المحتويات
– مقدمة
1-الزواج في الشرائع الدينية والوضعية
1 . 1 – الزواج في الإسلام
- 2 – الزواج في المسيحية
- 3 – الزواج في المواثيق الدولية
- 4 – الزواج في الدستور السوري
2- الزواج في الواقع السوري الراهن
3- العقبات التي تعرقل الزواج في سورية اليوم
3. 1 – تدهور معدل الدخل
3. 2 – غلاء الأسعار
3. 3 – مشكلة المهور
3. 4 – عقبات أخرى
4- حلول وظواهر إشكالية
4. 1 – الزواج العرفي
4. 2 – زواج القاصرات
4. 3 – الزواج الإلكتروني
4. 4 – زواج المساكنة
4. 5 – زواج التجربة
4. 6 – زواج المتعة
4. 7 – زواج الشغار
4. 8 – البغاء: 12
5- انعكاسات خطيرة على الفرد والمجتمع
– خلاصة
مقدمة:
الزواج سُنّة الحياة الإنسانية المتحضرة، وهو حقّ تضمنه للإنسان كلُّ الشرائع الدينية والوضعية، ولكنه أصبح في وقتنا الراهن، في الظروف المأزومة المستفحلة في سورية في معظم الأحيان، حلمًا قصيّ المنال، ومعضلة عصية الحلّ.
تبحث هذه الدراسة في ما يعترض الزواج اليوم في سورية من عراقيل مختلفة تحول دون القيام به، وتنظر في الحلول والبدائل التي يلجأ إليها الشباب السوري حاليًا، وفي انعكاسات وتبعات كلّ ذلك على الفرد والمجتمع.
1- الزواج في الشرائع الدينية والوضعية:
1 . 1 – الزواج في الإسلام:
أولى الإسلام الزواجَ أهمية كبيرة، لما له من دور جوهري في حياة الفرد والمجتمع، فوضع له القواعد والقوانين الناظمة، وخصّه بالتشريعات اللازمة، ودعا الناس إليه وشجّعهم عليه، وقد ورد ذلك في العديد من الآيات والأحاديث، كقول الرسول: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»، وفي هذا الحديث نرى التركيز على الدور الأخلاقي للزواج الذي يحمي الشباب من الوقوع في المحظورات الجنسية، ومن ثم يحافظ على أخلاقهم بصفتهم أفرادًا، وعلى الأخلاق العامة في المجتمع، وهذا ما تؤكده الآية الكريمة التي يرد فيها: {هنّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنّ} (سورة البقرة: الآية 187)، وفيها -كما يقول الشيخ سامي محمود- يُعتبر كل من الرجل والمرأة سترًا وصيانة للآخر على الدوام، سترًا روحيًا ونفسيًا ([1]).
يرد في القران الكريم: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (سورة الروم: الآية 21)، وهنا نجد وصفًا على درجة عالية من الجمال والرفعة للعلاقة الزوجية، تعتبر فيه آية من آيات الله، وتقترن فيه بالسكينة والرحمة والمودة، وهي قضايا كبيرة الشأن، بالنسبة إلى الوجدان الإنساني والنفس البشرية، وفي هذا يقول الشيخ حسين الخشن: “الزواج يحقق له (أي للإنسان) السكينة النفسية والاجتماعية، وذلك عندما يأوي إلى إنسان ليمنحه السّكن ويهدئ روعه ويزيل همّه، فالزّوج سكنٌ للمرأة، والمرأة سكنٌ للزوج” ([2]).
ويقول الرسول: “من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني”، وفي رواية أخرى: “إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي”، وهنا، كما نرى، يأخذ الزواج أهمية دينية، ويصبح شطرًا من الدين، وهذا ما درج عليه المفهوم الشعبي الذي يقول إنّ “الزواج نصف دين”.
وعن حكم الزواج في الإسلام: أهو واجب أم مستحب؟ يرى كثير من الفقهاء أن الزواج سُنّة مستحبة لمن هو قادر على الزواج، وهو فرضٌ على من هو قادر عليه وكان ذا شهوة لا يستطيع ضبطها، لكيلا يقع في الفاحشة ([3]) ([4]).
وهكذا نجد أن الإسلام يعطي للزواج أهمية كبرى متعددة الجوانب، وذات أبعاد دينية واجتماعية وأخلاقية ووجدانية، إضافة إلى أهميته في تلبية حاجة غريزية طبيعية من حاجات الإنسان، ككائن جنسي.
1. 2 – الزواج في المسيحية:
تتشابه المسيحية مع الإسلام في موقفها من الزواج في معظم القضايا، بالرغم من أن الرهبنة مسموحة ومستحبة فيها.
وعن أهمية الزواج، يقول سفر التكوين من العهد القديم: «لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكونان جسدًا واحدًا» (سفر التكوين، الإصحاح 2، الفقرة 24)، ويقول سليمان الحكيم: «من يجد زوجة يجد خيرًا وينل رضى من الرب» (سفر الأمثال، الإصحاح 18، الفقرة 22)، ويقول بولس الرسول في الفقرتين 8 – 9، من الإصحاح السابع، من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: «ولكن أقول لغير المتزوجين وللأرامل، إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا، ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا، لأن التزوج أصلح من التحرق» ([5]).
يعتبر الزواج في المسيحية التقليدية (الأرثذوكسية والكاثوليكية) “سرًّا مقدّسًا”، فيما يعتبره كثير من البروتستانت “مؤسسة مقدسة” أو “طقسًا مقدسًا” ([6])، وهو أحد الأسرار السبعة التي تعترف بها الكنيسة التقليدية، ويُسمى فيها بـ “سرّ الزواج المقدس” (Holy Matrimony) ([7])، وتشريع المسيحية للرهبنة لا يعني قطعًا أنها تقلل من شأن الزواج أو من احترامه، وإلا ما اعتبرته “سرًا مقدسًا”.
وعن موقف القديس بولس الذي يفضّل البتولية على الزواج -كما رأينا آنفا- يقول القمص أنطونيوس فكري من الكنيسة القبطية المصرية: «نفهم من ردود الرسول أن العلاقات الجسدية من خلال سر الزواج علاقات طاهرة، فالله خلقنا هكذا، ولكن نجد الرسول يفضل البتولية على الزواج، فالموضوع درجات، فهناك درجة أعلى من درجة»، ويضيف القمص: «الزواج خيرٌ من التحرق، في حالة التحرق الزواج هو الأفضل، فالزواج هو القاعدة، والبتولية هي الاستثناء» ([8]).
