ما زال قادة الاستيطان الإسرائيلي يعيشون فرح الاعتراف الأميركي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل وإقامة مستوطنة جديدة تحمل اسم الرئيس الأميركي (دونالد ترامب)، إلا أن مشروع الاستيطان لم يحتل قلوب الإسرائيليين، ولم ينجح في تحقيق برنامج النمو السكاني، كما توقع قادة الاستيطان، عن طريق الخطط والبرامج التي أفرزتها المتغيرات الأخيرة في الجولان، وإطلاق خطة لتوطين 250 ألف مستوطن إسرائيلي في الجولان المحتل حتى عام 2048 بمناسبة الذكرى المئوية لإقامة دولة إسرائيل، وبناء 30 ألف وحدة سكنية في مستوطنة (كتسرين) وحدها، وإقامة مستوطنتين جديدتين، وتوفير 45 ألف وظيفة عمل في السنوات القادمة.
لكن وفي نظرة الى الواقع والحقائق، فإن هذه الصورة ليست وردية، على الرغم من الجهد الكبير الذي يبذله قادة مشروع الاستيطان والمجلس الإقليمي للمستوطنات الإسرائيلية للدفع بوتيرة الاستيطان إلى الأمام، في ظل الظروف السورية والإقليمية العربية والدولية المواتية، بافتراض أن الجولان السوري قضية إسرائيلية داخلية وخارج التسويات السياسية والإقليمية، لأن العالم سيتعود مع الأيام على كون الجولان إسرائيلياً؛ بخاصة في ظل تقاعس وإغفال الحكومة السورية الرسمية قضية الجولان المحتل، وانحسارها ضمن خطاب الاستهلاك الإعلامي الذي يخدم أجندة النظام، من دون تحقيق أي فعل ميداني على أرض الواقع منذ احتلال الجولان قبل ما يزيد عن نصف قرن من الزمان، وبقائه ضمن بورصة المزاودات الإعلامية المفضوحة الفاشلة.
وإن كنا نتحدث عن الحقائق والجشع الاستيطاني، فإن الوضع الراهن في المستوطنات الإسرائيلية في الجولان المحتل لا يدعو إلى التفاؤل والرضى لدى قادة المجلس الإقليمي للمستوطنات الإسرائيلية والناشطين في هيئات ومراكز التخطيط والبرامج الاستراتيجية العاملة في الجولان المحتل، الذين يرون أن مرتفعات الجولان ما تزال واحدة من المناطق التي يسكن فيها قلة من المستوطنين اليهود مقارنة بمناطق الضفة الغربية، حيث يعيش نحو 413.5 ألف يهودي (عدا اليهود الذين يعيشون في الأحياء المقامة في القدس الشرقية). وعلى الرغم من أن الضفة الغربية أكبر بخمس مرات من مرتفعات الجولان، فإن عدد المستوطنين أكبر 18 مرة من عدد السكان اليهود في الجولان. وبحسب أحد القادة الكبار في القطاع العام في مستوطنة كتسرين، يعود ذلك “إلى بُعد مرتفعات الجولان الجغرافي عن المركز الإسرائيلي، مقارنة بالقرب النسبي للضفة الغربية”. لكن السبب الأكثر أهمية بحسب رأيه يكمن في “اللوبي السياسي النشط في الضفة الغربية، الذي شجع على مر السنين على البناء الضخم في مستوطنات الضفة الغربية، على عكس الواقع في الجولان، حيث لم تكن هناك تنمية اقتصادية متسارعة منذ سنوات”. ولا توجد مصانع جديدة ولا أماكن تشغيل جديدة لتوفير فرص عمل، ولا يوجد جهد حقيقي لاجتذاب المستوطنين، ويقضي كثير من السكان ساعات طويلة على الطرقات للسفر إلى أماكن العمل في داخل إسرائيل.
