الفهرس
مقدمة
البدايات وتدرج التدخل
الإنجازات والإخفاقات
مآلات التدخل
الخاتمة
مقدمة
لعبت روسيا منذ بداية اندلاع الثورة السورية دورًا سياسيًا وعسكريًا ودبلوماسيًا محوريًا مؤثرًا، وساهمت كثيرًا في تغيير مجريات الأحداث العسكرية والسياسية، فكان شغلها الشاغل حماية الأسد ونظامه بأي ثمن، وقد نجحت في ذلك، حتى الآن، من خلال المكاسب العسكرية التي حققتها، المتمثلة في السيطرة على أغلب المناطق المحررة، فضلًا عن الدور الدبلوماسي الفاعل في أروقة المؤسسات الدولية، من خلال استخدامها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، ومنعت بذلك إصدار أي قرار أُممي يدين بشار الأسد ونظامه بعد ارتكابه مئات من المجازر، وعلى رأسها المجازر التي استخدام فيها السلاح الكيمياوي ضد الشعب السوري، واستطاع النظام الروسي حرف مسار المفاوضات السياسية في جنيف، واستبدال مسار آستانا وسوتشي به، وبهذا كانت روسيا الحامية الحقيقية للأسد ونظامه على كافة الصعد وفي مختلف الميادين، كيف استطاع النظام الروسي القيام بهذا الدور؟ وما هي الآليات التي استخدمها؟ وهل غايته الحقيقية حماية الأسد ونظامه أم أن له غايات أخرى خاصة تتعلق بكثير من المطامع العسكرية والاقتصادية؟ أم تحقيق الغاية الأهم لتأكيد الوجود المستدام في منطقة شرق المتوسط؟ من هنا، سأتحدث في هذه الدراسة عن التدخل الروسي على مختلف الصعد، وعن الإنجازات التي حققها النظام الروسي، وسأبحث في استطاعة روسيا تحقيق الأهداف التي غرقت من أجلها في الرمال السورية.
البدايات وتدرج التدخل
قبيل اندلاع الثورة السورية، كان الوجود الروسي في سورية مقتصرًا على الجانب العسكري من خلال وجود عدد من الخبراء العسكريين في مختلف صنوف الأسلحة، مستشارين لقادة التشكيلات كقادة الفيالق والفرق، إضافة إلى مستشاري وزير الدفاع ورئيس الأركان في الجيش السوري، وكان عملهم ينحصر في تقديم الاستشارات العسكرية الفنية الاستراتيجية والتكتيكية، وعند اندلاع الثورة السورية، كثف الروس وجودهم العسكري على الأراضي السورية، ونتيجة الترهل الواضح لجيش الأسد والانخفاض الملحوظ في الإمكانات القتالية والفنية لهذا الجيش؛ وبخاصة سلاح الطيران والمدفعية والأسلحة الخفيفة والمتوسطة، بدأ النظام الروسي بتقديم الدعم اللوجستي للجيش السوري منذ اليوم الأول للثورة، فشاهدنا كثيرًا من القطع البحرية ترسو في ميناء طرطوس محملة بالذخائر والمعدات الحديثة، وبخاصة احتياجات سلاح الجو السوري الذي كان في حالة مزرية نتيجة عدم توافر قطع الغيار للطائرات، وهذا ما قلص كثيرًا عدد الطلعات التدريبية للطيارين السوريين، وبهذا الدعم استعاد الجيش السوري جزءًا من قوته التي فقدها على مدى ثلاثين عامًا، في إثر آخر الحروب التي خاضها في لبنان 1982، كانت تلك البداية إلا أن تسارع الأحداث وإحراز الجيش الحر كثيرًا من الانتصارات الميدانية، وتحقيقه السيطرة على أكثر من “7% من الجغرافية السورية، جعل الروس يتحضرون للتدخل العسكري المباشر في سورية، وبدؤوا فورًا تطوير النقطة البحرية الموجودة منذ 1971 في ميناء طرطوس البحري، من أجل تحويلها إلى قاعدة بحرية كبيرة، هذه النقطة التي كان الأسطول البحري السوفييتي يستخدمها مركزًا للتزود بالمؤن والوقود والإصلاحات البسيطة، حيث ازدادت وتيرة وصول القطع البحرية الروسية إلى الميناء، وفي 7 كانون الثاني/ يناير 2012 ولأول مرة، شهد الميناء رسو حاملة الطائرات الروسية (أدميرال كوزنيتسوف) بمرافقة مدمرة وفرقاطة قتالية، ومنذ ذلك التاريخ، أغلق الميناء في وجه البواخر والسفن التجارية، وتحوّل تدريجيًا إلى قاعدة عسكرية بحرية، وُسّعت وطُوّرت بناء على اتفاق عقده الروس مع نظام الأسد في 20 كانون الثاني/ يناير 2012، قضى بتوسيع القاعدة لتكون أكبر قاعدة للجيش الروسي في البحر المتوسط، وكان هدف الروس من توسيع هذه القاعدة:
- تعزيز الوجود الروسي في المتوسط وعموم منطقة الشرق الأوسط، لتكون الأراضي السورية منطلقًا للتحكم بشكل أكبر في المنطقة.