وفي هذا الكلام، نجد تشابهًا كبيرًا مع الموقف الإسلامي -المذكور أعلاه- الذي يعتبر فيه الزواج فريضة وواجبًا في حالة قوة الشهوة. وكما نرى، فقد حافظ الزواج على أهميته واحترامه في المسيحية، وبقي قاعدة أساسية في الحياة الإنسانية، بل رُفعت قيمته إلى مرتبة الأسرار أو الطقوس المقدسة.
1. 3 – الزواج في المواثيق الدولية:
أولت المنظمات والمواثيق الدولية الحديثة الزواج اهتمامًا لا يقل عن الاهتمام الذي أولته إياه الأديان، وذلك لأهميته القصوى في تنظيم العلاقة بين الجنسين، وفي تأسيس الأسرة التي تُعتبر الخلية الرئيسة والمؤسسة الأولى في المجتمع، وقد اعتُبر الزواج في هذه المواثيق من قبل هذه المؤسسات حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان، ويقع على عاتق الدول الأعضاء في هذه المنظمات أو الموقّعة على هذه المواثيق مسؤولية ضمانه وحمايته، ولتحديد الضوابط والمعايير العالمية المتعلقة بالزواج، وضعت الأمم المتحدة “اتفاقية الرضا بالزواج، والحد الأدنى لسن الزواج، وتسجيل عقود الزواج”، وأقرّتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1964، ودخلت حيّز التنفيذ في 9 كانون الأول/ ديسمبر 1964.
وفي “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” الذي تبنته الأمم المتحدة في 10 كانون الأول/ ديسمبر عام 1948، اعتُبر الزواج أحد هذه الحقوق، إذ نصّت المادة 16 من هذا الإعلان، موثقة ذلك ومحددة النواظم الأساسية للزواج: على أن “للرجل والمرأة، متى أدركا سن البلوغ، حقّ التزوج وتأسيس أسرة، دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين، وهما يتساويان في الحقوق لدى التزوج، وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله، ولا يعقد الزواج إلا برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاء كاملًا لا إكراه فيه” ([9]).
أُوليت الأسرة اهتمامًا كبيرًا في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان بعدّها الوحدة الاجتماعية والطبيعية الرئيسة في المجتمع البشري، وبهذا الشأن، قالت “اللجنة المعنية بالحقوق المدنية والسياسية” في دورتها 39 في عام 1990، في تعليقها على المادة 23 المتعلقة بالأسرة من “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”: تعترف المادة 23 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بأن الأسرة هي الوحدة الجماعية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة. وحماية الأسرة وأعضائها مكفولة أيضًا، على نحو مباشر أو غير مباشر، في أحكام أخرى من العهد ([10]).
1. 4 – الزواج في الدستور السوري:
في ما يتعلق بالزواج والأسرة، تقول المادة 20 من الدستور السوري لعام 2012: «الأسرة هي خلية المجتمع الأساسية وتحميها الدولة، تحمي الدولة الزواج وتشجع عليه، وتعمل على إزالة العقبات المادية والاجتماعية التي تعوقه، وتحمي الأمومة والطفولة وترعى النشّأ والشباب، وتوفّر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم» ([11]). وعلى الرغم من العيوب الكثيرة والكبيرة لهذا الدستور، يجب الاعتراف أن هذه المادة، من الناحية النظرية، ليس فيها أي إشكال منطقي أو أخلاقي، وهي تنسجم وتتوافق مع المواثيق الدولية، ولكن المشكلة هي فعليًا في كون السلطة في سورية على أرض الواقع ليست دولة مؤسسات ولا دولة قانون، ولذلك تبقى النصوص الدستورية والقانونية الجيدة فيها مجرّد حبر على ورق.
قبل عام 2011، كان الزواج مشكلة صعبة الحلّ على الشباب السوريين، بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية، وتدني دخول أكثريتهم من ناحية، وبسبب التعقيدات الاجتماعية من ناحية ثانية، وكان على الدولة أن تتخذ التدابير اللازمة لحلّ كلتا هاتين المشكلتين، ولكن هذا لم يحدث جدّيًا على أرض الواقع. أما بعد 2011، فقد أصبح الزواج فعليًا جزءًا من الكارثة التي غرقت فيها البلاد، وكان أحد أهم أسبابها استبداد وفساد السلطة الحاكمة، وتراكماتهما الوخيمة على مدى عقود.
2- الزواج في الواقع السوري الراهن:
في الواقع السوري الراهن -كما ذكرنا آنفًا- بات ممكنًا القول إن الزواج أصبح بالنسبة إلى معظم الشباب بمنزلة “حلم مستحيل” أو “مغامرة جسيمة الخطر ومجهولة المصير”، وأكثرنا -إن لم نكن كلنا- يعرف العديد من الشباب الذين في عمر الزواج، ولكنهم عاجزون، اليوم وإلى إشعار آخر بعيد ومجهول، عن الزواج، وهذا يرتبط بجملة من العوامل المختلفة، منها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو سياسي أو اجتماعي، وغير ذلك من تداعيات الأزمة التي أنتجها الصراع، وتتمثل العوائق الاقتصادية في تدهور مستوى الدخل، وفلتان الأسعار وارتفاعها الجنوني على كل المستويات، وهذا جعل تكاليف المعيشة اليومية والسكن والأثاث والزفاف باهظة إلى حد غير معقول وغير محمول للأكثرية الساحقة من الشباب، ويضاف إلى ذلك أيضًا غلاء المهور، الذي بات فاحشًا بالنسبة إلى متوسطي الدخل، ويزيد السوء سوءًا، فضلًا عن التعقيدات الجمة والضخمة ذات الطابع الاقتصادي، فهناك التعقيدات القانونية مثل “رخصة الزواج” التي لا يستطيع الحصول عليها من كان متخلفًا عن الخدمة العسكرية الإلزامية أو الاحتياطية، وهم اليوم كثر، وهناك أيضًا عامل عدم الاستقرار، حيث لا يعرف الشاب أو الشابة مصيره أسيبقى داخل سورية أم سيهاجر بسبب الأوضاع المتدهورة، ويخشى الشاب المصير الخطر المجهول الذي ينتظره، إذا سُحب إلى الجيش، فقد يُقتل أو يصاب إصابة دائمة في المعارك، أو يبقى على الأقل فترة مجهولة الطول، بلا دخل.
تلك هي حالة غير المتزوجين من الشباب غير القادرين، اليوم وعلى المدى القريب، على الزواج، لكن حال المتزوجين من الشباب أو من تجاوزوا مرحلة الشباب ليست قطعًا بأفضل، فهؤلاء إما يعانون الأمرّين، من تدهور الوضع المعيشي الذي دفعهم إلى ما تحت خط الفقر، وإما يعانون من النزوح والتشرد، أو من التشتت، أو من جهل مصير أبنائهم أو فقدهم، أو الخوف عليهم من الفقد وسوى من المخاطر الكبيرة المحدقة التي تهدد حاضرهم ومستقبلهم.
