مقدمة

تتناول هذه الورقة المقدّمة في الجلسات الحوارية التي يرعاها مركز حرمون مسألة العلمانية في سورية المستقبل. وهذا الموضوع جزءٌ من قضية أوسع بخصوص شكل سورية المستقبل، ضمن أيّ حلّ ممكن بدون نظام الأسد.

اعتبر كثيرٌ من أصحاب القرار والمشهد المعارض السوري السياسي والإعلامي والبحثي أنّ الكلام على شكل الدولة السورية، بفرض انتهاء الأزمة وسقوط النظام، نوعٌ من الترف الفكري؛ ويعيدنا هؤلاء لمقولة مستمرة من 2011 “لنسقط النظام الآن، ثم نصحّح أخطاءنا ونقرر شكل الدولة”. في الواقع، إنّ 11 سنة من استمرار المأساة والمذبحة في سورية، مع بقاء النظام الأسدي بمكانه أكثر قوة، مقارنة بحاله في أول سنتين من عمر الثورة، وصعود قوى إسلامية متطرفة تحمل عنف النظام وميليشياته نفسه، وانسداد الأفق أمام ما يسمّى مفاوضات المجتمع الدولي حول سورية؛ تقول إن تلك المقولة كانت موغلة بالخيال والمثالية، ومفتقرة إلى العمق برؤية الصراع فوق سورية.

مدخل

تقف سورية الآن، كما كانت منذ صيف 2013 بعد تسليم القرار للدول الفاعلة، أمام سيناريوين للوصول إلى حلّ، أو إلى حال مختلف بالأصح، وهما:

  • السيناريو الدولي:

لا يبدو أن للصراع الدولي فوق سورية، وليس على سورية[i]، نهاية قريبة، وذلك لعدد من الأسباب؛ أهمّها هو تزايد التوتر بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية برئاسة بايدن، وبين حلف روسيا-الصين-إيران؛ فالرئيس بايدن لا يجد أسبابًا سياسية أو جيوسياسية أو مالية أو عسكرية ضخمة بما يكفي، للانسحاب من سورية، كما يُشاع قياسًا على انسحابه من أفغانستان[ii]. وحلف روسيا-الصين-إيران ما زال لا يملك أوراقًا ولا خطة طريق واضحة للخروج بحلّ في سورية، يُبقي نظام الأسد مستقرًا، على الأقل من الناحية العسكرية والأمنية؛ خاصة أن علاقاته، مهما ظهر تطورها مع تركيا، لا تُقدّم الكثير في المسار السوري. وإذا افترضنا أنّ المسار الدولي توصّل إلى توافق على شكل سورية والحلّ فيها، فلن يكون ذلك -بأحسن أحواله- أفضل من الحالة العراقية أو اللبنانية أو الأفغانية أو اليوغسلافية، إن سيطرت الرؤية الأميركية، ولن يكون أحسن حالًا من أوكرانيا أو جورجيا، إن سيطرت الرؤية الروسية.

  • السيناريو السوري الشعبي:

وهو المسارُ الذي لم يُعتنَ به بما يكفي، وفق خطة طريق واضحة، من قبل هيئات ومجالس ومجموعات المعارضة السورية، ولا الإعلام السوري المعارض ذي الإمكانيات الكافية، تحت حجة اللاواقعية والمثالية. لكن السنين المريرة أثبتت أن هذا المسار ما زال هو الأهمّ. والمقصود بالمسار السوري الشعبي هو بناء قناعة وثقة، لدى شريحة معقولة من السوريين، بالحلّ والمستقبل، وألا يقتصر ذلك على القيادات والهياكل المُؤطرة والحاجبة للمعارضة السورية. وتقوم تلك القناعة على خارطة طريق واضحة، لتحقيق الدولة السورية المستقبلية المستقرة والقابلة للتطور. لذلك فإن وضع تصور وتوصيف كامل لشكل وبنية الدولة السورية المأمولة كان وما زال الخطوة الأهم والأساسية لإيجاد حلّ في سورية، ولضمّ أكبر شريحة من السوريين ضمن مسار واحد. بل إن هذه الخطوة المنسية يمكن أن تشكل أساسًا داعمًا ودافعًا لأيّ حلّ دولي متوازن[iii].

