اكتسب الجولان السوري المحتل أهميته السياسية والوطنية والإعلامية والاستراتيجية، من موقعه الجغرافي وثرواته وموارده الطبيعية، التي جعلته يحظى بكل هذا الاهتمام المحلي والدولي العالمي، على المستويات السياسية والدبلوماسية والإعلامية، وقد تجلّت صورة ذلك الاهتمام، قبل أكثر من عام، باعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بالسيادة الإسرائيلية عليه.

بين السابع عشر من نيسان/ أبريل عام 1947، يوم جلاء المستعمر الفرنسي عن سورية، والعاشر من حزيران/ يونيو عام 1967، عاش الجولان 19 عامًا تحت الحكم الوطني السوري الذي تحقق بفضل تضحيات آلاف الشهداء، الذين سقطوا على مذبح الحرية، في الثورات العديدة التي خاضها الشعب السوري، للاستقلال من الحكم العثماني، والمستعمر الفرنسي، وكان لأبناء الجولان حصة ودور كبيران، في هذه التضحيات التي تكللت بتوحيد النضال والكفاح السوري، تحت راية الثورة السورية الكبرى عام 1925، التي شملت كل أطياف المجتمع السوري، بعد أن اختير سلطان باشا الأطرش قائدًا عامًا للثورة، واتُّخذت السويداء نقطة الانطلاق لتوحيد سورية وطرد الاستعمار.

ومن أرض الجولان، خاض الثوار ثورات عدة، منذ تشرين الأول/ أكتوبر 1919، حين هاجم الثوار القوات الفرنسية في قرية الخصاص، بقيادة الأمير محمود الفاعور، وتم قصف قرى وبلدات الجولان بالمدفعية، وحاول القائد أحمد مريود اغتيال الجنرال الفرنسي غورو، قرب بلدة خان أرنبة، وارتكبت القوات الفرنسية -على إثر فشل المحاولة- جرائم بشعة بحق السكان، في جباتا الخشب وطرنجة ولوفانيا وجباتا الزيت والمنشية وتل الشيحة وتل الأحمر، حتى إعلان الثورة السورية الكبرى، بقيادة سلطان الأطرش، وتولي القائد أسعد كنج أبو صالح مسؤولية الثورة، في إقليم البلان 1925-1927. واستمرت مشاركة أهالي الجولان الفعالة في كل محطات النضال الوطنية السورية، ومقاومة الاستعمار في أثناء إضراب عام 1936، والتظاهرات التي عمّت الوطن السوري، وليس انتهاء بمشاركتهم الفعالة في حرب فلسطين عام 1948.

وبحكم موقع الجولان الجغرافي والاستراتيجي المطل على فلسطين، واعتباره خط الجبهة مع الدولة العبرية الناشئة بعد خسارة فلسطين؛ خاض أهل الجولان من المدنيين صراعًا طويلًا ضد الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على أراضي أهالي الجولان. وكان هناك دور كبير لأهالي الجولان في كشف العديد من فرق المستعربين (وحدات إسرائيلية خاصة تجيد العربية) والعديد من شبكات التجسس التي عملت على إثارة النزاعات والفتن بين أبناء القرى والعشائر في الجولان، خاصة في المناطق الحدودية مع فلسطين، إضافة إلى حصر الأملاك والأراضي، وتحديد أماكن الينابيع والجداول والأنهار والبرك المائية، وإحصاء أعداد الطلبة والمدارس والمعلمين، وعدد أفراد وحدات الجيش والقوات المسلحة وانتشارها، ومراقبة التحصينات العسكرية السورية، خلال السنوات (1952-1958) حيث تم أسر العديد من الضباط الإسرائيليين، والكشف عن العديد من العملاء وشبكات التجسس التي عملت لمصلحة الوكالة اليهودية التي تولت آنذاك هذا الدور داخل الأراضي السورية.

أصوات سوريي الجولان المحتل تلاقت مع أصوات السوريين في ساحات الوطن

حتى العام 2011، كان السوريون المتبقون في الأرض المحتلة في الجولان (كان عددهم ثلاثة وعشرين ألف نسمة آنذاك)، تؤرقهم أحلام التحرير والعودة إلى حضن الوطن الأم سورية، بعد سنوات طويلة من الاحتلال، حتى أفاقوا على تلك المشاهد والصور البشعة والمؤلمة التي تعامل بها نظام الأسد، مع أطفال درعا وأهالي حوران، وامتدت تلك الصور لتشمل كل المحافظات والمدن السورية، التي خرجت بالورود وأغصان الزيتون تطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية والسياسية، فجاء الرد بالقتل والفتك والتدمير وبراميل الموت والسجن والاعتقال التعذيب، وسياسة الأرض المحروقة لكل الأحياء والمدن المنتفضة، وتهجير الملايين وقتل مئات الألوف ضمن سياسة إبادة شعب آمن طالب بحريته.

