إن لم يكن الأميركيون هم من اخترع الدعاية، فإنهم على الأقل من جعل منها سلاحًا فعالًا للتحكم بالجماهير وللغزو السياسي والثقافي والاقتصادي، فالدعاية التي استخدمت بشكل مكثف ومنهجي، بعد الحرب العالمية الأولى، فرضت نفسها في كل مكان، ولم تترك مترًا مربعًا واحدًا من الجدران والواجهات واللوحات وحتى في السماء، بفضل استخدام الطائرات، فضلًا طبعًا عن العالم الافتراضي الواسع الكبير، فحولت الإنسان إلى أداة خاصة بها، لترويج ميزات هذا النوع أو ذاك من المواد الاستهلاكية أو غيرها.
مهما بدت الدعاية تافهة بالنسبة لعدد كبير من الناس، إلا أنها أضحت جزءًا من حياة جميع أفراد المجتمع الإنساني، كما باتت في نفس الوقت تُشكّل خطرًا لا يُستهان به، بل وخطر قاتل في بعض الأحيان.
إن الطريقة التي صنع بها الأميركيون الدعاية جعلتها خطيرة بطبيعتها وبأسلوب استخدامها وانعكاساتها الناتجة عنها، وبما أن الدعاية ترتكز بالطبع، ليس على المعرفة التي يجب أن نملكها عن الشيء، بل على اللذة التي نحصل عليها من جهة، وعلى المعيار الوحيد، وهو الارتياح الشخصي، من جهة أخرى، لذلك أُدخلت إلى الُمْنَتج الذي تروجه، الشعور بالسعادة التي امتدت إلى مجمل نظرتنا إلى العالم الذي تمثله. ويقول فرانسوا برون في كتابه “السعادة الملائمة” عن الدعاية: “إنها تضفي انعكاسات حمقاء، على أناس أذكياء”. ويتم إعطاء مشاعر الفرح للواقع، حيث يتم بطريقة سارة مضحكة، لعوبة ملائكية، وظاهريًا، ليست عدوانية. ولأنها تتعامل مع كل شيء نتناوله، على أنه سلعة، لذلك فإن الدعاية تجعل رؤية الشيء معوجّة لدى من يخضع لها، بخلق تناقض بين القيمة والنوعية الضمنية للسلعة، وحتى الفكرة، وبين التقديم المبالغ به.
في الحقيقة، لا تقدم الدعاية أي دليل بأن السلعة أو الفكرة هي تمثل حقًا ما يقال عنها، ويصبح الخطر أكبر، عندما تستخدم الدعاية، وسائل أكثر تضليلًا، والأساليب الحالية، بعد أن أثبتت نجاعتها في عدة مجالات كـ “اللغة المنمقة”، وأصبحت أكثر فعالية، بفضل تقنيات مهمة “صورة مركبة”، ضاعفت الأثر الحاسم للدعاية على المشاهد أو القارئ، عشرات المرات. فعندما نربط نوع سجائر أو فكرة ما، بصور تظهر فعل التدخين أو الأثر الفكري، مع مشاهد جميلة وخيالية، مع صور أبطال، تنجِز الدعاية هكذا، عدة عمليات بلاغية، ذات أثر لا علاقة له بهذا الالتفاف، الذي يبقى صعب الإدراك من قبل عقل متمرس، وقليل الحذر.
إن مسخ الواقع علنًا، عن طريق إعطاء ميزات مشهد ما، وطبائع البطل، الممثل للسلعة أو الفكرة، التي هي في الحقيقة تعرض الصحة للخطر “بالنسبة للسيجارة” أو قد تؤدي الفكرة المطروحة إلى أمور لا يتمناها الإنسان، وهي تافهة. إن هذا المسخ، يستطيع أن يؤثر بعمق على المخيلة لدرجة جعلها مضطربة، والقصف الإعلاني، الذي يجعل من المشاهد أو المستمع وسيلة، والصفات التي تنتظر المتنزه، عند زاوية كل شارع، تسبب لمخيلة أغلب الناس المعاصرين أضرارًا ضخمة وعميقة. فعندما تحتل الدعاية بهذه الطريقة الحيز المكاني، بحيث تصبح الأفلام والأخبار والأفلام الوثائقية والحوارات السياسية والثقافية، ليست أكثر من شواطئ خيالية، في عالم دعائي غير محدود، حتى لو حاولنا تجاهل ذلك، فإن الدعاية سوف تؤدي، إلى تهجير المخيلة الذاتية والجماعية “كعنصر داخلي المنشأ” لتضع مكانة، مخيلة أخرى، كـ “عنصر خارجي المنشأ”.
إن ما تفعله صفعات الإعلان، هو تدمير ذرِّي للحقيقة المرئية والمسموعة، وتعليب للواقع، يضاف إليه، بواسطة الالتفاف البلاغي المُنَمّق، الإلغاء الزمني الضروري، للتفكير ولهضم المعلومة المغلوطة، المرسلة “والمسببة للسعادة”.