والسؤال الأهم: ما هو شكل بنية الدولة الأكثر قدرة على مواجهة التحديات والأزمات المتلاحقة والمتسارعة والذي يمتلك مرونة وديناميكية ذاتية قادرة على التفاعل مع التطورات الكونية المتسارعة؟

يواجه العالم كلّه عمومًا سؤال الدولة الحديثة، الذي يعني الدولة المستقرة الآمنة القابلة للتطور والاستمرار مع المحافظة على حقوق مواطنيها. والدول العربية والإسلامية تحتاج أكثر من غيرها إلى إجابات واضحة واقعية ممكنة وأكثر ضمانًا لتحقيق حالة الانطلاق باتجاه بناء الدولة الحديثة؛ والحال السورية تواجه هذا السؤال بإلحاح أكثر بكثير، لما تفرضه المأساة السورية غير المسبوقة من تحديات وصعوبات. فضلًا عن أهمية الجواب في وضع خطة طريق لإيجاد حل في سورية.

الدولة الديمقراطية العلمانية المؤسسة على مبادئ الشرعة الدولية لحقوق الإنسان هي الحلّ

لا يمكن الكلام على العلمانية في الحالة السورية من دون التطرق إلى الترابط الحتمي مع الديمقراطية، ومبادئ الشرعة الدولية لحقوق الإنسان (بدون أي تحفظ أو خصوصية)، وسأسمّي ذلك “مثلث الحداثة”. ولذلك فإن الإجابة على سؤال جلسة الحوار يجب أن يضع هذا المثلث كإطار دائم لأيّ مقاربة للعلمانية.

أورد بالفقرات التالية أسس وضع تصور للدولة السورية، والديمقراطية وحقوق الإنسان بشكل مختصر، قبل الانتقال إلى سؤال العلمانية.

لا يوجد خصوصية لسورية أو العرب أو المسلمين

لطالما كانت حجة الخصوصية هي الحجة الأهم التي رفعتها النظم الحاكمة العربية، والسوري الأسدي البعثي منها، وكذلك التي رفعتها تيارات سياسية عدة، خاصة الإسلامية، في مواجهة كل التطويرات اللازمة والحتمية لإنشاء الدولة الحديثة. وبواقع التطبيق، كان ادعاء الخصوصية أمام مثلث بناء الدولة الحديثة المشار إليه هو وسيلة لضرب هذه الأسس للدولة الحديثة، والانكفاء للنماذج التقليدية الدكتاتورية أو الإسلامية المزعومة.

ما يهدم حجة أو داعي الخصوصية، في سورية وفي منطقتنا، بل في العالم كله، هو حقيقة أن تحول العالم إلى قرية صغيرة كونية ليس مجرد توصيف رومانسي، بل هي حالة اشتباك تجاوز الاقتصاد والبضائع والنزاعات والتحالفات السياسية ليشمل الفكر والفلسفة والدين والعادات والتقاليد، من أبسط تفاصيل الحياة اليومية وصولًا إلى بنية السوق والمؤسسات والدولة. وهذا التشابك يتزايد بسرعة قياسية، تلغي خصوصية دول أقوى وأقدر من سورية والدول العربية، مثل الصين والهند والدول الغربية، فلا مكان لادعاء خصوصية سورية.

