1- مقدمة
2- من هم الذين يقولون بمؤامرة الربيع العربي؟
3- هرج ومرج في معسكر المؤامراتيين
4- مواقف متناقضة من الربيع العربي
5- ما حقيقة الدور الغربي في الربيع العربي؟
6- ما سبب رجحان كفة الإسلام السياسي في الربيع العربي؟
7- الربيع العربي من منظور دراسات الثورة
8- خلاصة
1- مقدمة:
مرّ عقدٌ على انطلاقة الربيع العربي، وقد كان عقدًا حافلًا بالتداعيات والأحداث الكثيرة والكبيرة التي ارتبطت بهذا الربيع الذي كان وما يزال له سيناريوهات ومسارات ونتائج وعواقب مختلفة بشكل كبير، بين بلد وآخر، وعلى الرغم من أن هذا الربيع -بكل ما فيه من سلبيات وإيجابيات- أثار دهشة العالم، وحظي بكثير من اهتمام الأكاديميين والمفكرين والسياسيين والإعلاميين وسواهم، فإن كثيرين على الساحة العربية ما زالوا يجاهرون بأعلى الأصوات، بأنّ هذا الربيع هو مؤامرة محبوكة من الخارج ضدّ بلدان المنطقة العربية، وهؤلاء الذين يقفون مثل هذا الموقف تتباين دوافعهم وتصوراتهم في ما يخصّ هذه المؤامرة، كما تتباين أيضًا شخصياتهم ومواقعهم، وتضم طيفًا مختلفًا يمتد من إعلاميي ومثقفي السلطات التابعين أو المأجورين، ليصل إلى أيديولوجيين وأساتذة جامعيين.
لأن الربيع العربي الذي لم يُنجز بعدُ إلا القليل من مهماته، فما يزال في مواجهة قاسية تغييرية مستمرة، على الرغم من أنها تتباطأ حينًا ويخفّ زخمها في حين آخر، فمن الضروري مواجهة كل أنصار “نظرية المؤامرة”، أيًا كانت دوافعهم وتصوراتهم، والردّ عليهم بحزم، وبالأخص أن جيلًا شبّ بين انطلاقة هذا الربيع ويومنا الراهن، وهو جيل يحتاج إلى توضيح حقائق الأمور، وليس هو وحده من يحتاج مثل هذا التوضيح الذي ما يزال يحتاج إليه كثير من شرائح وفئات المجتمعات العربية، التي ما تزال متذبذبة في مواقفها من هذا الربيع، ومشوشة في فهمها له.
2- من الذين يقولون بمؤامرة الربيع العربي؟
فعليًا، هناك أشكال مختلفة من هؤلاء، بعضهم مُغرض ويتعمد عن سبق إصرار وقصد تصوير حراكات وحركات الربيع العربي كحلقات في مخطط تآمري إمبريالي صهيوني، تقف خلفه بشكل رئيس أميركا وإسرائيل وحلفاؤهما في الغرب والشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي، والغاية منه تقويض دول المنطقة، وتفتيتها وتسليمها إلى الإسلاميين المتطرفين، لأن هذا يضمن أمن ومستقبل إسرائيل من ناحية، كما يضمن مصلحة أميركا بشكل خاص، والغرب بشكل عام، عبر استتباع دول، أو دويلات هذه المنطقة التي ستنشأ بسبب الصراعات والنزاعات العنيفة التي ستقسم هذه المنطقة لأميركا والغرب، بواسطة “الإسلاميين” الذين ستؤول إليهم السلطات، وفقًا لما هو مخطط، والذين يخضعون لأميركا وحلفائها، وهذا الخطاب يروجه عادة أتباع ومستخدمو الأنظمة العربية الدكتاتورية التي وصلها الربيع العربي، أو التي تخشى من وصوله أو تجدده فيها، وهذا ليس غريبًا، فهؤلاء يدافعون عن وجودهم ومصالحهم، ضدّ خطر داهم محدق كبير يهددهم، وهو خطر أشعل انتفاضات وثورات، وما زال يشعلها ويُسقط أنظمة، وما يزال يهدد غيرها بالسقوط، ولذا، يسعى المدافعون عن الأنظمة الحاكمة والتابعون لها إلى “شيطنة هذا الربيع”، إلى أقصى حدّ ممكن، ساعين بذلك إلى إبعاد الجماهير العربية عنه، أو دفعها إلى الوقوف ضده.
وبالطبع، تختلف التفاصيل المستخدمة في نشر هذه الدعاية، ففي سورية مثلًا يسهل على أتباع النظام إيجاد الذريعة المناسبة لأطروحة المؤامرة، ألا وهي “وطنية هذا النظام، ومواقفه الوطنية المتمثلة بالمقاومة والممانعة، المستهدفة من قبل الإمبريالية والصهيونية”، لكن في بلدان أخرى كمصر، مثلًا، يصبح عجائبيًا الكلام عن مؤامرة أميركية إسرائيلية على نظام مبارك الذي كان مطواعًا إلى أبعد الحدود لكلّ من أميركا وإسرائيل، ومع ذلك فأطروحة التآمر المزعوم تطرح في كل من مصر وسورية وسواهما من الأقطار العربية بخطوط عريضة مشتركة، وهي تعتبر كل الربيع العربي مؤامرة واحدة لا تتجزأ، ولا تختلف بين دولة وأخرى إلا في تفاصيلها المحلية.
بهذا الشأن، يقول رئيس تحرير موقع “العربي 21″، الكاتب والصحفي فراس أبو هلال: «منذ انطلاق الثورة التونسية المجيدة قبل عشر سنوات حتى اليوم، يتهم البعض الثورات الشعبية العربية بأنها “مؤامرة صهيونية” أو أميركية، بهدف إدانة هذه الثورات، واتهام من قاموا بها ودفعوا أثمانًا باهظة لها بأنهم عملوا بوعي أو بدون وعي ضمن المؤامرة تلك» ([1]).
ومن الأمثلة على النماذج التي تدافع عن الأنظمة العربية، يمكننا أن نذكر أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة الدكتور محمد كمال، أمين التثقيف والتدريب السياسي بالحزب الوطني سابقًا، الذي قال في مقال له، في 14 آب/ أغسطس 2014، في صحيفة “المصري اليوم”: «نحتاج أن نتعلم من هذه التجربة الأميركية في التعرف إلى حقيقة ما حدث في 25 يناير وما بعدها، من خلال إنشاء لجنة مستقلة تتولى تقصى حقائق هذه الفترة والتعرف إلى ملابساتها، وكيف تجمعت خيوط المؤامرة، وما هي الثغرات التي نفذ منها التمويل وتهريب البشر والسلاح، وكيف ازدادت قوة جماعات الإسلام السياسي إلى هذه الدرجة، وكيف تمت إدارة الأزمة، وما هي أوجه القصور في هذا الشأن، وكيف يمكن تلافيها في المستقبل» ([2]).
والدكتور كمال يصف ثورة يناير المصرية بأنها “تجربة أميركية”، وهو يريد إنشاء “لجنة تحقيق” تحقق فيها كمؤامرة أميركية تستهدف مصر، وهذا ليس غريبًا من شخص تولى منصبًا قياديًا رفيعًا في حزب مبارك، لكنه مع ذلك، لا يوضح ما حاجة أميركا إلى التآمر ضد نظام خاضع لها كنظام مبارك، وما البدائل الأفضل التي تتوقعها أو تريدها؟
بالإضافة إلى هذه الفئة المغرضة من “المؤامراتيين”، الذين يدافعون عن أنظمتهم وحكامهم كما هو مقرر لهم أو متوقع منهم أن يفعلوا، هناك آخرون يقومون بهذا لأسباب أخرى، فهناك مثلًا علمانيون لديهم رهاب متضخم من الإسلاميين، وهم لا يتوانون حتى عن التحالف مع الحكام الدكتاتوريين بذريعة التصدي للظلامية والتطرف والتكفير، وهؤلاء بالطبع أرهبهم الحضور والدور الكبيرين للإسلام السياسي في انتفاضات الربيع العربي، في وقت تمرّ فيه المنطقة ككل بحالة من الردة السلفية، ويتنامى فيها التعصب والتطرف والطائفية والعنف، وتكثر وتنشط فيها الحركات المتأسلمة التكفيرية، وعن حالة الرهاب هذه يقول سلامة كيلة: «في العقود الماضية، انتشر الخوف من الإسلاميين الذين أصبحوا قوة حقيقية بعد أن أصبحت تُعتبر قوة المعارضة الأساسية للنظم، لكن هذا الخوف تصاعد بعد الثورات في البلدان العربية. ويمكن القول إن حالة رهاب تتحكم في قطاعات «مدنية» من اليسار إلى العلمانيين. وتقود إلى ضبط الصراع كصراع «مدني/ ديني» ([3])، وبهذا الشأن، يشير الدكتور برهان غليون إلى أن مثل هؤلاء العلمانيين يدعمون النظم الاستبدادية ويغطون على استبدادها ويزينوها، أو يرشون السكر عليها بتحويلها إلى حاجز ضد الظلامية ([4]).
وهناك يساريون، وهم بدورهم يتشابهون مع العلمانيين السابقين، ولديهم الدوافع والمخاوف نفسها من ناحية، ومن ناحية أخرى لديهم ذهنيتهم اليسارية التقليدية، التي لا ترى الثورات إلا من خلال منظورها الأيديولوجي الضيق الخاص، وهؤلاء اليساريون الذين يعتبرون أنفسهم في أكثر الأحيان “ماركسيين”، وتتحول الماركسية لديهم إلى أيديولوجيا إيمانية، لا تختلف في إيمانيتها هذه عن سواها من الإيمانيات الدينية والمعتقدية المغلقة، والتي تسودها ذهنية “الفرقة الناجية”، ولا يدركون أنهم يذهبون في الاتجاه المناقض للمنهج الماركسي، عندما يفسرون تحركات جماهيرية كتحركات الربيع العربي وفقًا لـ “نظرية المؤامرة”، فوفقًا للماركسية: «الثورات السياسية لا تجري بناء على توصيات مسبقة، إنما تأتي حصيلة تطور طبيعي للمجتمع» ([5]).
