تعيش الغالبية العظمى من السوريين، على امتداد الأرض السورية، درجة عالية من الهشاشة وعدم الاستقرار، وهم معرضون بشدة للفقر والبطالة وغياب الرعاية الصحية وخدمات التعليم، وتفاقمت أزمتهم خلال جائحة كورونا كوفيد -19، حيث فقدوا كثيرًا من إمكانات الوصول إلى سبل عيشهم وتلبية احتياجاتهم الأساسية، ويتعرضون لمخاطر عديدة ولأشكال مختلفة من الاستغلال، مثل عمالة الأطفال وتجنيدهم، والعنف القائم على النوع والزواج والمبكر، وتفشي ظواهر التسوّل والاتجار اللاأخلاقي والمخدرات، وكل ذلك وسط ارتفاع أسعار جنوني غير منضبط، وتدهور لقيمة الليرة السورية، حيث تجاوز سعر الدولار الواحد 4000 ليرة سورية، وتشير كثير من الدراسات إلى أن الأسرة السورية المكونة من 5 أفراد تحتاج إلى حوالى 750 ألف ليرة سورية لتعيش فقط، بينما لا تزيد معدلات الرواتب والأجور عن عُشُرْ هذا المبلغ.
في مثل هذا السياق، تأتي أهمية التحويلات المالية الخارجية، بوصفها شريان الحياة والمنقذ الحقيقي للسوريين، سواء أكانوا في مناطق سيطرة النظام أم في مناطق سيطرة قوى أخرى مثل إدلب وشرق الفرات، أو للنازحين الداخليين والمهجرين قسريًا والذين يعيشون ظروف نزوح غير مستقرة، تجعل الوصول إليهم صعبًا جدًا، ولا سيما الفئات الضعيفة أو الأكثر هشاشة من النساء والأطفال وكبار السن، من سكان المخيمات.
إن دراسة التحويلات وتسليط الضوء عليها في سياق الحالة السورية يكتسب أهمية عملية وكذلك معرفية، نظرًا لعدم توفر الوثائق المتاحة، وحساسية تبادل المعلومات حول أنشطة التحويلات وأهدافها، وهل تصل إلى المستفيدين المقصودين أم تذهب إلى مسارات مختلفة وتمويل خاطئ وخطر، مما يجعل عملية تتبع مسار الحوالات الرسمية وغير الرسمية بالغ الصعوبة.
من أين تأتي التحويلات إلى سورية وكيف؟
نتيجة للصراع الدائر في سورية، لجأ خلال عشر سنوات أكثر من سبعة ملايين سوري إلى دول خارج سورية، وبينما لجأ معظم السوريين إلى بلدان الجوار، وخاصة تركيا ولبنان والأردن ومصر والعراق، فإن نحو مليون من بينهم لجؤوا إلى بلدان متقدمة، وبالرغم من صعوبة ظروفهم كلاجئين، فإنهم يلعبون دورًا بارزًا في مساعدة من بقي من ذويهم على الأراضي السورية، المقسمة بين مناطق سيطرة عدة ، ومدّ العون لأهاليهم في الداخل، عبر حوالات مالية شخصية تساعدهم في التكيف مع صعوبة ظروفهم المعيشية في الداخل التي تزداد قسوة يومًا بعد يوم، حيث “يبلغ عدد الذين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة حوالي 13،1 مليون”، حسب أرقام الأمم المتحدة[1]. وبحسب بيانات البنك الدولي، فإن الدول المجاورة لسورية (تركيا، الأردن، لبنان، السعودية، العراق) تمثل 76% من مصدر التحويلات الواردة إليها، و24% من بقية الدول.

وفي ظل غياب أرقام دقيقة عن حجم هذه التحويلات، فقد قدّرت بعض الدراسات، بحسب بيانات البنك الدولي، أن حجم التحويلات السنوي حوالي 1،62 مليار دولار، وأشارت بعض التقارير إلى أن المبالغ اليومية التي يتم تحويلها إلى سورية تساوي حوالي 5،4 مليون دولار[2].
وتعد سورية حالة خاصة، بالنسبة إلى معظم الدول، بما يخص التحويلات، ولا سيما في السنوات الأخيرة وذلك لأسباب كثيرة، وأهمها كون هذه التحويلات منقذًا حقيقيًا لكثير من العائلات السورية من الوقوع بالمجاعة، وبالرغم من انخفاض متوسط قيمة الحوالة الذي ربما يكون أقلّ من 100 دولار شهريًا، فإنه مؤثر في تلبية الحاجات الأساسية من الطعام والشراب.
وطريق الحوالات محفوف بالمخاطر والتعقيد، حيث هناك كثير من الأطر القانونية والتنظيمية تؤثر في وصول الحوالات، كمًا وكيفًا، ولا سيّما بعد أن أغلقت كثير من شركات ومكاتب الصرافة في سورية، مما دفع الناس إلى البحث عن حلول بديلة، وأبرزها التحويل عبر مكاتب سرية (سوداء) حيث لا رقيب ولا ضمانات سوى الثقة الافتراضية وانعدام الحلول الآمنة.
