المحتويات
1-مقدمة
2-موقف بوتين من أوكرانيا
3-روسيا وأوكرانيا في التاريخ
3,1-إشكالية الأسماء
3,2-دولة روس الكييفية
3,3-نشأة دولة روسيا
3,4-نشأة دولة أوكرانيا
4- حقائق عن أوكرانيا الحالية
5-تطور الأزمة بين روسيا وأوكرانيا
6-الإدعاءات البوتينية لتبرير غزو أوكرانيا
6,1- مشكلة انضمام أوكرانيا إلى الناتو
6,2- صعود النازية وتهديها للناطقين بالروسية
6,3- صناعة أسلحة دمار شامل
6,4- نفي الأساس التاريخي لقيام دولة أوكرانيا
7- مأساة أوكرانيا بين أميركا وروسيا والقوميين الأوكران
8-خلاصة
موجز البحث:
يتناول هذا البحث الغزو الروسي الراهن لأوكرانيا، ويبحث في أسبابه ودوافعه الحقيقية مفنّدًا الذرائع التي يقدّمها بوتين ونظامه لتبرير هذا الغزو، المتمثلة بشكل رئيس بالخطر المصيري لانضمام أوكرانيا إلى الناتو على أمن روسيا، ومساعي أوكرانيا لإنتاج “أسلحة الدمار الشامل” التي تهدد روسيا، ونموّ “النازية” في أوكرانيا الذي يشكل خطرًا داهمًا على الناطقين بالروسية.
ويتضمن هذا البحث عرضًا لتاريخ نشأة وتطور الدولتين الروسية والأوكرانية، وأصلهما المشترك الذي يعود إلى دولة روس الكييفة (كييف روس) التي ظهرت في القرن التاسع، واستمرت إلى القرن الثالث عشر، ويُوضّح فيه بطلان مساعي روسيا لإظهار نفسها بصورة وريثة دولة كييف الوحيدة وخليفتها، ويبيّن أن روسيا الراهنة لا تنتمي إلى كييف روس أكثر مما تنتمي إليها كلٌّ من أوكرانيا وبيلاروسيا الراهنتين. وبناءً على أساس المعطيات التاريخية القديمة، والمفاهيم السياسية الحديثة؛ يفنّد البحث مزاعم بوتين الهادفة إلى نزع شرعية قيام دولة أوكرانيا الحالية، وإظهارها بمظهر الكيان المصطنع المنتزع من روسيا.
ويركّز هذا البحث على أن الدافع الحقيقي لغزو روسيا لأوكرانيا هو النزعة الإمبراطورية التي تستحوذ على بوتين ونظامه، وتدفعهم إلى استعادة “أمجاد” روسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي، وتصطدم كسياسة إمبريالية بالإمبريالية الأميركية المهيمنة اليوم على العالم، وتتصارع معها صراعًا، غالبًا ما تدفع أثمانه الباهظة الشعوبُ الأخرى الأضعف.
منهجية البحث:
يعتمد البحث على منهجية عبرمناهجية تجمع بين التاريخ والوصف والتحليل.
العبارات المفتاحية:
غزو روسيا لأوكرانيا، الحرب الروسية الأوكرانية، روسيا القديمة، أوكرانيا القديمة، روسيا التاريخية، كييف روس، الإمبريالية الروسية، نظام بوتين.
1-مقدمة:
في غزو أوكرانيا، الذي يجب تسميته غزوًا بوتينيًا لا غزوًا روسيًّا، يتذرع بوتين بذرائع عدة، فهو تارة يقول إن الغاية منه حماية الناطقين باللغة الروسية من النازية الأوكرانية والاضطهاد العنصري، وتارة يدّعي أن أوكرانيا تريد الانضمام إلى حلف الناتو، والتحوّل إلى قاعدة حربية متقدمة، لتهديد أمن روسيا وحصارها، وتارة يتحدث عن مساعٍ أوكرانية خطيرة لامتلاك أسلحة دمار شامل، وتارة يعود إلى التاريخ للحديث عن حقوق روسيا الجغرافية في دولة أوكرانيا المصنّعة، وهلمّ جرًّا.
هذه الذرائع كلها -جملة وتفصيلًا- لا قيمة لها بأيّ معيار من المعايير العصرية في عالمنا المعاصر، والشيء الوحيد الذي يمكن قوله عن فعلة بوتين أنها عدوان تام على دولة مستقلة لها الحق بالوجود، ولم تقم بأي اعتداء على روسيا يبرر ردة الفعل الروسية، وفعليًا الغزو البوتيني هو قطعًا ليس ردة فعل، بل مبادرة حقيقية بالعدوان، لها محركاتها الانطلاقية الخاصة، وما فيها من ذرائع ردة الفعل التبريرية إنما هي محض ادعاءات، وهي محاولات تضليلية أو تجييشية للشعب الروسي، بغاية دفعه إلى تأييد حرب بوتين العدوانية من ناحية، وهي من ناحية أخرى محاولة تضليلية للرأي العام العالمي، الغاية منها إعطاء الذريعة للحكام الذين دعموا بوتين في عدوانه، أو الذين لم يتبنّوا أيّ موقف ضدّه، بسبب المصلحة أو الخشية أمام شعوبهم كي لا تحرجهم مواقفهم أمام هذه الشعوب، وكي لا تضغط هذه الشعوب على حكامها لاتخاذ مواقف ضدّ بوتين، وهذا ما يخشاه بوتين، على الرغم مما يبدو من عنجهيته وغطرسته واستهتاره في ردّه على المواقف والإجراءات التي اتُّخذت ضدّه على نطاق دولي، وهو يدري أنه قطعًا لا يستطيع مواجهة العالم ككل، وهو يريد أن يحافظ على صداقة أو حياد من لم يقف ضدّه، ويعوّل عليه للتخفيف من آثار الإجراءات الخطيرة المتخذة ضدّه، وتحقيق التوازن معها، وإيجاد المخرج من المأزق الذي نتج عنها.
2-موقف بوتين من أوكرانيا:
يوضّح بوتين، في خطابه الذي ألقاه في 21 شباط/ فبراير 2022، موقفه الصريح من أوكرانيا، إذ يرى أن أوكرانيا دولة مصنّعة تمامًا، وقد اصطنعها البلاشفة، وبالأخص الذين قدّموا تنازلات ومنحًا كثيرة للقوميين في المناطق الإدارية والأقاليم السابقة من روسيا القيصرية السابقة، من أجل بقائهم في السلطة، ويقول عن ذلك: «أبدأ من حقيقة أن أوكرانيا تأسست بالكامل من قبل روسيا، حتى من قبل روسيا البلشفية الشيوعية. بدأت هذه العملية فور ثورة 1917. عمل (فلاديمير) لينين وأصدقاؤه بشكل فجّ جدًا ضدّ مصالح روسيا، من خلال فصل جزء من أراضينا التاريخية وتمزيقها إربًا. بالطبع، لم يستشر أحدٌ ملايين الأشخاص الذين يعيشون هناك عندما جرى فعل ذلك» ([1]).
ويرى بوتين أن هذا الخطأ الفادح، الذي أنشأ أوكرانيا وغيرها من الجمهوريات السوفيتية المصنّعة، لم يقتصر على إنشائها فحسب، بل تعداه أيضًا إلى إعطائها تقرير المصير، أي حق الانفصال عن الدولة السوفيتية، وهو الشكل الذي حوّل البلاشفة إليه روسيا التاريخية، وهكذا وُضعت الأسس لتمزيق وحدة روسيا التاريخية.
بوتين لا يقول إن غاية البلاشفة كانت تمزيق وتفتيت روسيا، وهو يعترف بأنهم كانوا يعتقدون أنهم بذلك يبنون دولة واحدة جديدة متماسكة، ولكنه يصف سياساتهم هذه بأنها “أوهام طوباوية مثيرة للاشمئزاز”، وأنها لا تستطيع أن تنتج وضعًا قابلًا للاستقرار والاستمرار، ولذلك تحولت كونفيدرالية لينين المقترحة إلى ديكتاتورية شمولية على يد ستالين، وهذا كان أكثر طبيعية ومناسبة للواقع، لكن مع ذلك لم يُتخلّص من المبادئ التي وضعها لينين، وضُمّنت في البيان التأسيسي للاتحاد السوفيتي عام 1922، وفي دستور الاتحاد السوفيتي لعام 1924، وبقيت لغمًا قابلًا للانفجار، استغله الانفصاليون في الأزمة التي وصل إليها النظام السوفييتي في منتصف الثمانينات بسبب المشكلات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة، التي نمّت بعض الطموحات غير المحققة لشعوب الاتحاد، والشهوات الخاصة لبعض النخب المحلية، وبدلًا من مواجهتها بإجراءات صحيحة، انغمست قيادة الحزب الشيوعي حينها في الصراع على السلطة والإصلاحات الزائفة المتهورة، كإعادة إحياء مبدأ حق تقرير المصير اللينيني، التي كان الهدف منها كسب المؤيدين، ولكنها في المحصلة أدّت إلى انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي ([2]). وهذا يعني أنّ بوتين يرى أن ما حدث كان حصيلة جملة من الأخطاء والمفاسد الكبيرة، وأن ظهور دولة أوكرانيا كان إحدى النتائج الناجمة عن ذلك.
أما الوضع الطبيعي الصحيح بنظره، فهو على غرار ما كان موجودًا قبل اصطناع أوكرانيا السوفييتية، الذي كانت فيه أوكرانيا جزءًا من روسيا، ويقول عنه بوتين: «أوكرانيا ليست مجرد دولة مجاورة لنا، فهي جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا وفضائنا المعنوي. هؤلاء ليسوا رفاقنا وأقاربنا وزملاءنا وأصدقاءنا فحسب، بل هم أيضًا أقاربنا، تربطنا معهم صلة الدم وروابط عائلية. لفترة طويلة، أطلق سكان الأراضي الروسية القديمة الجنوبية الغربية التاريخية على أنفسهم اسم الروس والأرثوذكس. كان هذا هو الحال حتى القرن السابع عشر وبعده، عندما تم لمّ شمل أجزاء من هذه المناطق مع الدولة الروسية» ([3]).
ويضيف بوتين أنه بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وبكل حسن نوايا، قبلت روسيا الوضع الجديد الناتج، واعترفت به على الرغم من كل ما كان فيه من ظلم بحقها، وليس هذا فحسب، بل أخذت على عاتقها تسديد كل ديون الاتحاد السوفييتي بمفردها، فيما كان يجب أن تساهم في ذلك بقية الجمهوريات، وتلك الديون كانت 100 مليار دولار، وذلك مقابل أن تتخلى الدول المستقلة عن حصتها من الأصول الأجنبية السوفيتية، وعلى الرغم من التوصل إلى اتفاقية ثنائية بهذا الشأن مع أوكرانيا عام 1994، فإنها، وفق كلام بوتين، لم تصادق عليها، واستمرت بمطالبة روسيا بحصتها من تلك الأصول، متجاهلة واجبها في الديون.
