لم تزل السياسة وعلاقتها بالسلطة إلى اليوم محطّ إشكال فكري، وموقع تنازع وصراع، إذ يكون العنف وإرهاق الدماء وسيلة من وسائل تحقيق السياسة أغراضها السلطوية، وذلك حين تكون السلطة غاية ووسيلة بآن، تعبّر عن شهوة غرائزية تعود بالإنسان لما دون مرحلة العقل والآدمية، وهذا إلى اليوم سرّ كارثتنا ونكبتنا.
المسألة السورية، وقد تجاوزت حدود الممكن السياسي، وطفت فيها كل حدود التغول، وزادت في زمنها عن تاريخ حرب عالمية، تكثفت في طياتها كلّ صنوف الجريمة المتسمة باتساع دوائر المشاركين فيها من كل الضالعين في السياسة الدولية، واستدعت في مضامينها غالبية النزعات الثأرية والدموية التاريخية المحلية، وباتت وبالًا على جميع أطرافها.
سيرورة البشر على سطح الكوكب يمكن تلخيصها في القدرة على ممارسة السلطة، وهذه القدرة -بحسب ميشيل فوكو- هي أن تمارس السلطة كسياسة في إدارة شؤون الحكم، لا كنموذج استحواذي للملك دون غيره، فالسلطة بذاتها ليست شرًا يجب التخلص منه، لكنها في الوقت ذاته، ما لم تشكل حدثًا سياسيًا قابلًا للمقارنة والتفاهم العقلي والقيمي، تصبح عبثًا بل كارثة، وأخشى أننا في هذا الموقع تمامًا.
هذه الخشية بالذات، بعد هذا الاستعصاء الأليم في النموذج السوري والفشل الدولي من جهة، وقوى المعارضة والسلطة القائمة من جهة أخرى محليًا، في إيجاد حلّ يوقف حجم كوارثها المتتالية، تقود للبحث عن المفقود في نماذج السياسة التي نمارسها:
- فالسياسة وأسلوب الحكم عربيًا مشتقة من ساس الخيل، أي روّضها وجعلها في خدمة صاحبها، وهي تتناسب مع الحياة ما قبل المدنية المعتمدة على دور الفرد وقدرته على تسيير وقيادة المجتمع والبشر، ولهذا ما زلنا في دول الشرق العربي نسمى دول الرعايا، وهذه الرعايا يسوسها ويروضها الحاكم بطرقه التسلطية الأمنية والنفسية والاقتصادية!
- فيما مثلت سياسة الوصول إلى الغايات، بغض النظر عن الوسائل، سياسة النفعية البراغماتية التي أسسها ميكافيلي في كتابه (الأمير)، وأرادها توصيات عامة للحاكم تحت عنوان السياسة الواقعية، والنفعية والواقعية هذه أساس رائج في عالم مصالح الدول واتفاقاتها دون مستوى القيمة والأخلاق والحقوق العامة، وهذا ما يفسر العجز الدولي إزاء المسألة السورية.
- في حيّز مختلف، قدّمت المادية الجدلية السياسة كفنّ الممكن، بالاشتقاق من إمكانية تغيير الواقع عبر برامج سياسية بأهداف مرحلية واستراتيجية، فالواقع ليس معطيات وحسب في الواقعية السياسية، بل هو إمكانات قابلة للتفعيل. والفكرة في مضمونها الجدلي ذاتُ قيمة فكرية عالية، كونها تسعى لتحقيق أهدافها عبر ربط مصالح الكتل الشعبية بأهداف محددة تشكل قوة ضغط إصلاحي أو تغييري، إلا أنها وقعت، وما زالت تقع، في فخ الإرادوية الذاتية المحضة التي تفرض رؤيتها على الآخر، وتعمل على ليّ عنق الوقائع حسب قراءتها لمعطياته وممكناته، وترفض خلافها من مشاريع، وترفض حتى التشاركية العامة، ما لم تتبوأ فيه مركز القيادة، وهذه ما زالت سمة عامة، لدى غالبية صنوف التيارات المنتمية للنموذج المركزي “المسفيت” سياسيًا، سواء كانت أحزابًا وكتلًا شيوعية أو قومية في راهننا الحالي.
- بينما أن تكون السياسة هي تلازم الفكر والأخلاق في نموذج فكري وسياسي، يجمع بين المصلحة الكلية العامة والقيم الأخلاقية الإنسانية الخيرة مع طريقة عقلانية في دراسة ممكنات الواقع المتعددة. وذلك دون ممارسة الإرادوية في فرض ممكن وحيد أو مصلحة ذاتوية وحيدة وحسب. لقد تمت ممارسة كل نماذج السياسة النفعية، والترويضية العقابية، والإرادوية في الواقع السوري، ولم تنتج سوى المزيد من التشتت والتردي القيمي والأخلاقي والهدر الوطني العام. بينما لازالت ممارسة السياسة كفكر وأخلاق تبحث عن حوامل مجتمعية عامة لها في زحمة المشاريع دون الوطنية، والمؤلم أنها متهمة بالطوباوية، كونها لا تبحث لذاتها عن منفعة سلطوية بعينها!