لم يشارك معظم أبناء الجولان المحتل في الثورة السورية، بمستوى المشاركة التي شارك فيها السوريون، إنما شاركوا بالتضامن والاعتصام، بالصوت والصورة، ولم يطلهم الرصاص والقتل والتشريد والاغتصاب والاعتقال وهدم البيوت والقصف بالبراميل والطائرات، لكونهم تحت رحمة الاحتلال الإسرائيلي، إلا أنهم نفضوا عن كواهلهم الأحلام الوردية التي عاشوها طوال سنوات الاحتلال، في العودة إلى حضن الوطن، والعيش في كنف نظام قاتل مأجور، سلّم البلد بكل ما حمل إلى شركات دولية، وحكومات أجنبية، وميليشيات طائفية، كما سلّم من قبله والده، جزءًا من البلد مقابل الاستئثار بالسلطة، كجزء من دور وظيفي قدّمه لعدو متغطرس يحاول محو التاريخ وتغيير الجغرافيا، والاستيلاء على خيرات السوريين وأراضيهم تحت الاحتلال. فالجولان المحتل لم يكن أخرس تجاه الثورة السورية، على الرغم من أنه محكوم بمنظومة أمنية استيطانية عنصرية متطرفة، تمارس القمع والظلم والملاحقات الأمنية، وإن اختلفت الحجج والأسباب والوسائل والأدوات.

ومن فضائل الثورة السورية المطالبة بالحرية والعدالة، أنها أعادت الرّوح إلى قسم كبير جدًا من السوريين، وبعثت الأمل بإمكانية القضاء على جمهورية الرعب والخوف الاستبدادية، التي يوازي عمرها عمر الاحتلال الإسرائيلي للجولان، حيث نُسجت علاقة -وإن لم تكن رسمية وعلنية- بين نظام الاستبداد والاحتلال، يحافظ الطرفان -بموجبها- على علاقة عداء لفظية وجعجعة استهلاكية إعلامية، مقابل التسليم بالحقائق على أرض الواقع التي أفرزتها مقدمات ونتائج “الحركة التصحيحية” واتفاق سعسع عام 1974، وتصفية الحركة الوطنية اللبنانية والفلسطينية في لبنان عام 1976.

الاحتلال والاستبداد قضية واحدة

ساهمت الثورة السورية في استعادة العلاقة بين السوريين كأبناء وطن واحد، وحلم واحد، ومصير واحد، بكل مكوناتهم الاثنية والعرقية والسياسية، واستعاد الجولان لأول مرة -منذ نصف قرن- العلاقةَ مع أبناء شعبه ووطنه، بعيدًا عن رقابة الأجهزة والفروع الأمنية، والخطب والعلاقات الاستهلاكية، التي تاجرت بقضية الجولان وقضايا أبناء الجولان المهجرين في الشتات السوري، والمتبقين فوق ثرى أرضهم في ظل الاحتلال، الذي ساهم بدوره أيضًا في سلخ الجولان وفصله عن جذوره، من خلال برامج الأسرلة المكثفة، ومصادرة المياه والأرض والشجر والحجر، واستغلال الثروات الطبيعية، ضمن مشروع تحويل الجولان إلى منطقة بيئية خضراء، لتوظيفها بالنهوض بالاقتصاد الإسرائيلي، وإقامة مشروع لتوليد الكهرباء من قوّة الرياح، في شمال الجولان المحتل، باستخدام “توربينات” الرياح، داخل أراض زراعية تعود ملكيتها لمزارعين سوريين.

لقد عملت “إسرائيل” والنظام السوري، على حد سواء، ضمن مصلحة مشتركة واحدة -كلٌّ وفق أجنداته ومصالحه واعتباراته وأساليبه- على تغييب القضية الوطنية السورية في الجولان من وعي الشعب السوري وإدراكه، وإبقاء أبناء الجولان أسرى في ساحات الصمت والخوف والتهميش والتجاهل والتغييب، في ظل حكم الاستبداد والقمع الذي تعرّضوا له (كنازحين ومواطنين درجة ثانية) خاصة بعد مشاركتهم الفعالة في الثورة ضد طغيانه وقمعه؛ فدمّر أحياءهم ومناطقهم، وأجبر من تبقى على قيد الحياة منهم على الرحيل، لتستأثر بها الميليشيات الأجنبية، وتجعلها مناطق طائفية لها، خاصة المناطق القريبة من العاصمة دمشق.

من فضائل الثورة السورية المطالبة بالحرية والعدالة، أنها أعادت الرّوح إلى قسم كبير جدًا من السوريين، وبعثت الأمل بإمكانية القضاء على جمهورية الرعب والخوف الاستبدادية، التي يوازي عمرها عمر الاحتلال الإسرائيلي للجولان.

