منذ استلامه السلطة قبل عقدين ونيّف، رفض رأس النظام السوري بشار الأسد مناقشة أي اقتراح لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية أو تحديد دورها، كما رفض كليًا التخلي عن الأجهزة الأمنية كذراع أساس لتثبيت حكمه، وفي نفس الوقت، ولم تُخيّب هذه الأجهزة أمل الرئيس الوريث، فكانت السند الأساس له في السنة الأولى من الثورة، حيث قامت بدور دموي لم يكن لأي جهة في سورية القدرة على القيام به، ومارست العنف المفرط ضد المتظاهرين السلميين، وقتلت بدم بارد عشرات الآلاف من الشباب السوري الثائر سلميًا، وأرغمت الجيش على استخدام الأسلحة الثقيلة لقمع الثورة، فكانت “عزرائيل” بالنسبة للسوريين.

بعيد الثورة، لم يوافق الأسد الابن على أي مبادرة من المبادرات العربية والدولية التي طُرحت عليه، فلا قبل الإصلاح ولا التنحي ولا الاستقالته، ولا قبل كذلك إعادة الجيش إلى ثكناته بعد أن أخرجه منها إلى الشوارع لتقتل السوريين، ولا قبل بوقف استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا ضد شعبه، ولا قبل رجوع الأمن إلى مقراته ووقف قتل السوريين وإرعابهم، ولا تقليص دورهم ونفوذهم، وبقيت الأجهزة الأمنية مستمرة في دورها المتضخم والمتزايد، رغم أن ثورة السوريين بالأساس كانت ضد هذه الأجهزة الأمنية التي أصبحت غولًا يهدد حياة كل سوري، فتحكمت طوال عقود بكل شيء، بدءًا من ضرورة موافقتها على كل من يريد العمل في أي مؤسسة حكومية، ومنعها الآلاف من السفر لأسباب سياسية، وحجزها الأموال والممتلكات، واعتقالها البشر وزجّهم في غياهب الأقبية دون وجود أية إمكانية لمعرفة مصيرهم.

يعتبر السوريون أن الأجهزة الأمنية (الاستخبارات) هي لب المشكلة والآفة الكأداء التي لن تصبح سورية دولة محترمة بوجودها، لأنها أقوى أدوات النظام السوري ودولته الأمنية، ومصدر القمع والسجن والقتل والتعذيب، وتحوّلت بعد انطلاق الاحتجاجات في سورية عام 2011 إلى أداة قتل وتدمير، وكان لها دور كبير وفعال فيما آلت إليه سورية اليوم من خراب.

يعمل في الأجهزة الأمنية في سورية مئات الآلاف من الموظفين العسكريين والمدنيين، بالإضافة إلى عشرات آلاف المخبرين السريين، وتقدّر بعض الأوساط عدد العاملين في الأجهزة الأمنية (المخابرات) بما في ذلك المخبرين بنحو 300 ألف شخص، النسبة الكبرى منهم من لون طائفي واحد، وخاصة قياداتهم على اختلاف مستوياتها، وهي التي تسيطر على عمل الجيش، ورافقت كل كتائب الجيش في عملياته العسكرية منذ عام 2011 وحتى اليوم، وهي التي منعت انشقاق عناصر الجيش واعتقلت أو قتلت من حاول ذلك.

تتألف الأجهزة الأمنية من أربعة فروع أساسية (المخابرات الجوية، المخابرات العسكرية، المخابرات العامة والإدارة السياسية)، وتتفرع عن كل منها عشرات الفروع المنتشرة في كل المحافظات والمدن السورية، وهذه الأجهزة هي التي تدير المعارك في سورية الآن بأوامر عليا، وهي التي تسيطر عمليًا على الجيش والقوات المسلحة وتدير الميليشيات المؤيدة للنظام، وتحمل مع الرئيس مسؤولية العنف والحل العسكري، فالأسد هو القائد الأعلى للقوات المسلحة والمسؤول مسؤولية مباشرة عن الأجهزة الأمنية وترتبط كلها به شخصيًا.

جهاز المخابرات العسكرية: هو جهاز تابع للجيش، وهو في الأصل لمراقبة العسكريين، لكنه ومنذ تشكيله مُنح الحق في أن يتدخل بالمدنيين، وبالشؤون الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وله فروع في كل المدن السورية، فرع للتنصت وفرع للمداهمة وآخر للمعلومات وغيرها، ويُعتبر الأكثر قوة وتسلطًا بين أجهزة الأمن، والكثير من المسؤولين والمدراء في سورية هم من صنيعة هذا الجهاز أو من المرضي عنهم من قبله، مارس عمليات قتل وتعذيب منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهو المسؤول عن مجازر عدة منها مجازر في سجن تدمر، ومجازر وعمليات قتل جماعي في سجن صيدنايا، ويتبع لهذا الجهاز عدة أفرع من أهمها (فرع فلسطين) الذي كان من المفترض أن يكون متخصصًا بمكافحة التجسس الإسرائيلي غير أنه بات يتدخل في كل شيء، كما أن هناك فروعًا متخصصة بقضايا الإنترنت والاتصالات والاقتصاد والنشر والصحافة وغيرها.

جهاز مخابرات أمن الدولة: وهو متخصص بأمن الدولة بمفهومها الواسع، وأيضًا يتدخل بكل شيء، من (الفرع الخارجي) الذي يشرف على السفارات والأجانب، و(فرع المعلومات) المتخصص بقضايا الإعلام ومراقبة الكتاب والصحفيين ووسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية والمرئية والمطابع، و(فرع دمشق) الذي يُشرف على أمن العاصمة، و(الفرع الداخلي) الذي يعنى بمراقبة الفنانين والمثقفين والشؤون الداخلية، وغيرها الكثير من الفروع التي لا يعرفها السوريون العاديون، ولجهاز أمن الدولة عدة سجون خاصة به.