- تقوية النفوذ الروسي في مصر والخليج.
- تعميق العلاقات مع إسرائيل.
ذلك على الرغم من تصريحات الروس بأن هذه القاعدة أُنشئت لغاية إدارية، ولأغراض دفاعية بحتة وليس لاستهداف دول أخرى(1)، رافق ذلك تحضير الجيش الروسي لإنشاء قاعدة حميميم الجوية التي تعد كبرى القواعد العسكرية الروسية في سورية، ومنطلقًا رئيسيًا لأغلب عملياتها الجوية ضد الشعب السوري، إذ أعلن إنشاء هذه القاعدة عبر اتفاقية بين الروس ونظام الأسد آب/ أغسطس 2014، وفي 2016 أعلن توسيع القاعدة لتكون مركزًا إستراتيجيًا للقوات الجوية الروسية في الشرق الأوسط(2)، أما من الناحية السياسية والدبلوماسية فقد كان التدخل الروسي في سورية باكرًا جدًا، ففي 30 تموز/ يوليو 2012، شاركت روسيا في إصدار بيان جنيف واحد الذي تضمن في أحد أهم بنوده العمل على سيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدتها الوطنية وسلامة أراضيها، والعمل على نحو عاجل وَمُكَثَّف من أجل وضع حد للعنف ولانتهاكات حقوق الإنسان، وتيسير بدء عملية سياسية بقيادة سورية تفضي إلى عملية انتقالية تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري، وتمكنه من أن يحدد مستقبله بصورة مستقلة وديمقراطية(3)، وبعدها استخدمت ست عشرة مرة صلاحياتها في حق النقض (فيتو) لمنع مجلس الأمن من إصدار قرارات تدين النظام السوري، على الرغم من الكم الهائل من المجازر التي ارتكبها جيشه، وعلى رأسها مجازر السلاح الكيمياوي التي راح ضحيتها مئات من الأطفال والنساء والشيوخ، وُثقت هذه الأدلة الدامغة وأرسلت إلى كافة المؤسسات الدولية والحقوقية، وعملت على صناعة مسارات جديدة في آستانا وسوتشي لحل القضية السورية بحسب مفهومها، وبهذا ثبّتت روسيا أقدامها على الأراضي السورية، وبدأت في التوغل في دماء السوريين عبر الحرب المفتوحة التي شنتها طائراتها وصواريخها الفتاكة على كل شبر من الأراضي المحررة، ولم تدع أي نوع من الأسلحة والذخائر حديثة الصنع إلا جربته واستخدمته ضد هذا الشعب المسكين الذي لا يملك أي مقوم من مقومات الدفاع عن النفس، وهذا خلق خللًا كبيرًا في توازن القوى العسكرية والقوة النارية بين تلك القوات وفصائل المعارضة، وما زالت تلك الاعتداءات مستمرة على أهلنا في الشمال السوري أملًا في تحقيق سيطرة قوات الأسد وحلفائها والميليشيات التابعة لها على باقي الأراضي السورية.