ومن فضائل الثورة السورية أيضًا، على الرغم من الدمار والقتل والتعذيب وبراميل الموت والتهجير المنهجي الذي طال أكثر من نصف الشعب السوري، وعلى الرغم من غدر الأصوليين المتشددين والقوى الإقليمية بالثورة وسرقتها؛ أن السوريين لم يعودوا أسرى لنظام الرعب، والأجهزة الأمنية، وتخلصوا من الذل الذي خلفته سنوات الاستبداد والاحتلال الطويل، منذ أكثر من نصف قرن من الزمان. حيث أصبح بإمكان سوريي الجولان التواصل مع بعضهم البعض، والتعرّف إلى معالم بلادهم التي حُرموا منها، ومن ذكرها والتعبير عن الشوق إليها، والرغبة في العودة إليها، واستطاع سوريو الجولان في الأرض المحتلة التعرف أيضًا إلى وطنهم، من خلال المنابر والشخصيات والهيئات والأطر التي أفرزتها الثورة السورية، بعيدًا عن استهلاك النظام، وأصبح بالإمكان معرفة حقيقة هذا النظام والحديث عن جرائمه، منذ أكثر من نصف قرن، وتعريته أمام الفئات التي غرر بها حتى أمام الموالين له، حيث اعتاد الناس طوال سنوات، وفق توجيهات الأجهزة الأمنية، على إعلان الولاء للقيادة قبل الانتماء إلى الوطن والدولة.

سيكون الجلاء الكامل

الجرح السوري لن يستمر إلى الأبد، فالسوريون اليوم في المراحل الأخيرة، التي قد تتأخر أيضًا بفعل ظروف الانقسام والتشرذم التي تعيشها الأطر والهيئات والبدائل السياسية العقيمة التي أفرزتها الثورة السورية، التي كان من المفروض أن تدفن هذه الحقبة السوداء من التاريخ، منذ الاستيلاء على الحكم في العام 1970 حتى اليوم. ولكن ستكون هناك جولات ومحطات أخرى جديدة، للنهوض بالوطنية السورية، والتحرر من نفوذ الاحتلالات الأجنبية، وبناء سورية الجديدة، ولا يمكن لها أن تقوم في ظل استمرار أحد أهم مرتكزات المشكلة السورية، وهو النظام الأمني والسياسي الحاكم الذي دمّر الوطن ومزّق النسيج الاجتماعي والوطني للشعب السوري، وصادر كل إمكاناته وقدراته.

إن الإشكاليات الكبرى اليوم أمام الشعب السوري، التي تمنعه من تشكيل البديل السياسي، وضمان الانتقال السياسي للسلطة وفق المعادلات الإقليمية والدولية، هي ارتهان معظم التشكيلات الموجودة إلى أجندات خارجية، تساهم في تأجيج الصراع الدولي بالوكالة في سورية، وعلى الرغم من استحالة التوصّل إلى حل للصراع السوري، من دون التدخلات الأجنبية، مع الأسف؛ فإن هناك مهمات على مؤسسات المجتمع المدني والأطر والمؤسسات الديمقراطية في الخارج (الشتات)، والداخل السوري، لتحديد مفهوم الدولة السورية، وتحديد مفهوم السلطة والنظام، وتبيين الفرق بينهما، وتحديد مفهوم الثورة التي انطلقت وصودرت، ومفهوم الثورة التي نريد، والفرق بينهما، لكي نستطيع الوصول إلى ثقة بين مختلف الأطراف السورية، واستبدال خطاب الكراهية بخطاب الاتفاق على العيش المشترك، في ظل دولة المؤسسات الوطنية والنظام القانوني، الذي يجعل الإنسان أولًا فوق كل اعتبار.

 وعلى ذلك، لا يمكن الرهان على أن هناك حلولًا للصراع السوري، دون وحدة كل الأراضي السوري، ومنح الحقوق لكل مواطني الدولة السورية، على اختلاف أعراقهم، ولا يمكن الحديث عن ذلك من دون الجولان، كأرض سورية يجب العمل بالوسائل القانونية والسياسية والإعلامية لتكون تحت السيادة السورية من جديد، وهذه إحدى المهام الوطنية المطلوبة، وتقع مسؤولية ترجمتها وتحقيقها على كل الأطر السورية البديلة التي تضع نفسها مقابل مؤسسات النظام الأدائية والاستهلاكية، وذلك بإطلاق برنامج حيوي وفعال في المجالات الإعلامية والقانونية والسياسية، يشمل ويضم الجولان وكل قضاياه المغيبة والمنسية ويربطه بعملية البناء في سورية، وبمواجهة مشروع الدولة الإسرائيلية الساعية لأسرلة الإنسان في الجولان، بعد أن حققت مكاسب عديدة ونجاحات كبيرة في أسرلة المكان وتهويده، في ظل اعتكاف وصمت نظام الأسد في دمشق.