لا غرابة أبدًا، فإذا كانت النزعة الدينية، في عالمنا العربي، ما تزال ذات مركزية مهيمنة في فهم الكون والعالم وتعتمد قدسية النص، ولا تختلف عن النزعة الشيوعية أو القومية الرغبوية والإرداوية المتشددة في تغليب الفرضية على مجريات الواقع ومتغيراته مضفية عليه صفات قدسية النظرية، وما زالت أداليج طاردة للحريات وتعاقد البشر الرضائي على نموذج حكمهم السلمي والتوافقي والتداولي هي الأكثر هيمنة على مجريات العمل السياسي السوري المعارض والموالي منه؛ فلا غرابة أبدًا أن تجد أن أي معيار للتحليل السياسي والوصول إلى نتيجة فيه سيفتقد أدوات عمله، وبالضرورة ستبقى السلطة مقتل السياسي والسياسيين والمشروع الوطني برمته. فالتفريق بين سلطة وأخرى، وأدوات تشكّل كل منها، تحدده آليات العمل السياسي في هذه السلطة كنتاج لعقد اجتماعي توافقي أو مجرد سيطرة احتكارية لها -بحسب تعبير ماكس فيبر- حينما تكون السياسة كحرفة، فأي مشروع للسيطرة، أي سيطرة، هو ممارسة للعنف الطبيعي بالنتيجة، من حيث الفعل وردة الفعل، وهذا ما يبدو جليًا إلى اليوم.
قد يقول قائل إن هذه الأحكام أيديولوجية معممة، حيث إن غرض المقال ليس التبريرية أو الوصفية الجاهزة، فلكل حسب وجهة نظره أحقية القول والإتيان بأي صفة يريد، لكنّ اللافت للنظر، في سياق سيرورة المعارضة السورية حصرًا دون غيرها، التنامي المفرط في نزعتي العنف المترافقة بالتهكم، مع سيل من الأحكام الجاهزة غير القادرة على إنتاج الجديد أو تطوير أدواتها، بقدر المراوحة بالمكان والتشبث بأداليجها كوصفات جاهزة للنيل من الآخر، أيًا يكن هذا الآخر، فقط لأنه مختلف طريقة وفكرًا وحزبًا. والنتيجة المزيد من الانقسامات والتشظي والتبعثر، ومتابعة محاولة ادعاء قيادة الثورة وأحقيته عند كل الأطراف، فهل تختلف هذه عن تلك في المنافسة الدموية على سلطة بين موالاة ومعارضة!
العقلانية التي تربط بين المصلحة والفكر، بين الأخلاق العامة والمسار السياسي، هي المفقودة اليوم، وهي التي من الممكن أن نستعين بالتاريخ للبحث عنها، وبمقاربات الواقع الحالي بنتائجه للوصول إليها كضرورة وأمر ممكن لم نجربه عموميًا بعد لليوم، وإلا؛ فإن كل القرارات الدولية في الحل السوري، وكل تضحيات السنوات العشر ستذهب هباء مع الريح، وسيبقى السوريون أسرى السلطة، كحالة استئثار وعنف، ولا فرق حينذاك بين انتخابات في السلطة القائمة اليوم، أو انتخابات على موقع ما بين صفوف المعارضة، بينما السلطة كممارسة للسياسة فكرًا وأخلاقًا هي الغائب الفعلي إلى اليوم.
في القرن الثاني قبل الميلاد، تقول الأسطورة البوذية إنه في بدء الكون كان البشر بلا أبعاد مادية ولا يحتاجون إلى طعام أو لباس، وبلا ملكية خاصة أو قوانين أو سلطة. لكن حين أصبحت دورة الكون تأخذ في التغير، وباتوا يشعرون بالحاجة إلى الطعام والملجأ، ظهرت الفروق المادية وجرائم القتل والاعتداء وغيرها، فاجتمع البشر وقرروا تنصيب أحدهم ليحفظ النظام، مقابل جزء مما ينتجونه من حقولهم وقطعانهم، وأطلقوا عليه “المختار العظيم” (ماهاسماتا)، ولقّب بـ “راجا”، لأنه أسعد الناس. وكان هذا الاتفاق أول القوانين التي تجيز التنازل عن بعض الحقوق الفردية، مقابل القبول بمؤسسة السلطة من خارج سلطات البشر الذاتية، وهذا ما نسميه اليوم عقدًا اجتماعيًا يؤسس للعدالة والمواطنة ودولة القانون والدستور العصرية. وأكاد أجزم أن هذا العمل الفكري والأخلاقي هو ما يجب أن تسعى له الوطنية السورية، بالرغم من تشتتها المرير، وهذا ليس بطوباوية سياسية بل هو الواقعية بعينها، والمصلحة العامة بذاتها، وفن الممكن المفقود، والأهمّ منه هو القدرة على ترويض النفوس لا ترويض الآخرين، والغاية كسب معركة وطن سياسية، لا موقعة سلطوية وانتخابية بعينها، فهل هذا صعب؟!