دأبت الولايات المتحدة، عبر قرن، على فرض نظامها على المنطقة التي باتت تُعرف عمومًا باسم “الشرق الأوسط”، ونجحت لفترات زمنية في فرض هيمنتها، المباشرة تارة وغير المباشرة تارة أخرى، لكنها ما لبثت أن وجدت نفسها في مواجهة ردود شعبية، كانت عنيفة في الغالب، وتشكل الولايات المتحدة الآن، لبعض الوقت على الأقل، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والانتصار في حرب الخليج، القوة الخارجية المسيطرة على المنطقة، رغم وجود متدخلين دوليين آخرين في هذه المنطقة الحساسة.
بصرف النظر عن طبيعة سياستها، فإن الولايات المتحدة تعترف بأهمية المنطقة، وقد اعتبر رسميون أميركيون بارزون منطقة الشرق الأوسط الواقعة عند تلاقي ثلاث قارات والمحتضنة لمنابع معظم احتياطات العالم النفطية، المنطقة الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية في العالم، وعلى الرغم من أنها لم تعد قلقة إزاء احتمال خضوع المنطقة للنفوذ السوفييتي، فإن الولايات المتحدة ما زالت متوجسة إزاء نفوذ حركات محلية قد تتمكن من تحدي المصالح الأميركية.
ثمة تهديد مستمر ملموس على نطاق واسع يصدر عن قوى علمانية متطرفة وإسلامية متطرفة، فضلًا عن وجود قلق من الفوضى التي يمكن لأية تحديات كبرى لحكم الأنظمة الموالية للغرب، وإن كانت بقيادة حركات ديمقراطية محتملة، أن تتمخض عنها، وبنظر أكثرية صانعي القرار السياسي في الولايات المتحدة فإن الجزء الأكثر حسمًا من الشرق الأوسط هو منطقة الخليج العربي.
لم تأخذ الحركة الصاعدة المؤيدة للديمقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط قسطها من النجاحات الاستثنائية لنظيراتها في كل من أوربا الشرقية وأميركا اللاتينية وأفريقيا وأجزاء من آسيا، فأكثرية الحكومات في الشرق الأوسط ما زالت فردية مطلقة واستبدادية، وعلى الرغم من دعمها الخطابي للمزيد من الحريات الفردية بين الحين والآخر، فإن الغرب عمومًا، والولايات المتحدة خصوصًا، لم تدعم تلك الخطوات التجريبية التي تمت في الشرق الأوسط على طريق إشاعة الديمقراطية، وبالفعل فإنهم قلصوا، أو أبقوا على المستويات الدنيا، دعمهم الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي للبلدان العربية التي خطت خطوات ذات شأن على طريق إشاعة الليبرالية السياسية في السنوات الأخيرة، في حين زادت من دعمها لنظم فردية استبدادية شرق أوسطية.
ليست سياسة واشنطن الحقيقية فيما يخص حقوق الإنسان في الشرق الأوسط صعبة الفهم، فقد زادت المساعدات الأميركية المقدمة إلى إسرائيل خلال عقد الثمانينيات لدى بلوغ قمع الحكومة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة مستويات قياسية، وبصرف النظر عن النوايا الفعلية للولايات المتحدة، فإن الرسالة الموجهة إلى بلدان الشرق الأوسط تقول على ما يبدو إن الديمقراطية ليست ذات أهمية.
تتوجه أكثرية الصادرات الأميركية من الأسلحة إلى الشرق الأوسط محققة أرباحًا هائلة لصانعي الأسلحة المتنفذين سياسيًا، وعلى الرغم من الوعود بفرض القيود فإن قيمة شحنات الأسلحة الأميركية المرسلة إلى المنطقة بلغت أكثر من ستين مليار دولار منذ حرب الخليج.
من غير القابل للإنكار أن الديمقراطية وحقوق الإنسان المعترف بها بصورة شاملة، لم تكونا قط شائعتين في العالم العربي الإسلامي، ومع ذلك فإن النزوع في الولايات المتحدة إلى التأكيد على التفسيرات الحضارية والدينية لهذه الحقيقة يساعد على تقليص أهمية العوامل الأخرى التي يمكن القول إنها أكثر بروزًا، بما فيها تركة النظام الاستعماري والمستويات العليا من العسكرة والتنمية الاقتصادية اللامتكافئة، والتي يمكن إرجاعها بأكثريتها ولو جزئيًا إلى سياسات الحكومات الغربية بما فيها الولايات المتحدة إلى الحدود الدنيا.
تُقدّم الولايات المتحدة مساعدات خارجية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ضمن ست مبادرات وبرامج رئيسية: هي مبادرة الشراكة الأميركية – الشرق أوسطية، ومكتب تنسيق المساعدة لشؤون الشرق الأدنى، وصندوق الحوافز الخاص بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل التابع لوزارة الخارجية، وبرنامج الديمقراطية الإقليمي للشرق الأدنى، والصندوق الوطني للديمقراطية، وتخصص هذه، وتقول إنها تنشر فائدة برامجها هذه ليستفيد منها 11 بلدًا عربيًا، من ضمنها دول الشرق الأوسط.
لكن في حقيقة الأمر، وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على انتفاضات وثورات العالم العربي، والتي روّجت الأمل بإمكانية التغيير السياسي وتوسيع هامش الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واستبدال الأنظمة الفاسدة والقمعية بـحكومات مسؤولة وديمقراطية، لم تفعل الولايات المتحدة ما كان يتوقع أن تفعله عبر أي من برامجها الضخمة السابقة، فالأمل والانتظار في سياسة الولايات المتحدة تجاه هذه المنطقة الحساسة، لم يتحقق، ولو بحده الأدنى.