الإنجازات والإخفاقات
استطاعت روسيا بجهدها السياسي والدبلوماسي والعسكري والأمني، منذ البداية، تحقيق كثير من التقدم في طريق تحقيق هدفها النهائي، وهو إعادة إنتاج الأسد ونظامه ونجحت نسبيًا في:
- تهميش دور الأمم المتحدة من خلال استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن.
- خلق مسار جديد للتفاوض بدل مسار جنيف الذي عقدت جولاته تحت راية الأمم المتحدة، واستعاضت عنه بمؤتمرات آستانا وسوتشي.
- استطاعت أن تهمش الدور العربي وأفقدته التأثير في أطراف الصراع.
- استبدلت بالدور العربي الدور الإيراني والتركي، ورسخت عمله بفاعلية عالية.
- كان التدخل العسكري الروسي في سورية فرصة لإجراء التجارب الميدانية للأسلحة والذخائر الروسية الحديثة، وكانت المدن السورية حقل تجارب مثالي لتلك الأسلحة والذخائر.
- استطاعت القوات الروسية أن تحدث فرقًا هائلًا في القوة النارية مع قوات المعارضة التي لا تملك أي وسائط مضادة لتلك الأسلحة، خصوصًا مضادات الطيران، فضلًا عن استخدام تلك الأسلحة والذخائر على المدنيين والبنى التحتية للمناطق المحررة، وهذا أدى إلى قلب موازين القوى لمصلحة الأسد وميليشياته.
مع تلك الإنجازات اللافتة التي حققتها روسيا، ظهرت كثير من نقاط الضعف لدى القوات الروسية، وبخاصة تلك الأسلحة التي استخدمتها في حربها على الشعب السوري الأعزل كالحوامات والطائرات القاذفة والأسلحة ذات الدقة العالية التي فشلت فشلًا ذريعًا في تحقيق إصابات دقيقة على أهداف نموذجية وضمن ظروف موضوعية ملائمة لخصائص تلك الأسلحة وميزاتها، وعلى الرغم من تلك القوة الهائلة التي استخدمتها روسيا، فإنها لم تستطع تحقيق كامل أهدافها، فلجأت إلى الحلول الأمنية واخترقت من خلالها قادة فصائل المعارضة، واستطاعت أن تعقد معهم -بمساعدة حلفاء الأسد من الدول العربية والإقليمية- اتفاقات آستانا التي سُلِّمت بموجبها كثير من المناطق المحررة، وهجر أغلب أبناء تلك المناطق وحُصروا على الشريط الحدودي شمال سورية، وبهذا تضافر الجهد الروسية العسكري والأمني والسياسي والدبلوماسي، ومنع سقوط الأسد، بل نجح في تفكيك البنية العسكرية لفصائل المعارضة، وربط هذه الفصائل بمشروعات بعض الأحزاب الأيديولوجية العابرة للحدود والمتناهية مع الفكر الأيديولوجي لإيران أحد أخطر أعداء الشعب السوري، ولم يكتفِ الروس بكل تلك الإنجازات بل جعلوا الحرب على الشعب السوري سوقًا لترويج أسلحتهم وبيعها على الرغم من عدم وجود توازن في القوى والوسائط القتالية بين المعتدي والضحية، فكانت حربهم في سورية حقل تجارب تدريبي أكثر من كونه قتاليًا، من خلال ما قدمته روسيا للأسد، وبخاصة بعيد تدخلها العسكري في سورية يوم 30 أيلول/ سبتمبر 2015(4) الذي كان نقطة تحول فارقة في تاريخ الثورة السورية، وأدى بجلاء ووضوح إلى تغيير خريطة الصراع بالكامل، وفرض على المعارضة بشقيها السياسي والعسكري أجندات جديدة، وساعد ذلك إيران كثيرًا في تحقيق مشروع التغيير الديموغرافي على الأراضي السورية، ويمكن أن نذكر باختصار المكاسب الاستراتيجية التي حققتها روسيا من جراء تدخلها في سورية بما يأتي:
- التحول إلى لاعب أساسي في الشرق الأوسط.