وعلى الرغم من أن روسيا قدّمت إلى أوكرانيا دعمًا بحدود نحو 250 مليار دولار في الفترة من 1991 إلى 2013، (وهذا الكلام على ذمة بوتين)، وكانت روسيا تسعى دومًا للتعاون معها، واحترمت مصالحها، وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 50 مليار عام 2011، وكان هذا أكثر من حجم التبادل مع كل الاتحاد الأوروبي، فقد تصرفت سلطات أوكرانيا بشكل ناكر للجميل، وحاولت اللعب على الخلافات بين روسيا والناتو المعادي لها، ولم تحترم مصالح روسيا، وكانت تفكّر دومًا بمصالحها الخاصة فقط، وتتنصل من التزاماتها، وقامت أحيانا بسرقة الغاز الروسي المارّ عبر أراضيها، بل سعت أيضًا لتشويه الوعي والذاكرة التاريخية لملايين الأشخاص الذين يعيشون في أوكرانيا، من جميع الأجيال ([4]).
عززت أوكرانيا نمو النازية والتطرف القومي فيها عبر السعي إلى “تشويه الوعي والذاكرة التاريخية لملايين الأشخاص الذين يعيشون في أوكرانيا”، والسبب الرئيس لذلك، برأي بوتين، هو وجود أوليغارشية تسعى لتحقيق مصالح أنانية، ولا تبالي بمصلحة الشعب الأوكراني، ولذا فهي تفضّل النظام السياسي الغربي الذي يساعدها على سرقة مليارات الدولارات، وتتعاون مع الغرب الذي يدعمها دائما لإيصال ممثليها إلى السلطة. وليس هذا فحسب، بل تقاربت مع الناتو وراحت تسعى للانضمام إليه، وهذا يعني أن صواريخ الناتو الموجهة ضدّ روسيا سيتم نشرها على الأراضي الأوكرانية، وهذا تهديد بالغ الخطورة لأمن روسيا، وعندها ستتمكن صواريخ توماهوك من وصول موسكو خلال 35 دقيقة، وستكون الصواريخ الباليستية المنطلقة من خاركوف قادرة على الوصول إليها في غضون 7 – 8 دقائق، والصواريخ التي تفوق سرعة الصوت ستصل موسكو في غضون 4 – 5 دقائق، وهذا الوضع يوازي وضع روسيا على المقصلة، كما يقول بوتين ([5]).
فضلًا عن ذلك، يتهم بوتين أوكرانيا بأنها تسعى لتطوير أسلحة دمار شامل تهدد أمن روسيا، وأن التنظيمات النازية تكثر وتنمو فيها، وتشكّل خطرًا كبيرًا على المجموعات السكانية الأخرى الناطقة بالروسية في أوكرانيا من غير الإثنية الأوكرانية.
تلك هي رؤية بوتين لواقع العلاقة الروسية الحالي مع أوكرانيا، ومن يسمع كلام بوتين ويصدقه، فسيقول حتمًا: “إن روسيا مظلومة، وإنّ أوكرانيا جاحدة للمعروف”! لكن هذه هي رواية بوتين فقط، وهو يحاول ترويجها لتبرير غزوه لأوكرانيا، الذي سيبدو -وفقًا لهذه الرواية- وكأنه مجرد حملة تأديبية موجهة ضدّ طغمة فاسدة مارقة عميلة للغرب، وهي تسرق أوكرانيا نفسها، وتفسد العلاقة الأخوية التاريخية بين الروس والأوكران، وتتآمر مع الناتو ضدّ روسيا. لكن إلى أيّ مدى تصدق هذه المزاعم؟! هذا ما سنحاول الإجابة عنه في ما يلي من فقرات.
3-روسيا وأوكرانيا في التاريخ:
العلاقة التاريخية بين روسيا وأوكرانيا هي علاقة طويلة الأمد، ومتشابكة ومعقدة، ويرجع ذلك بشكل رئيس إلى كثرة الصراعات التي دارت في المنطقة، ولا سيّما في أوكرانيا، التي تنازعت عليها أو فيها قوى شتى عبر مراحل التاريخ المختلفة، منها السيميريون والسكيثيون والسارماتيون والقوط والهون والخزر والسلاف واليونانيون والبيزنطيون والنورسمان، ولاحقًا الروس والتتار والأتراك والبولونيون والقوزاق والنمساويون والمجريون والأوكران، وسواهم، والواضح أن هذه الصراعات لم تنتهِ بعد.
مع ذلك، فخطاب بوتين الذي يسعى فيه لنفي وجود الشخصية التاريخية لأوكرانيا، ويصورها فيه بأنها مجرد دولة مصطنعة حديثًا، وأن حقيقتها التاريخية ليست أكثر من محافظة من محافظات الإمبراطورية الروسية العديدة، ومساحتها كانت أقل بكثير من مساحتها الحالية التي اقتطعت بشكل تعسفي من روسيا وأضيفت إليها، ففيه الكثير من التضليل والمغالطة.
3,1-إشكالية الأسماء:
في الوقت الراهن، تقترن تسميات مثل “روس” بصيغة الفرد، و”الروس” بصيغة الجمع، بروسيا الراهنة، فيما تقترن تسمية أوكرانيا والأوكران حصريًا بأوكرانيا الحالية، وهذا أمر طبيعي، فكل موجود في الحاضر لا بدّ له من اسم يكون مدلوله مرتبطًا ومحصورًا فيه.
تاريخيًا، الوضع مختلف، فتسمية “روس” (اللفظة هنا ليست حالة جمع تدلّ على قوم، كما نقول بالعربية “عرب” و”فرس”، فاللفظة هنا ليست عربية، وهي هكذا بلغتها الأم) هي تسمية بلاد الروس القديمة، وأصل هذه التسمية يعود إلى قوم “الروس”([6])، وهم جماعة من الإثنية الفارناجية ذات الأصل الجرماني، جاءت من شمال أوروبا، وسيطرت على منطقة في شمال شرق أوروبا، كانت تضمّ أراضي تدخل اليوم بشكل رئيس في دول روسيا وأوكرانيا وبيلوروسيا، وأسست دولتها “كييف روس” أو “روس الكييفية” الشهيرة، ومنها أخذت روسيا الحالية اسمها، ولكن هذا الاسم لم يقتصر على هذه الدولة فحسب، بل حملته دول أخرى ومناطق أخرى مرتبطة بها، مثل دولة “روس سوزدال” التي نشأت من تفكك كييف روس، وشكّلت النواة التاريخية لتشكل دولة روسيا الراهنة، و”روثينيا” ([7])، وهو المقابل اللاتيني لـ “روس”، والتي صارت في وقت لاحق تُطلق على المنطقة الغربية من أوكرانيا الراهنة، التي كانت تتبع لكييف روس، ثم آلت تاريخيًا إلى السيطرة البولونية، ومن بعدها إلى السيطرة النمساوية المجرية، ثم استعادها الاتحاد السوفييتي، وهلمّ جرًّا.
واليوم، بشكل غير رسمي، تُستخدم تسمية “روس”(Русь) في روسيا للدلالة على كل من روسيا القديمة وروسيا الراهنة اللتين تتم المطابقة بينهما في الذهنية الروسية الحديثة، وهذا غير دقيق؛ فليست روسيا وحدها هي المتحدرة من روسيا القديمة أو روسيا التاريخية تلك، فبيلوروسيا وأوكرانيا بدورهما تعتبران نفسيهما سليلتي روسيا التاريخية، أي روس كييف وما تحدّر منها من دول وإمارات بعد تفككها، وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي واستقلال بيلوروسيا، غُيّر اسم بيلوروسيا إلى “بيلوروس” بشكل رسمي ([8])، أما أوكرانيا التي استقلت بدورها، فهي تعدّ نفسها وريثة كييف روس، ووفقًا لدراسة استقصائية أجرتها مجموعة التقييم الاجتماعية بكييف، يرى 75 % من الأوكران أن أوكرانيا هي خليفة كييف روس، ويرفض 55 % اعتبار الروس والأوكرانيين شعبًا واحدًا ([9])، وإضافة إلى ذلك، فأوكرانيا تطلق على عملتها الرسمية التسمية نفسها التي كانت كييف روس تستخدمها، وهي “كريفنا”.
وفي الواقع، بعد وصول الخلافات الأوكرانية الروسية إلى ذورتها، وتحولها إلى صراع، وردًا على ادعاءات بوتين الناكرة لشخصية واستقلالية أوكرانيا؛ أصبحت مسألة التاريخ على درجة عالية من الحساسية، ولذلك تُطرح اليوم بشكل جدّي في أوكرانيا مسألة تغيير اسم “أوكرانيا” إلى “روس أوكرانيا”، كما أعلن المستشار في مكتب الرئاسة الأوكراني أوليكسي أريستوفيتش، الذي يقول إن روسيا سرقت التاريخ وخصّصته لنفسها، ولذلك فمن حق أوكرانيا القتال من أجل “إرث كييف روس”، وهذا برأيه أهم من الدبابات في الوقت الحالي ([10]).
أما تسميية “أوكرانيا”، فالرأي الأكثر انتشارًا في الأوساط الأكاديمية هو أنها تسمية سلافية قديمة تعني “المنطقة الحدودية”، وقد كان هذا المصطلح يُستخدم بهذا المعنى في كييف روس، وفي تاريخه لم يقترن المصطلح بمنطقة جغرافية حصرية محددة، وبقي مصطلحًا جغرافيًا متغير الحدود، وقد استُخدم في بولونيا في القرن السابع عشر بشكل غير رسمي للدلالة على المناطق الحدودية من الكومنولث البولوني الليتواني، التي كانت من قبل في كييف روس، كما استُخدم أيضًا في وقت قريب من ذلك من قبل قوزاق الهتمانات كتسمية لدولتهم، ثم صار في القرن الثامن عشر يقترن بمنطقة وسط أوكرانيا الراهنة التي كان يُطلق عليها في روسيا القيصرية تسمية “مالوروسيا” أي “روسيا يا الصغرى”، وفي القرن التاسع عشر صار المصطلح يتخذ مدلولًا إثنيًا وقوميًا، واستمر ذلك في القرن العشرين ([11]).
3,2-دولة روس الكييفية:
دولة روس الكييفة أو كييف روس، وتسمى بالروسية “كييفسكايا روس” وبالأوكرانية “كييفسكا روس”، هي مملكة قامت في شمال شرق أوروبا بين القرن التاسع والقرن الثالث عشر، واستمرت من عام 879 م إلى عام 1240 م، الذي قضى فيه المغول عليها بشكل نهائي، ودمروا عاصمتها كييف، ولكنها كانت فعليًا قد ضعفت، وأخذت بالتفكك قبل ذلك.
