مقدمــة:
مبدأ الفصل بين السلطات هو أحد المبادئ الدستورية الأساسية التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطية، وهذا المبدأ يقوم على توزيع وظائف الحكم الرئيسية على هيئات ثلاث، هي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية. ولكن هذا الفصل لا يعني الفصل التام بين السلطات، حيث لا بد من وجود توازن وتعاون بين هذه السلطات ورقابة متبادلة، بما يحقق حماية الدولة وحقوق الأفراد.
يعدّ معظم فقهاء القانون أن الفصل المطلق بين السلطات يتعارض مع وحدة السلطة في الدولة، فالسلطات العامة في الدولة هي في الحقيقة جملة اختصاصات ترتد جميعًا إلى أصل واحد، فسلطة الدولة تمثل وحدة لا تتجزأ، غير أن للدولة وظائف ثلاث هي الوظيفة التشريعية والوظيفة التنفيذية والوظيفة القضائية، وهذه الوظائف الثلاث يجب أن تُوزع على هيئات ثلاث، غير أن تلك الهيئات عندما تباشر تلك الوظائف لا تباشرها باعتبارها سلطات منفصلة يمثل كل منها جانبًا من جوانب السيادة، بل باعتبارها مجموعة من الاختصاصات تصدر من سلطة موحدة هي سلطة الدولة.
وهذه الاختصاصات لا يمكن الفصل بينها فصلًا مطلقًا، لكون هذه الاختصاصات جميعها تُمارَس لتحقيق الصالح العام، ولكونها تتداخل مع بعضها الآخر لدرجة لا يمكن معها الفصل فصلًا مطلقًا. ولأن السلطة التنفيذية هي السلطة التي تقوم بتنفيذ القوانين وبالأدوار والمسؤوليات التنفيذية كافة، كان لا بد من وجود آليات تضمن رقابة البرلمان على أعمالها، وكذلك لا بد من وجود جهة قضائية تضمن دستورية القوانين والمراسيم، بحيث يسير عمل السلطات بشكل منسجم وفقًا لمبدأ سيادة القانون.
الرقابة البرلمانية:
يحتل مبدأ الفصل بين السلطات وما يتبعه من نوعية العلاقة (خاصة المتعلقة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية) مكانة مهمة ضمن المبادئ التي تحكم النظام السياسي السائد لدولةٍ ما، حيث يؤدي إلى أنظمة مختلفة كتلك التي تميز الأنظمة البرلمانية القائمة على الفصل المرن بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، والتوازن الإيجابي بينهما، أو تلك التي تختص بها الأنظمة الرئاسية المبنية على الفصل الجامد بين السلطتين والتوازن السلبي بينهما.
وأيًا كان شكل نظام الحكم، فإن دور البرلمان يتجلى في أمرين هما سنّ القوانين والرقابة البرلمانية على أعمال الحكومة. وتأتي فكرة الرقابة البرلمانية من مبدأ سيادة الشعب، وحق الشعب في الرقابة على أعمال أجهزة الدولة وإداراتها، لكون البرلمان هو الجهة التي تمثل الشعب.
ويمكن تعريف الرقابة البرلمانية بأنها سلطة تقصي الحقائق عن أعمال السلطة التنفيذية، للكشف عن عدم التنفيذ السليم للقواعد العامة في الدولة وتقديم المسؤول عن ذلك للمساءلة. وعلى ذلك، فإن الرقابة البرلمانية تستهدف التحقق من مشروعية تصرفات السلطة التنفيذية وسلامة أعمالها، ومراجعتها إن أخطأت أو قصرت، ومحاسبتها. ويمارس البرلمان أعمال الرقابة وفق القواعد الدستورية التي تحدد نطاق هذه الرقابة وأدواتها ونتائجها.
