ظهرَت على الساحة الثورية السورية تنظيمات إسلاموية متعددة، غالبيتها ذات أيديولوجية سلفية، ولكنها مختلفة في انتماءاتها المشيخية. وبمعرفتنا لتلك الانتماءات، نستطيع معرفة الانتماء السياسي والإسلامي لها، وتبقى السلفية السرورية واحدة من أهم تلك التنظيمات، لكونها عَمِلت في المجال التنظيمي المؤسساتي للثورة من جهة، وفي المجال الميداني الإغاثي والعسكري من جهة أخرى. وبانخراطها عسكريًا بالثورة السورية، كانت إشارة الاستفهام الكبرى على السلفية السرورية، لكونها خالفت مبدأً من أهم المبادئ التي تأسست عليها.
والسؤال: كيف وُلِدت السرورية؟ وما نبوءتها السياسية التي اشتهرت بها؟ وما دورها في الثورة السورية؟
وُلِدت السرورية بعد معركة “عاصفة الصحراء” التي صدّعت البنيان السلفي مطلع التسعينيات، على يد شيخ إخواني/ سلفي من الذين هاجروا من سورية إلى السعودية، في منتصف ستينيات القرن الماضي، يدعى “محمد سرور بن نايف زين العابدين”، من محافظة درعا.
انتمى “سرور” في بداياته إلى جماعة الإخوان المسلمين، ثم استقال منها تنظيميًا أواخر ستينيات القرن الماضي، إثر الاختلاف داخل الجماعة بين الجناحين: الجناح الحلبي ويمثله سعيد حوّى وعلي صدر الدين البيانوني وعدنان سعد الدين، والقيادة للشيخ عبد الفتاح أبو غدة؛ والجناح الشامي ويمثله موفق دعبول وتيسير العيتي ومحمد الهواري الذين يقودهم عصام العطار، فانحاز الشيخ سرور إلى الجناح الشامي ذي الميول السلفية.
بدأت شهرة التيار السروري، عندما اتخذ خطًا وسطًا بين المدرسة السلفية المحافظة التي رحبت بالوجود الأميركي في السعودية، والمدرسة السلفية الجهادية التي عدّت الوجود الأميركي ردّة عن الإسلام، فدخلت صراعًا دمويًا مع السلطة السعودية، أما التيّار السروري فأعلن استنكاره للتدخل الأميركي، دون أن يدعو إلى تحرك ضده، لكن الحكومة السعودية قامت باعتقال نحو (200) عضو من الجماعة السرورية، وطردت من الوظائف الحكومية كلّ من ينتمي إلى هذا التيار، بعد أن وجّه إلى الحكومة السعودية المذكرة الشهيرة باسم “النصيحة” عام 1992، التي انتقد فيها الحكومة السعودية وطريقة تعاملها مع الأزمات السياسية.
رحل الشيخ سرور من الكويت التي قطن فيها بعد إبعاده من السعودية، نتيجة إخلاله كإخواني بالاتفاق بين الحكومة السعودية وجماعة الإخوان، بأن لا تؤثر الجماعة في أبناء المجتمع السعودي، إذ اعتبرت نشاطه نقضًا للاتفاق، فجاء قرار إبعاده من السعودية إلى الكويت، ثم بريطانيا التي أصدر فيها مجلته الشهيرة “السُنة”، وأسَّس مركز “دراسات السنّة النبوية”، ثم انتقل إلى الأردن فقطر، حيث مات فيها.
المنهج السروري
يُعدُّ التيار السروري من المدارس الإسلاموية التي استطاعت ربط التيارات الدينية المختلفة ببعضها، فقد أخذ شيخها سرور الأنموذج الحركي من جماعة الإخوان المسلمين، كجماعة تعمل في حقل السياسة، لكنها لا تقدم المسألة العلمية الدينية أولًا، كالسلفية العلمية المحافظة، كما أخذ من السلفية المحافظة الاهتمام بالجانب العقدي وتغليب الشرع على المصلحة، بمرجعية ابن تيمية وابن عبد الوهاب، وهكذا جمعت السرورية بين السلفية القطبية والسلفية المحافظة، مما جعل لها أنصارًا كُثرًا في الخليج العربي.