ضمّت كييف روس مناطق تدخل اليوم في أراضي روسيا وأوكرانيا وبيلوروسيا، ودخلت فيها قبائل سلافية شرقية وبلطيقية وفنلندية، جمعها تحت حكمه الأمير روريك عام 862 م، وكانت عاصمتها في البداية مدينة نوفغورد، والأمير روريك نفسه لم يكن سلافيًا، بل كان من إثنية الروس الفارانجية (Varangian) التي تتحدر من أصول إسكندنافية.
لاحقًا، نقل العاصمة إلى كييف الأمير أوليغ قريب روريك في عام 882 م، وحكمتها سلالة روريك طوال تاريخها، وحكمت من بعدها روسيا المسكوفية حتى القرن السادس عشر.
أُدخلت المسيحية البيزنطية واعتُبرت دينًا رسميًا للدولة في عام 988م في عهد الحاكم فلاديمير الكبير. وكانت اللغة الرئيسة فيها هي “السلافية الشرقية القديمة” التي كانت منتشرة بين قبائل السلاف، التي كانت تشكل القسم الأكبر من المجموعات الإثنية السكانية فيها، إضافة إلى “النورسية” القديمة التي كان يتحدثها قوم “الروس” الفارانجيين أنفسهم.
وقد تصارعت هذه الدولة مع الخزر والبيزنطيين وسواهم، ثم تحالفت مع البيزنطيين بعد تحولها إلى المسيحية، وكان لها دور مهم في إضعاف إمبراطورية الخزر.
بعد تفكيكها ودمار كييف عاصمتها، خلفتها إمارات عدة، كان أكبرها فلاديمير سوزدال ونوفغورود وغاليسيا فولينا ([12]) ([13]) ([14]) ([15]).
نمت في فلاديمير سوزدال لاحقًا إمارة موسكو وضمّتها إليها، وأصبحت لاحقًا دوقية موسكو الكبرى التي تطورت لاحقًا إلى روسيا القيصرية، وبعدها إلى الإمبراطورية الروسية، وهي خلف روسيا الاتحادية المعاصرة.
3,3-نشأة دولة روسيا:
بعد تفكك مملكة كييف روس، ظهرت إمارات عدة، كان أقواها فلاديمير سوزدال، وجمهورية نوفغورد، وكانتا في الأراضي التابعة لروسيا اليوم، وغاليتسيا فولينا، وقد كانت في القسم الغربي من أراضي أوكرانيا الحالية.
كانت إمارة فلاديمير سوزدال إحدى الإمارات التي خلفت كييف روس في القرن الثالث عشر، لكنها كانت إمارة ذات حكم ذاتي، يحكمها حكام محليون تعيّنهم قبيلة المغول الذهبية، وهي تعتبر مهد اللغة والقومية الروسيتين الحديثتين، وقد تطورت لاحقًا إلى دوقية موسكو الكبرى؛ حيث أصبحت دوقية موسكو بحلول نهاية القرن الميلادي 14 فعليًا خلفًا لفلاديمير سوزدال، بوصفها مركزًا رئيسًا للسلطة في شمال شرق كييف روس السابقة ([16]).
أما موسكو، فكانت في البداية إمارة صغيرة في إمارة فلاديمير سوزدال في أيام دولة كييف روس، وعلى الغالب يُعتبر الأمير يوري دولغوروكي مؤسسها، حيث أقام فيها تحصينات عسكرية في البداية عام 1147م، ولكن يُعتقد أنها كانت موجودة قبل ذلك الوقت ([17])، وكان دولغوروكي حاكمًا لإمارة سوزدال التابعة لكييف روس، ثم أصبح حاكمًا لكييف روس في آخر سنتين من حياته، حيث توفي عام 1157 ([18])، وتعود بدايات بروز إمارة موسكو إلى فترة تولي حكمها من الأمير دانيال اﻷول ابن الأمير ألكسندر نيفيسكي، حيث بدأ دانيال الأول (أو دانييل ألكسندروفيتش)، الذي حكم من عام 1276 م حتى وفاته عام 303م، في ضم ممتلكات أخرى إلى حكمه، وقد تابع الحكام الذين خلفوه توسيع الإمارة، ولكن إمارة موسكو بقيت بدورها تحت هيمنة المغول، واستمر ذلك حتى عام 1480م ، مع أنها خاضت حروبًا عديدة ضدّهم، وتمردت عليهم في أعوام 1374 – 1380، 1396 – 1411، 1414 – 1416،1417 – 1419، وتمكن أميرها ديمتري دونسكوي، الذي أصبحت سلطتهم عليه في عهده محدودة إلى حدّ بعيد، من الحصول منهم في عام 1380م على اعتراف بدوقية فلاديمير الكبرى كملكية وراثية لأمراء موسكو؛ وفي النهاية تمكنت دوقية موسكو من تحقيق الاستقلال في عام 1480م، في عهد إيفان الثالث ([19]).
يُعدّ إيفان الثالث من أشهر حكام موسكو، وقد حكمها لمدة 43 عامًا، من عام 1462 إلى عام 1505م، وضاعف مساحتها ثلاث مرات، وأجرى العديد من التعديلات السياسية والقانونية، وكان أول من حمل لقب ”حاكم روس كلها”، وأول من حمل لقب “القيصر” بشكل غير رسمي، ويُعدّ تقليديًا بأنه من قام بتجميع اﻷراضي الروسية وأتم مركزية دولة وروسيا؛ لكن على الرغم من ذلك، فبداية عهد القياصرة تبدأ مع تولي حفيده إيفان الرابع، المشهور بإيفان الرهيب للحكم، الذي كان أول من توج بشكل رسمي قيصرًا لروسيا ([20]).
أما إيفان الرابع الذي حكم كقيصر من عام 1547 حتى 1585م، فتفيد المصادر بأنه كان ذكيًا ومتدينًا، ولكنه كان غضوبًا ومصابًا بجنون الارتياب، وقد قتل وصادر ممتلكات الكثير من النبلاء الروس الذين شك بولائهم، وقتل ابنه اﻷكبر ووريث عرشه في نوبة غضب، فآلت وراثة العرش لابنه اﻷصغر فيودور، الذي كان حاكمًا ضعيفًا، ومات دون أن يترك خلفًا، وبذلك انتهى حكم سلالة روريك، التي حكمت دوقية موسكو منذ بداية بروزها، وبدأت مرحلة من الاضطرابات، أدت في المحصلة إلى انتقال الحكم إلى عائلة رومانوف ([21])، التي استمرت في الحكم حتى قيام ثورة الديمقراطية في عام 1917م.
أما تسمية روسيا بصيغة “روسيا”، فقد ظهرت وأصبحت شائعة في القرن الخامس عشر، على الرغم من أن الوثائق المحلية الأقدم لدوقية موسكو كانت تستخدم تسميات “روس” (Русь) والأرض الروسية (Русская земля) ([22]). ومن الأسماء التي أُطلقت أيضًا على دوقية موسكو “روس الموسكوفية” (Muscovite Russia) و”مسكوفيا” (Moscovia) ([23]).
وهكذا نشأت روسيا القيصرية، التي تابع آل رومانوف توسيعها في كافة الاتجاهات في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، فتمددت في شرق أوروبا وسيطرت على معظم الأراضي التابعة لأوكرانيا حاليًا، وعلى قسم من بولونيا، وأجزاء من رومانيا، وتوسعت في القوقاز وآسيا الوسطى، وتوغلت شرقًا في سيبيريا حتى وصلت المحيط الهادي، بل تجاوزته إلى آلاسكا في شمال أميركا في وقت من الأوقات، وأصبحت ثالث أكبر إمبراطورية بالمساحة الكلية في التاريخ، واتخذت منذ عام 1721 في عهد القيصر بطرس الأكبر تسمية “الإمبراطورية الروسية” خلفًا لـ “روسيا القيصرية”، وعُرفت بهذا الاسم حتى عام 1917م ([24]).
3,4-نشأة دولة أوكرانيا ([25]) ([26]) ([27]):
أما أوكرانيا، فقد ظهرت فيها، بعد تفكك كييف روس، إمارة غاليسيا فوليينا (Kingdom of Galicia–Volhynia) التي كانت واحدة من الإمارات الثلاث الأكبر اللاتي ظهرن بعد هذا التفكك، ونشأت من اتحاد إمارتي غاليش (أو هاليش) وفولديمير فولينسكي، واستمرت من عام 1199 حتى عام 1349م، وضمت أراض من غرب أوكرانيا الراهنة وبيلوروسيا وبولونيا، وكان مؤسسوها وحكامها بدورهم من سلالة روريك.
وقد تنافست هذه الإمارة مع جوارها من الممالك والإمارات، كقبيلة المغول الذهبية ومملكة بولونيا ومملكة المجر ودوقية ليتوانيا، واضطرت إلى الاعتراف بسيادة القبيلة الذهبية عام 1246 في أيام أميرها دانييلو رومانوفيتش، وبعد وفاته نقل ابنه ليڤ عاصمتها إلى لڤوڤ (أو لڤيڤ بالأوكرانية)، وبعد وفاة ليڤ، بدأت الإمارة تتدهور، فغزاها البولونيون عام 1349وتم احتلالها، وفي وقت قريب من ذلك، احتلت دوقية ليتوانيا كييف وجزءًا من شمال أوكرانيا، ثم اتحد البولونيون والليتوانيون لمواجهة الروس، وأسفر اتحادهم في وقت لاحق عن تشكيل الكومنولث البلوندي الليتوني، وأصبح قسم كبير من أراضي أوكرانيا تحت سيطرة البولونيين الذين كانوا هم وأعوانهم من النبلاء المحليين يعاملون عامة الأوكران معاملة بالغة القسوة والإذلال، ولا يحترمون عقيدتهم الأرثوذوكسية الشرقية، وهذا ما جعل كثيرًا من هؤلاء العوام يفرون من الاضطهاد البولوني ويتحولون إلى قوزاق.
وفي أواسط القرن السابع عشر، أنشأ قوزاق الدينيبر كيانًا ذا طابع عسكري أسموه “زابورجسكا سيتش” (Zaporozhian Sich)، وكان القوزاق يقومون بأعمال عنف ضدّ البولونيين أحيانًا، ولكنهم كانوا يتعاونون معهم في أحيان أخرى ضدّ الترك والتتار، لكن استمرار قيام البولنونيين باستغلال واضطهاد الفلاحين الأوكران، وقمع الكنيسة الأرثوذكسية، أدى إلى قيام انتفاضات عدة ضدّهم، كانتفاضة بوڠدان (بوهدان) خملنيتسكي عام 1648م التي كانت أكبرها، وأسفرت عن إنشاء إمارة “هيتمانات القوزاق” التي ألحقت بروسيا على الجانب الأيسر من نهر الدينيبر.