ووفق سياق الدساتير السورية، فقد منحت هذه الدساتير حق الرقابة البرلمانية على أعمال السلطة التنفيذية، ومكنتها من ذلك بالعديد من الأدوات، ونظمتها الأنظمة الداخلية لمجلس الشعب، حيث أفرد النظام الداخلي لمجلس الشعب بابًا خاصًا تحت عنوان وسائل وإجراءات الرقابة البرلمانية، ويمكن تحديد أهم الوسائل والإجراءات لتحقيق الرقابة البرلمانية في الدستور السوري، وهي:
1 – الأسئلة البرلمانية:
يُعدّ السؤال البرلماني الوسيلة الأولى لمباشرة الوظيفة الرقابة للبرلمان على أعمال الحكومة، وهو حق مقرر لكل عضو من أعضاء البرلمان، يستطيع من خلاله أن يوجّه إلى أي من أعضاء الحكومة أسئلة، في أي شأن من الشؤون التي تدخل في اختصاصهم. وهذا الحق أقره دستور 1950 في مادته الخامسة والستين، كما أقره دستور 1973 في مادته السبعين، وكذلك دستور 2012 في مادته الرابعة والسبعين. وقد أوضح النظام الداخلي لمجلس الشعب آليات توجيه السؤال، وأوجب على السلطة التنفيذية الإجابة عليه خلال شهر على الأكثر. وفي حال لم تكن الإجابة كافية للعضو طالب السؤال؛ يُحال السؤال إلى لجنة مختصة في مجلس الشعب بعد موافقة المجلس على ذلك لتقديم تقرير خاص بذلك يناقش لاحقًا أمام المجلس لاتخاذ الخطوات اللازمة.
2 – طلبات المناقشة:
ويعدّ طلب المناقشة من الوسائل الرقابية الهادئة التي تهدف إلى إجراء حوار بين البرلمان والحكومة، حول موضوع معين، بهدف الوصول إلى فهم مشترك أو اتفاق مشترك حوله. وقد وضع النظام الداخلي لمجلس العشب آلياتٍ لهذه الطلبات، ومنها الحق في المناقشة، لأي لجنة من لجان المجلس، أو لعشرة أعضاء على الأقل. ومن الأمثلة على المناقشة مناقشة بيان الوزارة، وهنا لم يعط دستور 1973 ودستور 2012 للبرلمان سوى حق المناقشة على عكس دستور 1950 الذي أعطى سلطة للبرلمان في منح الثقة لبرنامج الحكومة.
3 – التحقيق البرلماني:
وهو عملية من عمليات تقصي الحقائق عن وضع معين في أجهزة السلطة التنفيذية، تمارسه لجنة من البرلمان بهدف الكشف عن مواطن الخلل أو النقص، سواء من الناحية السياسية أم الاقتصادية أم الاجتماعية، وإعداد تقرير مفصل بنتيجة عملها يرفع إلى المجلس لمناقشته واتخاذ الإجراءات المناسبة بشأنه.
هذه الوسيلة مهمة في سبيل الكشف عن عيوب أداء الحكومة، وهي تختلف عن غيرها من الوسائل، بأنها لا تعتمد على ما يقدمه الوزراء من معلومات وبيانات، وإنما يقوم المجلس بنفسه ومن خلال لجنة خاصة بالتحري والكشف عن المعلومات.
وفي سبيل تمكين اللجنة من أداء مهامها، فقد حدد النظام الداخلي لمجلس الشعب صلاحيات هذه اللجان وزودها بأدوات تستطيع من خلالها تأدية مهمتها، فلهذه اللجنة حق الوصول إلى أي معلومة، واستدعاء أي شخص ترى فائدة من سماع أقواله، وفي حال امتناعه عن الحضور، يمكن إصدار مذكرة إحضار بحقه عن طريق النيابة العامة، كما يحق للجنة، من خلال رئاسة المجلس الطلب من النيابة العامة، تحريك الدعوى العامة بحقه. ويجب على السلطة التنفيذية أن تسهل مهمة التحقيق، وأن تقدم للجنة الوثائق والبيانات والمعلومات التي تطلبها. وبعد إعداد اللجنة لتقريرها، تتم مناقشته أمام مجلس الشعب، وإذا ظهر خلال التحقيق وجود جرائم، أحيلت الأوراق إلى وزير العدل لإجراء المقتضى القانوني.
وبتاريخ سورية، شكل المجلس لجنتين لتقصي الحقائق في الدور التشريعي الرابع (1986-1990) وكان نتيجة التقريرين استجواب الوزيرين المختصين، وبسبب عدم الاقتناع بأجوبتهما، طُلب حجب الثقة عنهما، ووافق المجلس على حجب الثقة، وكان من تداعياتها استقالة الوزارة بأكملها وتشكيل وزارة جديدة عام 1987.
