ورقة قُدمت في إطار اللقاء الحواري الأول لـ صالون الكواكبي – مركز حرمون للدراسات المعاصرة – حول قضايا “الدين والدولة والسياسة” – إسطنبول في يومي 8 و9 تشرين الأول/ أكتوبر 2016.
المحتويات
أولًا: نشأة وتطور القانون الوضعي
ثانيًا: مصادر القواعد القانونية الوضعية
رابعًا: العلاقة التاريخية بين القانون الوضعي والدين (وخاصة الدين الإسلامي)
خامسًا: إشكالية وجود النص الديني في دستور سورية الجديدة
أولًا: نشأة وتطور القانون الوضعي
القانون الوضعي نتاج الفكر الإنساني، ونتيجة حاجة المجتمعات البشرية إلى معالجة مشاكلها وتنظيم شؤون حياتها. إذًا، هو ظاهرة لازمت المجتمعات البشرية منذ نشأتها، وتطورت بتطورها، وكانت دائمًا استجابة للحوادث والوقائع التي طرأت على العلاقات الإنسانية في مجتمعات محددة، فما إن تبرز في المجتمع خلال تطوره ظاهرة تحتاج إلى تنظيم وضبط حتى يطور المجتمع قواعد قانونية لتنظيمها. لذلك، فإن عملية تطور القواعد القانونية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتطور المجتمعات، ولا تنفصل عنها، ولا يمكن تخيّل قانون جامد لا يتغير لأنه يعني أن المجتمع في حكم الميْت.
ثانيًا: مصادر القواعد القانونية الوضعية
في معرض قيامه بعملية التشريع، يلجأ المشرع، دستوريًّا كان أو قانونيًّا، إلى مصار مختلفة يستقي منها نصوصه وقواعده القانونية، وهذه المصادر تختلف من زمان إلى آخر ومن بلد إلى آخر. كما أنها تختلف بحسب مستوى التشريع الذي يتم إنجازه. دستورًا كان أم قانونًا أم قانونًا فرعيًّا (المرسوم – اللوائح).
فالمشرّع الدستوريّ قد يعدّ من مصادره بعضًا أو كُلًّا مما يلي: قواعد القانون الدولي وإعلانات الحقوق، الاتفاقات الدولية الملزمة، أحكام أو مبادئ الشريعة، آراء الفقهاء والاجتهادات القضائية المستقرة، الأعراف…إلخ.
أما المشرّع العادي (يسنّ القانون) فيستمدّ قواعده من الدستور، وقد يعتمد الشريعة مصدرًا وفق ما يحدّده الدستور، وهناك الاتفاقات الدولية الملزمة، وهناك العرف والعادات، وهناك آراء الفقهاء والاجتهادات القضائية المستقرة….إلخ. ويعدّ الفقه والاجتهاد القضائي من المصادر الاسترشادية غير الرسمية.
أما دور الشريعة كمصدر من مصادر القواعد القانونية فيختلف بين دولة وأخرى لعوامل عديدة منها درجة تأثير الدين في مجتمعاتها؛ فمن دول تعتمد الشريعة مصدرًا وحيدًا، وتعدّ القرآن هو الدستور، مثل السعودية، إلى دول لا تعتمد الشريعة مطلقًا كمصدر للقواعد القانونية، وهي ما تسمى الدول العَلمانية، ومنها دول إسلامية كتركيا وإندونيسيا… وما بينهما.
في الدول الدينية كالسعودية، التشريع لرب العباد حصرًا، والدستور هو كتاب الله، وكل ما هو وضعيّ يجب أن يكون مستمدًّا أو مشتقًّا من كتاب الله وسنة نبيّه بالوسائل الشرعية التي توفرها قواعد أصول الفقه الإسلامي. وما دور البشر إذًا إلا الاستنتاج والاستنباط والقياس والاجتهاد ضمن الحدود والأصول.
ثالثًا: أنواع التشريع الوضعي
التشريع الوضعي هو وضع القواعد القانونية من قبل السلطة التشريعية المختصة في الدولة، وهذه القواعد تكون مكتوبة وملزمة.