وخلاصة الحال أنه في سورية اليوم لا يمكن معرفة أيهما أكثر سوءًا وبؤسًا، المتزوج أم غير المتزوج، فغير المتزوج يرى أنه محروم من حقّ من أكثر الحقوق جوهرية وأساسية في حياته، ولا يعلم مستقبل هذا الحق، أما المتزوج ففي كثير من الأحيان يحسد غير المتزوج، لأنه على الأقل ليس عليه تلك المسؤوليات الأسرية الجسام، التي بات الوفاء بالحد الأدنى منها أمرًا يشبه المعجزة، ولا تلك الهموم التي تثقل كاهله وتبقيه دومًا في حالات القلق على أسرته ورهاب الغد الحادين.
وفي الفقرات التالية، سنتحدث بشكل أكثر تفصيلًا عن العقبات الأساسية التي تعترض وتعرقل سبيل الزواج في سورية، والانعكاسات الخطيرة لذلك على المجتمع السوري.
3- العقبات التي تعرقل الزواج في سورية اليوم:
1. 3 – تدهور معدل الدخل:
ذكرت (هيومان رايتس ووتش)، في تقريرها لعام 2021، أن نسبة السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر، ويفتقدون الأمن الغذائي، قد تجاوزت 80 % عام 2020 ([12]). وقالت منظمة الصحة العالمية في أواسط آذار/ مارس الفائت: إن هذه النسبة قد بلغت90 % ([13]). فيما قال برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة إن 67 % من السوريين صاروا اليوم بحاجة إلى مساعدات شهرية مستمرة لمواجهة الجوع ([14]).
ووفقًا لتحقيق لإبراهيم محمد، الخبير في الشؤون الاقتصادية في مؤسسة (دويتشه فيلله) الإعلامية الألمانية، تم نشره في 14 آذار/ مارس 2021، فقد هبط معدل الأجر الشهري الذي كان يتراوح بين 300 إلى 600 دولار قبل الأزمة إلى ما بين 20 و 50 دولارًا اليوم ([15]).
حتى عام 2019، بلغت نسبة البطالة في سورية حوالي 31.2 % من قوة العمل البالغة 5.396 ملايين شخص، وفقًا لرئيس المكتب المركزي للإحصاء في سورية “إحسان عامر” ([16])، أما الإسكوا، ففي تقرير مشترك لها مع “مركز الدراسات السورية في جامعة سانت آندروز”، تم نشره في 23 أيلول/ سبتمبر 2020، فقالت إن معدل البطالة بلغ، عام 2019، في سورية نسبة 42.3 %، بعد أن كانت 14.9 % عام 2011، وإن سوق العمل قد فقد حتى تاريخه 3.7 مليون فرصة عمل ([17]).
3. 2 – غلاء الأسعار:
قبل عام 2011، كان سعر صرف الدولار 50 ليرة، فيما يتجاوز اليوم 3000 ليرة، وهذا يعني أن الليرة فقدت أكثر من 98 % من قيمتها حتى اليوم، وأن سعر الدولار ارتفع أكثر من 60 مرة، وقد تبعته الأسعار بنفس المعدل تقريبًا بشكل عام، بل تجاوزته بشكل كبير في العديد من الأحيان.
ووفقا لـ “مركز قاسيون” في الداخل السوري، فقد أصبحت قيمة حاجات الأسرة المؤلفة من خمسة أشخاص، في نهاية كانون الثاني/ يناير من العام الحالي، في الشهر من الغذاء حوالي 376,500 ألف ليرة، وقيمة حاجاتها الشهرية هي بشكل عام حوالي 732 ألف ليرة، وهذا بالطبع وفق أسعار ذلك الحين، التي ارتفعت بنسب كبيرة اليوم ([18]).
وهذا يعني -بحسبة بسيطة نحسب فيها متوسط نفقات الفرد الواحد في الشهر- أن شابين مقبلين على الزواج اليوم، متوسط الدخل الشهري لكل منهما هو 60 ألف ليرة -علمًا أن كثيرًا من الشباب يحصلون على رواتب أقل من ذلك بكثير- لن يكفيهما في اللحظة الراهنة راتباهما حتى للغذاء وحده، وإن كان كلاهما موظفين، وهذا من دون احتساب مصاريف السكن والصحة واللباس والنقل والاتصالات وفواتير الماء والكهرباء والمحروقات وسواها، وستكون، بالنسبة إليهما، تكاليف الزفاف خيالية، فمثلًا، كلفة قاعة حفل الزفاف بحضور 100 شخص قد تتجاوز المليون ونصف المليون ليرة سورية في دمشق، بحسب أسعار أيلول/ سبتمبر 2020 ([19]).
وإذا أراد هذان الشابان استئجار منزل في دمشق، مثلًا، فمجموع راتبيهما معًا لن يكفي لاستئجار منزل، فوفقًا لتقرير نشرته صحيفة “تشرين” الحكومية، في 3 تموز/ يوليو 2020، ارتفعت إيجارات المنازل في مدينة دمشق بنسبة تجاوزت 75 %، وسجّلت أرقامًا قياسية راوحت بين 200 و300 ألف ليرة سورية، وقد ذكرت الصحيفة أن أصحاب المنازل يطلبون في معظمم الحالات دفع إيجار سنة كاملة مقدمًا، أو على الأقل يطلبون دفع إيجار ستة أشهر في بعضها ([20])، ويذكر موقع “عنب بلدي” الإلكتروني، نقلًا عن أحد المكاتب العقارية في مدينة دمشق، أن أسعار الإيجار تتراوح في مدينة دمشق بين 150 ألفًا و250 ألف ليرة، أما في الضواحي فتصل إلى 100 ألف ليرة سورية، ولكنها قد تقل نسبيًا في بعض المناطق الأخرى، ففي ببيلا، مثلًا، يبلغ الإيجار الشهري لمنزل بمساحة 75 مترًا 55 ألف ليرة ([21])، وهذه أسعار تموز/ يوليو 2020، وكان فيها سعر صرف الدولار في السوق أقلّ من 2500 ليرة ([22]) ([23]).
وإذا أراد هذان الشابان شراء بعض الآثاث الأساسي، مثلًا، فسيكون عليهما دفع مبالغ تتراوح بين مئات ألوف وملايين الليرات، وسيكلفهما هذا راتبيهما لمدة أشهر أو سنة أحيانًا لشراء بعض ذلك، وسيكونان محظوظين جدًا مثلًا، إن وجدا غرفة نوم مستعملة رخيصة بسعر 750 ألفًا، ولن يحلما حتى بشراء طقم كنبات مستعمل قد يتراوح سعره بين مليون ونصف ومليونين ونصف المليون من الليرات، وربما أكثر ([24])، وسيحتاجان إلى أكثر من مليوني ليرة لشراء براد وغسالة ([25]).
