المحتويات
ثانيًا: سمات الحقل الأكاديمي السوري
ثالثًا: الحقل الأكاديمي السوري .. الهابيتوس الأمني
- الشهادات العلمية العليا
- المناهج الدراسية وطرق التدريس
- الحقل الأمني .. مستعارًا
- رأس المال الرمزي والعنف
- رهانات المشروعية الجديدة
- الحقل الأكاديمي السوري اللاجئ
مقدمة
كشفت الثورة السورية، على الصعيد المعرفي، ضحالة البنية الثقافية والمعرفية للمؤسسات التعليمية، ولا سيّما الأكاديمية منها. وفي وقت كان ينتظر من الأكاديميين السوريين اتخاذ موقف منحاز لعملية التغيير “لافتراض ارتباط التغيير والتجديد بتكوين المشتغلين في هذا المجال”؛ انحازت قلة منهم إلى الثورة وانخرطوا في عملية التغيير، بينما خذلت أغلبية هذه الشريحة ربيع سورية في عام 2011، واستمرت في ارتهان وجودها إما في دعم النظام وتبرير العنف أو الصمت والهرب في غالب الأحيان.
لا يمكن الحديث عن مجرد موقف من الثورة فقط حين نقارب الأكاديميا السورية، فالحديث عن “الحقل الأكاديمي” السوري قبل الثورة وفي أثنائها وبعدها، يفرض البحث عن بنية هذا “الحقل”[1] الذي أنتج كساحًا علميًا ومعرفيًا ونمط أفراد خدم النسق السلطوي الاستبدادي للنظام السوري سياسيًا وتعليميًا.
والسؤال المطروح هو: هل كان بالفعل هناك حقل أكاديمي سوري له منطق تطوره الخاص وصراعاته الخاصة المستقلة عن الحقول الأخرى المشكلة للتنظيم الاجتماعي السوري؟ وإن كان كذلك، فما هي سماته والصراعات التي كانت تسوده؟ وهل نشأت فئة من الفاعلين الأكاديميين حاولت طرح مشروعية مغايرة لما هو سائد في هذا الحقل؟
أولًا: نظام التعليم البعثي
أسس نظام الحكم البعثي نظامًا تعليميًا لما قبل المرحلة الجامعية “المراحل الابتدائية حتى الثانوية” يقوم على إلزاميته وربطه بمنظمات ومؤسسات “تعبوية” تابعة له، مثل منظمة طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة، وهما المنظمتان اللتان كان يجبر جميع الطلاب في هذه المراحل على الانتساب إليهما، حتى ولو كان الانتساب “في المراحل المتأخرة” شكليًا. وتم بناء على ذلك المزاوجة بين المؤسسة التعليمية والمؤسسة الإيديولوجية البعثية، بحيث تسد جميع الطرق أمام أي نشاط طلابي خارج نطاق عمل تلك المنظمات. وهو برنامج عمل سياسي بات واضحًا ولا جدال فيه. فقد سعى النظام التعليمي، وخصوصًا في مرحلة الثمانينيات، إلى لفظ كل نشاط “مشبوه” ولا يندرج في إطار المنظمات الطلابية الشبابية، ولم يتوقف عند ذلك، فقد تم قمع كل محاولة حراك بطرق العنف الأمنية.
هكذا تأسس جيل لم يعرف للتعليم معنى سوى الحفظ والامتحان في المراحل التعليمية كافة، ترافقًا مع تداخل الوظائف التعليمية ومؤسسات البعث التنظيمية الملحقة بكل مرحلة تعليمية، ولم يعرف نشاطًا خارج الأطر التنظيمية البعثية وهو مقبل على مرحلة جديدة هي مرحلة التعليم الجامعي.
فعلى سبيل المثال، كان الحفظ هو نتيجة إتاحة التعليم الجامعي وفق معيار وحيد هو تحصيل الدرجات في الشهادة الثانوية، وعدد الطلاب نسبة الى مدرسي الجامعة وطبيعة المنهاج الجامعي ذاته بوصفه كتبًا معدة للقراءة والاستظهار. أما على صعيد الفروع التنظيمية الحزبية فقد كان نشاطها هو الأهم من أي نشاط علمي بحت، فطغيان سلطة الاتحاد الوطني وفرع حزب البعث في الجامعة ومن يمثلهم كان يعطي أسبقية الفعل الأمني على أي فعل علمي أو أكاديمي محتمل.
عند هذه النقطة لا يمكننا الحديث عن مرحلة جامعية مستقلة لها نظامها الخاص وتتطلب نمطًا جديدًا من “الطالب”. فقد كرست المراحل التعليمية ما قبل العليا نمط “الطالب البعثي المثالي” القادر على الحفظ وتحصيل الدرجات المطلوبة، والمنتمي لمنظمة “اتحاد شبيبة الثورة” واضعًا أمام عينيه هدف الدخول إلى الجامعة والحصول على شهادة تخوله بممارسة مهنته أو تحصيل وظيفة حكومية “كخيار مفضل لدى الجميع”.