- تحقيق الحلم الروسي القديم في الوصول إلى مياه البحر الأبيض المتوسط.
- امتلاك قاعدة بحرية في ميناء طرطوس السوري مجانًا لمدة 49 عامًا.
- تأسيس قاعدة عسكرية جوية في مطار (حميميم) قرب اللاذقية.
- جعلت سورية ساحة اختبار وتجارب وتسويق للأسلحة الروسية وميدانًا لتدريب قواتها.
- استطاعت السيطرة على اقتصاد سورية عبر استغلال الظروف السياسية والاقتصادية لنظام الأسد المحاصر والمعزول عن العالم.
- أنشأت روسيا وأسست على الأراضي السورية بنى تحتية ذات طابع إستراتيجي اقتصادي ستجعل منها -إن توافرت الظروف لها- قوة مهيمنة على مجالات حساسة من الاقتصاد السوري ولاعبًا مهمًا في النشاط التجاري والاقتصادي ليس في سورية فقط إنما في الشرق الأوسط كاملًا.
وهذا يدل أن الروس جنوا قبل أن يزرعوا، لأنهم حققوا وجودًا مهمًا جدًا لهم عبر قاعدة (حميميم) وقاعدة بحرية في طرطوس، وأصبحوا البوابة الحقيقية والرئيسية لمن يريد أن يحل القضية السورية، فلا بد أن يحلها عبر تلك البوابة، وعلى الرغم من هذه الإنجازات الكبيرة، لم تستطع روسيا بجيشها ولا بدبلوماسيتها ولا بسياساتها أن تمكن الأسد وتثبته في حكم سورية، ولم تستطع إعادة إنتاجه أو حتى إقناع العالم بذلك، ولذلك ما زالت تحاول المستحيل مع شركائها من أجل إيجاد اختراق ما في جبهة الرفض العالمي والعربي المطلق للأسد ونظامه، وبهذا يمكن أن نعد سورية عبئًا كبيرًا على الروس، وأظن أن هذا العبء ستزداد وطأته مع الوقت، نتيجة الحالة المزرية التي وصلت إليها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في سورية، وتفاقم هذه الحالة باتجاه الأسوأ منذرة بمجاعة غير مسبوقة سوف تجتاح مختلف طبقات المجتمع السوري، وبخاصة في مناطق سيطرة الأسد.
مآلات التدخل
لقد فعل الروس كثيرًا، ودفعوا أكثر من أجل بقاء رأس النظام بشار الأسد، لكنهم كما يقولون هم أنفسهم: “زرعنا ولم نحصد بعد”، وعلى الرغم من ذلك كله، لم تتمكن روسيا حتى الآن من الحصول من نظام الأسد على ما تريده لشركاتها، ولم تحصد الثمار الاقتصادية لتدخلها العسكري في الحرب السورية، نظرًا إلى فشل مساعيها في إقناع الغرب والدول العربية في تمويل إعادة الإعمار قبل التسوية السياسية بالشكل الذي يَرضى به المجتمع الدولي، ولهذا يقول الخبراء الروس إن ما يجري هو محاولات روسية لإبقاء نظام الأسد عائمًا غير مستقر، ولو كان ذلك عبر دعم محدود جدًا يمنحه تنفسًا اصطناعيًا مؤقتًا فقط.