وإضافة إلى من تقدم، هناك شريحة من هؤلاء المؤامراتيين، هي نفسها لا تستطيع فهم التاريخ فهمًا واقعيًا عقلانيًا، ولا تفهم الجدلية القائمة بين كل مكونات الواقع الاجتماعي، والعلاقة الموضوعية الوثقى بين التناقضات الاجتماعية وردات الفعل الجماهيرية، وهي لا تدرك أن الواقع الاجتماعي له قانونياته الموضوعية التي يتحرك بموجبها، ويرسم مسارات حراكاته وفقًا للظروف والعوامل المتوفرة والقائمة، وليس وفقًا للإرادات والغايات أيًا كان أصحابها، وأصحاب مثل هذه الذهنية لا يرون في التاريخ كله إلا سلسلة من الوقائع التي أنتجتها المؤامرات، ولذا فلا عجب أن يروا في الربيع العربي مؤامرة، كسواه من المؤامرات، فهؤلاء اعتادوا على تفسير كل شيء بالمؤامرة، والمؤامرة لديهم تضم الثورة العربية الكبرى، والثورة الروسية والثورة الفرنسية، والعلمانية والاشتراكية والنسوية والثقافة الجنسية الغربية الحديثة، بل هي تمتد أيضًا لتشمل النظريات العلمية كنظريات نشأة الكون، ونظرية التطور وعلم الأديان، وسوى ذلك، ومن ذلك مثلًا يقول الشيخ حسن حبنكة الميداني: «دبّر اليهود مكايدهم لاستغلال الثورة النفسية التي وصلت إليها الشعوب الأوروبية، ولا سيّما الشعب الفرنسي ذو المزاج الثوري الانفعالي الحاد، فأعدّوا الخطط اللازمة لإقامة الثورة الفرنسية، الرامية إلى تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية» ([6]).
وهناك فريق من هؤلاء المؤامراتيين تعوّدوا على رؤية حالة الركود والاستنقاع التي يغرق فيها العالم العربي تحت نير الدكتاتوريات الحاكمة، حالة سرمدية مطلقة لا يمكن للشعوب العربية أن تخرج منها، وعندما فاجأتهم هذه الشعوب بانتفاضاتها وثوراتها وأذهلتهم وأقضّت مضاجعهم الهاجعة، لم يستطيعوا، وربما لم يريدوا، فهمهما، ولذلك سارعوا إلى وصم هذه الثورات والانتفاضات بالمؤامرات، ليركنوا مجددًا إلى ما اعتادوا عليه من رؤيتهم الراكدة المتوافقة مع حالة الركود التي توهموها سرمدية، من ذلك مثلًا يقول الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ، لصحيفة “الوطن”، الذي يرى أن “يوليو” هي آخر الثورات: «أريد أن أسأل هؤلاء: هل الشاب “بوعزيزى” الذى كان يبيع فاكهة على عربة وجاءت شرطية لتصفعه بالقلم، هو الوحيد الذى تم صفعه؟ وهل خالد سعيد أول مصري تعتدى عليه الشرطة؟ مع الأسف كان هناك افتعال للأحداث، واستُخدمت الآلة الإعلامية الغربية، والتابعة لها فى الدول العربية، لإحداث فوضى عارمة بالمنطقة»، ويقرن الدكتور الدسوقي إطلاق تسمية “الربيع العربي” على هذه المؤامرة بحالات مشابهة مثل “ربيع بودابست” عام 1956، و”ربيع براغ” 1968، وبرأيه فإن تسمية “ربيع” هذه أطلقتها أميركا على هذه الثورات المفتعلة أو المؤامرات التي تسعى أميركا بواسطتها لإسقاط الحكومات الشرق أوسطية، وتقسيمها طائفيًا على أساس مبدأ الفوضى الخلاقة، الذي طرحته كونداليزا رايس وزيرة خارجية الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن ([7])، ولنا هنا أن نسأل الدكتور دسوقي هل يُفترض -برأيه- أن يظلّ الشاب العربي يتلقى الصفعات واعتداءات الشرطة وسواها من أجهزة القمع إلى الأبد، وأن يسكت لكي يبقى بريئًا من وصمة المؤامرة؟ وهل كان د. الدسوقي عاجزًا عن رؤية كل التناقضات والعورات والمفاسد المتفشية في نظام مبارك، من التبعية والانبطاح أمام أميركا وإسرائيل، والتفريط بالثروات الوطنية المصرية، إلى فساد الحزب الحاكم ومؤسسات الدولة، وتفشي الطفيلية والفساد في قطاع الاقتصاد والأعمال، إلى القمع الذي يمارسه البوليس والاستخبارات على الشعب، وتفشي الفقر، وسوى ذلك مما يطول سرده والحديث عنه، وهل يعجز د. الدسوقي عن فهم الرابطة الجوهرية بين هذه المفاسد وبين “ربيع يناير المصري”؟
وما ينطبق على مصر ينطبق على سواها من الدول العربية في معظم ما ذكر، بل إن الحال أسوأ بكثير في بعضها من نواحي عديدة.
يمكن أيضًا إضافة فئة أخرى ممن يصمون الربيع العربي بالمؤامرة خوفًا من قوة الإسلام السياسي في حركات الربيع العربي، وهذه الفئة تضم بشكل عام عناصر من الأقليات الدينية في العالم العربي، الذين كانوا وما يزالون يخشون المتطرفين التكفيريين الذين قاموا بكثير من الأعمال المتطرفة بحق هذه الأقليات قبل وبعد انطلاقة الربيع العربي، وهذا ما انعكس بشكل سلبي كبير على موقفهم منه، ولذا يقف هؤلاء بشدة ضد الربيع العربي الذي تمكن الإسلاميون من خلاله من تعزيز حضورهم السياسي، ويبررون هذا بأن هذا الربيع هو ربيع كاذب، وبأنه مؤامرة أجنبية تستخدم المتطرفين الإسلاميين.
3- هرج ومرج في معسكر المؤامراتيين
من يتابع ما يروّجه هؤلاء المؤامراتيون من خطابات عن مؤامرتهم، يكتشف كمًّا كبيرًا من التناقضات الصارخة في خطاباتهم التي تتناقض جذريًا مع بعضها البعض.
وللمؤامرة بالطبع أشكال عديدة، فهي قد تكون ماسونية، أو نورانية، أو إمبريالية، أو صهيونية أو يهودية عالمية، وقد تكون أيضًا إيرانية أو تركية، أو سوفييتية شيوعية (كما كانت أيام الاتحاد السوفييتي)، أو سوى ذلك، وهي تمتد من عبد الله بن سبأ الذي يجعله بعض هؤلاء المؤامراتيين السبب في الفتن التي حدثت بين الصحابة في صدر الإسلام، إلى برنار ليفي الذي يجعله أيضًا البعض من التآمريين “عرابًا لمؤامرات الربيع العربي” وفق منظورهم.
هناك بالطبع وراء هذا ذهنية قابلة للنظر إلى مجرى الأمور المختلفة بهذا الشكل اللاعقلاني، وهذا يعود بقدر كبير إلى الموروث الثقافي المتوارث من عصر انحطاط الحضارة العربية، وتفشي الجهل والغيبية وتدني مستويات التفكير المنطقي والعلمي، كما أنه يعود بقدر كبير إلى سياسات القمع والتجهيل والتضليل التي تمارسها الأنظمة الحاكمة الدكتاتورية الفاسدة، والتي تسعى فيها عمدًا إلى نشر الجهل وتخريب الثقافة وإشاعة الفساد، لأنها ترى أن هذا يساعدها بشكل جوهري على الاستمرار بالتحكم ببلدانها، إضافة إلى نشر دعاية الاستهداف والمؤامرة الخارجية التي تستهدف بلدانها، التي تروجها إما لتبرير فشلها وفسادها واستبدادها، وإما للتهرب من واجباتها ومسؤولياتها، وإما للظهور بمظهر الحكومات الوطنية المدافعة عن بلدانها والحامية لأوطانها.
هذه المؤامرة التي يلتقي عليها من حيث المبدأ كثيرون، تختلف كثيرًا في تفاصيلها، فيفصلها كلٌّ منهم بالشكل الذي يناسب ذهنيته وهواه.. وبالطبع مصلحته وعصبيته، لذلك يذهب الإسلاميون مثلًا إلى وصم كل ما ينتج في الغرب بأنه مؤامرة، تدخل في عدادها الفلسفات والحراكات والتغيرات الاجتماعية والثورات والصراعات وسواها، وهذا ما يلتقي معهم في كله أو معظمه أو بعضه كثيرون من المحافظين وأصحاب الذهنية التقليدية.
هذا الموقف نجد مثالًا جليًا عليه في موقع “المؤامرة العالمية”الإلكتروني([8])، الذي يمكن اعتبار ما يُطرح فيه عينة نموذجية من الآراء المنتشرة في المجتمعات العربية، والتي تجعل بشكل رئيس الماسونية قطبًا تآمريًا رئيسًا عملاقًا، ويمد أذرعه كأخطبوط على امتداد العالم وعمق التاريخ، وكحال كثيرين مثلهم، يدرج مؤسسو هذا الموقع كل ما لا يعجبهم -وهو كثير طبعًا- في نطاق هذه المؤامرة العالمية، ومن ذلك العلمانية، والشيوعية، والنسوية، والشيعة، والصوفية، والاتحاد الأوروبي، والحركة البيئية، والثورة الفرنسية، وهتلر، وموسوليني، وكثير سوى ذلك.