في المرحلة الجامعية لا يختلف الأمر عمليًا، سوى بالتخصص لكل فرع من فروع الكليات المنتشرة في المدن السورية الرئيسية، وفي مرحلة لاحقة في فروع الجامعات الرئيسية في المدن كافة تقريبًا.
وكانت مرحلة الثمانينيات قد شهدت حصارًا وإجهازًا على المشهد التعليمي السوري قضى على أي إمكانية باستقلالية الحقل الأكاديمي، مفرغًا بذلك هذا الحقل من مضامينه المعرفية والنقدية وملحقًا إياه بالأجهزة الأمنية. وقد لعبت المتغيرات السياسية دورها الكبير في إحكام السيطرة الإيديولوجية البعثية على مقدرات الحياة العامة بما فيها المؤسسة التعليمية بشكل خاص. كانت المتغيرات السياسية الداخلية متمثلة بأحداث حماة وقمع اليسار ومن ثمّ اجتثاث أي محاولة لصوت آخر يعلو على صوت البعث والولاء لـ “الدولة” التي تماهت مع سلطة عائلة الأسد وملحقاتها؛ والخارجية بحرب 1982 واجتياح بيروت والصراع مع منظمة التحرير الفلسطينية وتكريس سلطة البعث كخيار وحيد مناسب وظيفيًا أمام إسرائيل والولايات المتحدة في الصراع السياسي القائم في المنطقة.
وسط هذا الواقع الجديد، لم يخرج التعليم الجامعي عن نظيره في المستويات السابقة، فقد كان العنف يبدأ من غلاف كتب المناهج الدراسية ودفاتر الطلاب بصورة “حافظ الأسد” في بعد رمزي يبقي الخوف مسترسلًا داخل البيوت في الواجبات المنزلية.
ولم يتوقف المشهد عند ذلك فحسب، فالأناشيد التي تخلد البعث وتشتم حركة الإخوان المسلمين و”العملاء من الداخل” بقيت تردد كشعارات صباحية قبل الدخول إلى الصفوف الدرسية. وحتى المرحلة الثانوية في وقت متأخر، كان تنفيذ الطالب لدورات “الصاعقة” الحزبية تؤهله لدخول الجامعة عن طريق حصوله على درجات إضافية لقاء توغله في خدمة سلطة البعث، والحقيقة أن هذا الأمر لم يترك بصماته فقط على عدم التكافؤ في الفرص بين الطلاب، لكنه لبّى دورًا وظيفيًا مطلوبًا للمؤسسة التعليمية الجامعية، فهو يؤدي إلى تثبيت أهمية الذوبان في الحزب والولاء للسلطة على حساب التعليم من جهة، ومنع تشكل أي حراك محتمل وكسر أي محاولة لتحقيق عقل أكاديمي سوري له ملامح مستقلة عن النظم الشرعية للسلطة.
ذهب الطلاب إلى الجامعات السورية وهم محمّلون بذلك كلّه، وهم ينظرون إليها “الجامعة” كمرحلة مشابهة لغيرها من المراحل التي يؤدون واجباتهم فيها بشكل روتيني. وباستثناء بعض التخصصات المعرفية في العلوم الإنسانية والفروع القريبة منها (التاريخ والحقوق وعلم الاجتماع وعلم النفس على سبيل المثال)؛ لم يكن ضمن اهتمام الطلاب العودة إلى تاريخ المجتمع السوري القريب ولا إلى استيلاء حزب البعث على السلطة، ولم يشغلهم السؤال عن سورية ما قبل دولة البعث بعد أن بات يؤرخ لسورية الحديثة بشخصنة ألّهت الأسد الأب وإنجازاته المستمرة.
(إمعانًا في كتابة التاريخ السوري بدءًا من حكم الأسد وحزب البعث، فُرضت مادة “القومية” على المنهاج الجامعي في ثمانينيات القرن العشرين، حيث اضطر جميع الطلاب إلى حفظ خطابات “حافظ الأسد” والامتحان بها، في الوقت الذي كان يكلف بتدريسها إما بعض الأساتذة من شُعب وفروع حزب البعث في الكليات المختلفة، أو بعض رؤساء الفرق الحزبية من الحاصلين على شهادة ما دون جامعية أحيانًا).