الحقيقية على أرض الواقع، أن الولايات المتحدة لم تلتزم بما وعدت به للمنطقة، بتغيير الأنظمة الديكتاتورية بأنظمة ديمقراطية تعددية تداولية، بسبب اعتمادها أساسًا على أنظمة قمعية وغير ديمقراطية في مختلف أنحاء المنطقة، واتخاذها من تلك الأنظمة حلفاء لها، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، أن هذه الأنظمة الفاسدة حافظت على الاستقرار في بلدانها من خلال قمع مواطنيها، ويهم الولايات المتحدة الجانب الأول أكثر من الثاني كثيرًا.
رغم أنه في عام 2011 ساد الاعتقاد بأنه لن يتم تجاهل هذه المسائل في إقناع الحكومة الأميركية بضرورة تغيير المسار في المنطقة، إلا أن الإدارات الأميركية المتعاقبة تجاهلت المناشدات التي تدعو إلى دعم الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية، واستمر دعمها بثقله الاكبر للحكومات نفسها التي تقمع الديمقراطية وحقوق الإنسان، على الرغم من أن الخطاب الأميركي الرسمي العام أشار إلى عكس ذلك في بعض الأحيان، ولم تنجح النظرية التي قالت إن أنصار الديمقراطية والمواطنين الشجعان، ومن خلال مواجهتهم لحكوماتهم، سيُجبرون الولايات المتحدة على تغيير سياستها، على الرغم من ترددها في القيام بذلك.
تؤكد الدراسات (منظمة بوميد – 2014 – الموازنة والاعتمادات القيدرالية للسنة المالية 2015 – الديمقراطية والحكم الرشيد وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط) حول المساعدات الأميركية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في السنوات الأخيرة، أنها لم تتغير عن ما كانت عليه قبل انتفاضات 2011، ولم تزيد في دعم مسار الديمقراطية والحوكمة الرشيدة وحقوق الإنسان، ولم تُصبح هذه القضايا أولوية بالنسبة للحكومة الأميركية. وبشكل عام، فإن قلة التغيير في هيكلة وأهداف المساعدات الأميركية للمنطقة منذ الفترة قبل انتفاضات 2011 ملحوظة، بينما ارتفعت النسبة المئوية للمساعدات الأميركية المخصصة لدعم القوات العسكرية والأمنية منذ ذلك التاريخ، في حين انخفضت النسبة المئوية المخصصة للبرامج الخاصة بالديمقراطية والحوكمة وحقوق الإنسان، على الرغم من التصريحات المتكررة للإدارة الأميركية والكونغرس التي تشير إلى عكس ذلك. تخلت الإدارة الأميركية عن الطلبات المخصصة لصندوق حوافز الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واستبدلته بـصندوق أصغر بكثير يسمى صندوق مبادرات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويركز الصندوق الجديد على برامج المساعدة الإنمائية الاقتصادية التقليدية بدلًا من التركيز على الإصالح السياسي. وقد تم اقتراح إنشاء صندوق حوافز الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لدعم انتفاضات الربيع العربي، لكن فشلت الإدارة الأميركية في جمع أي تمويل لهذه المبادرة على مدى عامين، واستسلمت وحولت جهودها نحو صندوق مخصص لبرامج التنمية التقليدية.
ثمة سخرية غير مباشرة في سياسة أميركية تبيع الأسلحة وكثيرًا ما ترسل المساعدات العسكرية المباشرة إلى أنظمة شرق أوسطية قمعية تضطهد شعوبها، وتسحق حركات حقوق الإنسان الوليدة، ثم لا تلبث أن تزعم أن الافتقار الحاصل إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان دليل على أن الناس لا يريدون مثل هذه الحقوق، وتلعب شحنات الأسلحة هذه، ومعها منظومات الدعم الدبلوماسي والاقتصادي على أرض الواقع دورًا بالغ الأهمية في إبقاء الأنظمة العربية الفردية المطلقة الاستبدادية في السلطة عن طريق تقوية قبضة الدولة ودعم القمع الداخلي.
لقد حققت الولايات المتحدة حتى الآن نجاحًا كبيرًا في توسيع دائرة المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والدبلوماسية الأمريكية في المنطقة. غير أن مثل هذه العلاقة القائمة على الهيمنة مع الشرق الأوسط قد تكون قصيرة الأجل بل وحتى كارثية بالنسبة لقوة كانت مهيمنة ذات يوم، وهو تحدي خسره الرومان والصليبيون والمغول والعثمانيون والفرنسيون والبريطانيون، ففي ضوء الاستياء المتصاعد إزاء دور أميركا لدى كثيرين من أهالي الشرق الأوسط، من المحتمل أن يكون ثمة صراع مستمر بين الولايات المتحدة من جهة، وشعوب وحكومات المنطقة من الجهة المقابلة، ما لم تطرأ تغييرات دراماتيكية مثيرة على سياسة الولايات المتحدة الشرق أوسطية.
ليس ثمة أي حافز يدفع الحكومة الإسرائيلية باتجاه تغيير سياساتها طوال بقاء الدعم الأميركي العسكري والدبلوماسي والاقتصادي دون شروط، على الرغم من استمرار إسرائيل في انتهاك حقوق الإنسان والقانون الدولي والاتفاقات السابقة مع الفلسطينيين، أما الاستياء والسخط العربيين المتناميين فلا يسعهما إلا أن يُشكّلا تهديدًا للمصالح الأمنية ذات المدى الطويل لكل من إسرائيل والولايات المتحدة على حد سواء.