ما هي الديمقراطية؟

تقوم الديمقراطية[iv] على الأسس التالية التي يجب العمل على تحقيقها تدريجيًا وبإصرار:

  • – الثقافة الديمقراطية، وتعني نشر الثقافة والمبادئ والقيم الديمقراطية في كامل مكونات الدولة والمجتمع، من القمة إلى القاعدة، وصولًا إلى الأسرة، وهي الخلية المؤسسة الأساسية للمجتمع.
  • – ثقافة الحوار والنقاش، وتحمي الديمقراطية من أن تصبح صراعًا سياسيًا أو أيديولوجيًا دائريًا، يؤدي إلى تشتيت الناس وإغراق الدولة بالفوضى.
  • – آليات الديمقراطية، وتتضمن آليات الاقتراع والتصويت والقوانين والنظم الحاكمة لها. هذه الآليات هي القابلة للتطبيق السريع في الحياة العامة، ولا تحتاج إلى تدرّج مثل الأساسين السابقين؛ لكن ذلك لا يجوز أن يصبح كافيًا في طريق تحقيق الديمقراطية، كما حصل في عدد من الدول ذات الديمقراطية الشكلية.

لضمان نجاح الديمقراطية، كنظام حكم سياسي، يشترط توفر ما يلي:

  • – شفافية المعرفة وحرية الحصول على المعلومات وحمايتها؛ لأن الديمقراطية التي تتطلب من الأفراد اتخاذ قرارات تؤثر في الدولة ككل، تستوجب أن يعرف المواطنون المعلومات اللازمة والصحيحة.
  • – عدالة توزيع مصادر القوة والتعبير والحماية لمختلف القوى السياسية والاجتماعية والمدنية المشاركة في العملية الديمقراطية.
  • – التناغم والانسجام مع مبادئ حقوق الإنسان وفق الشرعة الدولية، دون أي تحفظ لتجنب وقوع الديمقراطية بفخ دكتاتورية الأكثرية. وبذلك لا تستطيع الأكثرية استخدام قوتها للانتقاص أو انتهاك حقوق الأقليات.

مبادئ حقوق الإنسان وفق الشرعة الدولية

تشكل مبادئ حقوق الإنسان وفق الشرعة الدولية[v] ما يمثل مبادئ فوق دستورية حاكمة للسلطات في الدولة، وبذلك يتم ضمان ألا تتطرف الدولة، أو أحد مكوناتها، إذ يؤدي ذلك إلى انتهاك حقوق الإنسان، ومن ثم تهديد استقرار الدولة والمجتمع. وهذه المبادئ لا يجوز المساومة حولها بحجة الخصوصية[vi]، لأنها الضامن الأساسي والأهم لتحقيق أفضل شكل ممكن للعدالة، ولمواجهة ما قد يتفجر بعد 11 سنة من المأساة السورية.

ما هي العلمانية؟

العلمانية هي أحد الأطر التي تشكل منظومة الدولة[vii]، فالعلمانية تهتم بعلاقة الدين بالدولة والمجتمع والأفراد، من خلال إبعاد مرجعية التفسيرات الدينية وما يُشتق منها من شرائع، عن نظام الدولة القانوني والتشريعي والتنفيذي، وحجب التفسيرات الدينية الإقصائية عن سلّم القيم الأخلاقية الاجتماعية والثقافية.

فالعلمانية تحمي الدين والعقائد الدينية من تدخّل الدولة والسلطة السياسية في ما يخصّ حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية، ضمن الحدود التي يعرفِّها الدستور والقانون والقيم المؤسسة للدولة الحديثة. ولا تعني العلمانية رفض الدين كحقيقة وحاجة إنسانية تقوم على حرية الاختيار، ولا رفض القيم الأخلاقية الدينية التي تتوافق مع القيم الأخلاقية الإنسانية العامة.

وبتعبير أكثر اختصارًا ووضوحًا: هي إبعاد سلطة رجال وتشريعات الدّين عن الدولة بكل مكوناتها، وحماية عقائد المؤمنين وحرياتهم الدينية.