وبرأي هذا الموقع، “العلمانية” هي أحد الأدوات الذكية التي أنتجتها الماسونية لبناء النظام العالمي الجديد ([9])، وكل الأيديولوجيات، على الرغم مما بينها من اختلافات، كالعدمية والليبرالية والفاشية والنازية والاشتراكية والشيوعية والرأسمالية، إما هي من صنع “المتنورين” وإما أنهم استخدموها بفعالية في مشاريعهم، وليست الرأسمالية والشيوعية في هذه المشاريع إلا وجهين لعملة واحدة، وما الشيوعية والاشتراكية إلا تعبيرين عن اليهودية العالمية أو الماسونية ([10])، أما النساء فقد أفسدهن النظام العالمي الجديد، وجعلهنّ مجنونات ومتمردات على المجتمع وناقصات عقل ودين بكل معنى العبارة، وقاسم أمين ماسوني، وأفكاره عن تحرير المرأة مستنسخة من أفكار مؤسس تنظيم المتنورين الماسوني آدم وايزهاوت ([11])، أما الدين الشيعي الباطني فقد أسسه اليهودي اليمني المتخفي عبد الله بن سبأ الذي تظاهر باعتناق الإسلام ليعمل على هدمه من الداخل ([12])، والصوفيون المعروف عنهم عمومًا عدم الإقبال على الجهاد، وكانوا يلقون التشجيع من المستعمرين البريطانيين والفرنسيين في البلدان الإسلامية المختلفة، يجدهم اليوم الأميركيون من أفضل الأسلحة ضدّ الإسلام، ولذا يسعون علنًا لتعزيز العلاقات مع الحركات الصوفية ([13])، و”الاتحاد الأوروبي” هو فكرة يهودية ماسونية، وهذا ما تثبته ماسونية العديد من الآباء المؤسسين لفكرة الاتحاد الأوروبي ([14])، أما حركة الدفاع عن البيئة، فبجزء كبير منها هي امتداد لمؤامرة الكاتبة البريطانية – الأميركية أليس بيلي وأتباعها، لاستبدال الأديان القائمة في العالم بدين عالمي واحد يقوم على معتقدات باطنية ([15])، والثورة الفرنسية لعب فيها الماسونيون الدور الأساسي، وعمل بقوة على التحضير لها آدام وايزهاوت مستغلًا عضويته في محفل الشرق الأعظم الماسوني([16])، أما أدولف هتلر فقد وصل إلى الحكم في ألمانيا بدعم خفي من المتنورين ([17])، ودكتاتورية موسولوليني الفاشية كان ملهمها الماسوني من الدرجة 33 غابرييلي دانونتسيو ([18]).
ونجد كثيرًا مثل هذا الكلام في مواقع كثيرة وعلى ألسنة مختلفة، فعلى سبيل المثال، يقول الكاتب البحريني محمود حسن جناحي: «جاء في البيان الشهير للمستشرق الأعظم الفرنسي الماسوني لعام 1904م في الصفحة (237) ما يلي: “إن الماركسية واللاقومية هما وليدتا الماسونية، لأن مؤسسيها كارل ماركس وإنجلز هما من ماسونيّي الدرجة الحادية والثلاثين، ومن منتسبي المحفل الإنجليزي، وإنهما كانا من الذين أداروا الماسونية السرية، وبفضلها أصدرا البيان الشيوعي المشهور» ([19]).
وبدوره يرى الدكتور محمد عمارة، أن “العلمانية” مؤامرة وفدت مع نابليون، لأن فرنسا التي خشيت من ظهور ونمو المقاومة رأت أن أفضل سبيل لاستمرار الاستغلال والتبعية هو تحويل الإسلام إلى تابع حضاري للغرب، وبذلك يبقى تابعًا اقتصاديًا له ([20]).
وبالطبع، لا تقتصر المؤامرة الأجنبية على ما ذُكر آنفًا، وهي تمتد عربيًا لتشمل أيضًا “القومية العربية” و”الإسلام الإصلاحي”، والعديد من الشخصيات الوطنية والإصلاحية الإسلامية المشهورة.
ووفقًا للإعلامي السعودي محمد إبراهيم ماضي، “القومية العربية” ظهرت على أيدي مغفّلين وحاقدين، ردًا على تأسيس القومية الطورانية التركية، وكلتا القوميتين كانت وراءهما الماسونية التي كانت تريد خلع السلطان عبد الحميد وتقويض الخلافة الإسلامية ([21]).
وبدوره يقول الشيخ الإسلامي المعروف عبد الله عزام ما فحواه أن دعوة القومية العربية نشأت بشكل رئيس بسبب أن الغرب الذي فشل في حملاته الصليبية، وسعى بشكل خاص بعد حملة نابليون على مصر لتثبيت أقدامه في بلادنا لاستبدال الرابطة الإسلامية برابطة أخرى هي الرابطة القومية ([22]).
وتطال الاتهامات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حيث يتهمه الإخوان المسلمون وسواهم بأنه كان ماسونيًا، وعميلًا للصهيونية وكافرًا، على الرغم من أنه أغلق المحافل الماسونية في مصر، وحارب إسرائيل بحزم ([23])، وليس الإخوان هم وحدهم الذين يوجهون مثل هذا الاتهام، فثورة يوليو المصرية التي قام بها “الضباط الأحرار” كلها تتعرض لمثل هذا الاتهام، فالكاتب المصري محمد جمال الكشك، مثلًا، يطلق عليها تسمية “ثورة يوليو الأميركية”، في كتابٍ له يحمل الاسم نفسه، ويتحدث عن علاقة أميركا بهذه الثورة، وهو لا يبرئ حتى وطنية عبدالناصر نفسه في هذه العلاقة ([24]).
لكن بالمقابل، هناك من يتهم “الإخوان” أنفسهم بالتهمة نفسها، ويقول إن الماسونية هي من كانت تمّول حسن البنا، وإن من أشاع أن عبد الناصر انضم إلى الماسونية هم “الإخوان” ([25]).
وتهمة العمالة أو التبعية للمؤامرة، لا تشمل العلمانيين والشيوعيين والقوميين العرب فقط، بل تمتد لتشمل الإصلاحيين الإسلاميين من رواد النهضة، كالشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة، اللذين يُتهمان بأن الماسونية هي من كانت تحركهما ([26]).
وفي الآونة الأخيرة، انضم إلى جوقة التفسير التآمري للأحداث كثيرٌ من الشيوعيين الذين، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، اكتفوا بالقول إنه سقط بسبب مؤامرة إمبريالية صهيونية، أوصلت العميل غورباتشوف وأعوانه إلى السلطة ([27])، ومثل هؤلاء الشيوعيين، ولا سيّما في سورية، لا يرون في الربيع العربي ككل إلا “مؤامرة صهيوإمبريالية” مثل ربيع براغ عام 1968، وانتفاضة المجر عام 1956، والانتفاضات التي أسقطت الأنظمة الشيوعية في شرق أوربا في أواخر القرن الماضي، وهلمّ جرًّا.
في هذا البحث، لا يتسع المجال لمناقشة وتفنيد المزاعم المؤامراتيّة المذكورة أعلاه، والتي عُرضت لتوضيح صورة المعمعة المؤامراتية، التي يتخبط فيها أنصار “نظرية المؤامرة” الكثر في الساحة العربية، وفي خضم هذه المعمعة، لا يعود غريبًا قطعًا أن تنال “تهمة المؤامرة” حراكات الربيع العربي، ولا يعود غريبًا أيضًا أن يوجد بين هؤلاء المؤامراتيين يساريون، والأصح أنهم يساريون شكليون كثر، فمثل هؤلاء اليساريين لا يختلفون عن سواهم من يمينيين أو رجعيين أو متعصبين أو إيمانويين وما شابه، إلا في لون الغطاء الأيديولوجي الذي يتغطون به، وكلهم في جوهر الذهنية والأخلاق يتشابهون.