في السنوات الأخيرة أعلن المجلس الإقليمي للمستوطنات عن حملة لتوسيع البناء في داخل المستوطنات، إلا أن الوحدات السكنية الجديدة لم تمتلئ يوماً، وإنما كانت هناك هجرة لعدد من العائلات والأبناء الذين لم يجدوا عملًا، ولم يستطيعوا توفير مقومات ضرورية لمشاريعهم الاقتصادية، فضلًا عن عدم وجود وسائل مواصلات سريعة تتجاوز الوقت المهدور بالسفر من وإلى الجولان. ولا تتعدى علاقة مؤسسات الدولة ومختلف الوزراء والمسؤولين الفعلية مع الجولان التصريحات والوعود والخطابات الانتخابية والأجندات الحزبية التي لا تساهم في جذب مستوطنين جدد، ولا توفر الميزانيات والاستثمارات المطلوبة في الواقع، فتبقى الأقوال بعيدة عن الأفعال؛ فالجولان بالنسبة إليهم صندوق أصوات انتخابية ورحلة سياحية ممتعة، تتوافر على كل متطلبات الراحة على مدار فصول السنة، التزلج على ثلج حرمون في الشمال، والتمتع بينابيع الحمة السورية في الجنوب، وتذوق أجود أنواع النبيذ والعسل ومختلف أنواع الفاكهة، وملامسة الطبيعة الخاصة والمميزة بالهدوء والأمان. لكن أولئك المؤمنين أن تحقيق الحلم الصهيوني في الجولان يجب أن يعتمد على ركائز أساسية قلة، أهم هذه الركائز أننا أمة يجب أن يجتمع فيها الإخلاص للقيم اليهودية العليا، وأننا رواد الحلم الصهيوني ونشكل العلاقة القوية بين الماضي والحاضر والمستقبل، بحسب رئيس المجلس الإقليمي للمستوطنات (حاييم روكيح). ويشرح (بيني يارون) الذي يعيش منذ 20 عاماً في مستوطنة (ميروم غولان) عن الواقع في مستوطنات الجولان: “نحن نشعر بهذا الإهمال يومياً على مدار سنوات، على الرغم من النجاحات والإنجازات الهائلة التي رافقت مشروع الاستيطان منذ أكثر من 53 عامًا، إلا أن البيروقراطية وعدم منح الجولان الأولوية ضمن الاهتمامات الحكومية جعل هذا المشروع يدخل في الروتين الإسرائيلي.
حتى اليوم لا توجد غرفة طوارئ طبية لتلبية الحاجات الضرورية للسكان الإسرائيليين على الرغم من المستوى المتقدم للعيادات الطبية في الجولان ،التي تعمل يومياً عدا ساعات المساء، وقد أغلقت وزارة الصحة بمصادقة الحكومة ومن دون أي مبرر منطقي قبل سنوات عدة غرفة الطوارئ الطبية في كريات شمونة التي تبعد 30 دقيقة عن الجولان. كان هذا المركز يقدم خدمات طبية للسكان في منطقتي الجليل والجولان، إضافة إلى إغلاق المطار الحيوي في منطقة محنايم، الواقع على حدود الجولان الغربية. لم يفكر أحد في الحكومة مطلقًا في تطويره وتسهيل حركة السكان من وإلى الجولان، واختصار المسافات، وتوفير وقت السفر، بالنسبة إلينا هي احتياجات أساسية، أما بالنسبة إلى نتنياهو فهي أمور هامشية، وتقع في أخر اهتماماته. كان كل الاستثمار في البنى التحتية وتحسين وتطوير شبكة المواصلات من ميزانيات المجلس الإقليمي وليس من منح الحكومة. وقبل عقد من الزمان أوقفت شركة إيغد الحكومية خط المواصلات من وإلى الجولان، على الرغم من أن الشركة كانت تقدم خدماتها مرة واحدة يوميًا من الخامسة صباحاً، لكن المجلس الإقليمي خصص ميزانيات لتأسيس شركة مواصلات خاصة تعمل يوميًا على مدار الساعة. من الخارج يمكن أن تلاحظ أن السكان يعيشون هنا بشكل جيد؛ سيارة