ثانيًا: سمات الحقل الأكاديمي السوري
بدأت تتضح ملامح “الحقل الأكاديمي” البعثي في سورية منذ أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، حين ابتعثت وزارة التعليم العالي ثلة من الخريجين إلى جامعات دول شرق أوروبا لتحصيل شهادات الدكتوراه في الاختصاصات المختلفة، برز منها بشكل خاص تلك البعثات في كليات الآداب والعلوم الإنسانية والفنون، فضلًا عن الاختصاصات العلمية الأخرى التي اشتغل الحاصلون عليها في مهن الطب والهندسة وغيرها.
هكذا، استقبلت دول الاتحاد السوفياتي السابق وألمانيا الشرقية “سابقًا كذلك” وتشكيوسلوفاكيا “سابقًا أيضًا” وغيرها، مجموعة من الطلاب “المتفوقين”[2] وهم الحاصلون على الدرجات التي تخولهم للتقدم إلى البعثات ومتابعة تعليمهم العالي ومن ثم عودتهم وهم يحملون شهادة الدكتوراه ليمارسوا “وظيفتهم” في الجامعة.
اتساقًا مع بنية السلطة السياسية الديكتاتورية في سورية، تحركت الحقول[3] المختلفة سيرًا على منهج العلاقة مع بنية التسلط القائمة. فقد أنتجت المؤسسة التعليمية ما قبل الجامعية نمطًا من الطالب المتقبل لنظام التعليم التلقيني، غير المبادر، الطامح إلى الوصول إلى مراتب وظيفية داخل المؤسسات التعليمية دون البحث عن التجديد أو الإبداع.
هكذا تم توحيد مواصفات قياسية بالنسبة إلى المتعلم بمن فيهم “الأكاديمي”، فتم التعامل معه بطريقة تشبه فلسفة “الوظيفة الحكومية” مثلما هي متعينة في الدوائر والمؤسسات الحكومية الأخرى. وعلى هذا بات التحصيل العلمي يستهدف تحقيق “مرتبة وظيفية” فقط دون مقاربة الإبداع والاختلاف والنقد والبحث والمعرفة.
لم يكن حال الجامعة في سورية قبل توغل النظام في التسلط في مرحلة الثمانينيات كما هو حاله بعد تلك المرحلة، فقد كان هناك طموح لاستكمال الدور الإيجابي الذي قامت به في عقود سابقة في إعداد أو تكوين شخصيات ثقافية سورية وعربية كذلك في ميادين العلوم الإنسانية، والنهوض بالعلوم التطبيقية إلى مستويات متقدمة كالطب والهندسة وغيرها. كان دور الجامعة استكمالًا لدورها القديم على صعيد مناهجها وكادرها التعليمي وكذلك خريجيها من السوريين والعرب.
مع فلسفة نظام التعليم البعثي، بدا الحقل الأكاديمي يشتغل على مسارين، يواجهان أي تحليل سوسيولوجي أمام إرباك واضح. فقد اضطرب الحقل بآليات وميكانيزمات السيطرة وتكريس “المشروعية” في الممارسة الأكاديمية، وربما جرى ذلك في جميع الحقول؛ في الوقت الذي استعار “لغة القوة البعثية” في محاربة الفاعلين الجدد “المحتملين” في مشروعهم لتغيير بنية الحقل والفاعلين المسيطرين فيه.
استفاد الفاعلون الجُدد في الحقل الأكاديمي من “قواعد اللعبة”[4] الاجتماعية في إحراز مواقعهم الطبقية ضمن ترتيبات الحقل، مستخدمين بالضرورة نسق الاستعدادات، “الهابيتوس”[5] البعثي بامتياز.
هكذا تداخلت الحقول جميعها وتوحدت في بنيتها وفعل فاعليها على مسارين:
الأول: صراع ضمن الحقل الواحد باستخدام كل قواعد اللعبة الخاصة بكل حقل على حدة.
الثاني: استحضار وظيفة التوازن في العلاقة مع حقل السياسة، بحيث يكون في علاقة وظيفية معه، يقدم أحيانًا النقد المطلوب لخدمة الحقل السياسي.
ثالثًا: الحقل الأكاديمي السوري .. الهابيتوس الأمني
كما جميع حقول ومجالات المجتمع، اشتغل الحقل الأكاديمي في سورية بناء على متغير السلطة داخل الحقل وخارجه، فلم تكن قواعد اللعبة تتحكم بتطور الفاعلين وسيطرتهم فيه، واتكأت في غالب الأحيان على مفاعيل سلطوية مرتبطة بالحقل الأمني، كاستجلاب لفاعلين آخرين لهم سطوتهم على الحقول كافة وليس الأمني فقط.
ترتب على ذلك التزام قواعد اللعبة المتبعة في تكريس سيطرة الفاعلين على هذا الحقل، لكن عندما تتهدد سلطتهم “عن طريق قواعد اللعبة ذاتها” يتم استعارة الهاجس الأمني للتلويح به “كقاعدة تشفيرية”[6] أمام فاعلين جدد سمحت لهم قواعد اللعبة بالسيطرة ومن ثمّ إمكانية فرض مشروعية الممارسة داخل الحقل.