4- مواقف متناقضة من الربيع العربي:
عند مراجعة المواقف المختلفة من حركات الربيع العربي، سنجد أنها كثيرًا ما تتناقض، كما سنجد أيضًا أن كل طرف فيها يستخدم “تهمة المؤامرة” مفصّلة بما يناسب موقفه، فمثلًا كان الموقف الإيراني مؤيدًا لحركات الربيع العربي في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين، ورحبت إيران بهذه الحركات واعتبرتها ثورات، ورأت في الربيع العربي “صحوة إسلامية” تشكّل امتدادًا لثورتها الإسلامية، وكان هناك موقف مشابه من فوز محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية، لكن هذا التصنيف الإيرانيللثورة المصرية رفضته القوى السياسية المصرية، ومن ضمنها الإخوان والسلفيون، مشددة على أن الثورة المصرية هي ثورة شعبية ([28])، وفي خطبة له بالعربية، أيّد المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي ثورتي مصر وتونس بشكل جلي، ومما قاله خامنئي بهذا الشأن: «على ساحة العالم الإسلامي اليوم إرهاصات حادثة عظيمة مصيرية، حادثة كبرى تستطيع أن تغير معادلات الاستكبار في هذه المنطقة لصالح الإسلام ولصالح الشعوب، حادثة تستطيع أن تعيد العزة والكرامة للشعوب العربية والإسلامية، وتنفض عن وجهها غبار عشرات السنين مما أنزله الغرب وأميركا بحق هذه الشعوب العريقة الأصيلة من ظلم واستهانة وإذلال، إن هذه الحادثة الإعجازية بدأت على يد الشعب التونسي، وبلغت ذروتها بسواعد الشعب المصري الرشيد العظيم…» ([29])، ولم تكن قناة العالم الإيرانية في تغطيتها لهذه الحراكات تختلف عن قناة الجزيرة، في وقت تباينت فيه بشكل واضح مثلًا مواقف قناتي الجزيرة والعربية في أكثر من حالة، ففي الحالة المصرية مثلًا، كان تأييد “الجزيرة” واضحًا للثوار، فيما بدا واضحًا أيضًا أن “العربية” كانت تميل إلى “مبارك”، ولكن عندما بدأ الحراك المشابه في سورية، أصبح الأمر بالنسبة لإيران وحلفائها “مؤامرة” وراءها بشكل رئيس أميركا وإسرائيل، وأمر مشابه حدث معكوسًا فيما يتعلق بـ “الثورة البحرينية”، ففي الوقت الذي ساندتها إيران بقوة، وقف ضدها كثير من العرب، واعتبرت في العديد من الدول العربية “مؤامرة إيرانية” ([30])، ومن بين من كان لهم هذا الموقف، المكتب السياسي لحزب حركة النهضة في تونس التي انطلقت منها ثورات الربيع العربي، فوفقًا للمحرر السياسي في مجلة “المجلة”، رأى هذا المكتب “أن ما حدث في البحرين عبارة عن حركة طائفية وأعمال تخريب لا تمت إلى الربيع العربي بصلة، بل هو تشويه للثورات العربية. ورفض المكتب “التدخلات الإيرانية في شؤون البحرين والمساس بعروبتها كجزء لا يتجزأ من الأمة العربية”، لكن مع ذلك، ووفقًا للمصدر نفسه، فراشد الغنوشي رئيس حزب النهضة كان له موقف مغاير، “فقد عبّر عن تفهمه لحقيقة الأحداث التي مسرحها البحرين، وشدد على أنه “يتفهم ويفهم حقيقة ما يحدث في البحرين، وما نتج عنه من مشكلة طائفية، وأن الحل الوحيد يأتي من الداخل عبر حوار وطني يجمع كل المكونات والقوى السياسية على طاولة واحدة من دون شروط للخروج من الأزمة بالتوافق”، أما الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي، فقد وجّه نقدًا شديدًا للمعارضة البحرينية، معتبرًا أنها تختلف عن معارضات بلدان الربيع العربي الأربعة الأخرى (أي تونس ومصر وليبيا واليمن)، وقد قال القرضاوي عن الثورة البحرينية إنها “ثورة طائفية، أما باقي الثورات الأربع فكلها ثورة شعب ضد حاكمه الظالم”، أما المحتجون البحرينيون، فيقومون بـ “الاستقواء بالخارج، ويعبرون عن آراء فئة مذهبية، وليس الشعب بكامله” ([31])، وعندما دخلت قوات درع الخليج البحرين لحماية النظام الملكي فيها، بطلب من هذا النظام، في 15 آذار\ مارس 2011، كان موقف إيران حادًا من هذا التدخل، واعتبرته غير شرعي، ووصفته بأنه احتلال، فيما كان موقف النظام السوري مختلفًا، فأيّد هذا التدخل، وقال بخصوصه وليد المعلم وزير الخارجية السوري حينها إن قوات درع الجزيرة الموجودة في البحرين ليست قوات احتلال، إنما تأتي في إطار مشروع ([32])، وهذا ليس غريبًا، فالنظام السوري كان يخشى أن تُنقل العدوى “الربيعية العربية” إلى بلاده، ولذا كان من ناحية يؤيد كل قمع لحركات هذا الربيع، ويسعى لتحسين علاقاته الخارجية تحسبًا لهذا الربيع من ناحية أخرى.
وما تجدر إليه الإشارة في الشأن السوري، أنه عند سقوط نظام مبارك، وخلال مدة الاحتجاجات الشعبية، لم يتعامل الإعلام الرسمي السوري مع ما يجري في مصر قطعًا على أنه مؤامرة، بل إن التلفزيون السوري قطع بثه عندما أعلن مبارك تنحيه، ليلعن “سقوط نظام كامب ديفيد” ([33])، وهذا ما نفاه سريعًا المجلس العسكري في مصر، الذي انتقلت إليه السلطة بعد تنحي مبارك، في بيانه الرابع الذي أكد فيه التزام مصر بالاتفاقيات الموقعة، مشيرًا إلى اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل ([34]) ([35])؛ وهذا ما يتناساه أو يتجاهله كل المزاودين والوطنجيين والشبيحة، الذين ينفخون دائمًا في بوق المؤامرة، وهذا مفهوم، فهؤلاء لا يريدون أن يعترفوا بوطنية ومشروعية الحراك الشعبي السوري الذي انطلق في ربيع 2011، ولأنهم مصرّون على وضع “المؤامرة” وراءه، ولكي تُستكمل صورة المؤامرة التي يقدمونها، فهم يصورون كل حراك الربيع العربي كمؤامرة.. كون الحراك السوري جاء كجزء من هذا الحراك وفي سياقه.
وبعد، وبالنظر إلى ما ذُكر في هذه الفقرة أعلاه، فهنا أيضًا نرى تضاربًا كبيرًا وشديدًا في المواقف من حراكات الربيع وتصنيفها، وفي سياق ذلك تُطلق “تهمة المؤامرة” في اتجاهات شتى ومتناقضة.
5- ما حقيقة الدور الغربي في الربيع العربي؟
عند الحديث عن الربيع العربي، تصدر أحيانًا عن بعض الأطراف الغربية تصريحات يمكن للبعض اعتبارها أدلة على وجود دور فاعل للغرب في الربيع العربي، ويُضاف إلى ذلك أمور مشابهة قيلت أو أُعلنت في أوقات سابقة لانطلاقة هذا الربيع، وتسريبات تتعلق به، يقوم بتسريبها الغربيون أنفسهم لأغراض تخصهم وتخدمهم.
من ذلك مثلًا، الرسائل الإلكترونية المسربة من بريد وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون ([36])، وقد كُشِف عنها قبيل الانتخابات الأميركية الأخيرة من قبل إدارة ترامب، ما يشير إلى نية مبيته لتوظيفها من قبل ترامب في منافسة الرئاسة الأميركية ضد الديمقراطيين ([37])، وهذه الرسائل تحوي كثيرًا من المعطيات عن النشاطات الأميركية والغربية المرتبطة بالربيع العربي، التي وجد فيها أنصار “نظرية المؤامرة” حججًا دامغة على أن ّهذا الربيع عبارة عن مؤامرة أميركية غربية.
وعن هذا يقول مقال على موقع اليوم السابع، للكاتبة إسراء أحمد فؤاد، “تسريبات كلينتون تكشف “مؤامرات الربيع”: «مؤامرات لا تعرف سطرًا للنهاية، وشبكة مصالح مشبوهة تلاقت لتجمع كلًا من قطر وإدارة باراك أوباما وجماعة الإخوان الإرهابية، والهدف: بناء شرق أوسط جديد، لا مكان فيه للاستقرار، بعد النيل من عروش وجيوش، وإشعال فتيل الأزمات على امتداد الخرائط والحدود في بلاد العالم العربي»، وتتحدث كاتبة المقال فيه عن ارتباط وثيق بين هيلاري كلينتون، وقطر وقناة الجزيرة، ومحاولة استغلالهما لنشر الفوضى في مصر من خلال “دعم ثورات الخراب التي عرفت بثورات “الربيع العرب”، وتقول الكاتبة إن كلينتون سعت للتعاون مع خيرت الشاطر (النائب العام لمرشد الإخوان المسلمين في مصر) وسواه من قادة الإخوان لإنشاء فضائية تروج لمشروعها التخريبي في مصر 2011، وإن خيرت الشاطر تلقى دعمًا أميركيًا بحدود 100 مليون دولار لتدشين قناة فضائية إخبارية عالمية، وصحيفة مستقلة يومية لدعم الإخوان ([38])، وهلمّ جرًّا..
وفي السياق نفسه، تذكر بوابة “الوطن” المصرية أن بريد كلينتون يفضح الناشطة السياسية اليمنية توكل كرمان التي حازت جائزة نوبل للسلام عام 2011، ويكشف أنه تم شراء جائزة نوبل لها بأموال قطر لإشعال الفوضى في اليمن ([39]).
وتقول الكاتبة التونسية وفاء دعاس إن التسريبات تشير إلى أن “الإدارة الأميركية قررت، 14 كانون الثاني/ يناير 2011، استدعاء قوات المارينز المتمركزة في صقلية قرب السواحل التونسية.. وذلك في حال رفض بن علي التخلي عن الحكم لصالح الإخوان” ([40]).
وبالإضافة إلى رسائل كلينتون، تقول قناة الحرة الأميركية نقلًا عن وكالة فرانس برس إن الغرب “أوفد قبل وقت طويل من اندلاع الربيع العربي منظمات غير حكومية، وهيئات شبه رسمية، إلى المنطقة للعمل على تعزيز الرغبة في الديمقراطية والحريّة. وعملت منظمات أميركية عدة تحديدًا مع نظيراتها الألمانية مع المجتمع المدني والناشطين، للتدريب على أساليب النضال السلمي، كاستخدام شبكات التواصل الاجتماعي، وإطلاق شعارات حالمة من شأنها أن تأسر مخيلة الجماهير”، وتضيف فرانس برس أن الأنظمة الدكتاتورية أجهضت هذه المساعي، فمثلًا في نهاية عام 2011، اتهمت السلطات المصرية ثلاثة وأربعين شخصًا أجنبيًا ومصريًا من موظفي منظمات غير حكومية بالتدخل في الشؤون المصرية، وقامت بترحيل الأجانب، وسجن المصريين ([41]).
وإضافة إلى ما تقدم، يقول عبد الباري عطوانإنه تابع عن قرب عمليات التجييش ورصد مئات ملايين الدولارات لرشوة العديد من كبار ضابط الجيش والأمن والمسؤولين المدنيين السوريين، وإن وسيطًا قام بعمليات عدة واعترف بالصوت والصورة أنه قد تم تقديم خمسين مليون دولار لأحد رؤساء الوزراء السوريين للانشقاق عن النظام والانضمام إلى المعارضة ([42]).
إذًا، أليست كل هذه المعطيات أدلة دامغة كافية على أن الربيع العربي المزعوم كان مجرد كذبة لتغطية مؤامرة غربية كبيرة خطيرة؟ مع ذلك يمكن الرد بـ “لا”.
