يمكن القول إن النصوص المنظمة لعمل مؤسسة الجيش والقوات المسلحة في الدستور السوري هي نصوص مقتضبة، حيث اكتفت بذكر عناوين عامة من دون بيان أي تفصيل آخر، تاركة الأمر لرئيس الجمهورية -بصفته القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة- لإصدار القرارات اللازمة، وهذا الأمر عمليًا يترك الجيش خارج أي سلطة مراقبة دستورية، وهو بالتحديد ما أرادته سلطة البعث.
وفي دستور بشار عام 2012، ذُكر الجيش ثلاث مرات فقط، في المواد:
- المادة 11 من دستور عام 2012، حيث نصت هذه المادة على أن “الجيش والقوات المسلحة مؤسسة وطنية مسؤولة عن الدفاع عن سلامة أرض الوطن وسيادته الإقليمية، وهي في خدمة مصالح الشعب، وحماية أهدافه وأمنه الوطني”. هذه المادة من المواد العامة التي تخلو عمليًا من أي إشارة قانونية ملزمة، وهي أشبه بالمواد التنظيمية أو التوجيهية.
- المادة 102 تحدثت عن حالة الحرب والتعبئة العامة وعقد الصلح، حيث جاء فيها: “يُعلن رئيس الجمهورية الحرب والتعبئة العامة، ويعقد الصلح، بعد موافقة مجلس الشعب”. وظاهر هذه المادة أن إعلان الحرب والتعبئة العامة وعقد الصلح ترتبط بالموافقة المسبقة لمجلس الشعب، لكن الواقع يقول إن هذه المادة معطلة ولا يتم تنفيذها، ذلك أن حالة الحرب نفسها هي حالة قانونية معقدة، وهي لا تشمل جميع الإجراءات العسكرية التي يمكن لرئيس الجمهورية اتخاذها من دون الوصول إلى حالة إعلان الحرب، وهي إجراءات تتضمن الاشتباك والهجوم والدفاع.
- المادة 105 من دستور بشار عام 2012 ذكرت أن “رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، ويصدر جميع القرارات والأوامر اللازمة لممارسة هذه السلطة، وله التفويض ببعضها”.
هذه المواد فقط هي المواد المنظمة للجيش والقوات المسلحة في دستور عام 2012، وخطورة هذا الوضع أن الجيش -وفقًا لهذه المواد- يخرج عن سلطة مجلس الوزراء من كل النواحي، فضلًا على عدم وجود جهة رقابية دستورية تراقب عمله وتتخذ قرارات متعلقة بأدائه، إذ تُرك الأمر بكامله لرئيس الجمهورية.
باقي القوانين المهمة التي نظم الجيش والقوات المسلحة هي:
القانون رقم 35 لعام 2005 المتضمن قانون الخدمة العسكرية.
القانون رقم 30 لعام 2007 وتعديلاته المتضمن قانون خدمة العلم.
القانون رقم 64 لعام 2004 المتضمن قانون التعبئة العامة.
وإضافة إلى هذه القوانين، هناك عشرات المراسيم التشريعية النافذة في سورية، تمسّ الجيش بشكل أو آخر.
لكن أهمّ هذه المراسيم حقيقة هو المرسوم الذي صدر في عام 2005، وقد تضمن تشكيل مجلس الدفاع الوطني، ووورد ضمن هذا المرسوم أن مجلس الدفاع الوطني يرأسه رئيس الجمهورية، بصفته القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، ويضم في عضويته وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان ورئيس غرفة العمليات وقادة الفيالق ورئيس شعبة المخابرات العسكرية، إضافة إلى قادة الأسلحة المتخصصة في الجيش، وعمليًا هذا المجلس -من الناحية النظرية- هو الذي يأخذ القرارات في الجيش من الناحية التنظيمية، ومع الأسف هذا المرسوم غير منشور، وهذي قضية سأتحدث عنها لاحقًا، باعتبارها من أغرب القضايا القانونية في العالم.
باختصار: يمكن القول إن لرئيس الجمهورية سلطات مطلقة، خارج أي رقابة قانونية، على الجيش والقوات المسلحة، ويستطيع رئيس الجمهورية إصدار ما يشاء من مراسيم وقرارات تتعلق بالجيش، من دون الرجوع إلى أحد، بل إنه يستطيع إصدار مراسيم من دون نشرها في الجريدة الرسمية، بذريعة تعلقها بالأمن القومي، وهذا ما سمح لسلطة البعث في سورية بإصدار مجموعة مراسيم تتعلق بعمل الأجهزة الأمنية، من دون أن تنشرها في الجريدة الرسمية، أي من دون أن يطلع عليها الشعب، ومن المعروف أن الشرط الأساس لنفاذ أي قانون هو أن ينشر في الجريدة الرسمية، وأن يطلع عليه الشعب ليتقيدوا بأحكامه، وحدث ذلك بعد صدور قانون في عام 2004 ألغى بموجب أحكامه القانون المنظم لنشر القوانين، وسمح بإصدار مراسيم وقوانين من دون نشرها في الجريدة الرسمية، حيث جاء في المادة 3، من قانون نظام النشر في الجريدة الرسمية الصادر في 22 آذار/ مارس 2004: “يجوز، بناءً على ضرورة الدفاع الوطني ومقتضيات سلامة الدولة، عدم نشر بعض القوانين والمراسيم والقرارات وملاحقها في الجريدة الرسمية، أو نشرها بصورة مقتضبة، على أن يشار إلى ذلك في كلتا الحالتين في القانون أو المرسوم أو القرار، وعلى الوزارة المختصة في الحالة الثانية أن تحدد النص الموجز الواجب نشره، وإرفاقه بالقانون أو المرسوم أو القرار”.