لاحقًا، في حرب أعوام 1657 – 1686، تم تقسيم الأراضي الأوكرانية بين روسيا وبولونيا، وقد ساعد فيها القوزاق روسيا، حيث ضُمت إلى روسيا أراضي كييف والقوزاق شرق دنيبر، وضُّم غربي الدنيبر إلى بولندا، وقد أدت الصراعات المستمرة بعد ذلك إلى انهيار الكومنولث البولوني الليتواني بين أعوام 1772 -1795م، ونتيجة ذلك كان تقاسم الأراضي الأوكرانية بين روسيا والنمسا، فضُّمت غاليسيا الغربية (WestGalicia) من أوكرانيا إلى النمسا، وضُّم القسم الباقي منها إلى روسيا القيصرية تدريجيًا، وبقيت غاليسا الغربية تحت سيطرة النمسا – المجر حتى الحرب العالمية الأولى، التي بسببها سقطت القيصرية في روسيا عام 1917، وتفككت الإمبراطورية النمساوية المجرية في عام 1918.
عبر تاريخها، المناطق الغربية من أوكرانيا، التي يدخل في عدادها العديد من المدن والمناطق المهمة مثل لفوف، وتشيرنيفتسي وأوجغورود ولوتسك وإيفانو – فرانكيفسك وروفنو وترنوبل وخوتين وهاليتش وسواها، لم تخضع للسيطرة الروسية، ولم تتبع للإمبراطورية الروسية، بخلاف المناطق الوسطى والشرقية. حتى بعد الحرب العالمية الأولى، قُسّم غرب أوكرانيا بين بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا، بموجب معاهدة ريغا التي وُقّعت عام 1921، لكن بعد الحرب العالمية الثانية، تمكن الاتحاد السوفييتي من السيطرة على كل أراضي أوكرانيا الغربية، وضمّها في عام 1945 إلى جمهورية أوكرانيا السوفييتة.
وكما نلاحظ، فمنذ احتلال غاليسيا فوليينا 1349 حتى الحرب العالمية الأولى، لم يتمكن الأوكرانيون من إنشاء دولة مستقلة خاصة بهم، لكن بعد الحرب العالمية الأولى حتى الحرب العالمية الثانية، جرت أكثر من محاولة.
ففي عام 1917، بعد الثورة وخلال الحرب الأهلية التي تلتها، أُعلن تشكيل “جمهورية أوكرانيا الشعبية أو جمهورية أوكرانيا الوطنية“، وهي لم تكن تابعة للبلاشفة وتصارعت معهم، وكانت كييف هي المقر الرئيس لهذه الجمهورية، ودامت هذه الدولة حتى عام 1921، حيث تمكن البلاشفة من الانتصار عليها. في الوقت نفسه، كانت قد نشأت “جمهورية أوكرانيا الشعبية السوفييتية” بين عامي 1917 و1918، وكان مقرها في خاركيف.
وفضلًا عن ذلك، فقد أُعلن في غرب أوكرانيا تشكيل “جمهورية غرب أوكرانيا الشعبية”، لكنها لم تعمّر إلا حوالي ثلاثة أشهر تقريبًا، من أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 1918 حتى أواخر كانون الثاني/ يناير 1919، حيث قضى عليها التحالف بين بولونيا ورومانيا، وقُسّمت أراضيها بين رومانيا وبولونيا وأوكرانيا الشعبية.
وفي نهاية الحرب الأهلية الروسية، وصراعات ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت النتيجة أن الدولة الأوكرانية الوحيدة التي ظهرت واستمرت هي “جمهورية أوكرانيا السوفيتية الاشتراكية”، التي أُعلن تشكيلها بشكل رئيس عام 1922، وكانت إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي، وقد أُدرجت فيها أراضي جمهورية أوكرانيا الشعبية أو جمهورية أوكرانيا الوطنية، ولكنها لم تضم غرب أوكرانيا، بل ضمّت إليها السلطة السوفييتية العديد من المناطق الأخرى، ومنها خاركوف وأوديسا وزاباروجا وسومي وبولتافا وكيروفوغراد ودنيبروبتروفسك وخِرسون وماريوبل ونيكولايف، ومدينتي سيفاستوبل وسيمفروبل في القرم، ودانيتسك ولوغانسك.
بعد ذلك، جرت أيضًا محاولة لتشكيل دولة أوكرانية، حيث أُعلن، في 15 آذار/ مارس 1939، قيام جمهورية مستقلة في منطقة أوكرانيا الكارباتية التي كانت ذات حكم ذاتي في تشيكوسلوفاكيا، قبل أن تحتلها ألمانيا النازية عام 1939، ولكن المجر احتلتها سريعًا في 18 آذار/ مارس من العام نفسه، ثم سيطر عليها الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية، وضُمّت في عام 1945 إلى أوكرانيا السوفييتية بالاتفاق مع تشيكوسلوفاكيا ([28]).
وقد بقيت أوكرانيا جمهورية سوفيتية حتى تفكك الاتحاد، حيث أُعلن استقلالها بالمساحة والحدود نفسها التي كانت عليهما في الاتحاد السوفيتي، وهذا كان موضع استياء معلن أحيانًا وغير معلن في أحيان أخرى، من قبل روسيا الاتحادية الراهنة.
ومما تقدم، نرى بوضوح أن فكرة إنشاء دولة أوكرانية لم تكن من نتاج البلاشفة كما يزعم بوتين، فقد كانت هناك محاولتان أخريان موازيتان لبناء هذه الدولة، والمحاولة الأكبر بينهما قضى عليها البلاشفة أنفسهم، واستبدلوها بدولتهم الأوكرانية الخاصة، ما يعني واقعيًا أن البلاشفة لم يصنعوا “دولة أوكرانيا”، ولكنهم فعليًا صنعوا منها شكلًا سوفيتيًا يناسبهم.
4- حقائق عن أوكرانيا الحالية:
في 16 تموز/ يوليو 1990، اعتمد المجلس الأعلى لجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية إعلان سيادة دولة أوكرانيا، وفي العام التالي احتُفل بيوم استقلال أوكرانيا في 16 تموز/ يوليو 1991، بمناسبة مرور عام على إعتماد إعلان سيادة دولة أوكرانيا، وفي هذا اليوم أيضًا اتُخذ قرار حول “يوم إعلان استقلال أوكرانيا”، واعتبر فيه يوم 16 تموز/ يوليو يومَ إعلان استقلال أوكرانيا، وقُرر أن يُحتفل به سنويًا كعطلة وطنية رسمية في أوكرانيا.
في 24 آب/ أغسطس 1991، أقرّ البرلمان الأوكراني (المجلس الأعلى الأوكراني) قانون إعلان استقلال أوكرانيا، وأجري، في 1 كانون الأول/ ديسمبر 1991، استفتاء عليه، وصوت فيه 92.3 ٪ من الناخبين بالموافقة على إعلان الاستقلال ([29])، واعتُبر 24 آب/ أغسطس يوم استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفييتي ([30]).
في كانون الأول/ ديسمبر عام 1991، أُسّست “رابطة -أو اتحاد- الدول المستقلة كبديل للاتحاد السوفييتي، واتخذت من مدينة مينسك عاصمة بيلاروسيا مقرًا لها، ولكن هذه الرابطة لم تكن دولة اتحادية على غرار الاتحاد السوفييتي، إنما كانت منظمة للتعاون بين دول الاتحاد السوفييتي السابق في مجالات تعزيز الديمقراطية والتجارة والتمويل والقوانين والأمن ومكافحة التهريب والإرهاب، وقد دخلت 12 دولة سوفييتية سابقة، من ضمنها أوكرانيا، في هذه الاتفاقية، ولم تشترك فيها دول البلطيق الثلاث: لاتفيا؛ ليتوانيا؛ إستونيا ([31]). وفي عام 1996، اعتمدت أوكرانيا دستورًا خاصًا بها ([32]).
في عام 1997، اعترفت موسكو رسميًا من خلال ما يسمى بـ “العقد الكبير” بحدود أوكرانيا الراهنة، ومنها شبه جزيرة القرم، التي تقطنها غالبية ناطقة بالروسية ([33]).
وهكذا، حصلت أوكرانيا على استقلالها، واستقلت بحدودها السابقة نفسها في الاتحاد السوفييتي، وعلى مساحة 603,550 كم²، وفي عام 2017، بلغ عدد سكانها 42,418,235 نسمة، منهم 77.8 % أوكران، و17.3 % روس، و4.9 % آخرون، وتعتبر اللغة الأوكرانية اللغة الرسمية في البلاد، واللغة الروسية معترف بها رسميًا.
5-تطور الأزمة بين روسيا وأوكرانيا:
على الرغم من دخول أوكرانيا في رابطة الدول المستقلة، فقد كانت النزعة فيها للتقارب مع الغرب قوية، وهذا ما كان يثير حفيظة روسيا، فوقعت أوكرانيا بذلك في حالة من التنافس الغربي الروسي، صار كل طرف فيه يسعى لاستمالتها إلى صفه، ويدعم أنصاره فيها للسيطرة على مراكز اتخاذ القرار فيها.
ففي 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004، أسفرت الجولة الختامية من الانتخابات الرئاسية عن فوز المرشح فيكتور يانوكوفيتش المقرب من روسيا، على المرشح فيكتور يوشينكو المقرب من الغرب، وهذا ما أدى إلى حدوث احتجاجات شعبية واسعة، اعتُبر فيها أن الانتخابات قد زُوّرت، وأُطلق على هذه الاحتجاجات تسمية “الثورة البرتقالية”، ورُفع الأمر إلى المحكمة الأوكرانية العليا، التي حكمت بإعادة التصويت في 26 كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه، وقد أدى هذا إلى فوز فيكتور يوشينكو ([34])، وهو من الأنصار المتحمسين لانضمام أوكرانيا إلى الناتو.