3. 3 – مشكلة المهور:
غلاء المهور عقبة كأْداء أخرى تضاف إلى العقبات الجسيمة التي تقف في وجه الزواج في سورية، كأن غيرها من العقبات العديدة والكبيرة لا يكفي، فالمهور، بدورها، ارتفعت كثيرًا خلال سنوات الأزمة، كأنها تحاول مجاراة سواها من الأسعار التي ارتفعت بشكل فاحش.
عن المهور في سورية، وفي حديث له لـ “هاشتاغ سوريا”، أفاد القاضي الشرعي الأول بدمشق محمود المعراوي، في تموز/ يوليو عام 2019، أن متوسط المهور في سورية هو 500 ألف مقدمًا و500 ألف مؤخرًا ([26])، فيما كان مهر الفتاة قبل الأزمة وسطيًا 75 ألف ليرة ([27]).
وفي تلك الفترة من عام 2019، كان متوسط رواتب الموظفين في سورية -مثلما كان في عام 2018- حوالي 35 ألف ليرة سورية ([28])، فيما كان سعر صرف الدولار، في حزيران/ يونيو 2019، نحو 600 ليرة ([29]).
وقد أشرنا في الفقرة السابقة إلى سعر صرف الدولار، لأن المهور باتت تتبع سعر صرف الدولار، وبهذا الشأن، علقت الصحافية هيا صالح حمارشة، من “وكالة أنباء آسيا”، في 14 تموز/ يوليو 2020: «بات دارجًا في سورية اليوم، أن يقوم ولي أمر الأنثى، أو الأنثى ذاتها عندما تكون مسؤولة عن نفسها، في موعد تحديد المهر (المقدم والمؤخر)، بإجراء عملية حسابية بسيطة، ألا وهي حساب المهر بحسب سعر الصرف»، وذكرت الصحافية أيضًا أن المهور في سورية تراوحت حينها بين مليونين وخمسة ملايين ليرة سورية ([30]). ويجدر بالذكر أن القاضي محمود معرواي أكّد أن “المهر لن يُحسب بالدولار”، ولكن يمكن الذهاب باتجاه كتابة المهر بالذهب، لضمان حق الزوجة ([31]) .
3. 4 – عقبات أخرى:
إضافة إلى ما تقدم، تعترض الزواج في سورية العديد من العقبات الأخرى، منها، مثلًا، عدم الاستقرار، والتفكير بالهجرة لأسباب مختلفة، وهذا يجعل الشاب أو الشابة الذين في عمر الزواج غير قادرين على الارتباط بشريك، لأن بقاءهما في البلاد غير مؤكد؛ وهناك أيضًا مشكلة الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية ومخاطرها، فإن التحق الشاب بالخدمة، فهو لا يعرف بالضبط متى سينهي هذه الخدمة التي يمكن أن تمتد طويلًا بسبب ظروف الصراع، وإن كان متزوجًا فهذا يعني أن زوجته ستبقى من دون مُعيل، إن لم يكن لديها دخل، أو كان دخلها غير كاف، وسيكون الأمر أسوأ بكثير في حالة وجود أبناء، إن لم يقتل هذا الشاب في العمليات الحربية، أو لم يصب إصابة معيقة، وإن كان خاطبًا أو مرتبطًا، فهو أيضًا لا يعلم متى ستنتهي خدمته ليتم الزواج، ولا يضمن أنه يمكن أن يتمّه، لأنه قد يقتل في معركة أو عمل حربي، أو قد يصاب إصابة بليغة دائمة، وإن كان متخلفًا، فهذا سيجعله مطلوبًا لأجهزة السلطة، ولا يستطيع أن يكون مستقرًا، وسيكون من الصعب عليه إيجاد عمل مستقر ثابت، ولن يتمكن من تسجيل عقد الزواج بشكل قانوني؛ وفضلًا عن ذلك، هناك أيضًا العائق الصحي، فمع غلاء الأسعار الفاحش اليوم، ومع هجرة كثير من الأطباء الأكفاء، أصبحت المشكلات الصحية من المشكلات التي يصعب حلّها، أو يستحيل، وفي بعض الحالات قد تكون العوامل الصحية المختلفة أسبابًا جوهرية لعدم الزواج أو لتأجيله إلى ما بعد حلّها.
4- حلول وظواهر إشكالية:
خلال سنوات الأزمة، تنامت أو ظهرت في المجتمع السوري، على صعد مختلفة، العديد من الظواهر التي لم تكن معروفة أو كانت محدودة سابقًا، وقد امتد هذا بشكل لافت إلى ميدان العلاقات بين الجنسين، فازدادت ظواهر مثل الزواج العرفي، وزواج القـُصّر، والزواج الإلكتروني، وظهرت ظواهر مثل المساكنة وزواج التجربة، وغير ذلك.
4. 1 – الزواج العرفي:
الزواج العرفي ليس ظاهرة جديدة في المجتمع السوري، وكان، سابقًا، موجودًا في الحالات التي لا يمكن فيها أو لا يراد تسجيل عقد الزواج قانونيًا، وهذا كان مرتبطًا عمومًا إما بالزواج من قاصر، وإما بوجود اعتبارات خاصة لدى البعض لإبقاء زواجهم سريًا، كحالة الزواج من امرأة ثانية، وعدم إشهار ذلك بسبب ما يمكن أن يسببه من حرج أو عواقب غير مرغوبة، أو بسبب عدم قدرة الشاب على الحصول على رخصة زواج قانونية لأسباب تتعلق بالخدمة الإلزامية، وأحيانًا بسبب عدم موافقة ولي أمر الفتاة على الزواج، وهذه الظاهرة ازدادت اليوم بشكل جلي، فزواج القاصرات ازداد كثيرًا خلال سنوات الأزمة، كما ازداد أيضًا عدد الشباب المتخلفين عن الخدمة العسكرية، وازداد أيضًا عدد من يستغلون بواسطة الزواج الحاجة والضرورة المتزايدتين عند معظم الناس بسبب الظروف المتردية، من المقتدرين الذين لا يريدون إشهار زواجهم للأسباب المذكورة آنفًا، ولذلك يحوّلون زواجهم العرفي فعليًا إلى زواج متعة، ومن أهم أسباب زيادة حالات الزواج العرفي أيضًا، المصاعب الاقتصادية التي تحول دون إجراء زواج رسمي، فيأتي الزواج العرفي اليوم كبديل لاختصار التكاليف، وفي كثير من الحالات يتم هذا الزواج بشكل سري، ولا سيما في أوساط الطلاب الجامعيين غير القادرين على الزواج الرسمي في مرحلة الدراسة، لكنه كثيرًا ما يتحول إلى زواج رسمي بعد التخرج، وقد اعتبر الدكتور محمود المعراوي، القاضي الشرعي الأول في دمشق، الزواج العرفي زواجًا صحيحًا، إذا ما توافرت فيه جميع أركان وشروط العقد، وإن تم خارج المحكمة، أما رئيس “اتحاد علماء بلاد الشام”، وعميد كلية الشريعة في جامعة دمشق سابقًا، الدكتور محمد توفيق البوطي ، فاعتبر أن الزواج العرفي يشكل خطرًا على المجتمع، ودعا إلى تشديد العقوبة في حال حدوثه([32])، وقد ارتفع عدد حالات الزواج العرفي في سورية كثيرًا خلال سنوات النزاع، ووفقًا لصحيفة “الوطن”، كان عدد العقود العرفية التي تم تثبيتها 1692 عقدًا في عام 2011، وبلغ 7566 عقدًا في عام 2014، ليصل إلى 60 ألف حالة عام 2016 ([33])، ومن مخاطر هذا الزواج الرئيسة أنه لا يضمن حقوق الزوجة عند هجرها أو طلاقها، ويمكـّن الزوج من التنصل من واجباته تجاهها، وقد يكون له انعكاسات صحية واجتماعية خطيرة، في حال كان أحد طرفيه -وبالأخص الزوجة- قاصرًا.