والسؤال هنا: هل باتت سورية عِبئًا على الروس بعد هذه السنوات من التدخل الكبير السياسي والعسكري والأمني؟ هذا السؤال أجاب عنه كثيرٌ من الخبراء والمحللين السياسيين -خصوصًا الروس منهم- بنعم صريحة وواضحة، ولكنهم اختلفوا على قدرة موسكو على تقديم مساعدة للأسد لإخراجه من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يواجهها حاليًا، فالوجود الروسي في سورية لم يكن عملًا خيريًا، ولم يكن إلا لأهداف سياسية وعسكرية واقتصادية، فلا يوجد في السياسة شيء مجاني إطلاقًا، فالقضية السورية، سواء بشقها السياسي أم العسكري أم الاقتصادي؛ باتت عِبئًا على روسيا في ظل تعثر العملية السياسية وانعدام مصادر تمويل الاقتصاد ورفض المجتمع الروسي تلبية الرغبة الروسية في تمويل إعادة الإعمار، ومن هنا لا بد من الوقوف سريعًا على محطات رئيسية ستساعدنا وتساعد القارئ في توضيح الأمر، وسأبدأ بالحملة الشرسة للإعلام الروسي على رأس النظام السوري، وهذا شيء غريب لكنه حدث، فمكاسب موسكو تعتمد اعتمادًا أساسيًا على جني الثمار الاقتصادية للعملية العسكرية في سورية، فلا شيء بلا ثمن، ففي ربيع 2020 أحدثت وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية المحسوبة على رجل الأعمال الروسي (يفغيني بريغوجين) المعروف بلقب (طباخ بوتين) صدمة كبير في سورية، عبر سلسلة مقالات وتقارير شنت فيها هجومًا لاذعًا على رأس النظام بشار الأسد، وقالت إنه “فقد شعبيته”، وأن 31 % فقط من المواطنين السوريين قالوا إنهم سيصوتون له، في حال حدثت الانتخابات الرئاسة المقبلة، بعد هذا رأى مراقبون أن تلك الحملات مؤشر واضح على تملل روسي يعبر أيضًا عن استياء موسكو من عدم وفاء الأسد بالتزاماته الاقتصادية أمام الشركات الروسية، أي إن الروس زرعوا لكنهم لم يجنوا شيئًا، لقد وضعت روسيا أُسس علاقاتها الاقتصادية مع النظام السوري في عناوين صاغها نائب رئيس الوزراء السابق (ديمتري روغوزين) بجملة تختصر كل شيء، وهي أن روسيا لن تدخل الاقتصاد السوري بصفة (فاعل خير أو دولة مانحة) بلا مقابل، وأنها لا تنوي التساهل بخصوص مصالحها وأرباحها(5)، إذًا لم يخسر الروس، لكن ما يؤرقهم ويخيفهم أن يستمر وضع الاقتصاد السوري على حاله، فإذا لم يكفّ نظام الأسد عن وضع العراقيل والعصي في عجلات العملية السياسية، وإذا لم تمارس موسكو الضغط المطلوب على بشار الأسد؛ فإن الوضع سيتجه نحو مزيد من التعقيد، وسينعكس هذا الأمر بصورة مباشرة على الوجود الروسي في سورية الذي بدأ يتلمس غضبًا شعبيًا في الأفق، قد ينفجر في أي لحظة مع استمرار تدهور الوضع المعيشي للسوريين، وبهذا المعنى تُصبح سورية عبئًا على روسيا، بما في ذلك الإرث الاقتصادي المتدهور، وهذا مهم جدًا، إضافة إلى مسؤوليتها السياسية أمام المجتمع الدولي، فروسيا بين أمرين أحلاهما مرُّ: الأول عدم قدرتها على فرض الأسد مجددًا على دول العالم لتقبل به رئيسًا خاض معركة وانتصر فيها، والثاني عدم قدرتها على تطويع الأسد وتكييفه مع مطالب المجتمع الدولي، وقد دفع هذا الأمر الروس إلى وصف الأسد بـ (حليفنا الصعب)، وبهذا تجد روسيا نفسها مسيطرة على بلد تحولت مدنه إلى رُكام، وبلد يمتلك اقتصادًا محطمًا ينخره الفساد حتى النخاع، تسيطر عليه فوضى الميليشيات الواسعة والمنتشرة من الشمال إلى الجنوب، وبلد يوجد على أراضيه أربعة جيوش دولية وإقليمية، الأول جيش الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الفرنسيين والإيطاليين والبريطانيين، والجيش الثاني والأخطر على الجميع الجيش الإيراني المتمثل في الحرس الثوري الإيراني والميليشيات التابعة له، والجيش الثالث هو الجيش التركي، وبين الحين والآخر القوات الجوية الإسرائيلية، وفي ظل هذا التشابك والتناحر كله، والخريطة العسكرية المعقدة، نسأل: هل سيستمر الروس في سعيهم لتحقيق ما كانوا يَصْبون إليه عند تدخلهم في سورية؟ أم ربما يكون هناك تغيرات في إستراتيجيتهم لتحقيق الحد الأدنى من الأهداف التي غاصوا فيها في الرمال السورية المتحركة، وهذا يرجع كله إلى الساسة الروس الذين لا بد من أن يقدموا تنازلات مؤلمة لإخراج أنفسهم من المأزق الذي تورطوا فيه.