بدأ التقارب بين أوكرانيا والناتو بعيد استقلالها، وبدأت فكرة انضمام أوكرانيا للناتو تُطرح، وفي استطلاع للرأي في 6 أيار/ مايو 1997، تبين أن 37 % من الأوكرانيين يؤيدون الانضمام إلى حلف الناتو، وفي عام 2002 أعلن الرئيس ليونيد كوتشما رغبة أوكرانيا بالانضمام إلى الناتو، وشارك بإرسال قوات أوكرانية إلى العراق، وفي كانون الثاني/ يناير من عام 2008، جرت محاولة لوضع خطة عمل للانضمام إلى الناتو من قبل الرئيس الأوكراني فيكتور يوشينكو ورئيس الوزراء يوليا تيموشينكو ورئيس البرلمان أرسيني ياتسينيوك، لكن هذا واجه معارضة في الداخل، حيث نظمت المعارضة عريضة جمعت فيها مليوني توقيع، وطالبت بإجراء استفتاء حول المسألة، وقاطعت جلسات البرلمان، من كانون الثاني/ يناير 2008 حتى آذار/ مارس 2008، احتجاجًا على ذلك، وعطلت جلساته، كان ذاك داخليًا، أما خارجيًا ففي الوقت الذي كانت فيه أميركا تدعم مساعي أوكرانيا للانضمام إلى الناتو، قوبل ذلك بالرفض من فرنسا وألمانيا، وامتنعت قمة بوخارست للناتو، في نيسان/ أبريل 2008، عن مناقشة انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى الناتو، لكن العمل على هذه المسألة لم يتوقف، على الرغم من حدوث تذبذبات في المواقف الأطلسية منها، وفي 3 كانون الأول/ ديسمبر 2008، اتخذ الناتو قرارًا بوضع برنامج دعم سنوي يهدف إلى مساعدة أوكرانيا على القيام بالإصلاحات المطلوبة لضمها إلى الناتو ([35]).
لكن استلام فيكتور يانوكوفيتش رئاسة البلاد، في 25 شباط/ فبراير2010، أدى إلى تجميد هذه المساعي، واستبدالها بسياسة عدم انحياز، وفي حزيران/ يونيو 2010، أقرّ البرلمان الأوكراني مشروع قانون يمنع انضمام البلاد إلى الناتو ([36]).
وعلى الرغم من أن انتفاضة 2014 الشعبية أطاحت يانكوفيتش، فإن خلفه ياتسينيوك أكّد بدوره على مواصلة سياسة الحياد، غير أن التطورات التي حدثت بعد إطاحة يانكوفيتش، حيث قامت روسيا بالاستيلاء على القرم، ودعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا، رفعت نسبة التأييد الشعبي للانضمام إلى الناتو، فارتفعت من 28 % في عهد يانكوفيتش، إلى 50 % في حزيران/ يونيو 2014، ووصلت إلى 69 % في حزيران/ يونيو 2017 ([37]).
في عام 2017، صادق البرلمان الأوكراني على طلب موجه إلى حلف الناتو لبدء إجراءات الانضمام الفوري، وأعلن بعدها قبول الناتو ببدء المشاورات، ثم اتخذت، في شباط/ فبراير 2019، تعديلات دستورية تؤكد تمسّك أوكرانيا بسياسة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والناتو ([38]).
وفي شباط/ فبراير 2022، أعاد الرئيس الأوكراني الحالي فولوديمير زيلينسكي تأكيد نية أوكرانيا في الانضمام إلى الناتو، ونوّه إلى أن هذا “منصوص عليه في الدستور، ولم يتغير الوضع”، وطالب بوضع إطار زمني “واضح” لضم أوكرانيا إلى هذا الحلف ([39]).
وبالطبع، كانت روسيا تقابل كل هذه المساعي بالرفض، وحاولت مرارًا الحصول على ضمانات مؤكدة من أميركا والغرب بعدم توسيع حلف الناتو، وهذا ما لم يستجب له الناتو، الذي كان دائمًا يؤكد على أن أبوابه مفتوحة دائمًا لكل الدول الراغبة في الانضمام إليه، إذا ما تحققت فيها شروط الانضمام، وهذا ما اعتبرته روسيا سياسة عدائية موجهة ضدّها ومهددة لأمنها، ومخلة بالوعود السابقة التي قطعها الناتو لغورباتشوف بعدم توسيع الناتو شرقًا ([40])، والذي بقي مصرًا دائمًا على هذه السياسة المستفزة لروسيا، وعلى سبيل المثال، رفض، في 10 كانون الأول/ ديسمبر 2021، طلبها سحب الدعوة الموجهة عام 2008 إلى جورجيا وأوكرانيا للانضمام إليه ([41]). وفي المحصلة، أدت تداعيات وتطورات هذه الخلافات إلى قيام روسيا بغزو أوكرانيا في 24 شباط/ فبراير 2022.
6-الادعاءات البوتينية لتبرير غزو أوكرانيا:
تركز ذرائع غزو أوكرانيا التي يقدمها النظام البوتيني على خطر انضمام أوكرانيا إلى الناتو، وتفشّي النازية فيها، وتهديدها للناطقين باللغة الروسية، وسعي أوكرانيا لتطوير أسلحة دمار شامل موجهة ضدّ روسيا، إضافة إلى الحجج التاريخية حول إنشاء دولة أوكرانيا، فما هي حقيقة هذه الذرائع؟!
6,1- مشكلة انضمام أوكرانيا إلى الناتو:
كما رأينا أعلاه، مثل هذه المساعي كانت موجودة بشكل جدي وقوي عند الأوكران ذوي التوجهات الغربية، الذين تمكّنوا من أن يصبحوا القوة المتحكمة بالبلاد. وقد اعتبر بوتين انضمام أوكرانيا إلى الناتو تهديدًا مصيريًا لأمن روسيا، يشبه وضع رقبتها على المقصلة. وقد يبدو أن بوتين على حق، وأن هجومه على أوكرانيا مبرر لحماية أمن بلاده من خطر حلف عالمي نووي يستهدفها ويتموضع على حدودها، فهل الأمر فعليًا كذلك؟!
في واقع الأمر، إن انضمام أوكرانيا إلى الناتو -إن تم- لن يغيّر شيئًا في قدرات شن الناتو حربًا على روسيا، فالحرب بين الناتو وروسيا لا تتوقف قطعًا على انضمام أوكرانيا إلى الناتو، الذي يصوره بوتين وكأنه خطر فيصلي يهدد مصير روسيا، وكل من روسيا والناتو يعلمان سلفًا أن أي حرب بينهما ستكون حربًا نووية مدمرة للطرفين، ولن يغير موضع أوكرانيا فيها شيئًا، فالناتو موجود في بولونيا المتاخمة لبيلوروسيا وهي غير بعيدة فعليًا عن روسيا، وموجود في دول البلطيق المحاذية لروسيا وأيضًا في تركيا، فهل هذا الوجود قرب الحدود الروسية غير كاف لتحقيق التفوق العسكري الحاسم على روسيا؟ وهل هذا التفوق مرهون حصرًا بضم أوكرانيا إليه؟ فلو كان الأمر فعليًا كذلك، لوجب على الناتو حسم هذه المسألة منذ زمن بعيد، ولما ماطل كل هذه السنوات في ضم أوكرانيا، والتذرع بجاهزية أوكرانيا هو ذريعة غير واقعية، فأوكرانيا لم تكن أقل جاهزية من التشيك والمجر اللتين ضمهما الناتو في أواخر التسعينيات، أو بلغاريا ورومانيا وألبانيا وكرواتيا وسواها من الدول التي ضمّها إليه بين عامي 2004 و2009. أما مسألة جاهزية أوكرانيا للناتو، فقد قال عنها فيكتور يوشينكو، عندما كان رئيسًا لأوكرانيا، في مقابلة مع صحيفة التايمز اللندنية، في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2008: «لقد قامت أوكرانيا بكل ما يجب عليها القيام به للانضمام إلى الحلف. وسنحافظ على الوتيرة نفسها في مساعينا للحصول على العضوية. كل ما عدا ذلك هو مسألة إرادة سياسية للحلفاء الذين يمثلون الناتو« ([42])، وقال في الآونة الأخيرة صموئيل تشراب، كبير خبراء السياسة في مؤسسة “راند” الأميركية للبحوث والتنمية، عن تسويف الناتو في المسألة نفسها، إنه لم يكن هناك أي تحرك نحو النظر في خطة العمل الخاصة بالعضوية في غضون 14 عامًا تقريبًا ([43]).
فما السر في ذلك إذًا؟
التفسير الممكن لهذا الأمر هو أن أميركا كانت على مدى هذه السنوات تستخدم ورقة ضمّ أوكرانيا إلى الناتو للضغط على روسيا واستفزازها، فيما هي تضمر غاية أخرى، وتجدها مجدية أكثر من ضم أوكرانيا الفعلي، فهل كان بوتين والكريملين يجهلان ذلك؟!
هذا ما سنعود للحديث عنه لاحقًا بعد النظر في ذرائع بوتين الأخرى لتبرير غزوه لأوكرنيا.
6,2- صعود النازية وتهديها للناطقين بالروسية:
ما يؤكده التاريخ القريب أنه لم يكن هناك أية مشكلة إثنية أو قومية أو طائفية، قبل أحداث 2014، وكانت البلاد مستقرة بما يكفي من هذه الناحية، والانتفاضة التي جرت ضدّ فيكتور يانكوفيتش، في عام 2014، لم تقم على خلفية إثنية أو قومية، وكانت انتفاضة سياسية محضة موجهة ضدّ سياسات يانكوفيتش الموالية لروسيا، والمخالفة لرغبات كثير من الأوكرانيين في التقارب مع أوروبا.
مع ذلك، لا يمكن إنكار أن أحداثًا عديدة من النوع العنصري المتطرف حدثت حينها، مثل تحطيم تماثيل لينين، واتخاذ إجراءات ضدّ اللغة الروسية، كتبنّي البرلمان الأوكراني، في 23 شباط/ فبراير 2014، مشروع قانون لإلغاء قانون 2012 الذي أعطى اللغة الروسية صفة رسمية، وقيام المجلس الوطني الأوكراني للبث التلفزيوني والإذاعي بإغلاق القنوات التلفزيونية الروسية في 11 آذار/ مارس 2014 ([44])، وأحداث العنف الإجرامية التي وقعت في 2 أيار/ مايو 2014، إذ قام المتطرفون القوميون بإحراق مبنى النقابات في أوديسا، الذي كان يتحصن فيه عشرات الأشخاص من الرافضين للانقلاب الذي وقع في كييف، وقد تسبب ذلك في مقتل 42 شخصًا، وتعرّض 250 شخصًا آخرين لإصابات مختلفة ([45]). لكن هذه الأحداث وقعت في مرحلة اضطرابات عام 2014، ويمكن اعتبار بعضها مبادرات عدوانية أوكرانية، لكن بعضها الآخر حدث بعد التصعيد الذي قامت به روسيا في القرم والدونباس.
وإضافة إلى ذلك، تتحدث الرواية الروسية عن أعمال قتل ونهب ممتلكات وعنف جنسي، كانت تقوم به كتائب على غرار تورنادو وإيدار العنصريتين في أوكرانيا، من دون أن يؤدي ذلك إلى تحقيقات أو عقوبات حكومية، وعن طرد لأساتذة يدرّسون اللغة الروسية، واحتجاز لمسافرين ناطقين بالروسية، من دون أي سبب موجب، ومنع كثير من الروس من دخول أوكرانيا، حتى من لديهم أقارب فيها، وهلمّ جرًّا، مما تقول روسيا إن وزارة خارجيتها قد وثقته في كتاب من 80 صفحة ([46]).