4. 2 – زواج القاصرات:
أما زواج القاصرات، فقد ارتفع بشكل لافت خلال سنوات الحرب، ووفقًا لتصريح لمحمود المعراوي لجريدة “الوطن”، فقد ارتفعت نسبة زواج القاصرات خلال سنوات الحرب إلى 13%، فيما لم تكن تتجاوز 3 % قبلها، وهي في الغالب عقود عرفية ([34])، ويشكل العامل الاقتصادي أحد أهم أسباب زواج القاصرات في ظروف الأزمة المستفحلة في سورية اليوم، حيث يقوم الأهل بتزويج ابنتهم للتخلّص من نفقاتها، وإلقاء هذا العبء على زوجها، وإن كان هذا الزوج متزوجًا من غيرها، أو كان يكبرها بكثير أو كان بعمر أبيها أو جدها ([35])، ومن عواقب زواج القاصرات أنه يجعل المراهقة غير البالغة زوجة وأمًّا، وهي طفلة، فلا تكون مؤهلة عادة من النواحي الاجتماعية والنفسية لتحمل مسؤوليات الزواج، ولا تكون مستعدة أيضًا من النواحي النفسية والبدنية للقيام بدور الأم، فيتسبب ذلك إما بانعكاسات سيئة على صحتها، وإما بطلاقها، وإن استمر فهو، غالبًا، يحرمها من إمكانية متابعة دراستها وحيازة شخصيتها المستقلة الفاعلة اجتماعيًا، ويبقيها تابعة اقتصاديًا واجتماعيًا لزوجها، ويمنعها من امتلاك المؤهلات التربوية للأم الحديثة، التي يرفع التعليم والعمل والنشاط الاجتماعي من إمكانيتها كثيرًا.
4. 3 – الزواج الإلكتروني:
أما الزواج الإلكتروني، فهو ظاهرة حديثة يتم فيها استخدام وسائل الاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي الحديثة بين الأشخاص البعيدين عن بعضهم لإجراء عقود الزواج، عندما يتعذر على هؤلاء الأشخاص، بسبب الظروف المأزومة الراهنة، التعارف والتواصل واللقاء بالشكل الطبيعي. في سورية يسمح القانون للمحاكم الشرعية بتثبيت الزواج، ولو في حالة غياب أحد الزوجين أو كليهما، ويتم ذلك عن طريق وكلاء موكلين بوكالات شخصية رسمية، أو يتم تثبيت الزواج بحضور أهل العروسين والشهود، في حال كان العروسان أو أحدهما في دولة ليس فيها سفارة أو تمثيل دبلوماسي لسورية، ومن مساوئ هذا الزواج أنه في كثير من الحالات لا يكون فيه تواصل وتعارف طبيعي بين العروسين، يمكـّنهما من معرفة بعضهما قبل الزواج، وإضافة إلى ذلك، يمكن ألا تتيح لهما الظروف والتعقيدات الراهنة إمكانية لمّ الشمل الأسري، فيبقى الزواج زواجًا مع وقف التنفيذ، وقد يتم فسخه في المحصلة.
4. 4 – زواج المساكنة:
من الظواهر التي يمكن اعتبارها ظواهر غريبة على المجتمع السوري ذي الطبيعة المحافظة، ظاهرة “المساكنة” أو “المصاحبة”، والبعض يطلق عليها أيضًا تسمية “زواج المساكنة”، ويمكن تعريف المساكنة بأنها علاقة شبه زوجية بين رجل وامرأة، تتم من دون عقد زواج رسمي أو عرفي، ويمكن أن يعيش فيها كل منهما مع الآخر كأنهما زوجان بالفعل، أو يبقى كل منهما في بيت أهله، فيلتقيان ويتواصلان أحيانًا، كما لو كانا زوجين رسميين، وفي علاقة المساكنة قد يكون ثمة اتفاق ضمني على الزواج الرسمي لاحقًا، أو قد يتم الاتفاق على أنها علاقة مؤقتة، وقد يبقى الأمر فيها معلقًا ويُترك للظروف، وقد يخدع فيها أحد الطرفين الآخر ويستغله، وفي هذه الحالة غالبًا ما تكون المرأة هي الضحية، وهذا النوع من العلاقات يتم غالبًا في أوساط المثقفين أو الطلبة الجامعيين، الذين يكون لديهم القدرة لتخطي الحواجز الثقافية والأخلاقية في مجتمعهم، هذا طبعًا إذا لم يكن في الأمر نية خبيثة مبيتة سلفًا لاستغلال الطرف الآخر.