أسس العلمانية المطلوبة في سورية

تعتمد العلمانية المأمولة بحدها الأدنى على ضرورات وحقائق عدة هي:

  1. لا دين للدولة. فلا يمكن أن تكون الدولة السورية إسلامية، بالتعريف الرسمي دستوريًا. فالدولة السورية يجب أن تكون لكل السوريين وليس لغالبيتهم، كي لا نقع في فخ دكتاتورية الأكثرية.
  2. لا تخضع المناصب والمؤسسات والبنية الإدارية للدولة لأيّ شرط له علاقة بالدين أو الطائفة. فلا يجوز فرض أي صفة دينية، أو طائفية، أو قومية، أو مناطقية لرئيس الدولة، أو غيره.
  3. لا يمكن قبول وجود أي مرجعية دينية في التشريع القانوني للمجتمع والدولة. فالمادة الدستورية المتوارثة منذ منتصف القرن الماضي، حول فرض الشريعة الإسلامية كمرجع أو المرجع الأساسي للتشريع، هي ضرب للعلمانية بأهم أسسها.
  4. اعتماد التشريع والقوانين على التجربة السورية وتجارب الدول الأخرى في تحرير القانون من أي مرجعية دينية.
  5. قوانين الأحوال الشخصية يجب أن تكون مدنية أساسًا، وفق الفقه القانوني الحديث وتجارب الدول الأخرى.
  6. يبقى للأفراد، في بعض الحالات، كحالات الزواج أو الطلاق، أن يلجؤوا إلى التشريعات الدينية، لكن أمام الدولة يبقى القانون هو القانون المدني (مثل الحالة التركية).
  7. حماية وضمان الحرية الدينية والإيمانية لكل الأفراد، وفق مبادئ حقوق الإنسان، التي تضمن حرية الإيمان، والممارسة، والإعلان، والدعوة.
  8. ضبط ومواجهة كل الدعوات الدينية أو الطائفية التي تُسهم في ترسيخ أو تثبيت قيم أو ممارسات تميّز بين المواطنين وفق انتمائهم الديني أو الطائفي. ومن ذلك منع التفسيرات المغالية في الإقصاء الديني التي تكفّر أو تزندق، وبالتالي تدعو بأقل أشكالها للاضطهاد النفسي والاجتماعي. بل قد تفرض الحالة السورية منع ذلك قانونيًا، وبشكل حاسم، ضمن مجموعة كاملة من قوانين حماية المواطنين من التمييز ضدهم، بسبب دينهم أو طائفتهم أو قوميتهم أو منطقتهم أو جنسهم أو مستواهم المادي.

أسس العلمانية هذه لا تعني، بأي شكل، علمانية أتاتورك أو السوفييت، ولا تعني أيضًا علمانية مشوهة تحت عنوان الدولة المدنية الذي رفعه الإخوان المسلمون في مصر، حيث لا وجود أساسًا لهذا المصطلح بعلوم الاجتماع والسياسة، فخلطوه بمفهوم الحكومة المدنية.

هل هناك علمانية خاصة “سورية” أو “عربية” أو “إسلامية”؟

لا يوجد أي نموذج علماني ناجح تنازل عن الأسس السابقة في العالم، حتى في تركيا ذات الأغلبية المسلمة. وبالتالي إن أي مساومة في أسس العلمانية، وطبعًا الديمقراطية وحقوق الإنسان، ستؤدي إلى فتح الباب أمام سيل من التعديلات التي لا يمكن ضبطها. فالثابت -تاريخيًا وحاليًا- أن التيارات الدينية، ومنها الإسلامية، والتيارات الأيديولوجية التقليدية بمنطقتنا، لن تتوقف عند الحدود المرسومة لها إن وجدت أي مساحة لسلطة دينية أو أيدلوجية أو قومية، بل ستسعى لتوسيعها.