إن التورط السياسي والاقتصادي نتيجة ذلك، يبدو كبيرًا جدًا، سياسيًا، فهي تؤدي إلى المثاقفة “محو ثقافة أخرى”، بإبدال مخيلة بأخرى، أي المخيلة المتعددة التمثل، الخاصة بالثقافة العربية مثلًا. بمخيلة أحادية البعد تجارية، نابعة من الاختزال الاقتصادي الملازم لليبرالية، واقتصاديًا تقوم الدعاية بالتأثير على العقول بوضعها في قالب ذي بنية مُعَدّة، هدفها تجاري بحت، تستخدم الغاية الوحيدة لكل خطاب ليبرالي: الربح. وباستخدامها، هذا الخطاب فهي لا تحترم أي شيء. وتحول كل قيمة غير قابلة للترجمة، إلى وهم، بالإعداد أو غير قابلة للتعبير عنها بأرقام السوق. وهكذا، تختلط “عملية تشويه العالم”، وخاصة العالم البشري المتوازن، من آلاف السنين، وعن طريق التفاهات تختلط بعملية قلب القيم وبالتحويل الأحادي البعد للكون.
ارتبطت الدعاية منذ أكثر من عشرين عامًا مع التلفاز، بشكل حاسم. فلقد شكلت الشاشة الصغيرة، جزءًا أساسيًا من تكوين جميع البيوت، وإن استخدمت بذكاء، فهي تستطيع أن تكون أداة ثمينة لاكتساب المعارف، وبالمقابل، إن استخدمت بدون روية، فستصبح بدون شك أداة خبيئة، وإن تعميم أنظمة البث عبر الأقمار الاصطناعية سمح بالتقاط مئات الأقنية، بل ربما الآلاف، ومن المفترض أن تساهم البرامج المبثوثة من جميع أنحاء العالم، بنمو البشرية والشعوب، وبالانفتاح نحو الآخرين والثقافات، وطرق التفكير، إلا أن الواقع أصبح على عكس ذلك.
لنستعرض بإيجاز الحرب الثقافية، بين الولايات المتحدة، وبقية العالم في المجالات السياسية. والحرب التكنولوجية والعلاقة مع السينما أيضًا. التلفاز هو أداة قوية للمثاقفة، وتستخدمه التكتلات الإعلامية في الولايات المتحدة، مدعومة في أغلب الأحيان من المسؤولين عن اللوبيات المختلفة، ومن أصحاب القرار، وكل ذلك سيكون له نتائج تضر بالملكة الضرورية لاكتساب المعرفة والثقافة، على المدى الطويل، وهذه الملكة هي التركيز، فالعالم لم يعد يُدْرَك ككل، بل كتسلسل إحساسات مرئية ومسموعة هاربة، إذن تافهة، تحمل بذاتها قيمًا مشابهة لها ولا معنى لها، وهكذا، يبدو طالب المدرسة عاجزًا عن تركيز انتباهه لأكثر من خمس دقائق، حيث يصبح عاجزًا دماغيًا بهذه القدر الضامرة، على قراءة الأدب الجاد.
يضاف إلى ذلك ما تمتلكه الانتاجات الهوليودية الضخمة، والتي تشكل جزءًا لا يستهان به من مشروع المثاقفة التي بدأت به الولايات المتحدة، يشهد على ذلك أسلوب التلاعب بالتاريخ العالمي وما يمكن أن يؤثر على ثقافة الأمم الأخرى. وعندما يقوم المنتجون الأميركيون بإغراق السوق العالمي بالأفلام السينمائية والتلفازية، بدءًا من السوق المحلية، بهذا يحاولون خنق المنتجين الآخرين والأعمال الوطنية علنًا، مبعدين المضمون الثقافي التقليدي وإحلاله بمضمون الإيديولوجية الأميركية تدريجيًا.
لقد جرت دراسات حول الآلية التي تقوم بها معظم الأعمال الأميركية في مجال الصور المتحركة، وقد تبين أن مبدأها الأساسي، هو عملية استعادة قانون أرسطو، حول تهذيب النفس ولكن بصورة بدائية. وَتُوَلِّد أعمال العنف والتأثيرات الخاصة والإيقاع الجامح، شعورًا مزيلًا للقلق، قادرًا على أن يجد حلًا للتوترات الميتافيزيقية التي تتجاوز الجمهور، الذي هو بالأصل أميركي لكنه ليس فقط أميركيًا، وقدراته على الإمساك بثقافته، وقد تراجعت شيئًا فشيئًا، ويفقد إدارته أكثر فأكثر لهويته بانتمائه على عتبات بدائية وغريزية لحقيقته النفسية.