والرد بـ “لا” لا ينفي قطعًا أن المؤامرة كانت ومازالت موجودة من قبل الغرب وغيره، وهذا قطعًا ليس جديدًا، ووجود المؤامرة بشكل عام هو أمر دائم ومتكرر، وليس اليوم فحسب، بل على مدى التاريخ، ولكن الخلاف الرئيس والأكبر هو حول دور وموقع هذه المؤامرة، فالمؤامرة هي في التاريخ عنصر مؤثر من عناصر التاريخ، ولكنها قطعًا ليست محركًا رئيسًا من محركاته، ودور المؤامرة في التاريخ هو كدور القارب التقليدي في مجرى النهر، فهو يسير مع جريان النهر، ويوصل صاحبه إلى مقصده، ولكنه قطعًا لا يصنع حركة التيار.
ما تم إيراده من معطيات لا يمكن قطعًا تجاهلها، ولكنها هي بدورها يجب أن تخضع لعملية نقد حذر دقيق، ولا يجوز قطعًا استخدامها بشكل ميكانيكي.. أو توظيفها آليًا وفق غاية مسبقة مغرضة ومنحازة، وكثير مما يرد فيها يبدو متناقضًا ومثيرًا للعجب.
فإذا ما نظرنا إلى ما ذُكر عن رسائل كلينتون في ما يخص الربيع العربي، فسنرى أنها بشكل رئيس تركّز على العلاقة بين الولايات المتحدة والإخوان بشكل عام في بلدان هذا الربيع، وهم في كل من مصر وتونس لم يكونوا من أطلق الاحتجاجات، وإن كانوا قد شاركوا فيها لاحقًا، وبهذا الخصوص مثلًا، يقول رئيس المعهد التونسي للعلاقات الدولية الدكتور أحمد المناعي: “لم يكن لحركة النهضة، في عام 2010، أي حضور مباشر في الساحة التونسية، ولا في تأجيج التحركات الاحتجاجية” ([43])، وكذلك كان حال الإخوان المسلمين في مصر، الذين كانوا هم وحزب الوفد من المترديين بخصوص المشاركة في التظاهرات التي كانت تدعو إليها، في 25 كانون الثاني/ يناير، مجموعة من الأحزاب والقوى السياسية والناشطين في مدن المحلة وطنطا والمنصورة، وفيما توافقت جميع الأحزاب السياسية على المشاركة في التظاهرات، فقد تردد ممثلو حزب الوفد وحركة الإخوان المسلمين، واكتفوا بالتمثيل الفردي للمشاركين من أعضائهما ([44])، لكن لاحقًا، شارك الإخوان في مصر في التظاهرات، ثم تنامى دورهم بعد تنحي مبارك، وكذلك كان حال حركة النهضة في تونس بعد فرار بن علي، وسبب هذا التنامي سنناقشه في الفقرة التالية.
فإذا لم يكن الإخوان هم من حركوا التظاهرات، لا في تونس ولا في مصر، فلا يعود صحيحًا منطقيًا القول بمؤامرة أميركية إخوانية وراء حدوث الربيع العربي.
أما الكلام عن أن الغرب أرسل موفدين ومبعوثين للعمل على تعزيز الرغبة في الديمقراطية والحريّة، إلى بعض المناطق العربية، فربما يكون قد حدث فعلًا بشكل وقدر وحين ما، ولكن في ظروف هيمنة الدكتاتوريات العربية وسطوتها وعلاقة معظمها الوثيقة بالغرب، فالكل يدري أن هذا الأمر لا يمكن أن يكون قد تم على نطاق واسع بشكل علني، لأن الدكتاتوريات العربية لن تسمح به، ولا يمكن أيضًا أن يكون قد تم بشكل سري من دون أن تعلم به هذه الدكتاتوريات وتمنعه، وبذلك يمكن ترجيح أن شيئًا من هذا القبيل جرى من قبل الغرب بشكل غير رسمي أو شبه رسمي هنا أو هناك، وما هو غير رسمي لا يمنع أن يكون قد قام به بشكل مستقل غربيون متحمسون لدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو عندها لن يكون عملًا تآمريًا، بل هو عمل إنساني تطوعي، أما ما تم بشكل شبه رسمي بوضعه هذا، فربما تم من قبل الحكومات الغربية، كنوع من رفع العتب لا أكثر أمام شعوبها ومجتمعاتها والرأي العام العالمي التي تراها لا تفعل شيئا من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان.
أما ما يقوله عبدالباري عطوان عن الوضع السوري، فهو، إن صح، ينتمي إلى مرحلة متقدمة نسبيًا من الربيع العربي، وإلى حدّ ما السوري، وهو يندرج في إطار المنهجية التي كان الغرب كان قد توصل إليها بعد أن أصبح الربيع العربي أمرًا واقعًا، وثبت وانتشر على الأرض، وبدا واضحًا فيه قوة الإسلام السياسي.
وما يُذكر عن استدعاء قوات المارينز في حال رفض بن علي التخلي عن الحكم لصالح الإخوان، يبدو شديد الغرابة عندما نرى أن بن علي فعليًا لم يتخلّ عن الحكم لصالح الإخوان، بل فرّ، في 14 كانون الثاني/ يناير 2011، وتولى صلاحياته رئيس وزرائه محمد الغنوشي، وفي اليوم التالي عُيّن رئيس مجلس النواب فؤاد المبزع رئيسًا للجمهورية بشكل مؤقت حتى 13 كانون الأول/ ديسمبر 2011، وبقي محمد الغنوشي رئيسًا للوزراء لغاية 27 شباط/ فبراير 2011، وخلفه الباجي قايد السبسي حتى 24 كانون الأول/ ديسمبر 2011، وكل هؤلاء مدنيون وليسوا إسلاميين، ولم تكن حكوماتهم إسلامية، فأين كان المارينز من ذلك؟
والكلام عن شراء جائزة نوبل للناشطة الإخوانية اليمنية البارزة توكل كرمان، لإشاعة الفوضى في اليمن، كان سيبدو منطقيًا، لو أنه حدث قبل انطلاقة الثورة اليمنية، لكنّه حصل بعد زمن من انطلاقة وتوسع الثورة، ولذلك فإن ربطه بإحداث الفوضى لا يعود منطقيًا قطعًا، ولا سيّما أن اليمن نفسه لم يكن قطعًا ينعم بحالة من الاستقرار والنظام قبل انطلاقة الثورة، والعكس فعليًا هو الصحيح، أما موضوع شراء الجائزة إن ثبت، فمن الممكن أنه تم بمساع أميركية، إما من أجل التقرب من الإخوان وتحسين العلاقة معهم، وإما بهدف تحسين صورتهم لتسهيل التعامل معهم أمام الرأي العام.
وهكذا، يصبح ممكنًا منطقيًا افتراض السيناريو التالي لتفسير الموقف الغربي من الربيع العربي: انطلق الربيع العربي من تونس، بسبب جملة من العوامل الموضوعية التي توفرت فيها، وتمكن سريعًا من الانتصار، وأعطى هذا الانتصار شحنة قوية من الدعم المعنوي للشعوب العربية في بلدان أخرى، وبالأخص مصر التي كانت تونس هي رافعتها المعنوية، وكانت الظروف فيها أيضًا مهيئة تمامًا لحدوث ثورة شعبية، وتمكنت الثورة المصرية أيضًا من تحقيق انتصار سريع ومدوّ في بدايتها عندما فرضت التنحي على مبارك، وهذا الانتصار المصري الكبير كان له أيضًا تأثير إلهامي كبير مماثل عربيًا وإلى حدّ ما دوليًا، وبذلك امتد الربيع العربي بقوة أكبر إلى بلدان عربية أخرى، وخلق انطباعًا كبيرًا بأن انتصارات سريعة أخرى ستحدث في أكثر من بلد عربي، وأن المنطقة ككل مقبلة على تغيير كبير ملهَمة ومقتدية بذلك النصر المزدوج الذي تم تحقيقه في تونس ومصر.
هذه التطورات السريعة والمفاجئة أربكت الغرب كثيرًا، وجعلته في البداية يتخبط في كيفية التعامل معها، ومع تطور جريان الأحداث اللاحق بدا واضحًا أن القوى الإسلامية تستطيع أن تلعب دورًا كبيرًا على الساحة العامة، ولذا استدرك الغرب ما فاته، وبدا يعمل مع القوى الإسلامية كأمر واقع، وهذه القوى نفسها رأت في ذلك اعترافًا بها وتعزيزًا لها، وهكذا بدأ التنسيق المصلحي الفعلي بين الطرفين، وهذا بشكل رئيس ينطبق على مصر وتونس، أما بعد امتداد الربيع إلى بلدان أخرى، فقد كان الغرب، وبالأخص أميركا، قد استعاد زمام المبادرة، وصار جاهزًا للتعامل مع كل بلد بسيناريو خاص يناسبه، وبذلك لا يُستبعد أن يكون الغرب قد وجد أنه من المجدي له في الحالة السورية رشوة وشراء بعض المسؤولين السوريين الكبار.
وعن اضطراب وتذبذب الغرب في مواقفه عند انطلاقة الربيع العربي، وامتداده من مصر إلى تونس وغيرهما من دول المنطقة، فهناك كم كبير من الأدلة التي لا تقل أهمية عن رسائل هيلاري كلينتون المسربة، وغيرها من المعطيات التي تؤكد تدخل الغرب في الربيع العربي، ومن الأمثلة على ذلك ما يورده الصحفي المصري محمد السطوحيالذي يقول واصفًا تجربته الشخصية بخصوص ثورة يناير عند لقائه بعضو الكونغرس “بيتر كينج”: «كنت أود استغلال الفرصة لطرح ما لدي من أسئلة، خاصة أنه يتلقى باستمرار تقارير الأجهزة الأميركية، بحكم موقعه كرئيس للجنة الأمن الوطني، لكني وجدت لديه أسئلة أكثر، وما كان ليتوقف بعد أن عرف أنني مصري. كان غير مرتاح للتطورات في مصر، وقلقًا من الإخوان ودورهم المتزايد بعد الثورة، لكن أكثر ما كان يزعجه هو فشل أجهزة الاستخبارات الأميركية في توقع قيام الثورة، وهو ما ذكّرهم بفشلهم في منع هجمات 11 سبتمبر»، ويضيف السطوحي: «كانت الثورة مفاجئة لكثيرين في واشنطن، إلا أن البعض منّا استسهل نظرية المؤامرة متناسيًا أن واشنطن أيدت مبارك في بداية الثورة إلى أن تبين حجمها وصعوبة وقف طوفانها فانقلبت عليه» ([45]).