مثلًا، لو تم ادعاء أن عدم تحديد ديانة الرئيس والمسؤولين بالدولة مقبول. لكن يجب إبقاء قوانين الأحوال الشخصية قوانين دينية، أو الإبقاء على القوانين الدينية مع قوانين مدنية إضافية؛ فإن ذلك سيخلق تناقضات جوهرية في المجتمع، منذ بداية إعادة بنائه كمجتمع حديث عصري، لأسباب عدة منها:

  • – التشريعات الدينية الإسلامية والمسيحية وغيرها بما يخص قوانين الأحوال الشخصية هي أولًا تميّز بين الرجل والمرأة وتظلم المرأة، وبذلك سيحصل انتهاك لمبادئ حقوق الإنسان، فضلًا عن قصور رؤيتها بما يخص حقّ الطفل.
  • – ضمان حقوق كلّ المذاهب والطوائف بالتشريع القانوني سيخلق فوضى قانونية كبيرة؛ فالسائد في سورية منذ الخمسينيات إلى الآن هو الاعتماد على تشريعات المذهب الحنفي للمسلمين، ومنح المسيحيين وفق الكنائس المعترف بها، والدروز خصوصية تشريعية. فإذا فُتح الباب لكل التشريعات الدينية، فهذا سيخلق مجموعة ضخمة معقدة من القوانين، في حقل قانوني هو بحد ذاته من أصعب وأعقد القوانين بكل الدول؛ وإنْ تم الاكتفاء بالشكل التقليدي المشار إليه، فذلك يعني انتهاك حقوق المواطنين من غير المذاهب والطوائف والكنائس المذكورة.
  • – خلق إشكاليات جوهرية، في حال التعارض بين الشرائع، كحالات الزواج المختلط بين الأديان والطوائف. واقتراح منح القانون المدني السيادة سيؤدي -بشكل غير مباشر- إلى أن تمارس بعض فئات المجتمع بهذه الحالات ممارسات ظالمة وضاغطة، لا يمكن مواجهتها أو تصنيفها قانونيًا.
  • – تفرعات قوانين الأحوال الشخصية ستتفاعل مع بقية القوانين والمبادئ الدستورية، وهذا سيؤدي إلى تمرير تشريعات قانونية دينية ضمن قوانين الإرث، ومن ثم إلى التأثير في قوانين المعاملات الاقتصادية بين الناس، وتوسّع مساحة التشريع الديني.

وهذا يعني أنّ الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان وفق الشرعة الدولية يمنع بشكل حاسم اختلاق علمانية خاصة بسورية.

من ناحية أخرى، حتى لو لم تكون سورية مرت بكل هذه المآسي الأفظع بتاريخ العالم، فإنه لا سورية ولا غيرها من دول نامية متعثرة تملك رفاهية الوقت لإعادة اختراع العجلة؛ فلا يوجد نموذج واقعي لعلمانية خاصة، كما يريد أصحاب التيار الديني الإسلامي وحتى المسيحي. فالفروق بين علمانية دول أوروبا الغربية وأميركا واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا، هي فروق لا تمسّ الجوهر العلماني، وبالحالة السورية من الواضح ألا مكان للتجريب والإخفاق.

الصعوبات التي تواجه العلمانية

الصعوبة الأساسية تكمن في المبالغة بحجم معارضة العلمانية بين السوريين، بل بين العرب والمسلمين. فلا يوجد في سورية أي جهة يمكنها الادعاء أنها أجرت استطلاعات ودراسات بين السوريين لمعرفة حجم المعارضة الحقيقية للعلمانية. وبرأيي، أن الغالبية من المهتمين بالموضوع يبالغون في حجم المعارضة.

الصعوبة الأبعد تكمن في الحرب الإعلامية الشرسة التي شنّها تاريخيًا إعلام النظم العربية كلّها، ضد مثلث الحداثة المشار إليه، بالإضافة إلى الحرب التي شنها الإسلام السياسي والمؤدلج أيضًا ضد هذا المثلث، وخاصة العلمانية. وبنظرة سريعة، سنرى أن ليس هناك فضائية عربية واحدة تحمل هذا المثلث الحداثي كرسالة إعلامية، بينما يحمل كلها رسالة دينية، كجزء صغير أو كبير، من رسالتها الإعلامية. ولعلّ الإشاعة المنتشرة، حتى بين النخب العربية والغربية، حول كون ما يُسمى جمهوريات عربية، ومنها نظام البعث والأسدين في سورية[viii]، هي نظم علمانية، تُسهم أيضًا في زيادة تشويه صورة العلمانية، لأنّ هذه النظم ارتبطت بالتعسّف والظلم والفساد والجرائم ضد الإنسانية؛ وهذا يضيف صعوبة كبيرة أيضًا.