نبوءتها السياسية
شهرة مؤسس المدرسة السرورية سبقت إنشاء المدرسة ذاتها، إذ جاءت بعد تأليفه لكتاب “وجاء دور المجوس”، بداية الحرب العراقية – الإيرانية، نهاية السبعينيات، وقد بيعت منه ملايين النسخ، وعلى الرغم من أن الكتاب حمل اسمًا مستعارًا لمؤلفه “عبد الله الغريب”، فقد كان معروفًا للجميع أن الشيخ سرور هو المؤلف.
والكتاب عبارة عن نبوءة تحذّر الأمة الإسلامية من دور إيران في المنطقة العربية. والأحداث التي تلت صدور الكتاب ودور إيران فيها حتى الربيع العربي تؤكد نبوءات ذلك الكتاب ذي الشهرة الواسعة، مما جعل للشيخ سرور مكانة كبيرة داخل الأسرة السلفية الكبيرة، إنْ صح التعبير. والمفارقة أنّ الجهتين اللتين روّجتا للكتاب كانتا على خلاف مع نهج الشيخ “سرور”، وهما الحكومة السعودية وعراق صدام حسين!
السرورية والمنزلة بين المنزلتين سلفيًا؟
تابعت المدرسة السرورية عملها في اتجاهين بعد اضطهادها في السعودية: الأول ضد المدرسة المدخلية التي كانت تطلق عليها اسمَ “حزب التجريح”، وكان خلافها معها حول موقفها من الحاكم، كما ناهضت المدرسة السلفية الجهادية التي لجأت إلى العنف المسلح، فرفضت العنف.
التمرد الأهم الذي قامت به المدرسة السرورية على المدرسة المحافظة أنها رفضت المبدأ السلفي القائل: “لا عمل قبل العلم”. وطرحت أن السلفي قادر على العمل قبل العلم، بما يتيسر له من العلم، لأن العلم مشواره لا ينتهي، والعمل أمر مستعجل ومطلوب، وهذه الفكرة استعارتها السرورية من أدبيات جماعة التبليغ والدعوة الإسلامية الشهيرة، وأضافت إليها ما تعلّمته من العمل الحركي عند جماعة الإخوان المسلمين، لذلك من ينقد التيار السروري يصفه بأنه مدرسة سلفية المظهر، إخوانية الجوهر.
دورها في الثورة السورية
لم يكن الشيخ سرور بعيدًا عن الشأن السوري، منذ خروجه حتى قيام الثورة السورية، بل كان له وجود عبر التيار السلفي الحركي الذي شكله أبناء العائدين إلى درعا الذين درسوا على يديه في دول الخليج، لكنهم انقسموا إلى قسمين: الأول سلفية محافظة تهتم بتصويب البدع العبادية والعقدية؛ والثاني كان سلفيًا قطبيًا، ويشكل القسمان من نسبة الإسلاميين بدرعا الرّبع تقريبًا.
وإذا كانت المدرسة السلفية المدخلية قد لعبت دور الثورات المضادة في الربيع العربي، فإن المدرسة السرورية لم تكتفِ بدور الداعم للثورات العربية، إنما شاركت فيها، لكنها -وهنا تبرز إشارة الاستفهام- عند مشاركتها بالثورة السورية، انخرطت مبكرًا بالعمل المسلح في درعا وما حولها وريف دمشق، ودعمت فصائل إسلاموية مسلحة، وهذا يتنافى مع مبدئها الذي نشأت عليه، وموقفها من السلفية الجهادية!
بدأ دور السرورية في الثورة بتأسيس رابطة “أهل حوران”، التي اهتمت بالعمل الإغاثي والاجتماعي والثقافي، إلى جانب مشاركة مجاميع مختلفة تتبنى الفكر “السروري”، انخرطت بين الفصائل الإسلامية الأخرى من بينها “هيئة الشام الإسلامية”. وكان نفوذ “السرورية” يتمركز في حوران وريف دمشق، واستطاع الشيخ سرور، بعلاقاته مع شخصيات خليجية ذات ميول سرورية، أن يدعم الثورة ماليًا، فأنشأ عددًا مهمًا من الجمعيات الخيرية والتعليمية، مما جعل التيار السروري يتوسع في جنوب سورية.