اتسم الحقل الأكاديمي في سورية بقواعد للعبة اشتملت على ما يلي:
· الشهادات العلمية العليا
منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين، اتخذ التحصيل الدراسي للشهادات العليا نظاما أشبه بالتحصيل في المراحل ما قبل الجامعية. والحديث هنا ليس على المستوى العلمي الذي يتسم بضحالته وقلة إبداعه فحسب، بل يتعلق أكثر بآليات تحصيل شهادات الماجستير والدكتوراه في الأكاديميا السورية.
مع مجيء الجيل الجديد من الموفدين الحاملين شهادات الدكتوراه من دول الإيديولوجيا الاشتراكية، قاموا بتشكيل “تجمع جديد” يطرح شكلًا للممارسة الأكاديمية تختلف عن تلك التي كانت سائدة قبل ابتعاثهم من قبل “وزارة التعليم العالي”.
تبلورت جماعة من الفاعلين الأكاديميين، من حملة الدكتوراه من ذوي تحصيل الدرجات العلمية في المرحلة الجامعية الأولى “والذين تم ابتعاثهم بناء عليها”، وأسست شكلًا جديدًا للممارسة الأكاديمية كان من أولى فصولها “كيفية الحصول على الشهادات العليا” الماجستير والدكتوراه، ترافقًا مع انحسار دور الفاعلين المسيطرين حتى مرحلة بداية التسعينيات الأكاديمية.
ومنذ بدء مرحلة التسعينيات، وترافقًا مع أفول روح المرحلة الاشتراكية في الأنساق العامة[7]، وجد الفاعلون السابقون والمسيطرون بالضرورة على الخطاب الأكاديمي “على المستوى العلمي بالدرجة الأولى” أنفسهم أمام مشروع مضاد منافس “مهما بلغت درجة ضحالته علميًا”؛ ينفي مشروعية الممارسة الأكاديمية السابقة، التي اعتمدت على متغيرين[8]:
علمي: يقارب الفكر الماركسي والاشتراكي في شكل إيديولوجي للفكر.
إجرائي: يدعم حاملي هذا الفكر من الطلبة ويساندهم لإنتاج نسخ متكررة من أساتذتهم.
لكن الصراع بين الفاعلين لم يكن حول العلم ومشروعيته “فما جاء به الفاعلون الجدد كان أكثر ضحالة وتسطيحًا وإيديولوجية كذلك”، وإنما استخدم كسلاح مضاد في وجه الحرس القديم من الفاعلين، لاسيما مع مرحلة التحول عن النهج الاشتراكي بدءًا من النسق الاقتصادي وانتهاء بخطاب السلطة السياسي المعلن.
إجرائيًا، انتهى دور الأكاديميين السابقين مع سياسة التقاعد المتبعة في قوانين التعليم العالي، والذي لم يكن ينظر إليه إلا كمؤسسة حكومية إدارية يكون فيها الأساتذة مجرد موظفين تسري عليهم قوانين العمل من الترفيع والتقاعد والعقوبات وغيرها.
كانت الفرصة سانحة لأولئك الفاعلين الجدد، الذين عانوا من نظرة دونية مستدامة بسبب ضعف أدواتهم العلمية وأدائهم الأكاديمي المدرسي؛ لفرض مشروعية جديدة تستثني “والحال هكذا” كل من ينتمي من الطلبة في المرحلة الجامعية العليا إلى المشروع العلمي السابق، فقد بدوا من “فلول” الأكاديميا السابقة ويجب معاقبتهم بـ “الاستبعاد”.
بدأت المناهج الدراسية تتغير، وهمشت النظريات والأفكار السابقة في بعض المقررات الدرسية، لتحل محلها مناهج مختلطة هجينة كانت سمتها الرئيسية أنها انتقائية ومقتطعة من كتب هنا وهناك بما يتواءم مع استسهال الممارسة العلمية ويؤدي الغرض المنشود للفاعلين الجدد من الحديث عن العلم في العموميات.
مرحلة جديدة أسست لنمط جديد من الطلاب والأساتذة، كان عنوانها الأبرز هو الطريق الأقصر للوصول إلى التحصيل العلمي العالي بمعادلة اختزلت بـ: علم أقل وعلاقات شخصية أكثر.
في هذه المرحلة، انخفضت نسبة المبعوثين إلى الخارج للحصول على شهادة الدكتوراه في الاختصاص، إذ فضّل الطلاب في أغلبيتهم إجراء ما يطلق عليه في المسمى الوظيفي بـ “الإيفاد الداخلي”.