في الآونة الأخيرة، كثر الكلام عن نمو ظاهرة المساكنة في المجتمع السوري، بسبب التدهور الاقتصادي الذي نجم عن الصراع العنيف في البلاد، أو بسبب التداعيات الثقافية والاجتماعية المختلفة لهذا الصراع، مع ذلك، فليس هناك معطيات مؤكدة حول مدى نمو هذه الظاهرة في سورية، وهذا ليس غريبًا، فمثل هذه العلاقة تُعدّ من “الكبائر” في ثقافة محافظة تتسم بالصرامة القصوى في ما يتعلق بالأمور الجنسية، ولا تسمح قطعًا بأي تواصل جنسي إلا في إطار الزواج التقليدي، وتكون عواقب الخرق فيها خطيرة، وبهذا الشأن، تقول الباحثة في علم النفس والاجتماع الأكاديمية أمل حسن: “في ظل الحرب السورية، وفي ظل انعدام الرقابة الاجتماعية، وتدهور الحالة الاقتصادية، وجد كثير من الشباب ضالتهم في زواج المساكنة، واعتبروه حلًا لهم في هذه الظروف”، وتضيف الباحثة أنه لا يوجد في سورية دراسات علمية حول هذه الظاهرة، ولا سيّما بسبب ظروف الحرب، لأن الأشخاص الذين يقومون بمثل هذا العلاقة غالبًا يتكتمون ولا يتحدثون للباحثين ([36]).
المساكنة، عمومًا، قد تكون عواقبها وخيمة، فهي تُعتبر بنظر المجتمع علاقة جنسية غير شرعية، وبالتالي فهي تصبح عارًا وفضيحة إن كُشف أمرها، وبذلك فهي دومًا تعرّض طرفيها لأخطار جسيمة، ويمكن أن تحول المرأة إلى ألعوبة بيد الرجل، ولا سيما الرجل ذي الذهنية الذكورية، الذي كثيرًا ما يرضى لنفسه القيام بعلاقة جنسية غير شرعية من دون إشكالية، ولكنه بالوقت نفسه يعيب ويحتقر شريكته في هذه العلاقة نفسها، ويعتبرها ساقطة ويرفض الاقتران بها، والمساكنة في أحسن أحوالها هي فقط تلبية للحاجة الجنسية، وهذه إحدى وظائف الزواج في المجتمعات المحافظة، لكن وظيفة وغاية الزواج الإنسانية والاجتماعية الكبيرة والمتمثلة بتكوين “أسرة” تبقى فيها غائبة.
4. 5 – زواج التجربة:
بعض من يقومون بالمساكنة، يجدون لها أحيانًا تخريجًا وتبريرًا أخلاقيًا، تحت مسمى “زواج التجربة”، فيدّعون أنهم يقومون فيها بـ “زواج تجريبي”، لاختبار مدى ملائمتهما لبعضهما في زواج رسمي دائم.
“زواج التجربة” -كما طرحه دعاته- هو زواج يتم بعقد يشبه الزواج النظامي، وهذا يعني أنه مختلف جدًا عن المساكنة، ولكنه يختلف عن الزواج الشرعي التقليدي، بوجود شروط غير تقليدية فيه، كاشتراط منع الطلاق لمدة زمنية محددة، أو تأقيت الزواج بمرحلة اختبارية محددة، وقد ظهرت هذه الدعوة بداية في مصر، في محاولة للحد من ظاهرة الطلاق التي تحدث في بواكير الزواج، لكنها رُفضت من قبل الأزهر وهيئة الإفتاء المصرية، ويبدو أنها لقيت بعض الاستجابة في سورية كحل لمواجهة صعوبات الزواج التقليدي، فأصدرت وزارة الأوقاف السورية في شباط/ فبراير الماضي فتوى ببطلان هذا الزواج وبحظره، واعتبرته هدّامًا للأسرة، ومفسدًا للمجتمع، وفيه امتهان للمرأة، وعدم صون لكرامتها وكرامة أهلها ([37]).
4. 6 – زواج المتعة:
إضافة إلى ما تقدم، تكثر في سورية الأحاديث عن ازدياد حالات “زواج المتعة” المعروف تاريخيًا، وهو زواج محرّم في “التقاليد السُنية” ومحلّل في “التقاليد الشيعية”، ويعزو البعض ذلك إلى التغلغل الإيراني الواسع في المجتمع السوري خلال سنوات النزاع، وقد تحدثت صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية، في تقرير لها أواسط عام 2018، عن هذا الموضوع، وقالت فيه إن هذا النوع من الزواج المؤقت الذي قد يدوم ساعة أو يستمر سنوات أصبح منتشرًا في سورية؛ خاصة في ظل ارتفاع نسبة النساء العازبات اللاتي تتجاوز أعدادهن الآلاف ([38])، ووفقًا لموقع “صوت العاصمة” السوري، في 9 أيلول/ سبتمبر 2020، فقد أطلقت جمعية “شريعتي” الإيرانية التي يقع مقرها الرئيس في مدينة “مشهد” الإيرانية، والتي بدأت في العمل مؤخرًا في سورية، مشروعًا لتسهيل إجراءات زواج المتعة في دمشق، ويقول الموقع، نقلًا عن مصادره الخاصة، إن الجمعية افتتحت أربعة فنادق في منطقة السيدة زينب، في مطلع أيلول/ سبتمبر 2020، وخصصتها لإتمام إجراءات زواج “المتعة”، وإنها تتعامل أيضًا مع بضعة فنادق أخرى في مدينة دمشق، ويضيف الموقع أن الجمعية، التي تتخذ من المركز الثقافي الإيراني مقرًا لها، تعرض قائمة مصورة بأسماء أكثر من 200 فتاة في دمشق ([39])، وتشير مصادر أخرى إلى وجود مكاتب مماثلة في مناطق أخرى من سورية، مثل حلب ودير الزور ([40]) ([41]).
ببعض التأمل في هذا النوع من العلاقة التي تسمى زواجًا، يمكن القول إنها في حقيقتها تجارة جنسية، تبيع فيها المرأة جسدها مقابل المال، تحت غطاء شرعي، وبهذا الشكل تتحول المرأة إلى سلعة جنسية، وتُمتهن كرامتها الإنسانية.
4. 7 – زواج الشغار:
إضافة إلى ما تقدم، فقد عاود “زواج الشغار” أو “البدائل”، كما يُسمى بالعامية، الظهور، ولا سيّما في الأرياف، وفيه يتفق رجلان على أن يتزوج كل منهما أخت الآخر من دون مهر، فتكون كل منهما بديلًا لمهر الأخرى، وعنه يقول محمود المعرواي، القاضي الشرعي الأول بمدينة دمشق: إنه زواج باطل عند جمهور الفقهاء، لقول الرسول: “لا شغار في الإسلام” ([42])، ومن أكبر مساوئ هذا الزواج أن طلاق إحدى الزوجتين يمكن أن يغدو سببًا لطلاق الأخرى.