وفي السياق نفسه يقول ستيفان لاكروا، من معهد باريس للدراسات السياسية، رافضًا نظرية “المؤامرة الأجنبية”: «أولئك الذين يرون الإمبريالية في كل مكان يفشلون في تصديق أن الأفراد قادرون على تنظيم أنفسهم لأنهم سئموا» ([46]).
ونجد كلامًا مشابهًا لدى نديم حوري، المدير التنفيذي لـ “مبادرة الإصلاح العربي” في باريس، الذي يرى أن الغربيين استغرقوا أشهرًا عدّة للتفكير في الأمر، ثم أغلقوا الباب بسرعة في وجه تجربة التغيير الديمقراطي هذه”، ويضيف: “بين العامين 2012 و2013، رأيناهم يعودون برؤية تستند فقط إلى الأمن الإقليمي” ([47]).
6- ما سبب رجحان كفة الإسلام السياسي في الربيع العربي؟
أيًا كانت الأحزاب السياسية التي تعمل في مجتمع ما، ومهما كانت مستويات تنظيمها أو أيديولوجياتها، فهي قطعًا لا تستطيع أن تقوم بثورات في مجتمعاتها إن لم تكن الأوضاع الاجتماعية والسياسية المختلفة في هذه المجتمعات مناسبة لحدوث ثورات، ففي العلاقة بين الأحزاب والتنظيمات والشعوب والثورات، الشعوب هي التي تصنع الثورات، ولكن الأحزاب هي التي تقودها، وهذا يعني أنه لا يمكن لأية ثورة أن تقوم إن لم يتكامل فيها عنصران، القائد والصانع، وتتضافر فيها جدلية “العنصر الذاتي” الذي “يمثله القائد”، و”العنصر الموضوعي” الذي “ينتج الصانع” أي “الشعب الثائر”.
في الفكر الماركسي يطلق على توفر الظروف الموضوعية مصطلح “الحالة الثورية”، فيما تُعتبر الأحزاب السياسية التي تقود ثورة الجماهير هي “العامل الذاتي”، وبذلك، وفقًا للماركسية، يتعذر قيام الثورة من دون توفر “الحالة الثورية”، ولكن انتقال الحالة الثورية إلى ثورة يتوقف على “العامل الذاتي” ([48]).
وهنا تكمن مشكلة ثورات الربيع العربي، وهي في عدم امتلاكها للعامل الذاتي الكافي، على الرغم من امتلاكها ما يكفي من العامل الموضوعي، وهذا ليس ذنبها الخاص طبعًا، إنما هو نتيجة لسياسات القمع والإفساد التي استمرت عقودًا، وأفرغت الساحة العربية من السياسيين والمثقفين والأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية والمنابر الثقافية والإعلامية، وكل ما يمكنه أن يلعب دورًا مدنيًا فاعلًا في تنظيم وتوجيه الجماهير، وهذه الدكتاتوريات تحالفت مع السلطة الدينية التقليدية واستغلتها في بلدانها، ودهورت الأوضاع المعيشية والثقافية والأخلاقية في مجتمعاتها إلى الحضيض، ودفعتها إلى الانفجار.
وعندما حدث الانفجار، وانتفضت الجماهير التي لم تعد تستطيع تحمّل هذا الوضع البائس أكثر، لم تجد من يقودها، وهنا استغل الإسلام السياسي الفرصة ليملأ ويستثمر هذا الفراغ القيادي، وليضع نفسه في موقع القائد، ويستغل القيادة كما يناسبه، وقد تمكن الإسلام السياسي من فعل ذلك، بسبب المورث التديّني للشعوب العربية من ناحية، وحالة الردة السلفية التي شهدتها المنطقة في العقود الأخيرة بسبب ما نتج عن قمع وفساد الدكتاتوريات من تدهور اجتماعي وحياتي شامل من ناحية ثانية، وبسبب الهزائم والانتكاسات على الصعيد الخارجي التي لعبت دورًا مماثلًا في هذه الردة من ناحية ثالثة، وفشل كل المشاريع التقدمية المختلفة من ناحية رابعة، وغياب أو ضعف القوى السياسية المدنية المنافسة من ناحية خامسة، وبذلك، وجد الإسلام السياسي نفسه غالبًا في أريحية كبيرة، ليكون المرشح الوحيد للهيمنة على موقع القيادة في ثورات الشعوب العربية، وقد ساعده في ذلك أيضًا الغرب الذي أدرك هذه الحقيقة، وجهز نفسه للتعامل معه بشكل موضوعي، فمد في العديد من الأحيان يده للإسلام السياسي، وعوّل عليه، لدفع مجرى الثورات العربية التي لا يمكن إيقافها أو الوقوف ضدها في اتجاهات تناسب المصالح الغربية.
وبذلك، لا يمكن قطعًا البناء العقلاني على منظور يفسر حركات الربيع العربي بأنها حركات أطلقتها الدوائر الغربية المتآمرة بواسطة هذا الحزب أو ذاك التنظيم أو سواهما، وفي مصر مثلًا، من السذاجة توهم أن ثورة يناير قام بها الإخوان أو حركة 6 أبريل أو غيرهما من الأحزاب، فالثورة هي ثورة شعب مضطهد، وقد لعبت فيها الأحزاب أدوارًا مختلفة، وتمكن بعضهم، لاحقًا، من استغلال الظروف المناسبة، ليعزّز وينّمي موقعه فيها أكثر من غيره، كما كان حال الإخوان والسلفيين.
7- الربيع العربي من منظور دراسات الثورة:
إذا طبقنا على حركات الربيع مناهج دراسة وتحليل وتفسير الثورات، فسنجد أنها تتوافق مع العديد من معاييرها، وتحقق شروطها.
وربما يجدر البدء في الكلام عن هذا الأمر بما قاله المفكر والثوري الفرنسي كوندورسيه (Condorcet)، وهو من أجمل ما قيل عن الثورات، فقد قال: «إن كلمة “ثورة” لا تقال إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية» ([49])، والحرية كانت شعارًا أساسيًا من الشعارات التي رفعتها حركات الربيع العربي، التي كان فيها إحساس عفوي واضح بغياب الحرية في مجتمعاتها التي تحكمها الأنظمة الدكتاتورية، وتوق عفوي مماثل إلى هذه الحرية.
أما من منظور ماركسي، فعلى الرغم من أن المنهج الماركسي يركّز بشكل جوهري على العامل الطبقي، وثورات الربيع العربي ليست ثورات طبقية بالمعنى الدقيق للعبارة، فإن العامل المعيشي يلعب أحد الأدوار الأساسية فيها، فنسب الفقر وتدهور مستوى المعيشة المرتفعة في المجتمعات العربية التي حدثت فيها هذه الثورات يمكن اعتبارها شكلًا من أشكال العامل الطبقي، وإن لم تكن الطبقية فيها متبلورة وجلية ومنفصلة بشكل جلي كما كان الحال في الثورات الاشتراكية على غرار الثورة البلشفية مثلًا.
مع ذلك، فالمنهج الماركسي لا ينفي “الثورية” خارج الإطار الطبقي الصارم، ووفقًا له، فـ “التصادم بين الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة، والأحزاب السياسية الممثلة لمصالحها، في خضم الصراع حول سلطة الدولة، هو ما تعنيه الثورة بالمعنى الخاص للكلمة، الذي يُعرف في العلم الاجتماعي الماركسي بالثورة السياسية”، والثورات السياسية “تأتي حصيلة تطور طبيعي للمجتمع”، وعند توفر تلك الحالة الثورية، عندما “ترفض الجماهير المحكومة العيش وفقًا للأنظمة القديمة، وحيث لا تستطيع الطبقات الحاكمة “العليا” مثابرة الإدارة بالطرق القديمة، وحيث يطرأ نهوض عارم على فعالية الجماهير السياسية” ([50]).
ومثل هذه الحالة من الرفض للعيش بالأساليب السابقة، كانت محققة تمامًا في ثورات الربيع العربي، وفيها سعت الجماهير العربية لتغيير شكل السلطة القائم، والانتقال بالمجتمعات العربية إلى أشكال حياة أرقى.
بالإضافة إلى ذلك، فالثورات العربية أيضًا تتوافق مع “قانون تحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية” في الديالكتيك الماركسي، الذي ينطبق على كل من الطبيعة والمجتمع، فتراكم المظالم وعناصر الفساد المختلفة والتناقضات والتوترات الناجمة، وصل عند حدّ معين في بعض المجتمعات العربية إلى الحالة التي لم يعد فيها التراكم الكمي لهذه الأمور ممكنًا، وأصبح التغيير الكيفي أمرًا محتمًا، كما هو الحال في تزايد الضغط الذي لا بدّ في المحصلة أن يحقق الانفجار، وهذا ما كان، فبلغت تلك التراكمات الاجتماعية السلبية في المجتمعات العربية التي ثارت الحدّ الذي وصلت فيه لتحقيق ما يكفي من “الحالة الثورية” لانطلاقة الثورة، لكن هذا -كما سلف القول- لم يكن مترافقًا بما يكفي من “العامل الذاتي”، ولذا وقعت تلك الثورات بما وقعت فيه من تخبط واختطاف مختلفين.