وحسب مصادر موقع (الحل نت) فإن «الشركات الخاصة الدولية التي ما زالت تعمل في تحويل الأموال في دمشق هي (ويسترن يونيون) إلا أنها شبه خالية، كونها مرتبطة بسمعة سيئة، وهي أن قاعدة بياناتها مرتبطة بالأجهزة الأمنية ولا أحد يتعامل معها»[3]
وينتشر الوسطاء في جميع أنحاء البلاد، وتربطهم شبكة غير رسمية مع نظراء لهم منتشرين، حيث يوجد السوريون في بلدان اللجوء، وأداتهم الرئيسية وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج الاتصالات، كـ (واتسآب، فايبر، إيمو، تلغرام..)، ويعملون بسرية تامة، حيث إنهم عرضة للتفتيش والملاحقات الأمنية. وهناك طريقة أخرى وهي إرسال الحوالات إلى حساب بعض الشركات العاملة في مصر أو تركيا أو الأردن أو لبنان، ويتم استلامها وتحويل إرسالها إلى الداخل السوري، وذلك لقاء عمولات تراوح بين 2-5 %.
ما الدور الاجتماعي للتحويلات المالية؟
مما لا شك فيه أن رأس المال الاجتماعي السوري تصدّع وتضرر، عبر السنوات العشر التي تقطعت خلالها أوصال المجتمع، بالفعل الأمني والقمعي والعسكري والفعل السياسي والفعل الاقتصادي، ومآلات اللجوء والتهجير القسري، وكذلك بفعل وسلوك سلطات الأمر الواقع، في كل رقعة سورية مقتطعة، من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. من هنا، يمكننا القول بأن الذين كان قدرهم مغادرة البلاد واللجوء، في العديد من دول العالم، وجدوا في التحويلات المالية لذويهم وأقاربهم فرصة للمحافظة على ما تبقى من أواصر وروابط، سواء في الأسرة الواحدة أو في العائلة الممتدة، وصولًا إلى الجار والمحتاج في إطار الوسط الاجتماعي السابق لهؤلاء المهاجرين واللاجئين.
قد لا يكون متوسط مبلغ الحوالة كبيرًا، ولكنه ضمن سياق الحاجة الملحة، ووصول أكثر 85% من السوريين في الداخل إلى مستويات فقر وفقر مدقع، يشكل رافدًا وداعمًا لقدرة هؤلاء الناس على التكيّف مع ظروف معيشتهم القاسية، وتكفل لهم الحد الأدنى من مستويات الحياة، وبالتالي التواصل والتسوق وتبادل المنافع، وهكذا تعيد الحوالات طرح قيم التعاون والتعاضد بين أفراد الأسرة وامتداداتها، ويحظى مرسل الحوالات بتقدير عال وإشادة بدوره الداعم لأسرته أو أقاربه أو سواهم، مما يجعل ذكره في المجالس واللقاءات مدعاة للاعتزاز وإشارة إلى تماسك العلاقات المجتمعية وتجديد تواصلها، بعد الهزات العنيفة التي تعرضت لها خلال سنوات الصراع والمواجهة. ومن الملاحظة المباشرة يتبين أن الحوالات تزداد في المناسبات الاجتماعية ومواسم الأعياد، وحالات الضرورة والطوارئ والإصابات كالوفاة والمرض.
كذلك هناك نوع من التحويلات التي تأتي مخصصة لمرافق عامة في البلدة أو المدينة أو القرية، مثل دعم جمعية خيرية تخدم الأيتام والأرامل والأطفال، أو بناء مدرسة، أو دار عبادة، أو شراء مولدة كهرباء أو مضخة مياه. مما يترك أثرًا طيبًا في نفوس الناس، ويعيد الأمل بإعادة رأب الصدع الذي أصاب رأس المال الاجتماعي والبنية المجتمعية السورية.
التحديات التي تواجه حوالات السوريين
تكتسب التحويلات أهمية خاصة في أوقات الأزمات، فهي تشكل المصدر الرئيس لدخل المواطنين، حيث تدعم قدرتهم على التكيف مع ظروف معيشتهم الصعبة، والسوريون يعيشون هذه الأزمة منذ حوالي 10 سنوات، وقد شملت التحديات المرسلين والمستلمين للحوالات، والأمر الشائن أن أول التحديات والصعوبات مصدرها إجراءات البنك المركزي السوري، حيث إن التحويل عبر الشركات الرسمية يتم بتسليم الحوالات بالليرة السورية حصرًا، وبالسعر المقرر من البنك المركزي، وهو 1250 ليرة سورية للدولار الواحد، مما يفقد الحوالة أكثر من ثلثي قيمتها بحسب سعر صرف الدولار في السوق السوداء. وأغلق المصرف المركزي في الثاني من حزيران/ يونيو 2020، عددًا من شركات تحويل الأموال، ومنها (الحافظ، إرسال، فرعون، شامنا، آراك، ماس)، بحجة أنها تخالف تعليمات المركزي، وتُسلِّم حوالات مجهولة المصدر.