ويقسم التشريع حسب مستوى النص القانوني إلى ثلاثة مستويات، دستوري وقانوني وفرعي: التشريع الدستوري: وهو مجموعة القواعد القانونية التي تبين شكل الدولة، ونظام الحكم فيها، والسلطات العامة واختصاصاها وعلاقاتها بين بعضها. وتحدد حقوق المواطنين وواجباتهم. ويُعدُّ الدستور التشريع الأعلى في الدولة وتخضع له جميع التشريعات العادية والفرعية، وتضعه جمعية تأسيسية خاصة، أو السلطة التشريعية نفسها لكن بإجراءات شكلية خاصة.
- التشريع العادي: وهو القوانين التي تضعها السلطة التشريعية بالطريقة التي ينص عليها الدستور.
- التشريع الفرعي: وهو الذي تضعه السلطة التنفيذية لإكمال التشريع العادي وتفسيره وتفصيله، وإدارة المرافق العامة وحفظ الأمن …. إلخ.
رابعًا: العلاقة التاريخية بين القانون الوضعي والدين (بشكل خاص الدين الإسلامي)
ثمة علاقة تاريخية طويلة بين القانون الوضعي والدين، لكنها تختلف في قوتها بين دين وآخر وزمن وآخر وبلاد وأخرى، فأثر المسيحية في القانون الوضعي أقل بكثير من أثر الإسلام لأن الإسلام يتضمن إلى جانب القواعد الروحية والأخلاقية، قواعد ناظمة للدولة والحكم والمعاملات.
لم تتعرض المسيحيّة للأمور الدنيوية، وليس فيها قواعد ناظمة للحكم والمعاملات وشؤون الناس، بل اكتفت بالمسائل الروحية والأخلاقية، وكان الأساس هو العمل بقول المسيح: “أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله” ولم يبدأ تأثير النص المقدس في القوانين الوضعية إلا عندما أصبح الدين المسيحي هو الدين الرسمي للدولة الرومانية عام 325 للميلاد بموجب قانون الملك قسطنطين، حيث اعترف ملك روما بسلطان الكنيسة وبالقانون الكنسي المختص بالشأن الديني. كما تم الاعتراف باختصاص المحاكم الكنسية في الفصل في المسائل الدينية، وأيضًا في المنازعات المدنية التي يرتضي المتخاصمون رفعها إليها.
في منتصف القرن السادس، أصدر الامبراطور جوستنيان الأوّل قانونًا ينسجم بالكامل مع تعاليم المسيحيّة سمّاه “قانون جوستنيان” وقد بقي نافذًا في الغرب الأرثوذكسي لعدة قرون، ومازال حتى الآن مطبقا في بعض الكنائس الشرقية فيما يتعلق بمسائل الأحوال الشخصية.
مع بداية القرن الحادي عشر أعلنت الكنيسة بأنها “كيان مستقل من الناحية القانونية والسياسية”، وأصبحت قوة سياسية ذات تأثير كبير على المجتمع الغربي، وأصبحت قوانين الكنيسة وتشريعاتها هي النافذة، وأنشأت نظام محاكم خاص بها، واحتفظت لنفسها بالولاية على جوانب عديدة من حياة الناس، كالميراث والتعليم والجرائم الأخلاقية… إلخ.
وفي القرون الوسطى، تم استغلال الدين المسيحي أبشع استغلال من الحكام، فاخترعوا نظرية “الحق الإلهيّ” لشرعنة حكمهم المطلق، ونصبوا أنفسهم ناطقين باسم الآلهة، ومكلفين من جانبها بحكم البلاد، وجعلوا الكنيسة طوع بنانهم. وكلنا يعرف حجم الفظاعات التي ارتكبتها الكنيسة بحق المختلفين وباسم الدين.
ثم جاء عصر النهضة والثورة الفرنسية وفصل الدين عن الدولة. ومنذ ذلك الحين أصبح تأثير الكنيسة والدين في المجتمع محدودًا جدًّا ومحصورًا في الجوانب الأخلاقية والإيمانية، ولم يعد للدينِ أيُّ دور في التشريع الوضعي.
أما في المجتمعات الإسلامية، فالأمر مختلف، لأن الإسلام، إضافة إلى القواعد الدينية والخلقية، جاء بقواعد تنظيمية وقانونية جديدة. هذه القواعد أحدثت تغييرًا جذريًّا في المجتمعات العربية سواء من النواحي الأخلاقية والاجتماعية أم من النواحي التنظيمية والقانونية، فأُلغيت التقاليد والعادات التي تتنافى مع مبادئ الدين الجديد، واستُبقيت التقاليد التي تتماشى معه، واستُحدثت قواعد ونظم جديدة لم تكن معروفة سابقًا، كنظام الخلافة في الحكم.