الخاتمة
باختصار شديد، يمكن أن نقول إن ما فعله النظام الروسي للأسد ونظامه فاق التوقعات، وبرهن أن روسيا مُنذ حُقبة الاتحاد السوفييتي المنحل لم ولن تتخلى يومًا عن حلفائها بسهولة، وأظن أن هذا لن يدوم طويلًا في الحالة السورية، خصوصًا إذا شعرت روسيا أنها ستتورط أكثر في القضية السورية، فاللاعبون كُثر والتداخلات معقدة، ولا يمكن لروسيا من خلالها أن تُرضي جميع الأطراف؛ وعلى رأسهم الطرف الإيراني الذي أصبح اللاعب الذي يؤرق الروس، من حيث عدم قبوله الخروج من سورية لأسباب كثيرة، من أهمها حجم التضحيات الكبير الذي خسره من المال والرجال لتحقيق هدفه الرئيسي الذي من أجله تدخل في سورية، ألا وهو حلم التغيير الديموغرافي الذي راود نظام الملالي منذ اللحظة الأولى لاستيلائه على السلطة، وشكل أحد أهم أدوات إيران للسيطرة على سورية، وهذا بدوره يصطدم بمصالح إسرائيل الرافضة لهذا الوجود، وأرى أن هذا الرفض يمكن أن يُشعل حربًا على الأراضي السورية سيكون الطرف الرئيس فيها إيران وميليشياتها، والأطراف الأخرى إسرائيل وروسيا والولايات المتحدة الأميركية، وهذا سيجعل سورية ساحة حرب يمكن أن تنطلق منها حرب عالمية ثالثة، وبالتأكيد سيكون الخاسر الأكبر هو الشعب السوري والمدن السورية التي سيدمرها الإيرانيون على رؤوس أصحابها، إن شعروا بخسارتهم في المعركة وسيخرجون من سورية إلى الأبد، وأظن أن هذا السيناريو الذي تعمل جميع الأطراف على تأجيل اللجوء إليه، خشية النتائج الكارثية التي ستقع على المنطقة والعالم في حال حدوثه، وهو الأقرب إلى الواقع؛ فروسيا تريد تحقيق مصالحها في سورية، لكنها لن تستطيع تحقيق مصالح باقي اللاعبين هناك، ولهذا شاهدنا تحركًا دبلوماسيًا روسيًا جديدًا في محاولة لخلط الأوراق مجددًا، وتشكيل حلف جديد يمكن أن تكون دول عربية خليجية أحد أطرافه، في محاولة حشد هذه الدول خلفها لإقناع المجتمع الدولي ببقاء الأسد رئيسًا صوريًا، وتشكيل حكومة انتقالية بمشاركة المعارضة، وبهذا تكون قد أعادت النظام السوري إلى الأسرة الدولية والعربية من أوسع الأبواب، وضمنت التمويل الخليجي والدولي لإعادة الإعمار في سورية، وفي الوقت نفسه تكون قد خرجت من مأزقها الاقتصادي والسياسي.
الهوامش:
(1)- موقع العرب، “توسيع قاعدة طرطوس العسكرية.. رسالة متعددة الغايات” https://alarab.co.uk/
(2)- موقع الجزيرة، “حميميم.. قاعدة روسية تبطش بالشعب السوري” https://bit.ly/3cPpSex
(3)- موقع الجزيرة، “اتفاق جنيف1” https://bit.ly/3un1VkN
(4)- ويكيبيديا، ” الانخراط الروسي في الحرب الأهلية السورية” https://ar.wikipedia.org/wiki/
(5)- موقع العربي الجديد، “توطين عشرات الشركات الروسية في سورية” https://www.alaraby.co.uk/economy/