4 – بحث العرائض والشكاوى التي ترد إلى المجلس:
من اللجان الدائمة في مجلس الشعب، لجنة العرائض والشكاوى، وقد تم تعديل اسمها ليصبح “لجنة الشكاوى والمراقبة”، بموجب النظام الداخلي الجديد لمجلس الشعب الصادر عام 2017. هذه اللجنة تختص بالنظر في الشكاوى والعرائض التي ترد إلى مجلس الشعب، وتقوم بدراستها وإحالتها إلى السلطة التنفيذية التي يجب عليها الإجابة خلال شهر على الأكثر، وفي حال عدم القناعة بجواب الحكومة، يمكن للجنة إحالة الشكوى إلى الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، كما تقوم بإبلاغ المشتكي مصير الشكوى. كما للجنة أن تقترح بموجب الشكاوى الواردة القوانين اللازمة لضمان حقوق المشتكين. وفي هذا الصدد، تلجأ بعض الدول إلى تعيين ما يسمى (المفوض البرلماني) وهو موظف عام مستقل عن السلطة التنفيذية، مهمته تحري شكاوى المواطنين ضد الوزارات والهيئات.
5 – الاستجواب البرلماني:
يُعدّ الاستجواب البرلماني من أخطر أدوات الرقابة البرلمانية على أعمال السلطة التنفيذية، فالأدوات السابقة تحمل معنى المعرفة وتبادل الرأي والوصول إلى الحقيقة، أما هذه الأداة فتتضمن اتهام الحكومة كلها أو أحد أعضائها، وغالبًا ما يتبع هذا الإجراء طرح حجب الثقة عن الحكومة أو أحد أعضائها. ويمكن أن تكون الأدوات السابقة مقدمة وتمهيدًا لاستعمال وسيلة الاستجواب. وهذا الحق أقرته الدساتير السورية المتعاقبة، كما بين النظام الداخلي لمجلس الشعب تفاصيل استخدام هذا الحق وآلياته. وهذا الحق ممنوح لأي عضو برلماني، على أن يكون بشكل خطي ويقدم إلى رئيس المجلس، وأن يوضح في الطلب أسبابه وموضوعه. ويحيل رئيس المجلس الطلب إلى السلطة التنفيذية ويدرجه في جدول الأعمال ويحدد موعد مناقشته بعد خمسة أيام.
6 – حجب الثقة عن الوزارة أو أحد الوزراء:
وهو ما يعرف بتقرير المسؤولية السياسية للوزارة، وهو الحق الذي يخوّل البرلمان سحب الثقة من الوزارة كلها أو من أحد الوزراء، متى كان التصرف الصادر من الوزير أو من الحكومة مستوجبًا للمساءلة، ويترتب على هذا التصرف البرلماني وجوب استقالة الوزير أو الوزارة، وذلك نتيجة حجب الثقة عنها.
وفي الدساتير السورية، أُقرّ هذا الحق للبرلمان، ففي دستور 1950 يمتلك البرلمان حجب الثقة، إذا تقدم بالطلب خمسة عشر نائبًا ووافق المجلس بالأغلبية المطلقة على ذلك. أما دستور 1973 وكذلك دستور 2012 فقد اشترطا أن يتم الاستجواب قبل حجب الثقة، وباقتراح يقدم من خمس أعضاء المجلس. وإذا قرر المجلس حجب الثقة؛ وجب أن يبلغ قرار حجب الثقة إلى رئيس الجمهورية فور صدوره. ويترتب على قرار حجب الثقة، تقديم الوزير الذي حُجبت الثقة عنه استقالته إلى رئيس الجمهورية، وإذ كان حجب الثقة عن الوزارة، فعلى رئيس الوزراء تقديم استقالة الوزارة إلى رئيس الجمهورية.
7 – الاتهام الجنائي لرئيس الجمهورية:
إن المشرع الدستوري في سورية أعفى رئيس الجمهورية من المسؤولية السياسية، إلا أنه قرر بأن الرئيس يُسأل من الناحية الجنائية عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه. وقد توسع دستور 1950 في مفهوم الجرائم التي يمكن مساءلة رئيس الجمهورية عنها، فقد نص على مسؤوليته في حالتي خرق الدستور والخيانة العظمى، كما نص على مسؤوليته في الجرائم العادية، أما دستوري 1973 و2012 فقد تحدثا عن مسؤولية رئيس الجمهورية في جرم الخيانة العظمى. وكذلك اختلفت الدساتير السورية في آليات اتهام رئيس الجمهورية، فدستور 1950 ينصّ على ضرورة موافقة الأغلبية المطلقة على إحالة رئيس الجمهورية إلى المحكمة العليا لمحاكمته، بينما تحدث دستورا 1973 و2012 عن ضرورة موافقة ثلثي أعضاء المجلس لاتهام رئيس الجمهورية وإحالته إلى المحكمة الدستورية العليا لمحاكمته. وإذا ثبت للمحكمة إدانة الرئيس، فإنها تصدر حكمها مبرمًا بعقوبة العزل من المنصب وفق ما نص عليه قانون المحكمة الدستورية العليا.