أمام منزل جميل وحديقة خضراء وبساتين زراعية واسعة ومنظومة طبية وتعليمية متقدمة ومتطورة وانسجام اجتماعي وطبيعة خلابة مميزة بالمناظر الطبيعية للوديان وينابيع المياه والتلال والسهول الخضراء، ومئات رؤوس الأبقار التي ترعى بحرية من دون قيود، وعشرات أنواع الحيوانات كالغزلان والثعالب والصقور والطيور النادرة. لكن ليست تلك الحقيقة، وليس هذا هو الحلم الصهيوني الذي أعدنا تجديده منذ نصف قرن”. يستطرد يارون: “تبدي الحكومة انحيازًا واضحًا في تخصيص الموارد والمنح والميزانيات لمستوطنات الضفة الغربية، وهناك الأفضلية للمتدينين المتطرفين. الأجندة السياسية والحزبية هناك أهم من الاستثمار والحفاظ على الانتعاش والازدهار هنا. في السنوات الأخيرة لم يعد هناك أي ضغوطات محلية أو دولية بشأن التفاوض بخصوص الجولان، على العكس هناك تعاطف مع الموقف الإسرائيلي بخصوص أهمية الجولان بالنسبة إلى إسرائيل في ظل وجود نظام الأسد الدموي، وتحالفاته مع أخطر الإرهابيين في الشرق الأوسط. هذه الأمور لا تستغلها الحكومة الإسرائيلية بخاصة في ظل اعتراف الولايات المتحدة بالضم الإسرائيلي للجولان، الذي نأمل منه أن يعطي دفعة اقتصادية جديدة للمنطقة ويزيد عدد السكان فيها. وعلى الرغم من معارضة جميع دول الاتحاد الأوروبي القرار في الوقت الحالي، لا تدرك حكومة إسرائيل أهمية استغلال القرار الأميركي على أرض الواقع وتنشغل أكثر بالمصالح الحزبية والسياسية.”
حيتان المال الإسرائيلية تستولي على أحلام المستوطنين
فتح الفراغ الاستثماري في التنمية المدنية والثقافية والسياحية، الذي يشكو منه مستوطنو الجولان المحتل في العقدين الماضيين، المجال أمام حيتان المال الرأسمالي، بطرح مبادرات وأفكار ومشاريع اقتصادية هائلة جدًا، من الممكن أن تُعرض حلمهم في الجولان المحتل لدمار بيئي وزراعي وسياحي وصحي. قبل نحو خمس سنوات كانت هناك استثمارات كبيرة لشركات نفطية، بتمويل من أنصار إسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية، (برئاسة الوزير الإسرائيلي السابق إيفي إيتام نوف)، سعت إلى إنتاج النفط بطريقة تضر بطبيعة المكان ومناظره الطبيعية، دعوا الحكومة الإسرائيلية الى استغلال الأهمية الاقتصادية للجولان، بزعم أن نصوص توراتية بشرت بوجود النفط عبر 17 إشارة كما ورد في سفر إشعيا 32/13. وعلى الرغم من رفض بعض الحاخامات وجود أهمية دينية للجولان في نصوص التوراة، يتمسك أنصار الصهيونية المسيحية بالتصنيف التوراتي للجولان وأهميته الاقتصادية، وقد منحت الحكومة الإسرائيلية ترخيصاً بالحفر في 850 كيلومتراً مربعاً، أي نصف مساحة الجولان تقريباً، لشركة (أفيك) الإسرائيلية التابعة لشركة (جيني إنرجي) الأميركية والتابعة لشركة (جيني للنفط والغاز) التي يضم مجلسها الاستشاري الاستراتيجي نائب الرئيس الأميركي السابق ديك تشيني، والقطب الإعلامي روبرت مردوخ، والنائب الجمهوري السابق جيم كورتر. إلا ان نتائج عمليات حفر للتنقيب عن النفط في ثلاثة مواقع تضم عشرة أبار في مناطق مختلفة من الجولان المحتل أشارت الى أن معدل الإنتاج الفعلي للنفط متواضع جداً، وبعيد عن التوقعات بتحقيق الاكتفاء