إنَّ البحث في الحريَّات العامة جزءٌ لا يتجزَّأ من البحث في النظام السياسي الإسلامي[1]. وحتَّى ننتقل إلى الحديث في الحريَّات فلا بدَّ من الإقرار بالنظام السياسي للإسلام مِمَّا يتفرع عنه حقوق وحريَّات يعترف، بها بل يأمر بها.
ولعلَّ من أبرز هذه الحريَّات: حريَّة المعتقد، ويترتَّب عليها حريَّات فرعية من مثل حرية التعبير في الدفاع عن العقيدة، وحريَّة الممارسات الدينية، وبناء المعابد وغير ذلك من حريَّات تدور حول فَلَكِ الحريَّة الدينية.
ولا أجد البحث النظريَّ -هنا- جديرًا بالتوقُّف عنده؛ ذلك أن الهدف لدينا هو الجانب التطبيقيّ، لكن أريد تقديم مقدِّمتين نظريَّتين:
الأولى: تأصيل المفهوم من مصدر التشريع الأساس، انطلاقًا من قول الله تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وهو عنوانٌ لحريَّة التدين، وقد جاءت بصورة الخبر لا الإنشاء؛ ليقرِّر القرآنُ قاعدةً تتعلَّق بطبيعة النفس البشريَّة، إذ لا يُتصَوَّرُ الإكراه في الدين، وقد تثبَّت ذلك في بحوث العقيدة، إذ قرَّر علماؤها عدم صحة إيمان المُكْرَهِ. أضِف إلى ذلك ما قرَّره الأصوليُّون من أنَّ الحريّة مناط التكليف بالواجبات الدينية إلى جانب العقل والعلم والاستطاعة، بل هي مُقدّمة على باقي المناطات. أي أنَّ المكره لا يصحُّ إيمانه، كما لا يُعتدُّ بسلوكه إجمالًا. فلا قيمة في ميزان الشرع للممارسة الدينيَّة الصادرة عن الإكراه، وينبني على ذلك أنه لا فائدة ـ كما يقول د. الغنوشي ـ “من تحويل الناس عبر أدوات الدولة القهريَّة من عصاةٍ إلى منافقين”، إذ مدار الدين الأساسيُّ ليس أدواتِ الدولة، وإنَّما القناعات الشخصيَّة.[2]
المقدِّمة الثانية: العلاقة بين الحريَّة والمسؤوليَّة، والتي أصَّلها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم المشهور المتعلِّق بالسفينة، مِمَّا يشير إلى أنَّ للمجتمع حقَّ تنظيم الحريَّة ليمارس الجميع حريَّاتهم بحريَّة ـ إن صحَّ التعبيرـ .
وتأسيسًا على هذا التأصيل، فإنَّ تعدديةً دينية مشروعةً في أي مجتمع إسلاميٍّ أمرٌ لاجدال فيه، وقد جاء ذلك تطبيقًا عمليًّا حين أقرَّ النبيُّ الحرية الدينية في أوَّل دستور للمدينة، وذلك حينما اعترف لليهود بأنهم يُشَكِّلُون مع المسلمين أُمَّةً واحدة، وأيضًا في فتح مكة حين لم يُجْبِرِ الرسول قريشًا على اعتناق الإسلام، رغم تمكُّنه وانتصاره، ولكنه قال لهم: “اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ”. وأبو بكرٍ يوصي جنده قائلًا: “وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ..”[3]. وأعطى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أهل إيلياء عهدًا فيه : “هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم”[4]، وشبيه بذلك العهد الذي أعطاه عمرو بن العاص رضي الله عنه أهل مصر إذ جاء فيه: “هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهلَ مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم”[5].
ومن الآثار القانونية لحرية المعتقد: حرية التعبير دفاعًا عن العقيدة، وهو ما يتَّصل بحريَّة التعبير، يقول أبو الأعلى المودودي: “سيكون لغير المسلمين في الدولة الإسلاميَّة من حرية الخطابة والكتابة، والرأي والتفكير، والاجتماع، والاحتفال، ما هو للمسلمين سواء بسواء. وسيكون عليهم من القيود والالتزامات في هذا الباب ما على المسلمين أنفسهم. فسيجوز لهم أن ينتقدوا الحكومة وعمالها حتى ورئيس الحكومة نفسه بحرية في ضمن حدود القانون. سيكون لهم من الحق في انتقاد الدين الإسلامي مثل ما للمسلمين لنقد مذاهبهم ونحلهم. ويجب على المسلمين أن يلتزموا حدود القانون في نقدهم هذا كوجوب ذلك على غير المسلمين.”[6] ومِمَّا استند إليه آيات منها: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. ومنها: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
ولا بدَّ من التذكير -هنا- بأنَّنا لا نعاني في بلادنا من منع الديانات الأخرى من التعبير عن عقائدها وقناعاتها، بقدر ما نعاني من تغوُّلِ الدولة وسيطرتها على الخطاب الديني الإسلاميّ، وإذا كانت مشكلة الغرب يوم أعلن فصل الدين عن الدولة كانت ناجمة عن تدخُّل الدين في كلِّ ما يتصل بحياة الناس وسياسة أمرهم، وفق ظروفٍ تاريخيَّة مكَّنت رجالَ الدين من التحكم برقاب الناس عبر نموذج ثيوقراطي مستبدٍّ بغيض، فإنَّ مشكلتنا في كيفيَّة تحرُّر الدين من الدولة لا تحرير الدولة من الدين. إنَّنا في كثير من الأحيان نُسْقِطُ واقعًا غربيًّا مختلفًا عن واقعنا، ونستنسخ مشكلاته لنتحدَّث فيها، مبتعدين عن مشكلاتنا التي تُكبِّل أيدينا عن التقدُّم الحضاري الحقيقيِّ الذي لا يرتبط بنمط لباس المرأة، بقدر ما يرتبط بفكر الحريَّة التي أصبح الغرب نفسه على خصامٍ معها حينما يتعلَّق الأمر بالمسلمين.
