لماذا لا نتخذ موقفًا حادًا لا رجعة فيه؟ ولماذا نتريّث في اتخاذ قرارات مهمّة إزاء قضايا سياسية وطنية؟
بكل وضوح وبساطة: نحن أمام موقف دولي معقّد غير نزيه، وظروف وطنية مركبة، وتدخلات خارجية جعلت استقلال القرار السوري أمرًا غير ممكن في الواقع المنظور. ولا يمكن إنكار أن الحلّ في سورية هو دولي إقليمي بالدرجة الأولى، وهذا لا يعني إلغاء دور الشعب السوري، ولكن لا بدّ من التعامل بواقعية مع هذه المعطيات:
أولًا- هذه الأجسام معترف بها (دوليًا) سواء أعجب ذلك السوريين أم لم يعجبهم.
ثانيًا- لم يستطع السوريون أن يشكّلوا أجسامًا أوسع تمثيلًا، وأكثر قربًا من الشارع الوطني السوري بشكل عام أو الثوري والمعارض.
ثالثًا- ارتبطت هذه الأجسام بطبيعة الصراع الدولي القائم، وبذلك أصبحت ضرورة من ضرورات إدارة الصراع بين الأطراف المتدخلة وذات المصالح المتضاربة.
رابعًا- ورود مسمّيات هذه الأجسام في بعض القرارات الأممية المتعلقة بـ (القضية السورية)، مثل اعتبار (الائتلاف الوطني السوري) ممثلًا للشعب السوري. وكذلك الاتفاق السياسي الذي وقعته (هيئة التفاوض) مع نظام العصابة الحاكمة، وأنتج تشكيل (اللجنة الدستورية).
خامسًا- بغضّ النظر عن عدم تحقيق نتائج ملموسة على الواقع السوري، نجد أن تكريس اتفاق موثق لدى الأمم المتحدة، لتشكيل اللجنة الدستورية، ساوى بين قوى الثورة والمعارضة، وبين النظام، أمام الشرعية الدولية.
سادسًا- اتفاق اللجنة الدستورية يعني ضمنًا انتفاء شرعية النظام أمام المجتمع الدولي، وأمام دستوره ومؤسساته ومواليه.
سابعًا- قبول النظام بنقاش دستور لسورية خارج سلطته يعني أنه نظام لا شرعي، وأنه أصبح بمنزلة سلطة تصريف أعمال.
ثامنًا- انهيار هذه الأجسام في هذا الوقت قد يكون حجةً للنظام وداعميه، للدفع بشرعية الانتخابات المقبلة، وسيدفع النظام وداعموه بذلك تحت ذريعة (الاستحقاق الدستوري).
ومن المهمّ الإشارة إلى بعض النقاط المهمّة في ما يتعلق بالمسار التفاوضي في جنيف الذي يستند إلى القرارات الأممية، خاصة القرار 2254 لعام 2015 الذي يستند إليه من يرفض اللجنة الدستورية ويعدّها خروجًا عنه، وهو القرار الذي توصلت إليه القوى الدولية عبر مجلس الأمن، ليكون الصيغة المفترضة للحل السياسي الذي عدّته القوى الدولية السبيل الوحيد لحلّ القضية السورية.
واستنادًا إلى هذا القرار، تمّت تجزئة المسار التفاوضي من قبل المبعوث الأممي آنذاك السيد ستيفان ديمستورا، إلى ما يُعرف بالسلال (سلة الحكم الانتقالي، الانتخابات، الاٍرهاب) بعد توقف التفاوض دون الوصول إلى نتائج ملموسة، ومحاولة روسيا أخذ المسار السياسي خارج جنيف نحو آستانا، وطرحها لـ (مؤتمر وطني ) في سوتشي، حضره المبعوث الأممي وأخذ منه فكرة إنشاء (اللجنة الدستورية ) وأعاد المسار السياسي التفاوضي إلى الرعاية الأممية دون المواجهة مع دول محور آستانا الفاعل ميدانيًا، وخاصة روسيا العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، والداعم الأكبر سياسيًا وعسكريًا للنظام.