الذاتي النفطي لإسرائيل. وترافقت هذه النتائج مع اعتراضات عدة قدمها مستوطنون وجمعيات ومؤسسات بيئية إسرائيلية في الجولان والداخل الإسرائيلي تضمنت المخاطر الكبيرة التي ستتعرض لها المياه الجوفية وبحيرة طبريا، إضافة إلى التلوث البيئي من جراء هذه المشاريع التي تعكس رغبة كبار رجال الأعمال في توظيف الاعتراف الأميركي بالسيادة على الجولان بالمنافع والأرباح الاقتصادية من خيرات الجولان. فيما حذر خبراء إسرائيليون في تقرير قدموه إلى سلطة المياه الإسرائيلية من خطر تلوث المياه، إذ إن “لترًا واحدًا” من النفط يجعل مليون لتر من المياه غير صالحة للشرب بتاتًا، فضلًا عن التلوث الخطير الذي أضرّ بالنباتات والحيوانات.
وجاءت موافقة الحكومة الإسرائيلية ومصادقتها على إنشاء مشاريع مزارع التوربينات الهوائية العملاقة لإنتاج الطاقة البديلة فرصة ذهبية أمام عدد من كبار رجال الأعمال الذين لعبوا في السابق دورًا سياسيًا وأمنيًا بصفتهم موظفين وعاملين في مؤسسات الدولة والحكومة، وما زالوا يتمتعون بنفوذ كبير لجني الأرباح الهائلة التي سيتقاسمون قليلًا منها مع بعض أصحاب الأراضي الزراعية والكيبوتسات الإسرائيلية التي منحت إحدى الشركات العملاقة الحق في إقامة هذه المزارع على أراضيها، من دون الأخذ في الحسبان المخاطر التي ستخلفها في طبيعة الجولان الأخضر. إحدى تلك الشركات هي شركة إنلايت التي كانت تحت سيطرة رجل الأعمال شاؤول ألوفيتش، المالك السابق لشركة الهواتف الإسرائيلية (بيزك) وموقع (واللا) الإلكتروني المشتبه به حتى الآن، إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي وزوجته بشبهة الفساد والحصول على الرشوة في (قضية بيزك – واللا)، المعروفة أيضًا باسم (القضية 4000). حين تدخل نتنياهو ومجموعة من مقربيه بطريقة صارخة ومتواصلة، وأحيانًا بشكل يومي، في المحتوى الإعلامي على موقع (واللا الإخباري)، وفي تعيين المحررين والمراسلين في الموقع، عدا عن إخفاء المعلومات الحقيقية من وراء هذا المشروع، الذي أعلنوا أنه سيضم 30 مروحة فقط، لكن اتضح مع الوقت أن هناك عشرات، بل مئات التوربينات، ستكون هنا على ارتفاع 210 أمتار، وهو ارتفاع أبراج عزرائيلي في تل أبيب. بصفته مقيمًا في الجولان، يقول المستوطن بيني يارون: “لن تتمكن من العيش هنا أو حتى التجول بهدف السياحة، إذ يستقبل الجولان نحو مليون ونصف شخص سنويًا، ومن الضروري أن يكون لهؤلاء مصلحة في بقاء الجولان حديقة وطنية إسرائيلية خضراء، وعدم تحويله إلى منطقة صناعية خاصة برؤوس الأموال، وضمان بقاء مساحات لتوسيع الاستيطان، وتطوير الزراعة، وتنمية السياحية، والاستثمار في التعليم والثقافة والتعليم العالي، والبنى التحتية، والحفاظ على البيئة، وبناء معامل لإعادة تكرير مياه الصرف الصحي للاستخدامات الزراعية، واستغلال بيئة الجولان لإنتاج مصادر الطاقة البديلة الخضراء الصديقة للبيئة. بالنسبة إلى معظم الإسرائيلين، وربما إلى عدد من رجال الأعمال، فإن مرتفعات الجولان معروفة بسبب خدمة الاحتياط العسكرية ورحلات الاستجمام السياحية، لكنهم لا يدركون أنها مرتفعات مزدحمة بالقواعد العسكرية ومناطق التدريب العسكري والمحميات الطبيعية وحقول الألغام، ومنطقة جبل الشيخ التي تجذب وحدها مئات آلاف من الزوار في الأيام المثلجة. جميعهم سيحتاجون إلى الخدمات السياحية والترفيهية والمنتزهات الطبيعة، فإن أضفنا تلك المساحات الكبيرة التي ستستولي عليها الشركات الاقتصادية الكبرى، ماذا سيتبقى للتطوير والتنمية؟ في السنوات الأولى من الاحتلال الإسرائيلي شهد الجولان زخمًا استيطانيًا بخاصة في الجنوب الدافئ، فأُقيمت مستوطنة ميروم غولان بوصفها أولى المستوطنات الإسرائيلية بعد حرب حزيران/ يونيو 1967 مباشرة. واستمر هذا النمو والتوسع بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، وبني مزيد من المستوطنات بعد إخلاء مستوطنة ياميت، والانسحاب الاسرائيلي من سيناء عام 1982، وارتفع منذ ذاك الوقت عدد المستوطنين الذين يعيش معظمهم في مستوطنات صغيرة أو في الكيبوتسات ويشكلون 15 ألف يهودي، ينتمون إلى مجلس الجولان الإقليمي، ويسكن باقي المستوطنين في مستوطنة كتسرين التي تأسست عام 1977 ويقطنها الآن نحو 8500 نسمة.
يؤكد أحد سكان مستوطنة كتسرين أنه قبل حرب الأيام الستة ( حرب حزيران/ يونيو) 1967، كان يعيش في الجولان 130 ألف مواطن سوري (جرى ترحيلهم أو فروا في أثناء الحرب وفق تحقيق نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية في عام 2010)، وهو رقم يمكن أن يوضح إمكانات السكن الهائلة في مرتفعات الجولان. في العقد الأخير وبعد قرارات الحكومة الإسرائيلية، حصل المستوطنون على ميزانيات كان من المفترض أن تساهم في تطويرها وانتعاشها بعد مرحلة ركود طويلة، تمثلت في 300 مليون شيكل للمستوطنات الزراعية من أجل 750 مزرعة جديدة، و65 مليون شيكل لمستوطنة كتسرين بشكل أساسي لتعزيز التعليم، و200 مليون شيكل للبلدات الدرزية الأربع – مجدل شمس وبقعاتا وعين قينية ومسعدة- منها 80 مليون شيكل لتحسين البنية التحتية للطرق بين مناطق الجولان الداخلية، وفي داخل كل منطقة على حدة. كان من المفترض أن تجذب تلك الميزانيات المستثمرين الإسرائيليين إلى الجولان، إلا أنهم توقفوا بسبب البعد الجغرافي للجولان عن مناطق المركز الإسرائيلي. كان من المفترض أن تجذب هذه الميزانيات مئات الإسرائيليين، وتحول الجولان الى أولوية وطنية للسكن والاستثمار في ظل الأزمة السكنية التي تشهدها إسرائيل وارتفاع أسعار العقارات، لكن كانت هناك في الخفاء رغبة في تعطيل هذه الروح والتركيز على الاستثمار خارج حدود الجولان في داخل حدود إسرائيل، حيث يفضل معظم الإسرائيليين السفر إلى الجولان للتمتع بمناخه المختلف وجماله الطبيعي في الوقت الذي امتنعوا فيه عن السفر إلى الضفة الغربية سنوات عدة لأسباب تتعلق بالسلامة الأمنية وأسباب سياسية، رغم أنهم عدوا المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية طيلة عقود (ملح الأرض)، بحسب قوله، ونجحوا في تحقيق التأييد الوطني والسياسي لوجودهم هناك بسبب ما تقدمه الحكومة لهم من دعم وتمويل ومشاريع استثمارية هائلة، على الرغم من الكثافة السكانية العالية للسكان الفلسطينيين والمشكلات السياسية والإقليمية المتعلقة بمستقبلهم ومصيرهم هناك.