هذا ما سنجده إذا ما نظرنا إلى حركات الربيع العربي من المنظور الماركسي الذي سنجد وفقًا له أنها يمكن الحكم بأنها “ثورات”، ولكنه ليس المقاربة الوحيدة التي يمكننا فيها الوصول إلى مثل هذه النتيجة، فوفقًا لعالم الاجتماع الأميركي جيف غودوين (Jeff Goodwin)، الثورة بالمعنى الموسع هي ما يتم فيها إسقاط أو تحويل دولة أو نظام سياسي من قبل حركة شعبية بطريقة غير نظامية أو غير دستورية أو قسرية، وهي بالمعنى الضيق عندما تشمل التغيرات، إضافة إلى ما تقدم، تغييرًا اجتماعيًا واقتصاديًا و/ أو ثقافيًا سريعًا إلى حد ما أيضًا ([51])، وإذا طبقنا هذا الفهم على حالات الربيع العربي، فسنجد أنها تتفق كثيرًا مع تعريفي غودين، ولكنها تتقارب أكثر لحظيًا مع تعريفه الموسع، فهي كانت تسعى بشكل مباشر لفرض التغيير السياسي في مؤسسة الدولة من خارج النظام والدستور القائمين، في توجهات لا تغفل أهمية التغيير في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المطلوبة لاحقًا، بالإضافة إلى التغيير السياسي، وهذا ما يعبّر عنه مثلًا شعار الثورة المصرية “عيش، حرية، كرامة إنسانية” أو “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”.
وهي تتفق أيضًا مع تعريف عالم الاجتماع والسياسة الأميركي جاك غولدستون (Jack Goldstone) الذي يرى أن الثورة هي “محاولة لتغيير المؤسسات السياسية، ومبررات السلطة السياسية في المجتمع، مصحوبة بتعبئة جماهيرية رسمية أو غير رسمية، وأعمال غير مؤسسية تقوض السلطات ([52])، فحركات الربيع العربي كانت حراكات جماهيرية تسعى لدمقرطة مؤسسة الدولة وشرعنة السلطة على أساس ديمقراطي حقيقي.
وكذلك هي توافق أيضًا المنظور الذي يرى “أن السبب الرئيسي للثورة هو الإحباط المنتشر من الوضع الاجتماعي والسياسي” وفقًا لنظريات علم النفس المعرفي cognitive psychology ونظرية العدوان والإحباط (frustration-aggression theory) ([53])، وقد كان هناك كثير من الإحباط والشعور بالغبن والنقمة في المجتمعات العربية بسبب القمع والفساد وتدهور المعيشة والخيبات الوطنية على مختلف الصعد.
وهي -أي حراكات الربيع العربي- توافق أيضًا نظرية التعددية (pluralist theory)، ونظرية تضارب المصالح (interest group conflict theory)، اللتين بموجبهما يُنظر إلى الأحداث الثورية كنتائج على أنها نتائج صراع على السلطة بين مجموعات المصالح المتنافسة، يستطيع فيه المتنافسون توظيف القوة لتحقيق أهدافهم، ومثل هذا التضارب في المصالح كان أيضًا كبيرًا في المجتمعات العربية، بسبب استحواذ الأوليغارشية السلطوية الحاكمة على السلطة والثروة والقرار في مجتمعها وحرمانها لمعظم الفئات الأخرى في المجتمع.
وتتوافق أيضًا مع المقاربة التي ترى أن “حالة عدم التوازن (disequilibrium) الشديد هي المسؤولة عن الثورات” ([54])، فالتوازن في المجتمعات العربية كان مفقودًا بسبب أوليغارشية السلطة والثروة، وغياب العدالة الاجتماعية والحرية.
وما يقال عنه من مفاسد وترديات بصيغة الماضي “كان”، عند قيام الثورات العربية، ما يزال موجودًا بقوة في هذه المجتمعات، فالثورات التي قامت لم تقم بعدُ بتحقيق الغايات التي قامت من أجلها، ولكن هذا لا يعني أن اللعبة انتهت، فهذه الثورات قد نجحت في زعزعة حالة اليقين المطلق التي كانت موجودة عند الدكتاتوريات العربية برسوخ عروشها، كما أنها فعليًا نجت إلى حدّ بعيد في تغيير مفهوم “مبررات السلطة” القائم في المجتمعات العربية، وسحب بساط الشرعية من تحت الأنظمة الحاكمة، وأعطت الشعوب العربية الثقة بحقها في التغيير وقدرتها على التغيير.
وما تقدم من مقاربات لمفهوم الثورة، لا يستنفد كل مقاربات تفسير الثورات، التي يمكن أن تناسب حركات الربيع العربي، وبالطبع فالمناسبة أو الموافقة لا تعني المطابقة التامة بين المقاربة المستخدمة والحالة التي تُدرس وفقًا لها، وهذا ما يفسر ظهور المقاربات المختلفة، وكل حالة ثورية لها دومًا خصوصياتها، التي قد تكون صغيرة وقابلة للاندراج ضمن الخطوط العريضة لمقاربة أو نظرية ما، أو تكون كبيرة بما يكفي لتطوير المفاهيم وإنتاج مقاربة أو مقاربات جديدة مناسبة أكثر، وهذا ما حدث في حالات الثورة الإيرانية، والثورة النيكاراغوية، وثورة الفلبين عام 1986، وثورات شرق أوروبا عام 1989، والانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 التي أدخلت في الفكر السياسي العالمي مصطلح “Intifada”، وغير ذلك.
وبذلك، يمكن القول أيضًا إن ثورات الربيع العربي هي الأخرى ثورات فيها كثير من الخصوصيات، وهي تختلف في أمور كثيرة حتى في ما بين بعضها البعض، ولكنها في المحصلة النهائية تبقى مندرجة في إطار المفهوم الشامل للثورة التي يمكن إيجاز تعريفها عمومًا بأنها “عملية هادفة تسعى لإحداث أو فرض فيصلي تغيير سريع في بنية قائمة محددة”، وهذه العملية تشبه أي عملية أخرى من حيث احتمالات النجاح والإخفاق.
8- خلاصة:
بناءً على ما تقدم، يمكن القول إن نفي حقيقة “الثورية” عن حركات الربيع العربي، ووصمها بالمؤامرة هو فعل لا يفعله إلا من هم مصابون بالقصور أو الإعاقة الفكريين، الذين يتبعون الأوهام، لأنهم عاجزون عن رؤية واقعية الواقع ككلية جدلية متكاملة، تتفاعل فيها كلّ مكوناتها وعناصرها، فتنتج النتائج المترتبة على هذه التفاعلات وعناصرها، أو يفعله المغرضون الخبيثون الذين يروّجون دعايتهم الكاذبة، دفاعًا عن الدكتاتوريات التي يناصرونها أو يتبعونها، وهؤلاء لا تهمهم فعليًا الحقائق والوقائع الموضوعية، ولا تهمهم إلا غاياتهم ومصالحهم، مهما كانت الوسائل والأثمان.
بالطبع، يمكن قول كثير عما تضمنته الحراكات العربية من نواقص وعيوب، وما حدث فيها من أخطاء جسيمة، وكما بينّا آنفًا، فذاك يرجع بشكل رئيس إلى ضعف العامل الذاتي اللازم لتنظيم وقيادة هذه الثورات، فجاءت كثورات شعبية، بل شعبوية، وهذا ما سهّل عملية اختطافها والاستحواذ عليها، أو دفعها في مسارات بعيدة تمامًا عن غاياتها الأساسية، من قبل قوى داخلية وخارجية تشترك فيها المنظومات العربية الحاكمة والإسلام السياسي والتدخلات الخارجية الدولية والإقليمية.
وهكذا، فعند الحديث عن مؤامرة مرتبطة بالربيع العربي، فالمؤامرة الحقيقية التي يجب الحديث عنها، من دون الخروج من نطاقي العقلانية والصدق، هي ليست “مؤامرة الربيع العربي”، بل “المؤامرة على الربيع العربي” التي يشارك فيها العديد من المتآمرين المختلفين، الذين ما يزال كثيرٌ منهم يروّجون أكذوبة “مؤامرة الربيع العربي”، كجزء مهم من مؤامرتهم الخاصة على هذا الربيع، وعنصر أساسي من حربهم النفسية والإعلامية عليه.
[1] – فراس أبو هلال، مؤامرة الربيع العربي وإسرائيل.. كيف التقى الأعداء على نفس الكذبة؟ عربي 21، 13 كانون الثاني\يناير 2021
[2] – تامر أبو عرب، أسباب نجاح مؤامرة يناير، المصري اليوم، 20 آب\أغسطس 2014.
[3] – سلامة كيلي، رهاب النخب والخوف من الإسلاميين؟، مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي، 11 كانون الثاني\يناير 2013
[4] – برهان غليون، من أجل علمانية إنسانية، مدونة د. برهان غليون على بلوغر & موقع الأوان 23 أيلول\سبتمبر 2007
[5] – المعجم الفلسفي المختصر، ترجمة وفيق سلوم، دار التقدم، موسكو، 1986، ص 162.
[6] –عبد الرحمن حبنكة الميداني، خفايا الثورة الفرنسية، مدونة المـاسونية
[7] –علاء الجعودي، “عاصم الدسوقى: 25 يناير مؤامرة.. وما حدث فوضى وتهييج”، بوابة الوطن الإلكترونية، 28 كانون الثاني\يناير 2019.
[8] – موقع “المؤامرة العالمية” الإلكتروني
[9] – المرجع السابق، العلمانية
[10] – المرجع السابق، الشيوعية
[11] – المرجع السابق، النسوية.
[14] – المرجع السابق، الاتحاد الأوروبي
[15] – المرجع السابق، الحركة البيئية
[16] – المرجع السابق، الثورة الفرنسية
[18] – المرجع السابق، موسوليني
[19]– محمود حسن جناحي، الصلة بين اليهود والشيوعية حقائق وأرقام، مقالاتي، 19 آب\أغسطس 2010.