ولَم يكن الحديث عن الدستور خروجًا عن القرار 2254، فهو موجود بنص القرار النقطة الرابعة: “تحدد جدولًا زمنيًا وعملية لإصدار دستور جديد”، وأضيفت هذه العملية الى السلال الأخرى التي أصبحت أربع سلال، ومن المفترض أن يتم التفاوض عليها للوصول إلى الحل السياسي تحت رعاية وتسيير الأمم المتحدة، و كان الاتفاق ضمنًا بين الطرفين -من خلال المبعوث الأممي- أن لا اتفاق على سلة دون الأخرى، أي إذا توصل الطرفان الى اتفاقٍ ما في جزئية (سلة) لا يعدّ ذلك اتفاقًا منتهيًا، إلا إذا تم الاتفاق على القضايا التفاوضية كاملة (السلال).
وبعد أن تعطّل المسار التفاوضي، وتوقف عند المدخل المفترض الذي هو هيئة الحكم الانتقالي دون أن ينتج شيئًا، ورفض طرف قوى الثورة والمعارضة من التفاوض والنقاش في قضية الاٍرهاب، كما يريد النظام، أو الدخول في نقاش عن الانتخابات قبل الحكم الانتقالي؛ لم يبقَ لمسار جنيف سوى سلة الدستور، كي لا يتم إعلان موت الحل السياسي في ظل الاستعصاء الدولي، وكان تشكيل اللجنة الدستورية مؤشرًا على بقاء هذا المسار حيًا، ومن الممكن أن يؤدي، في حال توصله إلى اتفاق حول مسودة مشروع دستور، إلى أن يشكل مدخلًا للحل السياسي وفق القرار ويسهل تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، حيث من الأفضل أن يكون لدينا تصور ومخطط لهيكل النظام السياسي المقبل وفق مسودة الدستور، أو إعلان دستوري ينظم المرحلة الانتقالية، كي لا يُعاد إنتاج النظام الدكتاتوري من خلال الحالة السائدة وفق دستوره اللاشرعي.
ومن التجني تحميل المسار الجزئي للحل السياسي المتمثل باللجنة الدستورية مسؤولية تعطّل المسار التفاوضي ككل، ومن العدل أن يشار إلى الطرف المسؤول عن التعطيل، وهو العصابة المغتصبة للحكم التي لا تكترث للحالة المأسوية التي وصلت إليها البلاد. ولا يجوز تحميل المسؤولية واللوم لقوى الثورة والمعارضة التي عملت بجد وصبر لإحياء أي بارقة أمل للسوريين في هذا الظلام البليد. ولا يخفى على السوريين جميعًا أن النظام لن يدخل بجدية في أيّ حلّ سياسي، ضمن ترويجه للانتصار على شعبٍ هجّر أكثر من نصفه وقتل مئات الآلاف. وهذا لا يعني ألّا يستغلّ السوريون، وخاصة قوى الثورة والمعارضة، أيّ منصة دولية لإبقاء قضيتهم حية، وعليهم الاستمرار في الدفاع عن مطالبهم المحقة في وجه النظام المجرم وداعميه، وحثّ المجتمع الدولي ليقف الجميع عند مسؤولياتهم القانونية والسياسية والأخلاقية الإنسانية. فالقضية السورية قضية إنسانية، قبل أن تكون سياسية، ومن العار استمرار هذه المأساة دون حلّ، ودون تحرك دولي وأممي لتفعيل وتطبيق قرارات مجلس الأمن.
أخيرًا، وعودًا على بدء، أدعو السوريين إلى رفع الصوت والضغط على الأجسام الممثلة لقوى للثورة والمعارضة ذات الاعتراف الدولي، لترفع مستوى عملها، بحيث تكون أقرب إلى تمثيلهم، ومستوى تنظيمها لحشد الطاقات في سبيل الخلاص والمشاركة في صناعة المستقبل المنشود.
وبهذا الشأن، نحن بحاجة إلى محاكمة وقراءة للواقع واستقراء الخيارات الممكنة، قبل اتخاذ أي خطوة قد تكون جيدة في مظهرها أو موقفٍ قد يُعدّ بطوليًا، بينما قد يترتب عليه نتائج لا نكون قادرين على احتوائها.