4. 8 – البغاء:
تكثر أيضًا الأحاديث، من دون وجود دراسات موثقة، عن نمو ظاهرة البغاء في سورية، ويمكن عزو أسبابه إلى الانهيار الاقتصادي من ناحية، وإلى الفلتان الأمني والاجتماعي من ناحية ثانية، وإلى العراقيل والتعقيدات التي تعترض الزواج النظامي من ناحية ثالثة، حيث يمكن أن يجد فيه بعض الشبان غير المقتدرين بما يكفي للزواج نوعًا من البديل، لكن حتى هذا البديل -على قبحه- لن يكون مستطاعًا لأغلبية الشبان من المفقرين؛ وليس غريبًا أن تنمو ظاهرة البغاء في الظروف المأزومة الحادة التي يمرّ بها الآن المجتمع السوري، فهذا أمر يحدث عادة في كل حالات الأزمات المشابهة في كل المجتمعات، وبهذا الشأن يشير الأكاديمي المتخصص في علم الاجتماع، د. طلال مصطفى إلى أنه “خلال سنوات الحرب، ازدادت ظاهرة انتشار الدعارة بشكل كثيف جدًا، وخاصة في الملاهي والمراقص؛ حيث تحول سفح جبل قاسيون إلى رمز للدعارة” ([43]).
5- انعكاسات خطيرة على الفرد والمجتمع:
عقد من الصراع، وتأزم جسيم للأوضاع في المجتمع في مختلف الميادين، وآثار وخيمة على كل الصعد، هذا هو واقع الحال في سورية اليوم، ووفقًا لتصريح لمحمود المعراوي لصحيفة (تشرين) الحكومية، في شباط/ فبراير 2017، فقد بلغت نسبة الإناث في المجتمع السوري 65% ([44])، وبلغت نسبة العنوسة 70%، ونسبة الزواج من ثانية 40%، وفقًا لصحيفة البعث الحكومية ([45]).
وقد اقترح المعراوي الزواج من ثانية كأحد الحلول لمواجهة ظاهرة عنوسة النساء، وهو أمرٌ يتفق معه الشيخ علاء حلواني من إدلب، ودعا إليه العديد من شيوخ سورية في المساجد، وحثّوا عليه في خطب الجمع للغاية نفسها ([46])، ويرجع سبب هذا النمو الجسيم في معدل العنوسة النسائية في سورية إلى نقص عدد الذكور فيها، الذين تحول معظمهم بسبب النزاع إما إلى قتلى وإما إلى مفقودين أو معتقلين وإما إلى مهاجرين أو ملتحقين بالخدمة الإلزامية، بالإضافة إلى الأعداد الغفيرة من المعاقين أو المشردين أو المفقرين غير القادرين على الزواج، في ما بقي من الرجال.
وهكذا يكون المجتمع السوري قد دخل في مفارقة طبقية حادة حتى في مسألة الزواج، فصارت قلة من الرجال المقتدرين تتزوج مرتين أو أكثر، مستغلة الظروف المعيشية الحادة، ومعززة بمباركة رجال الدين الرسمية، فيما تعجز الغالبية العظمى من الشباب الذكور عن الزواج إلى أجل غير معروف، وتكابد وطأة ما يمكن تسميته بـ “عنوسة الرجال”، أما الشابات السوريات فصرن مخيّرات بين أن يكن عانسات أو ضرائر أو زوجات مسنّين أو أرامل أو مهجورات أو مطلقات، وقد ارتفعت معدلات الطلاق كثيرًا في سورية، خلال سنوات الحرب وبسببها، ولا سيما بسبب زواج القاصرات والهجرة وفقدان الزوج، ووفقًا للمعراوي، فقد بلغ معدل الطلاق في دمشق 27% عام 2016، وارتفع إلى 31% عام 2017، وتتباين أسباب الطلاق وتتعدد، لكن أبرزها كان سوء الأوضاع الاقتصادية للسوريين بسبب الحرب ([47])، وزواج القاصرات، وهو أحد أكثر أنواع الزواج التي تنتهي بالطلاق، كما أشار المعراوي في تصريح سابق ([48]).
إضافة إلى ما تقدم ذكره من الآثار الوخيمة للنزاع العنيف والطويل في سورية على الزواج، وعبر ذلك على المجتمع، فعدم القدرة على الزواج أو التأخر الكبير في سن الزواج يمكن أن يكون له أيضًا انعكاس ديموغرافي سيئ على مستقبل المجتمع السوري، فيتسبب فيه بنقص المواليد، ومن ثم في انخفاض عدد السكان الذي انخفض كثيرًا بسبب وفيات الحرب والهجرة واللجوء إلى الخارج، وهذه تُعتبر خسارة إنسانية حقيقية كبيرة.
خلاصة:
مما تقدم، نرى مدى جسامة المشكلة، وضخامة الصعوبات التي يواجهها الشباب السوري عند التفكير اليوم في الزواج، وهذه مشكلة خطيرة كمعظم المشكلات العديدة الأخرى التي يعانيها المجتمع السوري المعاصر، وهي معاناة شاقة أخرى تُضاف إلى قوائم المعاناة الكبيرة التي يعانيها الشعب السوري اليوم.
وككل المشكلات الأخرى، هي مشكلة لا حلّ لها على المدى القريب، ولا يمكن قطعًا حلها بمفردها، وهي مرهونة بتحقيق حل سياسي شامل، يوقف النزاع وتداعياته وانعكاساته، ويضع البلاد على طريق التعافي، وهذا أمرٌ ما يزال حتى اليوم بعيدًا.
وقد يكون من اللازم اليوم القول إنه يجب على المجتمع السوري أن يتساعد بشكل فعلي مع الشباب المقبل على الزواج، وذلك عبر التخلي عن التقاليد والعادات المرتبطة بالزواج التي تساعد على جعله اليوم أمرًا غير ممكن، وشيء من هذا القبيل بات يحدث الآن، ولكن مع ذلك، فلو حدثت مثل هذه التسهيلات في تقاليد الزواج، فالقسم الأكبر من الشباب السوري سيبقى غير قادر عليه، وإن تم التساهل في المهور، واختصرت تكاليف الزفاف وما شابه، فستبقى مشكلات المعيشة والسكن والأثاث وتربية الأطفال عويصة بما يكفي لإبعاد فكرة الزواج، أو سيكون على من يقرر الزواج أن يغامر بتحمل شظف العيش وقساوة الحرمان، وهي في أحيان كثيرة تتسبب في طلاق من كانوا متزوجين سابقًا، وصارت اليوم أحد عوامل ارتفاع معدلات الطلاق.