منذ قيام الدولة الإسلامية في عهد النبوة ثم في عهد الخلفاء الراشدين وصولًا إلى آخر عهد الخلافة العثمانية، كانت الشريعة الاسلامية هي المصدر الوحيد للقانون في الدول التي اعتنقت الإسلام.
بعد انقضاء العهد العثماني وبدء عهد الاستعمار الأوروبي والدولة القومية، تقلص اعتماد الشريعة لدرجة أو لأخرى، ومن دولة لأخرى، وبدأ اعتماد القوانين الوضعية، وبدأ اعتماد مصادر أخرى للتشريع إلى جانب الشريعة، وبقيت الشريعة مصدرًا وحيدًا للتشريع في كلٍّ من السعودية واليمن، وأصبحت المصدر الرئيس في بعضِ الدول كمصر، ومصدرًا عاديًا إلى جانب مصادر أخرى في معظم الدول الأخرى. وبدأت الدول تقتبس قوانينها المدنية من القوانين الأجنبية، وخاصًة قوانين الدول التي كانت مستعمِرة. لكن الشريعة الاسلامية بقيت هي المصدر الوحيد للتشريع في ما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية في مختلف الدول العربية.
يمكنني القول أنه حتى نهاية العهد العثماني كانت الظروف التاريخية والموضوعية في البلاد الإسلامية عمومًا والعربية خصوصًا، تسمح بتحقيق مقدار من الانسجام بين حكم الشريعة والمجتمعات. لكن بعد انتهاء حكم العثمانيين وسيطرة الاستعمار الغربي ونشوء الأمم المتحدة وظهور القانون الدولي، وانتشار مسائل الحريات والحقوق وقيم المواطنة والمساواة وحقوق المرأة، والعولمة وثورة المعلوماتية، وظهور الحاجات المتزايدة إلى مواكبة الحضارة والتطور المتسارع، أصبح من المستحيل تخيل حكم نصوص دينية تعود إلى أربعة عشر قرنا خلت. وأصبح من المستحيل على الشريعة استيعاب طفرات النمو الهائلة والمطّردة في عالم اليوم، والتي ما عاد في الإمكان حتى التنبؤ بها.
لا يُفهم من كلامي أنني أطالب باستبعاد أيّ دور للشريعة في مجال التشريع في مجتمعاتنا، إذ لا يجوز ذلك في مجتمعات متديّنة كمجتمعاتنا، لأن آثاره قد تكون كارثيّة على البلد. لكنني أطالبُ باجتراح حلولٍ ذكية حيث يبقى دورٌ ما للشريعة يرضي الأغلبية المتدينة، ولا يكون عائقا أمام إيجاد تشريع عصري مرن وفعال ومُواكب، وأجزم أن ذلك ليس مستحيلًا على العقول الإسلامية المتنورة والمتفهمة.
خامسًا: إشكالية وجود النص الديني في دستور سورية الجديدة
سوريا بلد التعددية والتنوع، وثمة شروخ غائرة أصابت العلاقة بين فئاتها الدينية والقومية، بسبب حكم الطغمة وإدارته السامة لهذه العلاقة على مدى خمسة وأربعين عامًا، وبسبب هذه الحرب الكارثية القذرة. وثمة مظلومية سنيّة رهيبة قيد التشكل، وهي تتضخم يومًا بعد يوم مع استمرار استهداف أهل السنة تحديدًا بهذا العنف المفرط، ولا بدّ لهذه المظلومية أن تنعكسَ على كلّ تفاصيل وترتيبات العملية الانتقالية، وعلى رأسها كتابة الدستور، وأنّ النص الديني سيكون مطلوبًا بشدة من قبل الأكثرية السنية في سعيها لتعزيز موقعها في الدستور.
في المقابل، وخوفًا من استئثار الأكثرية السنية بالحكم، واستغلال أغلبيتها لتصفية حساباتها مع الآخرين، ستسعى الأقليات الدينية، ومعها كل العَلمانيين واللادينيين، نحو دستور عَلماني يُبعد النصّ الدينيّ عن الدستور، وينزع هذه الورقة من يدِ الأكثرية.