كان الإيفاد الداخلي هو الطريق الأكثر سهولة للوصول إلى تحقيق الهدف. فالمتخرجون الجدد اتسموا عمومًا بمستوى غير مسبوق من الرداءة والسطحية، بحيث باتوا ينحون إلى الأسهل والأضمن:
تحصيل شهادتي الماجستير والدكتوراه داخليًا “أي في الأقسام الجامعية” دون عناء يذكر، اعتمادًا على العلاقة مع المشرف الأكاديمي وعلاقاته “بالطبع” مع لجان التحكيم المتوقعة.
· المناهج الدراسية وطرق التدريس
عانى النظام المعرفي في نسخته الأكاديمية السورية من سيطرة الإيديولوجيا عليه في المراحل المختلفة لسيطرة الفاعلين في إطار الحقل الأكاديمي. فإذا كانت النسخة الاشتراكية في فلسفة التعليم هي السائدة “شكلًا ومضمونًا” في مرحلة ما قبل التسعينيات، فإنها لم تتخذ بعدًا واضحًا في المرحلة التي تلتها حتى مرحلة انطلاق الثورة السورية وإلى اليوم.
اختلطت طرق التدريس في مرحلة “الفاعلين الجدد”، إذ جمعت خليطًا من المناهج القديمة وأخرى حديثة نسبيًا دون منهجة واضحة في كل فرع معرفي. وبقيت الكثير من التخصصات غارقة في مدرسيتها “مضمون المناهج وأسلوب التعليم”.
لم تبتعد العملية التعليمية عمومًا عن “التلقين” كخيار أول وسهل، فالنظام السياسي البعثي حقيقة لم يكن يسمح بهوامش من استقلالية الحقول عامة، هذا في حال اتفقنا على إمكانية وجود هوامش ومساحات تستطيع فيها الحقول أن تمارس استقلاليتها بمعزل عن الحقل السياسي والأمني.
في مرحلة ما بعد التسعينيات، بسط أولئك الفاعلون شرعيتهم في الممارسة العلمية ونيل الشهادات وطرق التدريس، فظهرت “المصلحة”[9] الجديدة بتكريس نموذج جديد من شكل الممارسة العلمية من قبل الفاعلين المسيطرين ومريديهم. وكان فاعلون “قيد التشكيل” ممن طرحوا نمطَ أكاديميا جديد يهتدي بالصرامة العلمية وإقصاء العلاقات الشخصية، قد تجرؤوا على طرح مشروعية أخرى؛ ساهم العنف بداية الثورة في وأدها وهروب أولئك الفاعلين من محيط الحقل الأكاديمي القائم في ظل النظام حتى اللحظة.
كان يكفي الحصول على درجات علمية عالية “بفعل مشروعية الفساد” في السنوات الجامعية الأولى، ليكمل الطالب مسيرته العلمية والحصول على شهادة الدكتوراه وإعادة إنتاج المشروعية التي بسببها وصل إلى ما وصل إليه.
على هذا، اتسمت أطروحات الماجستير والدكتوراه بالابتعاد عن الإبداع والجديد، واكتفت بخوض البحث في موضوعات جزئية أو مكررة والتنويع عليها استنادًا إلى الفترة الزمنية أو المكان قيد الدراسة، فحققت تلك الميزة المناسبة للفاعلين في هذا الحقل: ثلة من حملة الدكتوراه المتحصلين على الشهادة دون أدنى تجديد معرفي يذكر.
ربما أيضًا كان هذا الخيار هو المطلوب لتكتمل حلقة البنية العامة للنظام السوري في طبعة “بشار الأسد”، الذي خُدع الكثيرون بخطابه السطحي عن التحديث والشفافية والإصلاح.
فهم الفاعلون المتحدون الجدد قوانين اللعبة، فهي لم تتغير، كيف لا وهم يمارسون بامتياز ما يقال في الخطاب السياسي الرسمي، كلام لا ينتج من الخطط والقواعد أي شيء مقابل عموميات استند إليها سمحت بتثبيت الفاعلين لمشروعيتهم في الحقول كافة، ومنها الحقل الأكاديمي.
· الحقل الأمني .. مستعارًا
استخدم الفاعلون الجدد “الحقل الأمني” في وجه كل محاولة من شأنها أن تضع علامة لمشروعية جديدة مغايرة لمشروعيتهم. ولأن الحقول لا تتسم باستقلالية تحكم بنيتها، فقد تم استجلاب الهاجس الأمني في كثير من الأحيان لمواجهة أي “حراك علمي” جديد.
لم يكن الحقل الأمني بمعزل عن الحقل الأكاديمي بشكل عام، فقد كانت الهيئات الطلابية والتدريسية تمارس دورها الرقيب بأمانة عن طريق التنسيق المستمر مع الجهات الأمنية المتعددة.
