يرى الفيلسوف الإسكتلندي ديفيد هيوم (1711- 1776) أنّ أساس وجود السلطة هو الولاء المؤسس على اعتقادين: أولهما أنّ الحكومة تخدم الخير العام، وثانيهما أنّ للحكومة حقًا في أن تحكم. ويشرح المفكر العربي عزمي بشارة ذلك من خلال قوله: “وأهمّ ما في خدمة الخير العام هو حماية المُلكية وحفظ الوعود أو التعاقدات، وهذه لا يمكن أن تولد من عقول ونفسيات الأفراد وحدها، وإنما هنالك حاجة لمأسستها أو لوجود مؤسسات ترشد السلوك الإنساني وتجعل فيه نوعًا من العادة والرتابة والتكرار، بحيث يصبح بالإمكان حساب وتوقع سلوك الآخرين. ومن دون ذلك يفقد الإنسان حريته الاجتماعية، أي قدرته على اتخاذ قرار مع حساب النتائج. ولذلك يولي هيوم أهمية قصوى لوجود المؤسسات غير المشخصنة في أي مجتمع يعتبر نفسه مدنيًا. أما بالنسبة إلى حق الحكومة في الحكم، فهو -برأي هيوم- لا يعتمد على شكل حكم واحد. فقد يكون جمهوريًا كما في المدن الإيطالية، وقد يكون مختلطًا كما في الجزر البريطانية، وقد يكون ملكيًا كما في ملكية فرنسا المطلقة، ولكن اعتماده هو على تطوير نظام حكم القانون وعلى خدمة الصالح العام. قد يكون النظام الملكي -كما أسلفنا- نظامًا مدنيًا، إذا أثبت قدرة على تطوير مؤسسات تحترم القانون، وعلى احترام ملكية الأفراد وتعاقداتهم، وإذا أضيف إلى ذلك نوعٌ من التعددية ومن موازنة السلطة. وما دام النظام المدني قائمًا وقادرًا على تطبيق حكم القانون، فمن الممكن أيضًا إفرادُ حيّز للمجتمع لتطوير حياة اقتصادية تجارية يقظة، كما جرى في القرن الثامن عشر في فرنسا وإنكلترا. إنّ أهمّ مميزات المدنية والتمدن -بالنسبة إلى هيوم- هي الحرية الإنسانية في ظل نظام حكم القانون”[1].
ونحن إذا ما نظرنا إلى دولنا العربية، من خلال هذا المقياس فقط، وجدنا أنّ الغالبية العظمى منها لم تستطع أن تحقق هذا المبدأ المتمثل في تطبيق حكم القانون. فلو ألقينا نظرة متفحصة على دولة عريقة في التاريخ، ضاربة في القدم، متجذّرة في المركزية مثل مصر، لوجدنا أنّها تعاني منذ عقود عديدة، بدأت مع انقلاب الضباط الأحرار أو ما سمّي ثورة تموز/ يوليو، من ازدواجية هيكلية في مؤسساتها. فمع سيطرة العسكر على مقاليد الحكم، بات من الضروري تعزيز الشرعية الانقلابية تحت عناوين مختلفة. كانت الخارجية منها ضمن إطارٍ قومي عروبي، لتثبيت الشرعية الإقليمية والدولية وتعزيز مكانة مصر في محيطها. أما الداخلية فأخذت على عاتقها قضايا التنمية والتعليم والصحة وتطوير الصناعة والزراعة وقطاع الخدمات. ولأنّ الحكم العسكري بطبيعته لا يؤمن بالتعدد والتشاركية واختلاف الآراء، فقد انغمس قادة الجيش (الذين هم منذ ذلك التاريخ قادة الدولة) شيئًا فشيئًا، في القضايا الاقتصادية وفي البيروقراطية الإدارية الملازمة بطبيعتها للحكم. كان من نتيجة عجزهم عن إدارة مؤسسات الدولة المدنية، أن توجهوا لخلق مؤسسات عسكرية رديفة لها، تُدار وفق اعتبارات الأوامر العسكرية المباشرة واجبة التنفيذ دون اعتراض، لا وفق قوانين السوق. وشيئًا فشيئًا، بات لدينا مؤسسات بيروقراطية تابعة للجيش وموازية لمؤسسات الدولة المصرية.