في الواقع، الإعلام الكبير وإعلام السوشيال ميديا يشكل تحديًا كونيًا يُهدد الدول الكبرى المستقرة[ix]، فكيف الحال في بلد مثل سورية. خاصة أنّ كلّ الإعلام السوري، سواء مع أو ضد النظام، لم يحمل رسالة الحداثة للسوريين. بالعكس تمامًا، كل الإعلام ذي القدرة المادية الكبيرة أو المتوسطة يستخدم الدعوات الدينية والطائفية، إضافة إلى غيرها، وفق أجندات مموّليه، وكأداة انتشار وبيع في سوق الإعلام. حتى مراكز البحث السورية لم تقدّم ما يكفي من دراسات أو قراءات لهذا المجال المحوري والأساسي الذي كان له كبير الأثر في استمرار المأساة السورية.

الحلول لمواجهة الصعوبات

الحلّ والمواجهة يكمنان في محاولة جمع الإمكانات لخلق إعلام سوري متحرر من الأجندات السياسية المسبقة، والتأثير الديني والتقليدي، والتقدّم بشجاعة وثقة نحو ساحة النقاش والحوار والمواجهة الفكرية الإعلامية. وهذا يستلزم، إضافة إلى الإمكانيات المادية، ضرورة إعادة التفكير بوسائل وأشكال الخطاب مع الناس. فما زال خطاب العلمانية والحداثة عمومًا مسجونًا ضمن خطاب أكاديمي تنظيري جاف ومتعالي على الشارع، وفي أحيان كثيرة، لا يملك جرأة المواجهة. بكلمات أخرى: يجب القيام بثورة ضمن طبقة النخبة الأكاديمية والإعلامية السورية التي تقف ضد نظام الأسد، وترفض فخّ الوقوع بحلّ دولي انتهازي لمصالح الدول المتصارعة فوق سورية.

من ناحية ثانية، إن وجود أكثر من 3 ملايين سوري في تركيا العلمانية، وأكثر من مليون سوري في أوروبا العلمانية، منح نسبة كبيرة نسبيًا من السوريين فرصة معاينة معنى العلمانية على أرض الواقع، سواء في دولة ذات غالبية مسلمة تصل إلى 98 بالمئة، أو في دول غربية. إن الاستثمار في هذه الخبرة المكتسبة يشكل عامل دعم أساسي لمنحى العلمانية ضمن مثلث الحداثة. وإن أزمة فوضى المعلومات والمعلومات المُحرّفة هي أحد التحديات العالمية الكبرى[x]، ولعل أكبر دليل على ذلك صعود اليمين المتطرف الغربي، وأزمة كورونا؛ فالتحدي ليس سورية فحسل، بل هو تحدٍ عالمي.

لماذا لا بدّ من الديمقراطية والعلمانية ومبادئ حقوق الإنسان وفق الشرعة الدولية؟

هذا المثلث الحداثي، في الحالة العامة لأي دولة بالعالم، هو ضرورة لإنشاء الدولة الحديثة المستقرة القابلة للتطور وتحقيق أفضل شكل ممكن لمواطنيها بالمعايير النسبية[xi]، وذلك للأسباب التالية:

  • – أولًا: إحصائيًا، كل الدول التي تحقق الصفات المذكورة هنا هي دول تملك نوعًا من الديمقراطية والعلمانية، واعترافًا بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان. والكلام هنا نسبي طبعًا. الاستثناء الوحيد هو الصين، والصين تجربة خاصة لا يمكن نسخها أو تكرارها.
  • – ثانيًا، هذا النموذج للدولة مشفوعًا بالنظام الرأسمالي الاقتصادي تطوّر خلال قرنين على الأقل في الغرب، ثم توسّع. وخلال هذا التطور، جابه هذه النماذج نجاحات وإخفاقات، صعود وهبوط، أزمات واستقرار، والخبرة المتراكمة التي يمكن دراستها والاستفادة منها متوفرة ومفيدة وعملية، كما أثبتت التجربة.
  • – ثالثًا، هذا النموذج هو الأفضل لمواجهة الحركة السريعة للعالم في كل المناحي، لأنه مؤسس على بنية ديناميكية، في مقابل النماذج المطروحة الأخرى، مثل الإسلامي والقومي التقليدي، التي تعاني حالة جمود كبير موروث تاريخيًا.
  • – رابعًا، لا يمكن تأسيس ديمقراطية، وهذه مسألة متفق عليها بين الغالبية، من دون العلمانية، لأن غياب العلمانية سيؤدي حكمًا إلى التمييز بين المواطنين، وفق الدين والطوائف واللا-دين. والتمييز وفق الدين والطائفة سيولد بالضرورة تمييزًا وفق المعايير الأخرى، كالقومية والجنس والموقف السياسي.

في الحالة السورية هذا النموذج هو ضرورة، للأسباب الآتية:

  • – إن أكبر التحديات التي تواجه سورية المستقبل، وربّما أكبر من التحدي الأمني وقبل التحدي الاقتصادي، هو الشروخ الشاقولية العميقة الدينية والطائفية والقومية والمناطقية والسياسية والطبقية التي أصابت المجتمع السوري[xii]. والتعامل مع هذه الشروخ، وأخطرها الشروخ بين الأديان والطوائف، لا يمكن أن يتم وفق الطريقة العراقية أو اللبنانية، بل لا بد من أسس علمانية وثقافة علمانية ديمقراطية إنسانية، كمنطلق لمعالجة هذه الشروخ والعمل على لئمها بأسرع وقت ممكن.
  • – مواجهة التحدي الأمني والاقتصادي تقتضي بالضرورة تعاون نسبة كبيرة من السوريين، وهذا التعاون والانتماء والثقة لا يمكن تحقيقه، إذا لم تسد ثقافة الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان.
  • – القدوم بنموذج تقليدي مشابه بأحسن أحواله للنظام المصري، لا علماني ولا ديمقراطي، سيزيد مشكلات سورية الإقليمية، لأن شكل الدولة له أيضًا دور حاسم في حركيتها السياسية.
  • – وعلى منحى الصراع مع إسرائيل، فإن النظام المُقترح سيشكل ورقة قوة مستقبلية أهمّ من القوة العسكرية[xiii].

الطرح الإسلامي للدولة

يقدّم التيّار الإسلامي، بمختلف تنوعاته ومذاهبه (التيار الإخواني، الخميني، السلفي، حزب التحرير الإسلامي، إلخ)[xiv]، الطرح الأكثر صعوبة، بتجاوزه مثلث الحداثة. لكن ما يجمع هذه الطروحات هو وجود عجز ذاتي وموضوعي يمنعها من تحقيق ما تعِد به[xv]. ولعلّ المواجهة معه هي المواجهة الأصعب، لأنه تيار يملك إمكانيات إعلامية ضخمة، ولا يوجد أي هيئات إعلامية، لا سورية ولا عربية، تقف في وجهه. وهو يتقن استخدام الورقة الدينية ونظريات المؤامرة، لاستمالة الشارع. لكن واقع الحال، سواء إن نظرنا إلى انتفاضتي العراق ولبنان في نهاية 2019، أو إلى نتائج انتخابات مصر وتركيا والمغرب، يقول إنّ ما يُقال عن قوة هذا التيار هو مقولات مبالغ فيها جدًا، وتُقاس بناء على رؤية خارجية، من دون دراسات واستطلاعات معمقة، ودون امتحان حقيقي لرسالة تعتمد مثلث الحداثة إعلاميًا.