وبحسب ديميتري أبيرتسيف، رئيس مجلس بلدي مستوطنة كتسرين، “كان من الممكن الوصول إلى عدد سكان مزدوج الرقم في كتسرين، لكن هذا هو التاريخ وهذا هو الواقع. في السنوات الخمس التي قضيتها في كتسرين، جرى توطين أكثر من ألفي إسرائيلي جدد. في تلك السنوات اتخذت الحكومة بعض القرارات الجيدة، هذا زخم كبير، وسيكون لكتسرين عاصمة الجولان مكانًا يستحق الاستثمار فيه، بخاصة بعد قرار الرئيس الأميركي ترامب، في حال منحت الحكومة الإسرائيلية ميزانيات التطوير المتأخرة. نحن اليوم أنهينا موازنة عام 2020، وفي ظل أزمة كورونا نستطيع أن نقول إننا من دون عجز. لكن مع توقف المنح البالغة 7 ملايين شيكل، وزيادة في المصروفات بقيمة 205 مليون شيكل، ستكون الأضرار في ميزانية 2021 كارثية على صعيد كتسرين وكافة مستوطنات الجولان، مع العلم أننا في ذروة مشاريع التنمية في مجال معالجة النفايات والخدمات الاجتماعية ورياض الأطفال والمراكز الثقافية والفنية وتحديث المناظر الطبيعية وترميم البنية التحتية للأماكن العامة ونشر أعمدة الإضاءة والانتهاء من بناء المجمع الحكومي، ونحن بصدد إنشاء فندق وحدائق عامة للعائلات والأطفال وملعبين رياضيين جديدين. تعود كل هذه النجاحات في ازدهار الجولان إلى سبب واحد وهو الاستثمار في المكان الصحيح والمرافق الحيوية الصحيحة. على سبيل المثال، فقد أنشأ (حاييم أوهايون)، أحد مالكي فريق كرة السلة في الجليل، مختبرًا للجينات الوراثية العلاجية، وأنشأ رجل الأعمال (آندي سالزمان) قبل ثلاث سنوات مصنعًا للأدوية من الممكن أن يكون مركزًا رئيسًا لصناعة الأدوية، ويتوقع حدوث ذلك في أقل من عشر سنوات. لكن في ظل النمو السكاني، بمعدل ألف عائلة سنوياً، فإن الواقع يكشف أن كتسرين على وجه الخصوص، والجولان عامةً، ليس المكان الذي يجذب مستثمرين. فإن أرادت الدولة تطوير منطقة ما فما عليها إلا منح مزايا ضريبية أو شروطًا خاصة للمستثمرين، وفي الوقت نفسه تطوير مؤسسات بحثية وأكاديمية. ويضيف أبيرتسيف: “حين نقارن الجولان مع أي منطقة إسرائيلية أخرى نغضب من عدم المساواة بيننا، بصفتنا روادًا للحلم الصهيوني، نعيش في أقصى حدود الدولة الشمالية، وبين المناطق الأخرى في إسرائيل. ففي ظل هذا الإهمال لا نجد أنفسنا أكثر من حي مهمل في ضواحي مدينة تل أبيب”.