لا بد أن تكون هناك تسويات وتنازلات يقدمها الجميع. ولا بد أن يأتي الدستور توافقيًا، ومقبولًا بالحد الأدنى من قبل الجميع. وهذا يعني أن النصّ الدينيّ سيحضرُ بطريقةٍ أو بأخرى، وتصبح المهمة هي التخفيف من وطأة حضوره، وتعطيل فرص استثماره من قبل المتشدّدين أو الانتهازيين.
في هذا الصدد يمكنني تقديم الملاحظات التالية حول علاقة النص الديني بالدستور، وأقتبسها من بحثي المنشور في مركز حرمون للدراسات المعاصرة بعنوان “إشكالية الدين في الدستور السوري المقبل”:
- بالنسبة إلى تعبير “الإسلام دين الدولة” فهو تعبير يحمل مدلولًا رمزيًا لا أكثر، ويشير إلى انتماء البلد إلى الفضاء الثقافي الإسلامي، ولا يترتب على وجوده أيّ تبعات قانونية أو التزامات دستورية، لذلك لا ضير من القبول بوجوده، لكن يفضل استبدال تعبير آخر به، يكون أكثر واقعية وقبولًا، وهو “الإسلام دين الأغلبية“. ففي هذه الحال نربط الدين بالناس الذين يحملون الدين فعلًا، ونبعده عن الدولة التي لا يمكن أن يكون لها دين، ونكون كمن يصف الواقع لا أكثر. كما يمكن في هذه الحال الإشارة إلى الأديان الأخرى وإرضاء أتباعها.
- بالنسبة إلى كون الشريعة مصدرًا للتشريع، فهذه مسألة حساسة ومؤثرة، ويمكن أن نقول في شأنها ما يلي:
- يفضل بشدة ألّا تكون موجودة لتجنب آثارها الإشكالية وتبعاتها العديدة.
- إذا كان لا بد من ورودها، فيفضل أن تأتي في صيغة “مصدر من مصادر التشريع” ورفض الصيغ الأخرى كـ “مصدر رئيس– المصدر الرئيس– المصدر الوحيد” كما يفضل التأكيد على أن “مقاصد الشريعة الإسلامية هي مصدر من مصادر التشريع” أو على الأقل “مبادئ الشريعة الإسلامية” وليس “أحكام الشريعة الإسلامية” لأن الأحكام تُدخلنا في مجال التراث الإسلامي والفقه الإسلامي الواسع والمتشعب والمتعدد والخلافي، بينما المبادئ ثابتة ومعروفة وقليلة وغير خلافية.
- بالنسبة إلى دين رئيس الدولة، فالعبارة من شأنها أن تُقصي غير المسلمين عن هذا المنصب، وتجعله حكرًا على أتباع ديانة الأغلبية، وهذا يجرح مبدأ المواطنة القائم على المساواة، ويزعج غير المسلمين، وأقول أيضًا إن ذلك يحرم المسلمين أنفسَهم من إمكانية اختيار رئيس من دين آخر إذا رغبوا في اختياره، وإذا لم يرغبوا فأغلبيتهم كفيلة بإبعاده دون حاجة إلى النصوص.
- لا بد أن ينص الدستور على ضمانات كافية وواضحة حول حرية الدين والمعتقد، وأن يتبنى الوثائق الدولية ذات العلاقة، كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
- لا بد من وجود جهة قضائية مؤهلة ومستقلة وذات صلاحية لضمان عدم الاستخدام السيّئ والمغرض للنصّ الدينيّ في الدستور.
أخيرًا، أختم بالقول إنه لا خوف ولا قلق من إبعاد النص الديني عن الدستور قدر الإمكان، فالإسلام، قبل أن يكون نصًّا دستوريًّا، هو واقع مُعاش، وحقيقة اجتماعية وثقافية راسخة في نفوس معتنقيه وضمائرهم عبر مئات السنين، ووجودُه ضمن نصوص دستورية لا يضيف شيئًا إلى مكانته، بل العكس هو الصحيح، وفصل المجالَين هو خيرٌ خالصٌ لكليهما.