وفضلًا عن ذلك، وبمعزل عن الروايات الروسية، فقد قامت السلطات الأوكرانية بإجراءات اتخذت فيها بالفعل قوانين تهدف إلى فرض اللغة الأوكرانية قسرًا على كل سكان الدولة، حيث دخل حيز التنفيذ، في 16 كانون الثاني/ يناير 2021، قانون وقـّعه الرئيس الأوكراني زيلينسكي “حول ضمان عمل اللغة الأوكرانية كلغة رسمية”، وصار بموجبه التحدث بغير الأوكرانية، حتى في الحياة العامة وقطاع الخدمات والمتاجر والأكشاك التجارية، اعتبارًا من 16 كانون الثاني/ يناير 2021، جريمة (جريمة التحدث بغير الأوكرانية) يعاقب عليها القانون بالسجن والغرامة، وتبلغ غرامتها بحدود ثلاثة آلاف دولار ([47]) ([48])!
ومرة أخرى، من الممكن القول إن الادعاءات الروسية عن حدوث أعمال إجرامية أو تعسفية، ليست ادعاءات كاذبة، ولكن لو أن الأمور حدثت بالحجم الضخم المروّع الذي تتحدث عنه روسيا، والذي يبدو فيه وكأن الجرائم العنصرية تتفشى، وأن تطهيرًا عرقيًا بانتظار الناطقين بالروسية، لرأينا ردات فعل دفاعية قوية من هؤلاء الناطقين بالروسية، ولرأينا ردات فعل دولية وتغطيات إعلامية واسعة تؤكد الأمر، أما الزعم بأن كل هذا كان يتم التعتيم عليه بشكل متعمد، فهذا يحيلنا إلى “نظرية مؤامرة كونية”، ويدفعنا عندها إلى السؤال عمّا يُلزمنا بتصديق الرواية الروسية عن وجود مثل هذه المؤامرة، ولا سيّما أن الغاية الغرضية من هذه الرواية موجودة، وهي رواية تنفي صدقيتها شهادات أشخاص نعرفهم ممن يقيمون في أوكرانيا وهم من الناطقين بالروسية.
بالطبع، هذا الكلام لا يعني قطعًا تبرير أي فعل إجرامي أو عنصري، أيًا كان فاعله، وليست الغاية منه نفي وجود ونشاط المتطرفين العنصريين الأوكران، الذين ظهروا على السطح فور تفكك الاتحاد السوفييتي، ولكن المؤكد أن جلّ ما يُتحدّث عنه من عنف أو جريمة من هؤلاء يعود إلى مرحلة ما بعد 2014 بشكل رئيس، وهنا نكون قد دخلنا في مرحلة صراعية تصعيدية تكثر فيها الأفعال وردّات الأفعال العدوانية من الأطراف المختلفة، ويحمل فيها كل الأطراف المسؤولية، وبذلك فروسيا نفسها بما قامت به من تصعيد في القرم والدونباس هي نفسها تتحمل قسطًا مهمًّا من المسؤولية عن التصعيد المقابل من الطرف الآخر.
6,3- صناعة أسلحة دمار شامل:
هنا اختلفت الروايات الروسية، فتارة كان الحديث يجري عن عزم أوكرانيا إنتاج أسلحة نووية قذرة ([49])، وفجأة أصبح الحديث يجري عن وجود أسلحة بيولوجية، وبالقرب من الحدود الروسية أيضًا ([50])! وكأن الاستخبارات الروسية التي اكتشفت من قبلُ وجود مساع لإنتاج أسلحة نووية وقذرة، فاتها اكتشاف وجود مساع لإنتاج أسلحة بيولوجية على حدودها!
ومع أن حدوث مثل هذا المساعي ممكن، ولا يمكن في لعبة المصالح الدولية الركون إلى حسن النيات لنفيه، فإن هذه الروايات التي تصدر عن روسيا تذكّرنا بالروايات الذرائعية التي استخدمتها أميركا لتبرير غزوها للعراق، والأخذ بها مرة أخرى يجعلنا ملزمين بالإقرار بوجود “مؤامرة تواطؤ عالمية” تسكت عن المساعي الأوكرانية العدوانية الخبيثة، وتجعلنا نتساءل: لماذا لم تطالب روسيا بفتح تحقيقات دولية بهذه الشؤون قبل غزو أوكرانيا؟! ولماذا لم يبدأ الكلام عن محاولات أوكرانية لإنتاج قنابل نووية قذرة إلا قُبيل الغزو، مع أن الحشود على الحدود الأوكرانية التي تؤكد أن نية الغزو الروسي كانت قد بدأت قبل أشهر؟ ولكي تكون هذه المحاولة لإنتاج هذه الأسلحة مبررًا لما تسميه روسيا عملية عسكرية في أوكرانيا، يُفترض أن تكون هذه المعلومات موجودة لدى الروس قبل البدء بالاستعداد لهذه العملية المزعومة، فإن كانت المعلومات الروسية حول إنتاج هذه الأسلحة موجودة، فلمَ صمَت الروس حولها كل هذا الوقت، ولم يتم الكلام عنها إلا في الأيام الأخيرة قبل بدء الغزو؟ وإن لم تكن موجودة من قبل، فهذا يعني أنها لم تكن قطعًا سببًا من أسباب هذه الغزو، الذي كانت تحضيراته تتم من دون وجود مثل هذه المعلومات.
أما الأسلحة الجرثومية التي بدأ الحديث عنها بعد بدء الغزو بأيام، فقد أكدت الأمم المتحدة عدم وجود أدلة لديها بشأن امتلاك أوكرانيا برنامجًا للأسلحة البيولوجية ([51])، والطرف الوحيد الذي يدّعي وجود هذا البرنامج هم الروس الذين هم الآن في حالة غزو لأوكرانيا، ومن أبسط قواعد العقل السليم عدمُ تصديق ما يقوله خصم ضدّ خصمه، ولا سيّما أنهما في حالة صراع.
6,4- نفي الأساس التاريخي لقيام دولة أوكرانيا:
ركّز بوتين -كما رأينا أعلاه- في خطابه الذي ألقاه قبيل بدء الغزو كثيرًا على كيفية ظهور دولة أوكرانيا الراهنة، وصوّرها كدولة مصطنعة من صنع السوفييت الذين فككوا الإمبراطورية الروسية، وانتزعوا منها الأجزاء، وأقاموا كياناتهم المصطنعة، وذاك يعني -وفقًا لبوتين- أن وجود دولة أوكرانيا بلا أساس تاريخي أو قومي، والقسم الأكبر من مناطقها ليس أوكرانيًا، والقسم الأوكراني نفسه فيها كان يعتبر نفسه روسيًا.
هنا بوتين، إضافة إلى ما يتجاهله من حقائق تاريخية قديمة وحديثة بشأن أوكرانيا، يعتمد بشكل رئيس على الجغرافيا التاريخية، للحكم على شرعية وجود الدول، وهذا أسلوب لا يمكن قبوله قطعًا في عالمنا المعاصر، فشرعية أي دولة قائمة اليوم تقوم على عوامل قيامها اللحظي، لا على معطيات تاريخية سابقة.
أما المناطق التي يقول بوتين عنها إن السلطة السوفييتية هي من ضمتها إلى دولة “أوكرانيا السوفييتية المصطنعة” دون أسباب وجيهة، ودون أخذ آراء أهلها بذلك، كما حدث في المناطق التي تشكل اليوم شرق أوكرانيا، فهذا الكلام يتجاهل حقيقة أن المناطق الغربية التي ضمها الاتحاد السوفييتي إلى أوكرانيا بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كانت قد توالى على حكمها البولونيون والنمساويون والمجريون والتشيك، هي بالأساس مناطق أوكرانية احتُلّت في تواريخ سابقة، ومن هذه المناطق المميزة مدينة “لفوف”، التي كانت في وقت من الأوقات عاصمةً لدولة غاليسيا وفولينا، وأصبحت اليوم العاصمة الثقافية لأوكرانيا منذ 2009 ([52])، وهي حاليًا أحد أهم مراكز انتشار اللغة الأوكرانية، وأحد أكبر معاقل القوميين الأوكران.
أما المناطق الشرقية التي يتكون سكانها من أصول وثنية مختلفة يتكلمون اليوم بالروسية، فهي فعلًا كانت مستعمرات روسية استولت عليها روسيا القيصرية في تواريخ مختلفة، وبعد صراعات عنيفة مع القوى المجاورة المنافسة، ومع ذلك، فكونها كانت مستعمرات، في زمان ما، لا يُلزمها قطعًا بالبقاء تابعة إلى الأبد لمستعمرها أو خلفه، وهي تمتلك حق تقرير المصير والاستقلال إن شاءت، وهذا هو حال كل دول قارتي أميركا وأوقيانوسيا المستقلة اليوم، والتي كانت في زمن ما مستعمرات بريطانية أو فرنسية أو إسبانية أو برتغالية أو هولندية أو سوى ذلك، فهل يحق اليوم لبريطانيا، مثلًا، نفي حق دول مثل الولايات المتحدة أو كندا أو أستراليا بالوجود، والمطالبة بهما بذريعة أنهما كانت من قبل مستعمرات بريطانية؟ وهل تستطيع البرتغال المطالبة بالبرازيل؟ أو هل تستطيع إسبانيا المطالبة بالمكسيك أو الأرجنتين مثلًا بالذريعة نفسها؟!
وإن فتحنا بوابة التاريخ -وليس لأحد عندها أن يحدد الاتجاه الذي ستمضي فيه الحركة السياسية عبر هذه البوابة، وإلى أي زمن ومدى- فهل يقبل بوتين بإعطاء الاستقلال للمناطق التترية أو الشركسية التابعة اليوم لروسيا، وهي مناطق تقطنها حتى اليوم أكثريات من سكانها الأصليين، وهم ليسوا روسًا إثنيًّا، وكانت لديهم في ما مضى خصوصية قبل أن تحتلها روسيا القيصرية؟
إن شرعية أي دولة اليوم تقوم على الإرادة الحرة لسكان أرضها بأن تقوم هذه الدولة، وعلى اعتبارهم الحر لها بأنها دولتهم، وهي لا تقوم على معطيات تاريخية أو إثنية، ولو اعتمدنا المعايير التاريخية والإثنية اليوم في الحكم على حق الدول بالوجود، لفقدت أكثر دول العالم المعاصر هذا الحق! وهكذا يمكن القول بشكل جازم إن حق دولة أوكرانيا بالوجود، وشرعية وجودها بكامل حدودها، لا يقومان قطعًا على ما كان عليه حالها في روسيا القيصرية، حتى في الاتحاد السوفييتي، بل على إرادة سكانها الحاليين بأن تكون هي دولتهم، وعلى اعترافهم بها كدولة لهم، وهذا ينطبق على كل هؤلاء السكان في الشرق والغرب، وهؤلاء صوت 92.3 ٪ منهم بالموافقة على قانون إعلان استقلال أوكرانيا، الذي أُجري في 1 كانون الأول/ ديسمبر 1991م، ولم تظهر بينهم مطالبات قبل عام 2014 بالانفصال عن أوكرانيا، أو استبدالها بدولة أخرى، ولم تجر بينهم صراعات قومية أو مناطقية، وهذه شرعية كافية تمامًا لدولة أوكرانيا.