هناك في مصر، تبدو الدولة تابعة للجيش لا العكس، ويبدو المجتمع موجودًا لخدمة الجيش وحمايته لا العكس أيضًا. يفتقد المواطنون حريتهم الاجتماعية المتمثلة بقدرتهم على اتخاذ القرارات مع حساب النتائج. هنا لا يمكن توقع سلوك الجيش ولا سلوك الدولة، فالتداخل بين القطاعات المختلفة المسيطر عليها من قبل الجيش، مع القطاعات الحكومية من وزارات وإدارات، يجعل من الصعوبة بمكان على التجار والصناعيين المنافسة دون الدخول في دائرة الفساد. ولدخول هذه الدائرة، لا بدّ من مشاركة القيادات العسكرية المسيطرة، لكن يبقى من اللازم أيضًا الحصول على الموافقات الحكومية الرسمية التي تمثل في الظاهر الانصياع للقوانين النافذة في الدولة. تخلق هذه الازدواجية أعباءً كبيرة على مؤسسات الدولة، كما على التجار والصناعيين، بينما لا تتأثر بها المؤسسات الموازية التي يديرها الجيش، لأنها خارج إطار المحاسبة والرقابة الحكومية. لا مجال هنا للحديث عن ضرائب أو جمارك أو رسوم، تؤديها هذه المؤسسات والشركات التابعة للجيش إلى الدولة لتدخل في الموازنة العامة السنوية.
يمتلك الجيش المصري هيكلية بيروقراطية داخلية توازي، وأحيانًا تتفوّق، على هيكلية الدولة ذاتها. يتجلى ذلك من خلال المشاريع الاقتصادية المختلفة التي أخذ الجيش يسيطر عليها شيئًا فشيئًا مع مرور الوقت، من صناعة وزراعة وتجارة خارجية وداخلية وفي مشاريع السياحة، وحتى في مجالات السوق السوداء والتهريب وتجارة الممنوعات، مثل الحشيش والمخدرات -بشكل غير رسمي طبعًا بالنسبة لهذه الأخيرة- وغيرها من المجالات المختلفة.
لا وجود للخير العام في مصر، هناك فقط الخير المخصص للجيش وضباطه. لأنه مع قدوم العسكر بدأت تضيق مساحات المجتمع المدني، وبات المواطنون محصورين بين مطرقة تأمين الحاجات الأساسية للعيش، وبين سندان الخوف من المشاركة في السياسة. في بلدان العسكر لا حياة للسياسة، ولا لأي شيء يقترب من الشأن العام، فإما أنت تعيش بما سُمح لك من فسحة، وإما أن تتعفن في السجون والمعتقلات الحربية. ويبقى الشعب على هامش السيرة، لا مؤسسات تحميه ولا قوانين يتّكئ عليها. المؤسسات ملك لأصحابها، أصحاب الدولة. الشعب هنا في مصر مجرّدٌ من وسائل التعبير عن ذاته، كمجتمع مدني منفصلٍ عن الدولة ومتصل بها في الوقت نفسه. يشعر المواطنون هنا بالاغتراب داخل وطنهم، كحالهم خارجه، فهنا تُختصر مقومات وجود الدولة بأسباب بقاء الجيش، الذي لا تقتصر وظيفته على كونه حارسًا لحدودها وحاميًا لمواطنيها، بل كأنّه علّة كلّ ذلك معًا، فالدولة والمجتمع يدوران وجودًا وعدمًا مع وجود الجيش. هنا يسيطر الجيش على مقاليد الحكم، وعلى الحياة العامّة بالمجمل.
ينعكس هذا في الفضاء العام، من خلال تقديس هذه المؤسسة العسكرية وفرضها على الناس وفرض قبولها كمعيار للوطنية. هنا يصبح الحديث عن التطوّر والحداثة مقرونًا بالحديث عن الاستقلال وقوّة البلاد، وهذا لا تعبير آخر عنه سوى الحفاظ على الجيش وسيادته في أذهان الناس. ونتيجة لهذا الأمر، تتم -بشكل غير واعٍ أحيانًا وواعٍ في أحايين كثيرة- عملية إعادة بنى العصور الوسطى، حيث كان الناس مصنفين بشكل رسمي فئات متفاوتة بالمكانة الاجتماعية، يحظى بعضهم بالامتيازات وبالقدرة على المشاركة في صنع القرار، والبعض الآخر مجرّد من كل قيمة أو وجود. يقوم العسكر بإعاقة قوانين السوق، “فتطوّر الصناعة والتجارة كان -بحسب رأي آدم سميث- شرطًا ضروريًا للحرية، لكنه لم يكن كافيًا ولا قادرًا وحده على تحقيق العدالة، حيث اعتبر أنّ التدخل للحدّ من الظلم وانعدام العدالة وانتشار الامتيازات بغير حقّ هو أحد أهم وظائف المشرّع، لأن جميعها عثرات في طريق تحقيق الحرية”[2]. ولهذا يصبح وجود الجيش في صورته هذه عقبةً أمام تطور المجتمع وتحديث الدولة.
في مصر، يأكل الجيش الدولة شيئًا فشيئًا، وسيأتي يوم لن يكون فيه من وجود للمجتمع ذاته، خارج هذه الدائرة. وفي كثير من بلدان العالم العربي، تقوم الأسر الحاكمة وأجهزة الأمن بما يقوم به الجيش في مصر، فأي بلاء هذا الذي نحياه؟! وأي مستقبل أمام هذا التوحّش؟!
[1] عزمي بشارة – المجتمع المدني، دراسة نقدية- الطبعة السادسة – بيروت 2012- صفحة 116
[2] المرجع السابق – صفحة 118