8 – الرقابة المالية:
تكون رقابة البرلمان من خلال رقابته على الموازنة العامة، التي هي أداة السلطة التنفيذية للقيام بمهامها، هذه الرقابة تكون عادة على ثلاث مستويات، أولها الرقابة قبل التنفيذ من خلال الرقابة على مشروع الموازنة وإقرارها، والرقابة خلال التنفيذ من خلال آليات الرقابة البرلمانية، والرقابة بعد التنفيذ من خلال ما يسمى بقانون قطع الحساب.
وقد مكنت جميع الدساتير السورية البرلمان من ممارسة دوره الرقابي على الحكومة، من خلال وجوب عرض الميزانية عليه وإقرارها من قبل مجلس الشعب، وكذلك ضرورة عرض الحسابات الختامية للسنة المالية على مجلس الشعب ويتم قطع الحساب بقانون. ولكن من الناحية العملية فقد جرت العادة -خلال العقود الماضية- أن لا تعرض الحكومة الموازنة على مجلس الشعب إلا بعد انتهاء السنة المالية (رغم وجود نص دستوري يوجب تقديمها قبل شهرين على الأقل من بدء السنة المالية). وذلك كصورة واضحة من صور استهتار الحكومة بمجلس الشعب.
من مجمل ما تقدم؛ نجد أن الدساتير السورية أعطت أدوات واضحة وقوية لممارسة الرقابة البرلمانية على أعمال الحكومة، ولكن هذه الأدوات -عمليًا- كانت جميعها معطلة، وذلك بسبب تكوين النظام الشمولي الذي أخضع عملية الوصول إلى البرلمان برضا السلطة التنفيذية ممثلة بذراعها الأمني والحزبي. ولذلك نجد أن الواقع العملي مختلف تمامًا، فنرى أعضاء مجلس الشعب على أبواب الوزراء والمسؤولين يستجدون طلبات شخصية لهم أو لمعارفهم، إيمانًا منهم وإقرارًا بأنهم أشبه بموظفين لدى الأجهزة الأمنية التي قامت بتعيينهم.
9 – رقابة المحكمة الدستورية العليا:
إن سيادة القانون وسمو الدستور يشكلان أهمّ عناصر إقامة العدل، في ظل ضمانات الاستقلال والنزاهة، ولتحقيق هذه السيادة، لا بد من وجود جهة تقوم على ضمان دستورية القوانين. لذلك نجد في معظم الدساتير الحديثة وجود جهة مستقلة دستورية تقوم بدور الضامن لدستورية القوانين، ومنع أي سلطة من الاعتداء عليه وهي المحكمة الدستورية.
في تعريف المحكمة واختصاصاتها:
نصت المادة 140 من دستور 2012 على أن (المحكمة الدستورية العليا هيئة قضائية مستقلة مقرها مدينة دمشق)، كما نصت المادة 141 على أن (تؤلف المحكمة الدستورية العليا من سبعة أعضاء على الأقل، يكون أحدهم رئيسًا يسميهم رئيس الجمهورية بمرسوم). وقد حددت المادة الثالثة من القانون رقم 7 لعام 2014 (قانون المحكمة الدستورية العليا) وعدد أعضائها بأحد عشر عضوًا.
أما اختصاصاتها فقد حددتها المادة 146 من دستور 2012 وهي:
- الرقابة على دستورية القوانين والمراسيم التشريعية والأنظمة.
- إبداء الرأي بناء على طلب من رئيس الجمهورية في دستورية مشروعات القوانين والمراسيم التشريعية وقانونية مشروعات المراسيم.
- الإشراف على انتخاب رئيس الجمهورية.
- النظر في الطعون الخاصة بصحة انتخاب رئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشعب والبت فيها.
- محاكمة رئيس الجمهورية في حالة الخيانة العظمى.
- يبين القانون اختصاصاتها الأخرى.