أما البدائل المطروحة أو التي تظهر اليوم، كالزواج من ثانية، أو الزواج العرفي، أو زواج القاصرات، أو المساكنة أو غيرها، فجميعها لا يمكنها أن تكون بدائل صالحة أو ناجحة للزواج الطبيعي النظامي، وقد تم الحديث أعلاه عمّا يرتبط بكل منها من إشكاليات وسلبيات ومساوئ، وهذا الحديث بالطبع لا يستنفد كل مساوئها وسلبياتها وإشكالياتها، وعليه ليس هناك من بديل مناسب للزواج، ولكن الزواج اليوم بات بالنسبة إلى معظم الشباب السوريين حلمًا أشبه بالخيال، ومعضلة أشبه بالتعجيز، وعلى أعداد غفيرة من هذا الشباب أن يتحملوا الحرمان منه، كما يتحملون غيره من الحرمانات من العديد من أساسيات وجوهريات الحياة الأخرى، التي تجعل شبابهم وطاقاتهم وأحلامهم كلها تصبح وقودًا لنيران المصالح الخبيثة في صراعها المسعور في سورية وعلى سورية.
[1] – سامي محمود، الزواج سكن ومودة، منتدى “من فقه الإسلام”، 22-12-2020
[2] – حسين الخشن، الزَّواج.. سكن، موقع بينات، 18-6- 2016.
[3] – هل الزواج واجب أم سنة؟ فتاوى بيديا.
[4] – هل على المرأة إثم إذا لم تتزوج؟ فتاوى بيديا.
[5] – الإصحاح 7 من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، موقع الأنبا تكلا هيمانوت لتراث الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية St-Takla.org.
[6] – Christian views on marriage – Wikipedia.
[7] – سر الزيجة من الكتاب المقدس، أسرار الكنيسة السبعة -6، St-Takla.org
[8] – تفسير رسالة كورنثوس الأولى- الإصحاح السابع، شرح العهد الجديد، القمص أنطونيوس فكري، St-Takla.org
[9] – مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، اتفاقية الرضا بالزواج، والحد الأدنى لسن الزواج، وتسجيل عقود الزواج.
[10] – المادة 23 (الأسرة) – مكتبة حقوق الإنسان بجامعة منيسوتا
[11] –الدستور السوري – وزارة العدل.
[12] – هيومان رايتس ووتش، التقرير العالمي لعام 2021- سوريا.
[13] – تحقيق: سوريا تعيش أحلك لحظاتها ولا أمل في الأفق، دويتشه فيلله (DW)، 16-3-2021.
[14] – إبراهيم محمد، تحليل الاقتصاد السوري بين تدمير مقدراته وضعف فرص تدوير عجلته، دويتشه فيلله (DW)، 14-3-2021.
[16] – مسؤول في النظام يكشف عن نسبة البطالة وأعداد المنشآت المتوقفة في سوريا، زمان الوصل، 18-2-2021.
[17] – 8 سنوات على الحرب.. 442 مليار دولار خسائر الاقتصاد في سوريا، بوابة العين الإخبارية، 24-9-2020.
[18] – عدنان عبد الرزاق، قفزة في تكاليف معيشة السوريين تفاقم الغلاء والجوع، العربي الجديد،15-1-2021.
[19] – حنان الحبش، الزواج في سوريا… فقط للقلة المستطيعة مجلة المجلة، 10-9-2020.
[20] – خولة حفظي، إيجارات المنازل في دمشق ترتفع إلى مستويات غير مسبوقة.. ما الأسباب؟ موقع عنب بلدي، 12- 7- 2020.
[22] – سعر الدولار في سوريا اليوم السبت 4-7-2020 مقابل الليرة السورية في السوق السوداء والبنك المركزي – دليل الوطن.
[23] – الدولار في سوريا اليوم الأحد 26-7-2020 -تعافي الليرة وأسعار السلع في ارتفاع، فلسطين اليوم.
[24] – مفروشات للبيع و الشراء في سورية, Syria, Damascus (2021)
[25] – أكثر من مليونين ليرة لشراء براد وغسالة… أسعار الأدوات الكهربائية والإلكترونية في سورية الليرة اليوم، 17-3-2020.
[26] – ’غلاء المهور يكسر الظهور‘ .. شباب سوريا يعاركون للوصول إلى ’الزواج‘!! وكالة أوقات الشام الإخبارية، 22-7-2019.
[28] – مناف قومان، مستوى المعيشة في سورية، مركز جسور للدراسات، 27-6-2018.
[29] – هكذا تغيرت قيمة الليرة السورية خلال عام 2019 (بيانات توضيحية)، موقع عنب بلدي، 31-12-2019.
[30] – هيا صالح حمارشة، في سوريا .. مهور الزواج تلاحق نشرات سعر الصرف! – وكالة أنباء آسيا، 14-7-2020 .
[31] – القاضي الشرعي الأول المهر لن يُحسب بالدولار .. بل بالذهب،B2B-SY، 24-2-2019.
[32] – الـزواج الـعـرفـي في سورية، موقع خطوات في الاتجاه الصحيح – Syria Steps.
[33] – عبد القادر موسى، كيف أثرت الحرب على الزواج في سوريا؟ أنا برس، 29-4-2020.
[35] – فريق تحقيقات موقع عنب بلدي، مسنون يتزوجون البنات، 28-1-2018.
[37] – الأوقاف السورية تصدر فتوى بخصوص زواج التجربة باطل ومحرم – RT Arabic، 9 -2-2021
[38] – بسمة بن ميلاد، ليبراسيون: عقود زواج المتعة في انتشار متواصل بسوريا، بوابة عربي 21 الإلكترونية،15 -7-2018.
[39] – أحمد عبيد، برعاية إيرانية.. أربعة فنادق في السيدة زينب لإتمام عمليات زواج المتعة، موقع صوت العاصمة، 9-9-2020.
[40] – داريا محمد، أولى محطات انتشار زواج المتعة تبدأ في سوريا، الأيام السورية، 14-9-2020.
[41] – تفاصيل وإجراءات زواج المتعة في دمشق عبر مؤسسة شريعتي، وكالة ستيب الإخبارية، 9-9-2020.
[42] – قاضي شرعي انتشار النكاح المؤقت في سوريا – Sputnik Arabic، 31-3-2017.
[43] – إيمان حمراوي، التردي الاقتصادي يرفع عدد شبكات الدعارة في سوريا، موقع روزنة، 16-10-2020.
[44] – فريق التحقيقات في موقع عنب بلدي، تعدد في الداخل.. طلاق في الخارج، 27-8-2017.
[45] – نسب صادمة للعنوسة وتعدد الزوجات في سوريا! – RT Arabic، 6-5-2017.
[46] – فريق التحقيقات في موقع عنب بلدي، المرجع السابق.
[47] – ارتفاع معدل الطلاق في دمشق.. والسبب غياب الزوج، عنب بلدي، 12-3-2018.
[48]– ليلى سالم، ثلث الزيجات الجديدة تنتهي بالطلاق في سورية، العربي الجديد، 1-8-2017.