وكان رئيس النظام السوري قد أصدر، في كانون الثاني/ يناير 2020، مرسومًا يقضي بتجريم التداول بغير الليرة السورية، وفرض غرامات وعقوبات على المخالفين، وصلت إلى الأشغال الشاقة لمدة لا تقل عن سبع سنوات، ورصدت وسائل الإعلام كثيرًا من حالات الملاحقة والسجن لعدد من أصحاب الأعمال والأفراد بحجة التعامل بعملات أجنبية.
يعاني أصحاب التحويلات الصغيرة جشع وكلاء الحوالات واستغلالهم لحاجة الناس للحوالات، حيث أصبحوا يحتجزون مبالغ مرتفعة، متذرعين بحجج ملاحقة الجهات الأمنية وصعوبة العمل بالتحويل وكذلك تذبذب سعر الصرف، وهذا ينقص من قيمة الحوالات التي هي أصلًا ليست مبالغ كبيرة، ومعظمها لا يزيد عن 100 دولار شهريًا[4].
تركت جائحة كورونا Covid – 19 أثرها على قطاع التحويلات المالية العالمية، حيث تقدّر بعض الدراسات أن نسبة الحوالات انخفضت بنسبة 7،2 %، في البلدان متوسطة الدخل، كالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وانعكس ذلك على حوالات السوريين، حيث فقد كثير من المرسلين مصادر دخلهم وعملهم، وتسبب ذلك في انخفاض قيمة الحوالات وفي تواتر إرسالها، وكذلك فاقم انتشار الجائحة من أزمة السوريين في الداخل، حيث باتت الحاجة إلى الحوالات أكثر إلحاحًا وضرورة. أما في ما يخص الحوالات الواصلة إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فهي تواجه تحديات أقلّ، لكن الشخص المرسل للحوالة يواجه تحديات تتعلق بالجوانب القانونية والاجتماعية في بلدان اللجوء، حيث يخشى من تعرضه للمساءلة، حين يقدم معلوماته لوكلاء التحويل، وربما يؤثر ذلك على قانونية وجوده كلاجئ أو مهاجر، وقد يوثر ذلك على تلقيه مساعدات اجتماعية، أو يكلفه دفع ضرائب إضافية، أو قد يواجه تهمة “تمويل الإرهاب”، كونه يحول أموالًا إلى سورية.
وهناك صعوبات تتعلق بالمتابعة الدولية للمبالغ المحولة إلى بلدان النزاع، حيث هناك تخوف من وصول الأموال إلى غير المقصودين المستفيدين منها، أو ربما تذهب بعضها بصورة غسيل أموال أو تمويل عمليات إرهابية. وتشكل القيود والعقوبات الدولية المالية على دول الشرق الأوسط عمومًا، ومنها سورية، صعوبة إضافية أمام التحويلات، وتجعل بيئة تحويل الأموال صعبة ومعقدة، وتحتاج إلى كثير من الإجراءات والتدقيق وطلب المعلومات عن طرفي التحويل، وقد تركت تداعيات قانون قيصر أثرًا واضحًا على مسار التحويلات وحجمها.
وأضافت الأزمة المالية اللبنانية منذ عام 2019، وتعطّل الحياة الاقتصادية في لبنان بعد انفجار بيروت، صعوبة جديدة أمام تحويل السوريين أموالًا إلى ذويهم داخل مناطق سيطرة النظام، ومن المعروف أن هناك ترابطًا بين لبنان وسورية يتصل بالحياة المالية والمصرفية، إذ كان لبنان يلعب دور غرفة عمليات التحويلات المالية، من وإلى سورية، الكبيرة منها أو الصغيرة، إضافة إلى خدمة التجارة، وقد بلغت مبالغ إيداعات السوريين في المصارف اللبنانية حوالي 45 مليار دولار، بحسب بعض المصادر.
ما المطلوب لحماية هذه التحويلات؟
نظرًا للأهمية القصوى لدور هذه التحويلات في دعم قدرات الناس في الداخل السوري، لمواجهة معركتهم مع سبل العيش وتأمين أساسيات الحياة، وما لهذه الحوالات من دور اجتماعي يتمثل في تعزيز الترابط والتعاون بين المكونات المجتمعية؛ لا بد من استجابة إنسانية دولية، عبر منظمات العمل الإنساني الدولي، وتحت رقابة حقيقية، لحماية هذه المبالغ الصغيرة من التشبيح المالي، ومن جشع سماسرة الحوالات والتلاعب بأسعار صرفها، وكذلك لا بد من وجود دور فاعل، لمنظمات المجتمع المدني السورية وللمؤثرين وقادة الرأي ووسائل الإعلام، في تسليط الضوء على هذه القضية الجوهرية التي تمس حياة السوريين، على أمل الوصول إلى حلول جذرية لمعاناة السوريين الممتدة والمفتوحة على الصعد كافة.