وقد بيّن قانون المحكمة الدستورية العليا باقي اختصاصاتها، وهي:
- إبداء الرأي في دستورية اقتراحات القوانين، بناء على طلب من رئيس مجلس الشعب.
- البت في الدفوع المحالة من المحاكم في معرض الطعن بالأحكام بعدم دستورية نص قانوني.
- تفسير نصوص الدستور بناء على طلب من رئيس الجمهورية أو من رئيس مجلس الشعب أو رئيس مجلس الوزراء.
- النظر في فقدان رئيس الجمهورية لأحد شروط الترشيح والبت فيه.
- النظر في فقدان عضو مجلس الشعب لأحد شروط الترشيح والبت فيه.
ومن استعراض اختصاصات المحكمة؛ نجد أنها مقيدة، حيث لا يمكنها التصدي لقضية دستورية القوانين من تلقاء نفسها، وإنما البت في الطلبات المحالة لها.
دور المحكمة الدستورية في الرقابة على دستورية القوانين:
ووفقًا لنصوص الدستور وقانون المحكمة الدستورية العليا؛ نجد أن المشرع أقر ثلاث طرق للرقابة على دستورية القوانين وهي:
أ ـ الرقابة الاستشارية: حيث تختص في إبداء الرأي، بناء على طلب من رئيس الجمهورية، في دستورية مشروعات القوانين والمراسيم التشريعية وقانونية مشروعات المراسيم. وهذا النوع من الرقابة مقيد بطلب من رئيس الجمهورية، ولرأيها هنا الصفة الاستشارية غير الملزم.
ب ـ الرقابة التقريرية: حيث تمتلك الحق بإلغاء القوانين، بناء على تقديم اعتراض من قبل رئيس الجمهورية أو خمس أعضاء مجلس الشعب. كما تمتلك الحق بإلغاء المراسيم التشريعية، إذا اعترض خُمس أعضاء مجلس الشعب على دستورية مرسوم تشريعي.
كما تمتلك سلطة الرقابة التقريرية، من خلال الرقابة بطريقة الدفع، حيث نص دستور 2012 على أنه (إذا دفع أحد الخصوم في معرض الطعن بالأحكام بعدم دستورية نص قانوني، طبقته المحكمة المطعون بقرارها، ورأت المحكمة الناظرة في الطعن أن الدفع جدي ولازم للبت في الطعن؛ أوقفت النظر في الدعوى وأحالت الدفع إلى المحكمة الدستورية العليا).
رقابة دستورية القوانين في الدساتير السابقة:
بدأت الرقابة الدستورية بدستور 1950 الذي نص على إنشاء المحكمة العليا، وأعطاها الحق في مراقبة دستورية القوانين والمراسيم. وقد نص الدستور على أن طلبات الاعتراض على دستورية القوانين قبل إصدارها، تتم بناء على طلب من ربع أعضاء البرلمان أو من رئيس الجمهورية.
بقيت المحكمة العليا حتى الوحدة مع مصر عام 1958، إلا أن دستور الوحدة لم يتطرق إلى موضوع الرقابة الدستورية، وبذلك تكون المحكمة العليا بحكم الملغاة. وبعد الانفصال والعودة للعمل بدستور 1950 لم يعد تشكيلها، وبعد انقلاب حزب البعث عام 1963، انتهى دستور 1950، ولم تلحظ الدساتير المؤقتة في حقبة البعث موضوع الرقابة الدستورية إلى حين صدور دستور 1973. وقد نص دستور 1973 على تشكيل المحكمة الدستورية العليا، وأعطاها سلطة الرقابة على دستورية القوانين والمراسيم دون أن يكون من طرق الوصول إليها الدفع بعدم دستورية القوانين.
تقييم الرقابة الدستورية في سورية:
عمليًا، ومنذ إنشاء المحكمة الدستورية العليا بموجب دستور 1973، وإلى حين انعقاد أعمال اللجنة الدستورية في الشهر العاشر لعام 2019 لم تصدر المحكمة الدستورية أي قرار يتعلق بعدم دستورية قانون أو مرسوم تشريعي، وكانت السابقة الأولى بتاريخ المحكمة، عندما اعترض الأسد على دستورية بعض المواد في قانون مجلس الدولة. وذلك في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019. وبذلك يتبيّن أن المحكمة كانت معطلة تمامًا من الناحية العملية عن ممارسة دورها في الرقابة الدستورية، كما أنها كانت معطلة عن باقي الأدوار.