هنا نستطيع أن نفهم أهمية هذه الوسائل عند قراءة تعريفها، إذ تشكل مجموعة بالأفعال، التي يتبادل الكائن البشري، من خلالها، ومع أبناء جنسه، الأنباء والمشاعر والأحاسيس والانفعالات والأفكار والمعتقدات والطقوس الخ. تتم هذه التبادلات بواسطة أقنية ووسائل نستطيع أن نقسمها من حيث الشكل، حسب التالي:
- وسائل محدودة: تربط عددًا محدودًا من الأفراد داخل دائرة تتفاعل فيما بينها بشكل حميمي، مثل المحادثة، وتبادل وجهات النظر والدردشة والمحاضرات والندوات الشفهية أو المنقولة عبر الوسائل المختلفة، على المستوى السمعي – البصري الخ.
2. وسائل ذات انتشار: الصحافة المكتوبة، والتلفاز والسينما، والطباعة والإنترنت الخ.
ويلاحظ أن مجموعة كل من مكونات الاتصال بالشكل التي تم تحديده، تضم كامل الدوائر الإعلامية التي تُكوّن النشاط البشري، فيما يمكن أن يكون الأمر الجوهري، لأن ذلك يشكل روحها كما نرى.
إذن، وكما يقول ميشيل موردان، في كتابه “أميركا المستبدة”: “نستطيع أن ندرك بسهولة كم أن السيطرة الإقطاعية، التي أُنْجزت عمليًا على هذه الدوائر بواسطة قواعد السوق والتبادل التجاري، باتت تشكل اليوم انفصالًا قاتلًا في تطور الحضارة الدولية أو العالمية، كما عهدناها حتى يومنا هذا، ونلاحظ أخيرًا بأن الإمساك باحتكار هذا المجال، يعرض الحرية البشرية للخطر في أعز ما تملك”.
ويضيف “لقد بدأت المناورات التي هدفت إلى فرض إيديولوجيتها، ثم احتكار وسائل النشر والإعلام . وبشكل جدي، منذ نهاية الصراع العالمي الأخير. ولقد فهمت الولايات المتحدة، منذ البداية، بأن الفوز بالعقول البشرية، يمر بإلغاء هوية الآخرين، وهو ما يسمى بالمثاقفة وإحلالها بهوية جماعية قيمة بنظرهم، والتي هي هويتهم بالطبع، ولكي يصبح العالم أمريكيًا، يجب أولًا أن تقنع الآخرين بتفوق النموذج الأمريكي، على ما سواه، بعد ذلك، يتم البحث عن شن حملات هجومية ضد كلل ما يمكن أن يشكل تهديدًا له. وبمساعدة أصحاب المصالح الاقتصادية وأصحاب الثروات العالمية، استطاع الأمريكيون الهجوم على أساسين لهوية الشعوب: الإرث الجماعي، ثم الأداة الثقافية والعاطفية التي تنتج للفرد إمكانية التفكير والحكم واتخاذ القرار”.
إن الإرث الجماعي لكل شعب، هو لغته وتاريخه ونبوغه ومكتسباته الفنية والأدبية والعلمية والثقافية وتقاليده أيضًا التي تشتمل على نظام القيم لأية مجموعة بشرية، والذي يتضمن سماته الثقافية وعاداته وتقاليده وتراثه الحضاري. والأداة تتكون من تصوراته التحليلية والاستنتاجية والجمالية وحساسيته وتفهمه التي تقوده إلى فهم شامل للعالم، وإلى التطبيق العملي لتفكيره وقراره، أي في نهاية المطاف، إلى اختيار اتجاهاته لممارسة أفعاله. وعند تزوير إدراك شعب ما لإرثه بإبعاد هذه الإرث شيئًا فشيئًا، وبإبداله بإرث مختلف، عن طريق صناعة عادات وهيكليات تفسيرية، نابعة عن مصدر إيديولوجي غريب نكون بهذه الطريقة، قد قمنا باستلاب روح هذا الشعب وتحويله إلى قطيع.
وضمن هذا الإطار لهذه الهجمة الليبرالية، على الصعيد الكوني، تهدف قوى الهيمنة إلى جعل التقاليد والتذوق والرغبات ذات نمط واحد، وإلى تحديد العادات والظواهر وإلى القصور الروحي وإلى التطور التبسيطي الدولي؟ الهدف الأخير من وراء ذلك هو تقسيم العالم والبشرية إلى كتلتين متواجهتين: الأولى وفيرة العدد، مؤلفة من الزبائن “المشترين والمستهلكين ودافعي الضرائب”، اللذين يساهمون بأعمالهم بزيادة ثروات الطبقات المالكة، وبدفع مسيرة المعمورة. والثانية، قليلة العدد، مؤلفة من الباعة “صناعيين وتجار وممولين ووسطاء تجارة” الذين يساهمون بشكل ضعيف بمسيرة تجمع ما، واللذين غير منسيين بشكل أو بآخر بهذا التجمع، فهم يكتفون بتقويم السوق التجاري من أجل ثرواتهم، لأنه باستثمار مكاسبهم الضخمة يساهمون بخدمة مضاعفة الأرباح لصالحهم بشكل شبه كامل.
إن هذا التصدير الشكلي حتمًا، يتيح لنا قراءة فظه، ولكن منسجمة مع الواقع المعاصر.