ولو رجعنا إلى الموقف الإسلاميِّ من حريَّة الاعتقاد، لوجدنا الكثيرين يتحدَّثون عن حدِّ الردَّة، ويرون في قتل المرتدِّ مخالفة لمنطق حريَّة الاعتقاد، إذ كما أنَّ الدخول في الدين ينبغي أن يكون بعيدًا عن الإكراه، فكذا الخروج منه، ولعلَّ المقام لا يتناسب مع عرض المسألة في مختلف جوانبها، إلا أنَّني أذكِّر بموقف الحنفيَّة من عدم قتل المرأة المرتدَّة مما يشير إلى أنَّ قتل المرتدِّ إنَّما يرتبط بالحرابة لا بتغيير الدين، أعني بالخروج على النظام العامِّ للدولة، ذلك أنَّ من ارتدَّ ارتدادًا شخصيًّا فإنَّ أحدًا لن ينبش ما في قلبه.
ـ أمَّا فرض الجزية فهو نوع من التكافل الذي يساهم في بناء الدولة التي يجب على جميع مواطنيها الاشتراك في بنائها، وعلى العموم فإنَّ كلَّ شخصٍ مطالبٌ بإثبات ولائه للدولة، وغير المسلم مواطن لا يشترك مع المسلمين فيما يدفعونه من زكاة، كما أنَّ المسلمين قديمًا هم من كان يدافع عن الدولة الإسلاميَّة، فلذلك لا بدَّ من أن يُنظَرَ في الآليَّةِ التي يُثبِتُ فيها غير المسلم ولاءَه للدولة، بأن يدفع -مثلًا- مبلغًا مقابل إعفائه من الخدمة العسكرية، أو أن يشترك مع المسلمين في حماية بلده، وعندها تسقط عنه الجزية، إذ كانت مقابل الحماية، وهم يدفعونها بشكل بَدَلٍ عن خدمة العلم على ما تسمَّى اليوم، أو يشتركون في حماية البلد أسوة بالمسلمين. وقد ذهب إلى هذا القول عدد من العلماء المعاصرين، منهم د. عبد الكريم زيدان[7]، ود. القرضاوي[8].
وممَّا يدلُّ على جواز إسقاط الجزية عنهم إذا اشتركوا في حماية البلد المسلم، سوابق تاريخيَّة متعددة، ذكرها المؤرخون المسلمون كالطبري وغيره، ومن ذلك ما ذكره البلاذري في فتوح البلدان[9] من مصالحة والي أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه للجراجمة (المسيحيين) على أن يكونوا عونًا وعيونًا للمسلمين مقابل إسقاط الجزية عنهم.
إنَّنا نعدّ حريَّة الناس في الاعتقاد دينًا ندين الله به، إلا أنَّنا نطالب بحريَّة لا تُجيَّرُ لصالح أقليَّة على حساب أكثريَّة، ولا تمالئ الأكثريَّة على حساب الأقليَّة؛ فمن حقِّ المسلم أن يدافع عما يعتقد صوابه من أحكام دينه، كما هو حقٌّ لغيره، فلْترفع يد الدولة عن الجانب الديني للبشر، ولنتفق على أنَّ قيمة الحريَّةِ لا تحتمِل الكيل بمكيالين.
[1] الحريات العامة في الدولة الإسلاميَّةـ راشد الغنوشي ص 24.
[2] من محاضرة د. راشد الغنوشي” العلمانيَّة وعلاقة الدين بالدولة “، مركز دراسة الإسلام والديمقراطية، تونس 2 آذار/ مارس 2012.
[3] أبو بكر الصديق شخصيته وعصره، الصلابي، ص 160.
[4] عمر بن الخطاب شخصيته وعصره، الصلابي، ص 564
[5] عمر بن الخطاب شخصيته وعصره، الصلابي، ص 121.
[6] نظرية الإسلام، أبو الأعلى المودودي، 361.
[7] أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام، ص 157 ـ 158.
[8] غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ص 28.
[9] فتوح البلدان ص 217. وذكر د. عبد الكريم زيدان رحمه الله عددًا من هذه السوابق في كتابه أحكام الذميين … ص 155 وما بعد.