ترامب خارج التاريخ، لكن اسمه في الجولان خالد
قد يكون دونالد ترامب خارج مسرح التاريخ السياسي بعد هزيمته في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ولكن على مستوى مرتفعات الجولان فإن ترامب باق في المستوطنة التي تحمل اسمه. ومع وصول الدفعة الأولى من طلائع المستوطنين، 20 عائلة، تستمر الآليات الثقيلة في تجهيز المنازل والبيوت الجديدة. صحيح أن اسم ترامب أصبح مصدر سخرية وتهكم بسبب غطرسته وجنون العظمة الذي سيطر عليه بوصفه زعيم أقوى دولة في العالم، لكن مستوطنة (هضبة ترامب) أصبحت حقيقية تمامًا؛ إذ للمرة الأولى منذ 29 عامًا يجري إنشاء مستوطنة جديدة في الجولان. يقول الصحفي الإسرائيلي (درور بوير): كانت المستوطنات القائمة تُفضل أن تبقى مستوطنات زراعية صغيرة، ولم يرغبوا في زيادة عدد السكان كثيراً للمحافظة على الخصوصية والتميز والهدوء، إلا أن هذا الواقع لا بد أن يتغير في ظل النمو السكاني الذي يتراوح بين 800-1000 مستوطن سنوياً، فمن أجل الحفاظ عليهم وجذبهم على الحكومة الاسرائيلية ضخ الأموال والميزانيات وتشجيع الاستيطان. في مقابل 1.3 مليون شيكل يستطيع أي شخص شراء منزل على مساحة نصف دونم تُمنح مجاناً، وهذا أفضل استثمار يستطيع القيام به أي مواطن اسرائيلي بشرط ضمان فرص عمل ملائمة وضمان أماكن ترفيه ومراكز ثفافية، من دون ذلك من الصعب أن تقنع المواطن الإسرائيلي بالقدوم إلى هنا. على الرغم من كل الخصوصية التي تقدمها الطبيعة في الجولان، وعلى الرغم من مرور أكثر من 53 عامًا على مشروع الاستيطان، لا تجد في كل الجولان دار عجزة واحدًا أو مجمعًا تجاريًا أو فنادق ضخمة. لدينا 500 غرفة سياحية مُسجلة، وجميعها مهددة بالإغلاق في ظل كورونا، في الوقت الذي نحتاج فيه إلى أكثر من 2500 غرفة سياحية لاستيعاب الحركة السياحية. على الرغم من ذلك، ومع كل الأسف لم تعد فرص العمل في الجولان وفيرة كما هو معروف، ولا تلبي شبكة الاتصالات والإنترنت متطلبات العمل عن بُعد في ظل أزمة كورونا كما يقول (بيور رويشمان)، نائب رئيس شركة الجولان الاقتصادية، ويضيف: “لن نعتمد على ما تقدمه الحكومة فقط في ظل كورونا والإغراءات المتاحة في مستوطنة ترامب، سنكتشف أن الجولان سينمو أكثر، ومع هذا النمو فإننا نشجع أصحاب الشهادات والمهن وخريجي العلوم والتكنولوجيا وعلم الأحياء على القدوم ليتمكنوا من توفير فرص عمل للآخرين أيضاً. لا نريد مزارعين في البساتين وموظفين في القطاع العام والخاص فقط، يضطرون للسفر أكثر من أربع ساعات للوصول يومياً إلى مراكز عملهم والعودة منها. نحن اليوم أمام حقيقة ساطعة بعد الاعتراف الأميركي بالسيادة الاسرائيلية على الجولان والهدية الثمينة التي قدمها دونالد ترامب؛ إذ لم يعد هناك أي احتمال للانسحاب أو إجراء أي تسوية سياسية تهدد وجودنا في الجولان، وهذا مصدر اطمئنان لكثير من الناس. وفق مشاريعنا القادمة التي تحتاج الى مصادقة ودعم الحكومة، هناك مخطط لحي سكني جديد خاص لأطباء من فرنسا، ومخطط لتوسيع مهبط المطار في منطقة فيق للطائرات الصغيرة؛ بخاصة أن الجولان يُعد من المناطق الوحيدة في إسرائيل التي يوجد فيها مساحات وأماكن مفتوحة بعيدًا عن الاكتظاظ السكاني في وسط وجنوب إسرائيل. وعلى الرغم من كل الصعوبات، يبقى الجولان المكان الأفضل للعيش، والمكان الأكثر ملاءمة لتربية الأطفال. يختتم (أمير فوغل)، رئيس شركة الاتصالات والإنترنت في الجولان، حديثه في أحد مراكز الاستيعاب التابعة للمجلس الإقليمي للمستوطنات.