[20] – فاروق القاضي العلمانية هي الحل، دار العين للنشر، القاهرة-2014، ط2، كتب غوغل
[21] – محمد إبراهيم ماضي، صراعنا مع اليهود بين الماضي والمستقبل، دراسات إيمانية في القضية الفلسطينية، التوزيع والنشر الإسلامية بالسيدة زينب ، مصر،1992ص 36، كتب غوغل
[22] –عبدالله عزام، القومية العربية، moslim.se
[23] –تفاصيل اتهام الإخوان لـ”عبد الناصر” بالماسونية والعمالة والكفر، صحيفة الموجز، 24 آذار\مارس 2013.
[24] – محمد ممدوح، هل كانت يوليو ثورة؟ وهل كانت أمريكية؟ مركز إضاءات، 23 تموز\يوليو 2015.
[25] –مدحت عاصم، “الخرباوي: الماسونية قامت بتمويل حسن البنا.. والإخوان روجوا لشائعة انضمام عبد الناصر”، بوابة الأهرام، 1 شباط\يناير 2019
[26] – الأفغاني ومحمد عبده والماسونية، إسلام ويب- مركز الفتوى، 4 نيسان\إبريل 2005
[27] – نجم الديلمي، كشف الحقائق وأبعاد المضامين السرية لسيناريوهات المؤامرة الكبرى على الاتحاد السوفيتي، اليسار العراقي
[28] – فرح الزمان أبو شعير، محددات الموقف الإيراني من مصر بعد الثورة، مركز الجزيرة للدراسات،8 كانون الثاني\يناير 2013
[29] – خطبة المرشد الإيراني علي الخامنئي بالعربية تأييدا لأحداث 25 يناير، يوتيوب،1 أيار\مايو2011
[30] – محمد مطر، أبرز 10 أحداث اتُّهِمَتْ فيها إيران بزعزعة أمن الخليج – البيت الخليجي للدراسات والنشر
[31] – في انتظار الحوار.. الموالاة تتهم المعارضة وتحذّر من مؤامرة إيرانية، مجلة المجلة، 14 تموز\يوليو 2012.
[32] – المعلم قوات درع الجزيرة المتواجدة في البحرين ليست قوات احتلال وإنما تأتي في إطار مشروع – RT Arabic، 20 آذار\ مارس 2011
[33] – مبارك: مرسي لازم يروح سوريا علشان يموت هناك، موقع زمان الوصل، 16 أيلول\سبتمبر 2013
[34] – سورية تتخوف من ‘مصادرة’ الجيش المصري لنتائج الثورة والإبقاء على كامب ديفيد، القدس العربي، 13 شباط\فبراير 2011.
[35] – رمضان قرني محمد، الجيش المصري..وثورة 25 يناير، الجيش المصري- دراسات ومقالات.
[36] – علاء عبدالرحمن، هذه قصة رسائل البريد الإلكتروني لهيلاري كلينتون، موقع “عربي 21″، 13 تشرين الأول\أكتوبر 2020
[37] –هل كانت تسريبات كلينتون مؤامرة أمريكية لنشر الفوضى؟ – BBC News عربي، 18 أكتوبر\ تشرين الأول 2020.
[38] – إسراء أحمد فؤاد، تسريبات كلينتون تكشف مؤامرات الربيع، اليوم السابع، 13تشرين الأول\أكتوبر 2020
[39] – رضوى علاء، بريد كلينتون يفضح كرمان شراء نوبل بأموال قطر وإشعال فوضى اليمن، بوابة “الوطن”، 19 تشرين الأول\أكتوبر 2020
[40] – وفاء دعاسة، تسريبات كلينتون.. وعلاقات الديمقراطيين بحركة النهضة في تونس، كيو بوست، 15 تشرين الأول\أكتوبر 2020
[41] – فرانس برس، ثورة أم مؤامرة؟.. دبلوماسيون يقيمون دور الغرب في الربيع العربي، قناة الحرة، 7 كانون الثاني\ديسمبر 2020.
[42] – عبدالباري عطوان، بعد مرور عشر سنوات على الثورة السورية، رأي اليوم، 15 آذار\مارس 2021
[43] – وفاء دعاسة، المرجع السابق.
[44] –عزمي بشارة، ثورة مصر (الجزء الأول) من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير, المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كتب غوغل، ص 535.
[45] – محمد السطوحي، “أمريكا.. ثورة يناير.. و المؤامرة ( ذكرى ١١ فبراير ٢٠١١ )”، مجلة الثقافة العمالية، 11 شباط\فبراير 2020.
[46] – فرانس برس، ثورة أم مؤامرة؟ مرجع سابق.
[48] – المعجم الفلسفي المختصر، مرجع سابق، ص 162
[49] – حنة أرندت، في الثورة، ترجمة عطا وهبة، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008، ط1، ص 38.
[50] – المعجم الفلسفي المختصر، مرجع سابق، ص 162
[51] –Revolution\Political and socioeconomic revolutions-Wikipedia
الواقع يا سيدي أننا لا نحتاج لتأييد النظام السوري المجرم أو تصديق دعايته لنصدق أن الربيع العربي مؤامرة، بل يجب أن تكون ضد النظام لتكون في صف الحقيقة المؤامراتية!
لو عدنا يا سيدي بالزمن إلى العام ٢٠١١ فهل كنت ستقوم بثورة كانت شعاراتها (سلمية سلمية) ؟ هل كنت ستدعمها وأنت تعلم أنها ستواجه نظام طائفي مجرم؟ بالطبع لا
نحن لم نولد بالأمس، نحن نعرف العلويين وأفعالهم منذ أيام الصليبيين والمغول، نحن نعرف أنهم أعدائنا، إن الوطنية والتعايش جريمة بحق أنفسنا وأطفالنا ارتكبها آباؤنا وأجدادنا، وكل من نادى بهذه الأمور من (الإخوان والأتراك والوطنيين ودعاة الديمقراطية والحرية والتعايش وغيرها) هو عدو للشعب السوري.
والآن، إذا كنت سترفض القيام بثورة سلمية ضد نظام مجرم، وسترفض القيام بثورة مسلحة تسليح خفيف لأنك تعلم أن الدول العظمى مثل أمريكا وروسيا ستتدخل لتحمي النظام وتدمر الشعب، إذا رفضت كل ذلك فلماذا ما زلت تؤمن بالربيع العربي؟
من يستطيع أن يدعم ثورة هي في الواقع إعلان بالذبح العام للشعب السوري؟
يا سيدي كاتب المقال، هل تعلم كم عدد الثورات التي قامت أمريكا بصنعها حول العالم؟ هل تعرف كيف أسقطت أمريكا السوفييت عبر ثورات آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية والبلقان؟ هل سمعت عن ثورات أمريكا الجنوبية؟ كل هذه الثورات صنعتها أمريكا لتحقيق مصالحها فقط وليس مصالح تلك البلدان.. باسم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، الربيع العربي ليس مختلف، كان من مصلحة أمريكا تدمير العراق وسوريا ولبنان وليبيا والسودان وغيرها حسب كلام الجنرال الأمريكي ويزلي كلارك شخصيا ؟
نعم الأنظمة والحكام العرب كانوا فاشلين وفاسدين ولكن لم يكونوا عملاء - باستثناء النظام السوري طبعا - ولكن انظر للرئيس المصري كيف قرر أن يتنازل عن الحكم ليجنب مصر حرب أهلية وشيكة شبيهة بالحرب السورية ؟ هل يفعل عميل هذا؟
ثم انظر لنفاق وكذب ودجل الإخوان حين يهاجمون السعودية ومصر ويمدحون تركيا ويعتبرونها حامية الإسلام في حين أن تركيا عضو بحلف الناتو مع أمريكا وفرنسا!
الواقع أن أي شخص يعتقد أن النظام السوري أو إيران أو تركيا أو حزب الله أو حماس أو الإخوان أو القاعدة أو داعش أعداء لأمريكا واسرائيل هو يخدع نفسه أو يعتقد أنه يخدعنا، هذه الجهات والدول والتنظيمات صناعة أمريكية وتعمل لصالحها.
في الواقع الأمثلة كثيرة والواقع بائس جدًا ولا شيء أرخص من دماء العرب وخاصة العرب السنة حيث تستخدم هذه الدماء لصنع المسرحيات الكثيرة التي يخدعوننا بها، وسأذكر لك مثال واحد قريب وواضح جدا للنابهين ولكن عامة الناس لا يرونه:
قبل عدة أشهر وتحديدًا في نهاية شهر مايو من سنة ٢٠٢١ قام شيعة العراق وتعدادهم ٢٠ مليون تقريبا، المهم قاموا بالزحف نحو بغداد ليقوموا بثورة ضد النظام الشيعي الطائفي المجرم في العراق وثورة ضد النفوذ الإيراني، هل تعرف ماذا حدث؟ قامت اسرائيل وحماس بصنع مسرحية حي الشيخ جراح وقاموا بجعل حماس تطلق صواريخ كثيرة على اسرائيل ونشروا صور ومقاطع تثير الإعجاب طبعا بدون قتيل يهودي واحد وبالمقابل قُصفت غزة وذب ضحيتها ٢٠٠ عربي سني من غزة!
تخيل ٢٠٠ انسان قتلوا من أجل سحب الأضواء من ثورة العراقيين التي تسير ضد مخططهم لتمكين الشيعة المجرمين! تخيل أنهم نجحوا وفعلا شيعة العراق فقدوا الأمل واصبحوا غير مهتمين بتغيير النظام!
هل فكرت لماذا قامت حماس بذلك؟ ولماذا الإعلام السعودي هاجمها؟ لأنها تتظاهر بأنها معنا ولكنها ضدنا
مثل النظام السوري وتركيا وحزب الله وايران والاخوان
أرجوك فكر كثيرا في الأمر وحاول أن ترى نظرتنا بدون تحيز، سوف ترى الواقع التعيس البائس، سوف ترى أننا مجرد دمى يلعبون بنا ويخدعوننا، ولكن الأمل أننا نعرف ونفهم ولسنا مخدوعين ولن يطول هذا الليل