برأيي، هذا القانون الصادر في عام 2004، الذي كان موجودًا من قبلُ على شكل مرسوم تشريعي صادر في عام 1951، هو ما يسمح لرئيس الجمهورية بإصدار مراسيم لا نعلم بها، لمجرد أن يقول إنها تتعلق بالدفاع الوطني أو بسلامة الدولة.
بعد التعتيم بالدستور على القوانين الناظمة لعمل مؤسسة الجيش والقوات المسلحة وعمل الأجهزة الأمنية بشكل مقصود؛ استعيض عن ذلك بالنظام الداخلي للجيش الذي يفترض أن يكون انعكاسًا لمواد الدستور، لكنه أصبح مستقلًا، وبات الناظم والمسير لعمل الجيش مع المراسيم والأوامر التي يصدرها القائد العام المتمثل برئيس الجمهورية، وكذلك عمل مؤسسة الأمن الداخلي التي تعمل بالنظام الداخلي لقوى الأمن.
معظم القوانين والأنظمة التي تسير عمل الجيش ما زالت منذ زمن الوحدة عام 1958، وبقاؤها أو عدمه غير مهم، لأن الارتجال والآراء الشخصية والمصلحية والضرورات هي من كانت تحكم عمل تلك المؤسسة.
لو أخذنا موضوع الأمن فالمفترض وجود أربع إدارات هي:
- الأمن الجوي التي تختص بعمل الطيارين والفنيين الجويين والمطارات، لكن عناصره كانوا يتدخلون بكل شاردة وواردة بمفاصل حياة الناس والمنظمات والمدنيين، حتى الاتحاد النسائي وباعة البسطات بالشوارع.
- شعبة المخابرات العسكرية التي تختص بالجيش بشكل عام، وترعى أمور الجيش من الناحية الأمنية، وتتبع له كل أفرع الأمن من أنواع القوات المسلحة، لكنّ قوة اللواء محمد الخولي جعلتها مستقلةً تمامًا، وعلاقتها مباشرة مع القائد العام، وبتجاوز كامل للواء علي دوبا، رئيس شعبة المخابرات العسكرية.
- في أمن الدولة أيضًا، قوة اللواء محمد ناصيف جعلته ينفرد ويكون مستقلًا.
- وكذلك الأمن السياسي.
بشكل عام، يمكن القول إن غياب قوننة عمل مؤسسات الجيش والأمن، وغياب مواد الدستور الناظمة لعملها، كان مطلبًا للسطوة الشخصية، ومطلبًا للقيادة التي أرادت زرع عدم الثقة، كي يتسابق الجميع لإرضاء السلطة، كنوع من التنافس، وأمام هذا الانفلات بعمل تلك المؤسسات، أصبحت الدولة السورية والشعب السوري يخضعان لتنازع سلطات، وأحيانًا لتقاسم نفوذ، بمعنى أن سورية أصبحت مزرعة تتقاسمها الأفرع الأمنية، لكن هناك أحيانًا بعض الخصوصية وبمساحات محددة وصغيرة للأمن والجيش ولبعض السلطات. وضع البلاد تحت قانون الطوارئ، وظهور مصطلح “مكافحة الإرهاب”، كان الغطاء الذي عمل عليه الجيش والأمن باستباحة الحريات وتجاوز كل القوانين والوصول إلى السطوة الأمنية. ومن الأمثلة على ظاهرة الانفلات في الجيش، “سرايا الدفاع” التي كانت خارجة عن سيطرة وزارة الدفاع ورئاسة الأركان وشعبة المخابرات العسكرية، حتى على القضاء العسكري. وهناك مثال آخر، وهو ما كان يُعرف بـ “كف محاكمة”، حيث يقوم وزير الدفاع مصطفى طلاس، لأسباب شخصية أو بعد تلقي رشوة، بوقف أي محاكمة لأي عسكري أو ضابط، أيًا كانت التهمة، عبر إصدار أمرٍ بكف المحاكمة، في خرق لكل القوانين والدستور.
__________
(*) بحث مقدم إلى ندوة “تجارب سورية الدستورية” التي عقدها مركز حرمون للدراسات المعاصرة في مدينة إسطنبول في 21 كانون الأول/ ديسمبر 2019.