الخاتمة

لا يعني الإصرار على العلمانية التطرّف في رفعها شكليًّا، كما هو حاصل عند عدد من النخب المشهورة، وعلى منصات التواصل الاجتماعي، حيث يقدّمون في الواقع موقفًا أقرب للإسلاموفوبيا منه للعلمانية (أدونيس مثال[xvi]). لكن هذا لا يعني أيضًا مسايرة التيار الديني ذي الصوت الأعلى، والذي ليس بالضرورة الأوسع انتشارًا، كما فعل غالبية مشاهير المعارضة السورية وإعلامها.

العلمانية مترافقة مع الديمقراطية، ومبادئ الشرعة الدولية لحقوق الإنسان هي الأسس الضرورية والحتمية لبناء سورية المستقبل، كدولة مستقرة قوية قابلة للتطوّر والاستمرار ضمن الصراع الدولي الشرس، وأيضًا لمواجهة النتائج السلبية والكارثية التي أصابت المجتمع والدولة السورية، خلال 11 سنة من التدمير والهدم والقتل المجاني.


[i]  دراسة: الصراع الدولي والأزمة السورية: الأسباب والنهايات – علاء الخطيب – 01/09/2018 – https://bit.ly/39XH7bj

[ii]  محاضرة فيديو: الولايات المتحدة الأمريكية لن تنسحب من سوريا – علاء الخطيب – 21/08/2021 – https://bit.ly/39U6x9R

[iii]  شكل سوريا القادم هو بداية الحل – علاء الخطيب – 07/10/2016 – https://bit.ly/3uwgELv

[iv]  ما هي الديمقراطية؟ – علاء الخطيب – 15/10/2016 – https://bit.ly/3usPKnG

[v]  محاضرة فيديو: نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الديباجة والمواد – علاء الخطيب – 06/08/2020 – https://bit.ly/3mdyTBD

[vi]  محاضرة فيديو: شرعة حقوق الإنسان الدولية وخرافة خصوصية الدول الاسلامية والعربية وموقف الشريعة الإسلامية  – علاء الخطيب – 11/08/2020 – https://bit.ly/3F1HjEO

[vii]  ما هي العلمانية؟ – علاء الخطيب – 08/10/2016 – https://bit.ly/39TfnVd

[viii]  دراسة: الكذبة الكبرى: عَلمانية‏ نظام الأسد – علاء الخطيب – 18/11/2018 – https://bit.ly/3D4mJly

Is Assad regime secular? – Alaa Aldin Alkhatib – 22/05/2019 – https://bit.ly/3F9OomH

[ix]  دراسة، الظاهرة الترامبية والردة الأصولية العالمية – علاء الخطيب – 18/04/2017 – https://bit.ly/3uIbTyN

[x]  ما بعد الحقيقة عربي قبل أن يكون غربيًا – علاء الخطيب – 08/01/2017 – https://bit.ly/3B1MJxk

[xi]  الدولة الديمقراطية العلمانية ضرورة وليست خيارًا – علاء الخطيب – 20/10/2016 – https://bit.ly/3CZPeAP

[xii]  الحصاد المرّ لأربع سنين في سوريا، الشروخ الاجتماعية والنفسية التي سرطَنت المجتمع السوري – علاء الخطيب – 09/07/2014 – https://bit.ly/3A0lZf9

[xiii]  نتنياهو وبشار الأسد وبوتين بين رؤيتين إسرائيليتين – علاء الخطيب – 02/06/2019 – https://bit.ly/3irjcpp

[xiv]  دراسة: من يمثل الإسلام، بين صحة السؤال وتيه الجواب – علاء الخطيب – 03/07/2019 – https://bit.ly/3ux8Uc1

[xv]  محاضرة فيديو: تهافت نظرية الدولة الاسلامية1: الوحدة المستحيلة عربية واسلامية، وهم الخلافة والإمامة – علاء الخطيب – 19/03/2021 – https://bit.ly/3l02Qpv

[xvi]  محاضرة فيديو: أدونيس بين نظرية المؤامرة والإسلاموفوبيا، فشل النخبة العربية والسورية – 15/09/2021 – https://bit.ly/3l02RK5