كان يكفي أن تكون إشارة مثلًا إلى عضو جديد في الأكاديميا تعني “عدم نظافة سجله” الأمني أن تطيح به بعيدًا عن الحقل، سواء في الحصول على الشهادات العليا أو في تعيينه في سلك التعليم الجامعي.
لكن الأمر ليس هنا، فهذا كلام معروف للجميع. ما جرى في ترتيب بنية الحقل الأكاديمي هو أن هؤلاء الفاعلين الجدد قد مارسوا مهامهم كأمنيين، بل كانت تلك المهمة هي أكبر من حيث المساحة والممارسة من المهمة الأكاديمية.
لهذا السبب، كان الحراك الطلابي بداية الثورة السورية محاطًا بفاعلين أمنيين في لبوس أكاديمي من أساتذة وطلاب، وفاعلين جدد “قيد التشكيل” لم يتمكنوا من فرض قبول لمشروعيتهم الجديدة، وإن كانت تلك المشروعية تبدو ثورية بالمعنى العلمي البحت.
(على سبيل المثال نذكر أنه وبعد مرور حوالي ثلاثة أشهر من انطلاق الثورة السورية، رد أحد الأساتذة في كلية الآداب في جامعة دمشق على اعتراض أحد الطلاب بأحقيته بقول رأيه بما يجري بقوله: هذه جامعة حافظ الأسد ومن لم يعجبه فـ”لينقلع” خارجها).
· رأس المال الرمزي والعنف
يمكن اختزال الصراع بين المسيطرين على الحقل الأكاديمي “وغيره من الحقول كذلك” وأصحاب المشاريع الجديدة في إحراز النسبة الأكبر من رأس المال الرمزي[10] داخل الحقل.
يسمح رأس المال الرمزي، القادم من الاعتراف بمشروعية وحيازة النسبة الأكبر منه للفاعلين المسيطرين، بممارسة العنف المشرعن والهيمنة داخل الحقل، ما دامت مشروعية الممارسة العلمية “في الحقل الأكاديمي” تقرر من قبل مالكي رأس المال.
تفترض حيازة رأس المال الرمزي، تكريس التصور العملي للممارسة الأكاديمية، بحيث يبقى الفاعلون المتحفزون لطرح ممارسة بديلة في أماكن النقد ومحاولة الحصول على إجماع وقبول، ومن ثمّ اتحاد جديد يقدم نفسه كبديل عن السائد.
يفرض أصحاب رأس المال الرمزي المسيطرون سلطتهم الرمزية بطرق مقبولة من الآخرين في الحقل نفسه “وفق قواعد اللعبة”، فيغدو “العنف الرمزي” المرتبط بالسلطة قادمًا من تراتبية علاقات السلطة والسيطرة داخل الحقل.
هكذا يكون الطالب الحاصل على شهادة الدكتوراه في نسخة الحقل الأكاديمي السوري هو الطالب الأكثر سرعة في نسخ ولصق المعلومات وعدم الاجتهاد في الإبداع، ما دام الشكل المطلوب هو الذي يقوم بتنفيذه. ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فكل الممارسات العلمية في هذا الحقل تتبع للشكل المتعارف عليه الذي أقره الفاعلون على أنه “الحقيقة” والمكتسب للشرعية، ويصبح أي فعل علمي بالمقابل لا يدخل في إطار نظام سائد هو غير حقيقي وغير مقبول ويستحق توجيه العنف له، وهو ما يحدث بالفعل.
(في أحد الأمثلة الدالة، تتذمر أستاذة جامعية أمام زملاء لها من بينهم رئيس القسم من طالب قاطعها وسأل سؤالًا خارج المحاضرات المكتوبة والمقررة، فكان أن ارتبكت ونسيت ما حفظته وهي تلقيه أمام الطلاب. المدلول الأكبر كان في ردة فعل الأساتذة المتواجدين في الجلسة بمن فيهم الرئيس الذي قال لها: “كان عليك أن توبخيه وتطرديه خارج القاعة”، تلا ذلك توضيح لضرورة قمع هؤلاء الطلبة من أصحاب “الممارسة العلمية الجديدة التي تستحق الوقوف في وجه من يطرحها من بعض الأساذة الجدد”).
· رهانات المشروعية الجديدة
يفترض الانتماء للحقل الأكاديمي، والأمر كذلك بالنسبة إلى أي حقل، الاقتناع بقواعد اللعبة، ومن ثمّ الدخول في “الرهانات”[11] الخاصة بالحقل.
اشتغل الفاعلون الجدد في الحقل الأكاديمي السوري على محاولة طرح مشروعية جديدة للمارسة الأكاديمية. فبعد حوالي عقدين ونيف من سيطرة هؤلاء الفاعلين وحيازة رأس مالهم الرمزي وعنفهم كذلك، بدأت بعض المحاولات في طرح إمكانية قبول شكل جديد من الممارسة الأكاديمية.
