أو العسكر والمدنيين أو العسكر والإسلاميين، تفي بغرض التحليل؛ ذلك أن أطراف هذه الثنائيات متداخلة إلى حد بعيد في هذه المرحلة، مع بقاء الأرجحية للحكم الدكتاتوري العسكري، الذي يعدُّ معطًى تاريخينا ثابتًا ومجرّبًا إلى وقت قريب، فيما الحكم المدني في منطقتنا مجرّد تجربة باهتة، جاءت غالبًا على خلفية عسكرية في معظم الجمهوريات العربية، فالرئيس هو إما ضابط سابق في الجيش، وإما قائد لانقلاب تحوّر إلى رئيس، وحكمَ كمدني بمنطق العسكر. بالمجمل، ما تزال التجارب الديمقراطية غضة وغير ناضجة وناكسة، وفي ذلك يكمن بعض التعقيد في مسارات العملية الانتقالية.
ويبدو الصراع بين العسكر والمدنيين على السلطة أكثر وضوحًا، في الدول العربية التي شهدت تطورًا ملحوظًا للمجتمع المدني، كالسودان وتونس، فيما لم تفسح الدكتاتوريات التي حكمت دولًا أخرى، كالعراق وسورية، المجال لقيام أي تنظيمات مدنية مستقلة، وهو أحد أسباب فشل الحل الداخلي وحضور ذلك الكم الكبير من التدخلات الأجنبية في هذين البلدين، والتي “زادت الطين بلّة” وأربكت المشهد السياسي الداخلي، ولو أن حظ العراق في الخروج من محنته أفضل بكثير من سورية الغارقة في القاع.
وسواء جاء التغيير بثورة، كما في تونس، أم جاء بمزيج بين الثورة والانقلاب، كما في السودان، فإن التجربتين شهدتا في الآونة الأخيرة محاولة لافتة للعودة إلى نموذج “مخفف” نوعًا ما من الحكم الدكتاتوري، الذي يجد دعمًا له في الثقافة السائدة، ويستغل حالة الفوضى النسبية المرافقة لأي عملية انتقال ديمقراطي من أجل احتكار السلطة. لكن الفوضى أمر طبيعي إلى حد ما في مثل هذه الحالات الانتقالية، وهي ضرورية لفرز القوى السياسية القابلة للحياة من عدمها، فيما يكمن الفشل في عدم القدرة على “ضبط الفوضى”، بحيث لا تخرج الأمور عن السيطرة، الأمر الذي يمثل هاجس العسكر السودانيين وحجتهم في هذه الأثناء، ولديهم الحل الجاهز من خلال استخدام القوة التي يحوزونها، لتثبيط مجريات العملية الانتقالية، مدفوعين بهاجس المؤامرة التي تحيكها القوى المدنية ضدهم، كما يمكن أن يُفهم من كلام الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في مؤتمره الصحفي الثاني، في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2021. لا ينفي ذلك مسؤولية القوى المدنية المتنافسة على كعكة السلطة قبل أن تنضج، بغياب التمثيل والحجم الحقيقين والأساس القانوني لعملها.
ومن حسن حظ السودان، بالرغم مما حصل، أن التدخل الخارجي المعلن يضغط في اتجاه استكمال العملية الديمقراطية، فقد تفضي الضغوط الخارجية والشعبية الداخلية إلى عودة الشراكة المدنية – العسكرية حتى حصول الانتخابات، ما يسمح بالنمو الهادئ لجنين الديمقراطية، شرط أن يتوافر استقرار نسبي ونمو اقتصادي كافيان لتجاوز هذه المرحلة.
وبالمقارنة مع التجربة الكورية الجنوبية، التي تمت مساندتها ومراقبتها عن كثب من قبل الغرب، فقد مرت فترة الحكم العسكري بصورة معقولة بوجود مؤشرات تنموية مقبولة، حيث لم يتوقف الغرب كثيرًا عند مسألة الدكتاتورية، ما دام الاستقرار الذي توفره مرتبطًا بطفرة من النمو الاقتصادي، باستثناء بعض الانتقادات الخجولة المتعلقة بانتهاك حقوق الإنسان، من وقت إلى آخر.
السودان ليس عصيًّا على عملية الانتقال الديمقراطي، بل إنه المكان الأنسب لتطبيقها، بمجتمعه المدني المتطور وبنيته السكانية المعقدة وأقاليمه المتنوعة وخيراته الكامنة، شرط أن تتضمن الديمقراطية كل أشكال الحوكمة الممكنة
بيد أن الوضع في السودان أكثر تعقيدًا، ولكنه التعقيد الذي يدفع النجاح في حلحلته وتجاوزه إلى تقديم مثال محفّز لشعوب البلدان المجاورة، في أن هناك شكلًا من أشكال الديمقراطية ممكن تطبيقه في نهاية المطاف. من هنا يمكن أن نفسر الاهتمام الغربي بالتجربة السودانية واحتضانها، بعيدًا عن الفهم المبسَّط والتآمري في تفسير المواقف الغربية، وخاصة الأميركية، بأنها داعمة للدكتاتوريات. إن الدول الديمقراطية الغربية تدعم الاستقرار في كل الحالات التي تتحقق فيها مصالحها، ولو عن طريق الدكتاتورية العسكرية، ولكنها تفضل أن يكون الاستقرار على أساس ديمقراطي، إن أمكن، فهو أضمن لتحقيق هذه المصالح على المدى البعيد. ذلك أن الغرب ليس من مهامه خلق التجربة الديمقراطية، إنما احتضانها، وهذا ما لا يفعله في كل الحالات، مع الأسف، بينما تبقى عملية الانتقال الديمقراطي من المهام الملحة لشعوب المنطقة المستيقظة حديثًا فوق ركامٍ من الجهل والتخلف، وفي كنف ثقافة أبوية شاملة.
والسودان ليس عصيًّا على عملية الانتقال الديمقراطي، بل إنه المكان الأنسب لتطبيقها، بمجتمعه المدني المتطور وبنيته السكانية المعقدة وأقاليمه المتنوعة وخيراته الكامنة، شرط أن تتضمن الديمقراطية كل أشكال الحوكمة الممكنة، بما في ذلك الفيدرالية واللامركزية الواسعة. ولو حصل ذلك في السابق، ربّما لم ينفصل جنوب السودان، وقد شجع عليه تعسف نظام البشير وتمييزه بين مواطنيه، كأي حكم دكتاتوري، وما نتج عن ذلك من صراعات دامية كانت أخطرها في إقليم دارفور.
كما يمكن مقارنة التجربة السودانية الديمقراطية المقبلة، التي ستنتصر بعد جولة أخرى أو عدة جولات، بالتجربة الديمقراطية الهندية، فالمشتركات كثيرة بين البلدين، وقد جمعهما المناخ والحكم الاستعماري الإنكليزي، فضلًا عن لباس “الساري” وأشجار “اللبخ”! ويبدو أن تأخر السودان عن الهند في الوصول إلى الديمقراطية مرتبط بامتداده الثقافي نحو الشمال العربي والإسلامي، حيث تواجه عملية التغيير الكثير من العوائق، وفي هذا الصدد، يبرز تأثير النظام المصري الذي يشجع السودان على تقليده وحسده على نعمة “الاستقرار”!