لتجاوز هذا الركود والإهمال يجب على الحكومة الإسرائيلية تحريك العجلة الاقتصادية، وتوفير الخدمات عبر تخصيص ميزانيات هائلة؛ إذ أنهم اليوم أمام خيارات صعبة، إما البقاء والتوسع والاستثمار في الأماكن التي لطالما عدّوها البيت الدافئ، أو تعريض أحلامهم بالأرض الموعودة ومشاريعهم الاقتصادية الصغيرة لمخاطر صحية وبيئية، في ظل جشع وطمع شركات رأس المال والمشاريع العملاقة، والبحث عن بدائل يحققون فيها أحلامهم التي بنوها على مدار سنوات في مكان آخر.
يوجه المهندس (مولي شبيغل)، مدير قسم الهندسة في المجلس الإقليمي، اللوم إلى الحكومة الاسرائيلية قائلًا: “في ثمانينيات القرن الماضي، أُقيم (كيبوتس كيلع الون) وبؤرة استيطانية أخرى، وسكنها مستوطنون من دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، لكنهم تركوا المستوطنة ورحلوا لأن الحكومة نسيت أمرهم وتغاضت عن واجباتها بتقديم الخدمات الأساسية لهم. من يدري ربما ستتعرض مستوطنة ترامب ـللأمر ذاته إن لم تكن هناك تغيرات جوهرية في موضوع المنح والميزانيات. على سبيل المثال، أقرب سوبر ماركت للمستوطنة يحتاج إلى سفر 15 دقيقة، وأقرب مركز جماهيري إلى 25 دقيقة، وأقرب مدرسة إلى 15 دقيقة، وأقرب مستشفى إلى 50 دقيقة. هناك من يعتقد أن مستوطنات الجولان هي سويسرا إسرائيلية، إلا أن الحكومة تذر الرماد في العيون. فوفق دائرة الإحصاء المركزية، ما يزال السكان اليهود يشكلون أقلية بعد خمسة عقود من إعادة مشروع الاستيطان، 24 ألف يهودي يعيشون في منطقة تعد الأقل ا كتظاظًا (كل 40 نسمة يعيشون في كلم واحد)، مقابل 27 ألف مواطن درزي يعيشون في قرى شمال الجولان إضافة إلى قرية علوية على حدود لبنان، ولولا المعوقات البيروقراطية في إسرائيل لتمكن المجلس الإقليمي من مضاعفة عدد المستوطنين الإسرائيليين في عام واحد لا في خمسة أعوام”.
على الرغم من هذه العيّنات والانتقادات الموجهة إلى مؤسسات الدولة العبرية، يستمر مشروع الاستيطان في قضم الأرض السورية وتغير الوقائع البشرية والاقتصادية والسياسية، وتبتعد معه أكثر أحلام المهجرين السوريين بالعودة إلى ديارهم في الأرض المحتلة، فيما يواصل أبناء الجولان السوريون نضالهم في الدفاع عن هويتهم، وعن وجودهم المُهدد أمام جشع مشاريع وبرامج شركات الرأسمال الإسرائيلية وصون أراضهم المعرضة للمصادرة. يدفع الجولانيون أثمانًا باهظة في معركتهم الوجودية، ومعارك الحفاظ على هويتهم وأحلامهم بتحرير أرضهم وعودة الجولان إلى الوطن السوري، لكن غياب الدولة السورية الرسمي وإهمالها وتقصيرها يساهم في ذلك مساهمة كبيرة.