وجدت هذه المشروعية الجديدة حضورها لدى قطاع معقول من الطلاب ومن بعض الفاعلين المسيطرين، وهي ارتبطت أساسًا بالقادمين الجدد إلى ساحة الحقل الأكاديمي ممن حصلوا على الشهادات العليا “الماجستير والدكتوراه”.
كان الصراع قد بدأ يتفاقم بشكل جلي، فثمة مشروعان باتا يتنافسان هنا. رفع المشروع الجديد ذريعة مواكبة ما هو حديث علميًا وأقل فسادًا على المستوى الإداري، بينما استمات الفاعلون المسيطرون بالدفاع عن مشروعهم تحت تهم إيديولوجية للمشروعية الجديدة.
مرة تلو الأخرى، تتم استعارة العنف غير الرمزي من الحقل الأمني، وهو الأمر الذي يكسر قواعد اللعبة. ندّعي هنا أن الحقول “سوريًا” ليست مستقلة حتى بشكل نسبي، فلم يتطور حقل بمعزل عن الحقل الأمني، وهو أحد مسببات استبداد البنى الحقلية على فاعليها الثوريين “ليس بالمعنى السياسي طبعًا”.
في جميع الأحوال، كانت هناك مشروعية جديدة “قيد التشكيل” بدأت تنافس تلك السائدة والمستقرة. وعندما انطلقت الثورة السورية اعتقد أصحاب المشروع الجديد أن الوقت قد حان لاستعارة الحقل السياسي الثوري وتخديمه لصالح مشروعهم. لكن ما جرى هو المزاوجة التي تمت بين العنفين المادي والرمزي، فكان أن أطيح بهم في المعتقلات أو خارج البلاد بعد ارتباطهم “بحسب خطاب المسيطرين في الحقل وربما واقعيًا” بالثورة التي رأوا فيها فرصة لبدء نظام معرفي جديد ربما لا يعيد إنتاج نظم الاستبداد البعثية.
· الحقل الأكاديمي السوري اللاجئ
لا يمكن المجازفة بالحديث عن تشكل حقل أكاديمي سوري في الخارج بعيدًا عن الحقل السوري الداخلي. فقد بدأ بعض الأفراد الأكاديميين بتشكيل هيئات وتجمعات أكاديمية ثورية بعد شهور قليلة على بدء الثورة.
حكم عمل تلك الهيئات آليات التربية الأكاديمية السابقة، فقد كان خروج الأكاديميين بالتتالي من حضن الحقل الداخلي لأسباب مختلفة “لم يكن الموقف من الثورة أحيانًا هو المحرك لها”. وغرق الفاعلون في تأسيس حقلهم في تفاصيل التعيينات الوظيفية للهيئات التي تم تشكيلها، ودخلوا في صراع المشروعية بتمثيلهم مع مؤسسات المعارضة الرسمية.
حتى اللحظة وبعد مرور أكثر من أربع سنوات على وجود ما يقارب الخمسمئة أكاديمي في الخارج، لم يستطيعوا خلق اتحاد خاص بهم “اتحاد علمي نقصد” يتفق فيه على تصور الممارسة العلمية في الحقل الأكاديمي الثوري، وغرقوا في ملاحقة البحث عن عمل والحصول على راتب شهري، تمامًا كما تمّت تربيتهم من جانب نسق الأكاديميا التابعة للنظام.
وكما جميع التكنوقراط الذين “انشقوا” عن بنى النظام ومؤسساته، لم يخلق الأكاديميون برنامجًا واضحًا لهم، فانزوى المشروع العلمي الأكاديمي خلف اللهاث وراء المناصب والبحث عن استرجاع المكانة الاجتماعية التي كانوا يحوزونها قبل خروجهم من سورية؛ تاركين باب الأكاديميا السورية مشابهًا للفعل السياسي المعارض المربك والضبابي.
ربما يتساءل أي قارئ عن مدى جواز تحليل الأكاديميا السورية بناء على نظريات سوسيولوجية، ومدى قابليتها أصلًا حتى للتحليل. فالنظرية تشترط تثبيت متغيرات راسخة يتم التفسير بناء عليها وفي نطاقها التجريدي والمعطى كذلك؟
لا تزال الحالة السورية بجميع “حقولها” و”مجالاتها” واقعًا محفزًا و”مستفزًا” أيضًا لخوض مغامرة المقاربات التحليلية، أصابت في ذلك نصيبها أو وضعت علامة في طريق البحث والرؤى.