ومن جهة أخرى، يشوب تشكيل المحكمة الدستورية العليا واختصاصاتها العديد من العيوب، وخاصة لجهة استقلالها، حيث يتم تعيين أعضائها من رئيس الجمهورية، وعدم قدرتها على النظر في دستورية القوانين والمراسيم من تلقاء نفسها. وتحديد الجهات التي يمكنها الطعن أمامها برئيس الجمهورية ومجلس الشعب ومنع غيرهم من الوصول إلى المحكمة الدستورية العليا.
وبمقارنة بين الدستور السوري والدستور التونسي لعام 2014؛ نجد أن الدستور التونسي نص على تشكيل المحكمة الدستورية بواقع 12 عضوًا، يتم تعيينهم بواقع أربع أعضاء لكل من رئيس الجمهورية ومجلس النواب والمجلس الأعلى للقضاء، ويكون تعيينهم لمرة واحدة ولمدة تسع سنوات. وبناء على ذلك؛ فإن هذا التشكيل يضمن قيام المحكمة الدستورية بدورها كجهة ضامنة للفصل بين السلطات، وكذلك مدة التعيين أطول من مدة من قام بتعيينهم من السلطة التنفيذية والتشريعية، وهذا ضامن لكي يكونوا أكثر استقلالًا.
أما الدستور الفرنسي فقد نص على أن المجلس الدستوري يتألف من تسعة أعضاء، يعيّن رئيس الجمهورية ثلاثة منهم، وثلاثة من قبل رئيس الجمعية الوطنية، وثلاثة من قبل رئيس مجلس الشيوخ، ولمرة واحدة لمدة تسع سنوات. كما نص الدستور الفرنسي على وجوب إحالة جميع مشاريع القوانين إلى المجلس الدستوري قبل إصدارها، وليس كما ورد في الدستور السوري، من أن المحكمة الدستورية لا يمكنها النظر في دستورية القوانين إلا بناء على اعتراض يقدم لها.
الخاتمة:
إن معاناة السوريين سببها نظام شمولي استبدادي، سخّر مؤسسات الدولة وسلطاتها لخدمة بقائه، وحوّل الدستور والقوانين إلى أدوات له، سواء بتعديلات أفرغتها من مضمونها، أو ببقاء نصوص دون آليات لتطبيقها. وعلى الرغم من أن مشكلة السوريين تتجاوز النص الدستوري، فإن التغيير لا بد أن يبدأ أو يمر بدستور جديد، يضع أسس سورية المستقبل، وينهي حقبة الاستبداد والانتهاكات، ويؤسس لدولة المواطنة والقانون.
التوصيات لدستور جديد:
لا بدّ للدستور الجديد من مراعاة الأمور التالية:
– أن يضع الدستور آلية انتخابية، تضمن وصول مرشحي الشعب إلى البرلمان، في بيئة آمنة ومحايدة. لأن الرقابة البرلمانية من دون هذه النقطة تبقى مجرد نص.
– أن يتيح الدستور الجديد آليات تضمن تفعيل الرقابة البرلمانية، من خلال فتح جسور بين المجتمع والبرلمان، سواء عن طريق الإعلام الحر، أو منظمات المجتمع المدني، وغيرها.
– أن يضمن الدستور الجديد تشكيل محكمة دستورية، تتمتع بالحيادية والنزاهة والحصانة، وأن يتيح لها ممارسة دورها.
– أن يوسع الدستور الجديد دور الرقابة الدستورية، من خلال تمكين الأفراد والمنظمات من الطعن بعدم دستورية القوانين.
– أن يضمن الدستور الجديد الرقابة السابقة للمحكمة الدستورية، من خلال وجوب عرض مشاريع القوانين والمراسم لها قبل إصدارها.
– أن يتضمن الدستور الجديد توسيع رقابة المحكمة الدستورية، بحيث تشمل القوانين التي تتعارض مع المعاهدات والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.
إن الدستور بناء متكامل، ولا يمكن تفعيل الرقابة البرلمانية والدستورية، إلا من خلال فصل السلطات واستقلال السلطة القضائية، ووجود مؤسسات دستورية تضمن الحقوق والحريات.
__________
(*) بحث مقدم إلى ندوة “تجارب سورية الدستورية” التي عُقدها مركز حرمون للدراسات المعاصرة في مدينة إسطنبول في 21 كانون الأول/ ديسمبر 2019.