كما استطاع الشيخ “سرور”، ببراغماتية سياسية، الجمع بين المتناقضات كافة، تارة بالانفتاح على التيارات السورية المختلفة، وتارة أخرى بالتفاهم مع الحركات السلفية الجهادية كجبهة النصرة، مع استنكاره في الوقت ذاته للفكر “الداعشي” و”القاعدي. وكان من المشايخ القلائل في السلفية عمومًا ممن يجيد العمل السياسي والشرعي بآن واحد، وكانت قناعته أن الثورة سياسية لا إسلامية، ولكن أدواتها الخشنة كانت سلفية. لذلك عندما وقع التقاتل بين الفصائل العسكرية الإسلاموية، شبهه سرور بالتقاتل الأفغاني، وأكد أن مبالغة الشباب المجاهد وحماستهم دفعتهم إلى المطالبة بحكم إسلامي.
تصريحات “سرور” المتناقضة ما بين مدنية الثورة وإسلاميتها، دفعته للدفاع عن “جبهة النصرة”، بداية عملها في سورية، كما حصل مع سياسيين علمانيين آخرين، حيث قال في لقاء معه عام 2012: “لا نريد اختراع أعداء للثورة، ولا نريد استنساخ خلاف الفصائل الأفغانية بسورية، وما سمعناه من ثِقات عن النصرة بأنها غير تكفيرية، ولا تنتمي إلى فكر القاعدة! رغم أن هناك جهات تضخم دور القاعدة لتلحق الأذى بالثورة السورية”.
دور السرورية في إحياء رابطة علماء الشام
الشيخ سرور أحد مؤسسي رابطة علماء الشام، التي أعلنت نفسها كرابطة مشيخية إسلامية لدعم الثورة، وشملت (11) عضوًا مؤسسًا، في كانون الأول/ ديسمبر 2012، منهم جمال الدين السيروان والدكتور محمد لطفي الصباغ، والشيخ سارية الرفاعي وغيرهم، فانتخبوا الشيخ كريم راجح رئيسًا، وأسامة الرفاعي نائبًا له، والرابطة كانت موجودة منتصف القرن الماضي ثم تم حلها.
دور السرورية في إنشاء المجلس الإسلامي السوري
عند إنشاء المجلس الإسلامي السوري، كمرجعية دينية تُصْدِر الفتوى في المسائل التي تحتاج إليها الثورة، لم يكن “سرور” مقتنعًا بفكرة المجلس، لكنه وافق عليه بعدما أقنعه بذلك أحد الأصدقاء، بحسب تصريح الدكتور حسان الصفدي المتحدث الرسمي للمجلس. عقد المجلس لقاءه التأسيسي في إسطنبول نيسان/ إبريل 2014، ليكون المرجعية الدينية للثورة السورية، وضم نحو (120) عضوًا، وقرابة (100) هيئة شرعية تعمل في سورية وخارجها، وكان لرابطة علماء الشام ثلث مقاعد المجلس، وتمثلت فيه جماعة الإخوان المسلمين، من خلال التيار المشيخي في الجماعة الذي يقوده أحمد حوى، نجل الشيخ سعيد حوى.
الخاتمة بعد وفاة مؤسس التيار السروري في قطر، نهاية عام 2016، والإخفاقات الكبرى لثورات الربيع العربي، عاش تياره صراعًا بين الجيل المؤسس والجيل الشبابي المتحمس، فحركية الشيخ سرور وقدرته على التوازن بين المتطلبات المعاصرة شكلت عقبة داخل التيار نفسه بعد رحيله؛ فالجيل الأول المؤسس لم يعد قادرًا على استيعاب الوقائع المتسارعة للأوضاع السياسية والتحديات المعاصرة التي تواجه شباب التيار، فحاول المؤسسون تجديد خطاب التيار، لكنهم لم يستطيعوا إقناع جيل الشباب، الذي وجد في الجيل المؤسس عقبة، فانحاز معظمهم في الحالة السورية إلى السلفية الجهادية، وانخرط في فصائلها العسكرية، وبقيت قلة منهم أقرب إلى الفكر الإخواني.