لكن مساعي الأكرنة التي يقوم بها الأوكران القوميون اليوم هي فعليًا تتناقض مع هذه الشرعية، فأوكرانيا الراهنة دولة متعددة المكونات الاجتماعية إلى درجة كبيرة، ونسبة كبيرة من سكانها ليسوا أوكرانًا، لا إثنيًا ولا لغويًا، وهم أوكران سياسيًا ومواطنة بإرادتهم الحرة، وأساس ذلك مبدأ تقرير المصير، ومن حقهم تمامًا الاحتفاظ بهوياتهم وخصوصياتهم، ودخولهم في دولة مشتركة مع جماعات أخرى، يعني موافقة الجميع على أن هذه الدولة هي دولة تعددية، وليست إثنية، وهذا يجعل مساع الأكرنة التي يقوم بها القوميون الأوكران باطلة وعدوانية ومناقضة لمبدأ قيام الدولة، المتفق عليها ضمنيًا كدولة تعددية، ومن الوهم تصوّر أن فرض لغة بشكل قسري في دولة تعددية يعزز هويتها ووحدتها الوطنية، فهذا الفرض فعليًا يجعل من ليسوا من أصحاب هذه اللغة المفروضة يشعرون بالانتقاص من حقوقهم اللغوية، ويؤدي بذلك إلى زعزعة أو تقويض هذه الوحدة، وفي الحالة الأوكرانية، حيث تنتشر اللغة الروسية على نطاق واسع كلغة أم أو كلغة أولى، وحيث تصبح معروفة من الجميع، إذا أخذنا وضعها كلغة ثانية، فقد كان من المفروض في أوكرانيا، لو أنها امتلكت حكومات رشيدة، أن يتم فيها اعتماد مبدأ ثنائية اللغة، وهذا فعليًا ما كان ليعزز وحدتها الوطنية كدولة ذات مجتمع تعددي، لكن هذه الفرصة القيمة أهدرها التعصب القومي والمراهقة السياسية المرتبطة به.
7- مأساة أوكرانيا بين أميركا وروسيا والقوميين الأوكران:
تحدثنا أعلاه عن التأثير الحقيقي لانضمام أوكرانيا إلى الناتو، والتهويل في الدعاية الروسية لحجم هذا الخطر، لكن ذاك يجعلنا نسأل: «إذا كانت روسيا تدرك أن انضمام أوكرانيا إلى الناتو لا يؤثر تأثيرًا جديًا في أمنها الوطني، فلمَ عليها إذًا أن تقلق أو تبالي بهذا اﻷمر، ولمَ لا يكون اﻷمر بالنسبة إليها غير مهمّ كما الحال بالنسبة للهند أو اليابان أو البرازيل؟ ولماذا يجب أن يكون انضمام أوكرانيا كدولة مجاورة لروسيا إلى الناتو حساسًا، في وقتٍ يجاورها الناتو من أكثر من جهة، فتركيا ودول البلطيق التي تجاور روسيا هي أعضاء في الناتو»؟!
الجواب عن هذا السؤال هو أن انضمام أوكرانيا إلى الناتو هو فعليًا بالنسبة إلى روسيا ليس”مشكلة أمن وطني”، ولكنه “مشكلة حلم إمبراطوري”، فروسيا تشعر أنها اليوم قوة عالمية كبرى، وأنها يجب أن تحتل في عالم اليوم الموقع الجدير بها كقوة كبرى، الذي تستعيد فيه أمجاد روسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي، أو “روسيا السوفيتية”، كما يراه بوتين، وهذا يقتضي أن يكون لدى روسيا مناطق نفوذ، وأوكرانيا لها على هذا الصعيد أهمية استثنائية، ليس لأنها دولة جوار لروسيا فحسب، بل ﻷنها -وفقًا لرؤية بوتين- جزء من روسيا التاريخية، وهذا ما يجب أن تبقى عليه بنظره، وبوتين اليوم يرى أن الناتو ليس منافس روسيا الرئيس فحسب، بل خصمها أيضًا على مستوى موقع العظمة العالمية، ويرى أن هذا الخصم يسعى للاستحواذ على أوكرانيا التي تخص روسيا، لذلك يسارع هو إلى حسم هذه المنافسة قبل أن يحسمها خصمه لصالحه!
إذًا؛ هل خسر الناتو -وبالتحديد أميركا- هذه الجولة، وكسبها بوتين؟!
ربما يكون الجواب اﻷدقّ على هذا السؤال هو أن علينا أن ننتظر نتيجة الحرب في أوكرانيا، لنحكم وفقًا لها، لكن لو راجعنا حلقات مسلسل انضمام أوكرانيا إلى الناتو، فسنجد أن هذه المسألة استغرقت زمنًا طويلًا، بحيث يمكن القول إن المماطلة والتسويف من أميركا وحلفائها فيها واضحان؛ فقد كان بمقدور الناتو ضمّ أوكرانيا منذ زمن بعيد لم تكن فيه روسيا عندها قوية بما يكفي للقيام بأي ردة فعل خطيرة كما تفعل اليوم، فلمَ لم يحدث ذلك؟! هل السبب هو عدم جاهزية أوكرانيا؟! وهل كانت بولونيا وبلغاريا ورومانيا أكثر جاهزية من أوكرانيا، عندما ضمّت إلى الناتو؟! وهل من المنطقي والواقعي أن تحتاج جاهزية أوكرانيا إلى كل هذه السنوات؟! هذا يجعلنا نشك في مدى جدية أميركا في ضمّ أوكرانيا إلى الناتو، ويجعلنا نتساءل: هل لديها هدف آخر من تحريك هذه المسألة؟! وما الهدف الذي يفترض فيه منطقيًا أن يكون مجديًا أكثر من ضمّ أوكرانيا إلى الناتو؟!
واقعيًا، أميركا ترى منذ سنوات بوضوح محاولات روسيا للعودة إلى المسرح العالمي كقوة عالمية كبرى، ولو أنها -أي أميركا- ضمت أوكرانيا إلى الناتو في وقت سابق كانت روسيا تعجز فيه عن عرقلة هذا اﻷمر أو الرد عليه ردًا كبيرًا؛ لما كان ذلك أمرًا كبير الجدوى بالنسبة إلى أميركا، فهو لن يحقق أي إضافة فيصلية إلى قوة الناتو، ولن يكون أكثر من انضمام دولة عادية محدودة الإمكانات إلى هذا الحلف، ولو حدث هذا فعليًا حينها، فروسيا فلم تكن لتتأثر من جرائه، وكانت ستتابع مساعيها للعودة إلى مستوى القوة العالمية!
والمطلوب أميركيًا هو إحباط هذه المساعي الروسية، وإفقاد روسيا القدرة على ذلك، ويكون ذلك عبر استنزاف قوتها بجرّها إلى حرب استنزاف مدمرة في أوكرانيا! ولذلك، أبقت أميركا موضوع انضمام أوكرانيا إلى الناتو معلقًا ومفتوحًا، وكانت تدرك تمامًا مدى حساسيته واستفزازيته بالنسبة إلى روسيا، وأنها إذا ما تابعت إظهار جديتها في العمل على ضم أوكرانيا، فستأتي اللحظة التي ترى فيها روسيا أنها قادرة على حسم هذه المسألة بالقوة، قبل أن تصبح أمرًا واقعًا تصبح فيه أوكرانيا دولة ناتو لا تستطيع روسيا عندها مهاجمتها!
ولإظهار الجدية في مسألة العمل على ضمّ أوكرانيا إلى الناتو، كانت أميركا تقوم بين حين وآخر ببعض الإجراءات التي توحي بقرب انضمام أوكرانيا إلى الناتو، من ذلك -مثلًا- كان توقيع اتفاقية شراكة ودفاع استراتيجي بين أوكرانيا والولايات المتحدة، في بداية أيلول/ سبتمبر 2021، لكنها لا ترتبط مباشرة بضم أوكرانيا إلى الناتو، إنما تأتي في السياق الذي يتم فيه إدخال أوكرانيا أكثر فأكثر في دائرة النشاط العسكري الأميركي([53])، وتصعيد استفزاز روسيا، بغية دفعها إلى اجتياح أوكرانيا لتوريطها في مستنقع حربي يستنزف قواها!
فهل عجز بوتين والكرملين عن فهم المخطط الأميركي؟!
هنا ثمّة احتمالان، أولهما أن يكونا فعلًا قد عجزا عن ذلك! وثانيهما، وهو اﻷرجح، أنهما كانا يدركان المخطط الأميركي جيدًا، ويدركان أن أميركا في نهاية المطاف ستضم أوكرانيا إلى الناتو. عندما ترى أن التلويح بضمها لا يدفع الروس إلى اجتياحها، ولذلك تم اتخاذ القرار بغزو أوكرانيا، لحسم هذه المسألة بشكل نهائي! لكن، ألا يعني هذا أن الروس فعلوا بالضبط ما كانت تريده أميركا منهم، وهم يدركون أن هذا ما تريده أميركا تمامًا؟
هنا، يمكن القول إن الروس دخلوا في لعبة مبارزة الحسابات، وأنهم بغزوهم ﻷوكرانيا حسبوا اﻷمر بطريقة يعتقدون فيها أنهم بذلك يفرضون القواعد الروسية على لعبة المواجهة مع أميركا في قضية أوكرانيا، التي جرت لمدة طويلة قبل ذلك وفق القواعد والحسابات اﻷمريكية!