[1] مفهوم “الحقل” هو نطاق تفسير سوسيولوجي للفعل الاجتماعي على المستوى الفردي والكلي، ضمن إطار نظرية السوسيولوجي الفرنسي الشهير “بيير بورديو” حول الرأسمال الرمزي. قام بورديو بتقسيم المجتمع إلى حقول أو مجالات، يحكم الحقل جملة من العلاقات الموضوعية تعكس الموقع الذي يحتله الفاعلون والمؤسسات في سعيهم لاكتساب وترسيخ رأس المال (ثقافي، سياسي، اقتصادي، اجتماعي، الخ) بهدف الهيمنة والسلطة والمشروعية ضمن حال من الصراع وفق قواعد ورهانات ومعايير من جنس الحقل.
[2] نقصد هنا بالطلاب المتفوقين ليس في تحصيل الدرجات فقط، فقد ساهم الانتماء الحزبي والطائفي والمناطقي وموقع الطالب في الحزب والاتحاد الوطني في إعطاء أفضلية للطلاب المبتعثين على حساب غيرهم.
[3] نستخدم في الدراسة مصطلح “الحقل” سيرًا على خطى تقسيم بورديو كون النقاش يعتمد على نظريته، ويمكن لنا بلغة سوسيولوجية الحديث عن الأنساق أيضا كبديل مصطلحي للحقل، حسب الخلفية التي ينطلق منها كل باحث في مناقشة الموضوع.
[4] بات مفهوم “قواعد اللعبة” في النظريات السوسيولوجية المعاصرة يعني تصور اتفاق أفراد المجتمع على استيعاب القواعد والمعايير المسموح التحرك في إطارها لإحراز تغيير أو تعديل في مواقع الفاعلين ضمن شروط متفق عليها بين الجميع. طوّر بوريو هذه الصيغة من فهم التنظيم الاجتماعي فباتت تعني أن الحقول مرتبطة بآليات بنية التنافس والهيمنة والصراع وهي متجذرة لدى الأفراد عن طريق التنشئة الاجتماعية.
[5] يعني مفهوم الهابيتوس عند بورديو أن الفاعلين المجتمعيين يطورون مجموعة من الإستراتيجيات التي يتمثلونها عن طريق التنشئة الاجتماعية، بطريقة غير واعية، بغية التكيف مع ضرورات العالم الاجتماعي. وبالتالي فالهابيتوس هو مجموعة من المواقف والمكتسبات والقيم والعادات والأعراف والخبرات والتجارب والمعايير التي يكون الفرد قد تشربها عن طريق التنشئة الاجتماعية، بطريقة لاشعورية، بغية استدماجها أثناء مواجهة الوضعيات الصعبة والمعقدة في العالم الاجتماعي.
[6] قواعد التشفير عند بورديو تتعلق بتلك المعايير المسموح بالعمل تحت بنودها، وتتضمن كل ما هو متعارف عليه بين فاعلي الحقل على أنه يستخدم في الصراع لشرعنة شكل “الحقيقة” الذي يجب أن يكرس، أي قواعد اللعبة المعلنة.
[7] كان خطاب النظام حتى مرحلة التسعينيات وانهيار الاتحاد السوفياتي ودخول العالم في خطاب إيديولوجي جديد تمثل بمرحلة القطب الواحد تحديدًا مع خطاب بوش الأب 1991، يطرح التزام المؤسسات العامة بالنهج الاشتراكي، بغض النظر عن تنفيذ روحه بشكل دقيق، إذ كان غطاء مزيفًا لتأسيس منظومة الفساد في بنية المجتمع السوري عمومًا.
[8] يبدو أن الحديث عن الفاعلين الأكاديميين على الجانب العلمي أكثر وضوحًا في فروع العلوم الإنسانية منه في العلوم التطبيقية، فالسجال والجدل كانت مساحته أكثر وضوحًا في الجانب الفكري.
[9] “المصلحة” عند بورديو هي شرط العمل في أي حقل من الحقول، فالصراع داخل الحقل تحركه المصلحة كشرط رئيس لآليات عمله. وهي تختلف باختلاف الحقل والفاعلين، فحضورها الأوضح هو الحقل الاقتصادي، لكنها في الحقل الأكاديمي تعني مصلحة الفاعلين بماهية الممارسة العلمية ومشروعيتها، وبسبب منها يتصارع الفاعلون في الحقل على تعريف وتحديد اللغة الأكاديمية “المناهج وطرق التدريس وسبل نيل الشهادات العليا”.
[10] يتشكل رأس المال الرمزي عند بورديو من الاعتراف بالشرعية من قبل الفاعلين في كل حقل، وحين يحوز الشرعية يتمكن عن طريق رأسماله الرمزي من الهيمنة بشكل مطرد.
[11] تعني الرهانات عند بورديو تبني الفاعلون للشكل الذي يجب أن يكون عليه الحقل، وهم لذلك يدخلون في الصراع من أجل فرضه، فهم يراهنون على مشروعيتهم كطرف في الصراع القائم.