جهاز الأمن السياسي: ويتبع نظريًا إلى وزارة الداخلية، ويعتبر المسؤول الأمني الأول في كل محافظة عن شؤون المواطنين وعلاقتهم بالدولة، ويعتبر هذا الجهاز خزان المعلومات بالنسبة للنظام السوري، ولديه معلومات لم يجد النظام الإمكانات والوقت لأرشفتها، ولهذا لا يُحسن استخدامها، وهو مسؤول عن قضايا الأحزاب المرخّصة والسرية، وعن الحركات الإسلامية ونشاطاتها، وعن خطباء المساجد، والترخيص للمكاتب التجارية والمهنية، ومراقبة الوزارات ومؤسسات الدولة والموظفين وغيرها من التدخلات التي لا يحدّها قانون واضح، ولهذا الجهاز عدة سجون خاصة به في عدة مدن سورية.

جهاز المخابرات الجوية: ويتبع هذا الجهاز للقوات الجوية في الجيش، وكانت مهمته حماية سلاح الجو السوري، إضافة إلى طائرة الرئاسة وأمن الرئيس خلال تواجده خارج سورية، وله سجون داخل القواعد الجوية، وتحوّل هذا الجهاز منذ انطلاق الاحتجاجات عام 2011 إلى المصدر الأول للقتل والقمع، وساهم في الكثير من المجازر التي شهدتها سورية.

قبل الثورة، كان لأجهزة الاستخبارات الحرية المطلقة للتدخل في حياة السوريين وإذلالهم دون مراقبة أو محاسبة من أي سلطة أعلى، فلها الحق في الاعتقال والسجن والاختطاف والإخفاء بل والقتل حتى، وعلى تجنيد العملاء ومنح المال وحجبه، وتلفيق التهم بالإرهاب والعمالة والخيانة و”وهن عزيمة الأمة”، وتشويه سمعة البشر، والمسّ بحرية وكرامة وحياة أي إنسان بعيدًا عن أي قانون، وأساءت هذه الأجهزة كثيرًا في استخدام نفوذها، وانتهكت وبطشت ومارست الفساد المطلق، ووفر النظام الحماية لها عبر قانون يمنع محاكمة أي عنصر أمن على أي جريمة يرتكبها إن لم يوافق رئيسه.

مع غياب وجود مؤسسات حقيقية في سورية، شاركت الأجهزة الأمنية بفعالية في كل نواحي الحياة، من إعلام ودبلوماسية وسلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية، وأشرفت على الفعاليات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وكان إشراف الحكومة على كل مؤسسات الدولة نظريًا بينما في الحقيقة كان الإشراف لأجهزة الاستخبارات، كما اعتقلت المعارضين وحرمتهم من حقوقهم المدنية، ومنعت سفرهم دون أي محاكمات، وخلال الثورة مارست عنفًا غير مسبوق ضد المحتجين، وتعاملت مع الشعب وكأنه عدو، أو كأنه أجنبي بأحسن الحالات.

السلطة السورية ليست إلا سلطة أجهزة أمنية، ليست سلطة الحزب أو الحكومة أو البرلمان أو القضاء، وليست سلطة هذه المؤسسات مجتمعة، بل هي سلطة الأجهزة الأمنية وبعضًا من المؤسسة العسكرية، وتعتبر الأجهزة الأمنية هي وحدها أداة الرئيس الحقيقية، أما فيما يخص باقي المؤسسات الأخرى فهي شكل دون مضمون وفعل على الواقع السوري.

تُشّكل السلطة الأمنية حجر الزاوية في إدارة سورية، وتقوم على الولاء المطلق للرئيس، ويخضع جميع السوريين للمرور في هذا الممر الإلزامي فيما إذا أرادوا العيش والعمل في هذا البلد، ويرتهن الجميع للأجهزة الأمنية، في المؤسسات التنفيذية والقضائية والدبلوماسية والحزبية والعسكرية والاقتصادية وغيرها، وأساس وجوهر انتفاضة الشعب السوري كان انتفاضة على السلطة الأمنية لتغوّلها في كافة مفاصل الحياة وإمعانها في انتهاكات حقوق الإنسان خلال أربعة عقود مضت.

يُدرك السوريون أنه لا يمكن العيش في ظل دولة تحكمها أجهزة استخباراتية وأمنية تتحكم بمصير الجميع، من الطفل وحتى الشيخ  العجوز، والحديث عن أي حل سياسي في ظل استمرار القبضة الحديدية للأجهزة الأمنية حديث مُضحك ومنفصل عن الواقع، وبقاء الأسد مع بقاء المؤسسة الأمنية تحت سيطرته لن يوصل الأزمة السورية إلى أية نهاية، ولا يمكن الحديث عن حل سياسي في سورية دون ضمانات نصّية واضحة صريحة وبضمانة دولية بأن المخابرات والأجهزة الأمنية لن يكون لها أي دور في المرحلة الانتقالية، وستُلغى كافة مذكرات البحث التي أصدرتها، وستوقف كافة أوامر الاستيلاء وحجز الأموال والاستيلاء على الأملاك التي قررتها، وستجري إعادة هيكلتها كليًا، ويحدد دورها بدقة بقانون، دور لا ينتهك حقوق الشعب والوطن والدستور.