فمن الذي نجح في المحصلة في خطته، أميركا أم روسيا؟
الوضع على أرض الواقع يقول إن روسيا تخوض حربًا شرسة على جبهتين، عسكرية واقتصادية؛ فعلى الجبهة العسكرية يتم دعم أوكرانيا عسكريًا من أميركا والغرب بقوة، والغاية من ذلك ليس مساعدة أوكرانيا على الحفاظ على استقلالها وسيادتها، بل إلحاق أكبر أذى ممكن بروسيا، وبأوكرانيا نفسها! أما على الجبهة الاقتصادية، فيتم فيها فرض عقوبات ومقاطعة اقتصادية دولية خانقة على روسيا؛ وفي المحصلة، ما يجري على أرض الواقع هو أن الحرب تطول، وأوكرانيا تُدَمّر، وروسيا تُستنزَف، حتى إن حسمتها روسيا ميدانيًا، وسيطرت على أوكرانيا في المحصلة؛ فستكون قد حصلت على أوكرانيا مدمّرة، وستكون هي نفسها مستنزفة، وستكون العلاقة التاريخية بين الروس واﻷوكران قد شرخت شرخًا جسيمًا، وتحولوا إلى أعداء!
فمن الرابح الحقيقي في هذه المعركة، وهل تعتبر مثل هذه النتيجة تحقيقًا للحلم الإمبراطوري الروسي، أم تحطيمًا له؟
8-خلاصة:
دفعت أحلام “روسيا العظيمة” واستعادة “أمجاد” روسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي، بوتين والكرملين المصابين بجنون العظمة وغطرسة القوة، إلى القيام بغزو متهور ﻷوكرانيا، ظانين أنهما يستطيعان إنجازه في أيام، فتورطا في حربٍ لا يبدو قطعًا أنها ستكون خاطفة، كما كانا يتوهمان، وهما الآن يخوضانها بتعثر على الأرض، وتحت ضغط عقوبات اقتصادية عالمية خانقة!
وبهذا الشكل، يبدو واضحًا أن الاستمرار في الحرب يعني الغرق في مستنقع تدمّر فيه روسيا شقيقتها التاريخية أوكرانيا، وفي الوقت نفسه، تدفع هي نفسها أبهظ التكاليف التي تستنزفها وتفقدها قواها، وبالطبع هذه الحرب لا تخدم إلا من له مصلحة في إضعاف روسيا، وهو أميركا التي لا تريد أن تظهر أيّ قوة تنافسها في الهيمنة على العالم.
استمرار الحرب بكل تأكيد سيُضعف روسيا أكثر فأكثر، وهذا ما يعرفه الروس واﻷميركان معًا، والروس هم اليوم بأمس الحاجة إلى مخرج يخرجهم من ورطتهم، ولا يظهرون فيه بمظهر المهزومين، وأميركا نفسها تعلم أنه ليس من مصلحتها إطالة حرب استنزاف وإنهاك روسيا بلا حدّ، ﻷن هذا يمكن أن يدفع الروس إلى ردات فعل وخيمة العواقب على الجميع، وهنا فمن المفترض نظريًا ألا تطول كثيرًا مسألة التوصل إلى اتفاق وسطي لا يبدو فيه ظاهريًا أن أحدًا قد هُزم!
لكن في المحصّلة، هناك بكل تأكيد من خسر، بل خسر كثيرًا، وهذا بالدرجة الأولى أوكرانيا التي ورّطها المتعصبون اﻷوكران في صراع إمبرياليات تتنافس على إعادة تقاسم مناطق النفوذ في العالم، وتسببوا بذلك في مقتل الآلاف من أبنائها، وتهجير الملايين منهم، وتدمير ما تبلغ قيمته مليارات، والخاسر الثاني هو روسيا نفسها، التي جرّها المصابون بجنون العظمة وعنجهية القوة إلى خسارة الآلاف من أبنائها في المعارك، إضافة إلى الخسائر الفادحة في اقتصادها، والشرخ الجسيم في العلاقة مع شعب تربطها به علاقات تاريخية عميقة. وهذه هي النتائج الكارثية لصراع الإمبرياليات والمغامرات القومجية وما شابه من جنون القوة وعماء التعصب، التي كانت دومًا وما تزال توقع الشعوب في أفظع المآسي.
[1] -نص خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (وثيقة)، وكالة الأناضول، 23/ 02/ 2022، https:/ / rb.gy/ 74uuf9
[2] -المرجع السابق.
[3] -المرجع السابق.
[4] -المرجع السابق.
[5] -المرجع السابق.
[6]– Names of Rus’, Russia and Ruthenia – Wikipedia، https:/ / en.wikipedia.org/ wiki/ Names_of_Rus%27,_Russia_and_Ruthenia
Ruthenia – Wikipedia، https:/ / en.wikipedia.org/ wiki/ Ruthenia- [7]
[8] – بيلاروس – ويكيبيديا، https:/ / rb.gy/ 2p2o9g
[9] -الأوكرانيون بلادنا خليفة كييف روس والروس ليسوا إخوة لنا أوكرانيا برس، 28\07\2021، https:/ / ukrpress.net/ node/ 16631
[10] – مقترح بتغيير اسم أوكرانيا أوكرانيا برس،01\09\2021، https:/ / ukrpress.net/ node/ 16842
Украина (топоним) — Википедия، https:/ / rb.gy/ ifqehp- [11]
-[12] Kievan Rus’ – Wikipedia, https:/ / en.wikipedia.org/ wiki/ Kievan_Rus’
[13]– Киевская Русь — Википедия, https:/ / ru.wikipedia.org/ wiki/ Киевская_Русь
[14] -روريك – ويكيبيديا، https:/ / rb.gy/ zbixt6
[15] -أوليغ النبوي – ويكيبيديا، https:/ / rb.gy/ evmv42
[16]– Vladimir-Suzdal – Wikipedia، https:/ / en.wikipedia.org/ wiki/ Vladimir-Suzdal
[17] – Yuri Dolgorukiy – Wikipedia، https:/ / en.wikipedia.org/ wiki/ Yuri_Dolgorukiy
[18] Юрий Владимирович Долгорукий — Википедия, https:/ / ru.wikipedia.org/ wiki/ Юрий_Владимирович_Долгорукий
[19] -Grand Duchy of Moscow – Wikipedia، https:/ / en.wikipedia.org/ wiki/ Grand_Duchy_of_Moscow
[20] – المرجع السابق.
Ivan the Terrible – Wikipedia، https:/ / en.wikipedia.org/ wiki/ Ivan_the_Terrible -[21]
Names of Rus’, Russia and Ruthenia – Wikipedia، https:/ / en.wikipedia.org/ wiki/ Names_of_Rus%27,_Russia_and_Ruthenia- [22]
Grand Duchy of Moscow – Wikipedia، https:/ / en.wikipedia.org/ wiki/ Grand_Duchy_of_Moscow -[23]
Российская империя — Википедия، https:/ / ru.wikipedia.org/ wiki/ Российская_империя -[24]
Ukraine – Wikipedia، https:/ / en.wikipedia.org/ wiki/ Ukraine -[25]
Украина — Википедия، https:/ / rb.gy/ wzhjw3-[26]-
[27] -أوكرانيا – ويكيبيديا، https:/ / rb.gy/ z2ehq9
[28] – Карпатская Украина , Википедия, https:/ / rb.gy/ phrlkw
[29] – 1991 استفتاء الاستقلال الأوكراني، Stringfixer،https:/ / rb.gy/ eebkff
[30]– يوم الاستقلال (أوكرانيا) – ويكيبيديا، https:/ / rb.gy/ lso7mx
[31] – https:/ / rb.gy/ djo6pc Содружество Независимых Государств , Википедия,
[32] – دﺳﺘﻮﺭ أوﻛﺮاﻧﻴﺎ اﻟﺼﺎدﺭ ﻋﺎﻡ 1996 ﺷﺎﻣﻼ ﺗﻌﺪﻳﻼﺗﻪ ﻟﻐﺎﻳﺔ ﻋﺎم 2014، Constitute Project، https:/ / rb.gy/ vfjywn
[33] -روسيا وأوكرانيا.. نزاع تاريخي ومحطات حرب غير معلنة DW 25.12.2021، https:/ / p.dw.com/ p/ 44lCY
[34] -ثورة البرتقال – ويكيبيديا، https:/ / ar.wikipedia.org/ wiki/ ثورة_البرتقال
[35] – العلاقات بين أوكرانيا وحلف الناتو – ويكيبيديا، https:/ / rb.gy/ hcavlm
[36] -ما مدى قرب أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو؟ Euronews، 21\02\2022،https:/ / rb.gy/ gkc3w1
[37] – العلاقات بين أوكرانيا وحلف الناتو – ويكيبيديا، https:/ / rb.gy/ hcavlm
[38] -ما مدى قرب أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو؟ Euronews، 21\02\2022،https:/ / rb.gy/ gkc3w1
[39] -ما مدى قرب أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو؟ Euronews، 21\02\2022،https:/ / rb.gy/ gkc3w1
[40] – لماذا تخشى روسيا من توسع الناتو شرقا؟ DW 25.02.2022، https:/ / p.dw.com/ p/ 47YOx
[41] – الأمين العام للناتو يرفض طلب روسيا إلغاء قرار يتيح لأوكرانيا الانضمام للحلف، فرانس 24، 10 / 12/ 2021، https:/ / rb.gy/ ibgtaa،
[42] – العلاقات بين أوكرانيا وحلف الناتو – ويكيبيديا، https:/ / rb.gy/ hcavlm
[43] -ما مدى قرب أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو؟ Euronews، 21\02\2022،https:/ / rb.gy/ gkc3w1
[44] -مصير الأقلية الروسية في أوكرانيا بعد الحرب عربي بوست، 10\03\2022، https:/ / rb.gy/ hrcyxi
[45] -ماذا قصد بوتين بقوله تطهير أوكرانيا من النازيين الجدد؟ – 26\02\2022, سبوتنيك عربي، https:/ / rb.gy/ f0mznh
[46] – المرجع السابق.
[47] – أوكرانيا تمنع استخدام اللغة الروسية في مجال الخدمات – RT Arabic، https:/ / rb.gy/ m8dthh
[48] – حظر التعامل باللغة الروسية فى أوكرانيا.. حلقة جديدة فى الصراع مع موسكو – بوابة الأهرام، 16\01\ 2021، https:/ / rb.gy/ 5l3vaw
[49] -روسيا تقول إن أوكرانيا تصنع “قنبلة قذرة” نووية القدس العربي،0 06\03\2022، https:/ / rb.gy/ bmotpq
[50] -الدفاع الروسية نظام كييف طور أسلحة بيولوجية قرب حدود روسيا بتمويل أمريكي – RT Arabic، 06\03\2022، https:/ / ar.rt.com/ sjiz
[51] -الأمم المتحدة تؤكد عدم وجود أدلة لديها بشأن امتلاك أوكرانيا برنامجا للأسلحة البيولوجية، فرانس 24، 06\03\2022، https:/ / rb.gy/ hvtevt
[52]– لفيف – ويكيبيديا، https:/ / rb.gy/ q9grte
[53] – اتفاقية شراكة ودفاع استراتيجي بين أوكرانيا والولايات المتحدة، أوكرانيا برس، 01\09\2021، https:/ / ukrpress.net/ node/ 16839