المحتويات
ثانيًا: في المسار التاريخي المعاصر
مدخل
واجهت الثورة السورية منذ انطلاقتها تحديات عدّة، كان من المفترض مواجهتها كي لا تتحول إلى إشكاليات تقف عائقًا في مسار الثورة وتقدمها. أولى الإشكاليات هي عدم الانتقال من العفوية السياسية نحو النضج السياسي، وبروز قيادة سياسية وطنية ديمقراطية للثورة. والثانية، عدم الانتقال من العفوية العسكرية وفوضى السلاح، نحو الكفاح المسلح وبروز قيادة عسكرية-سياسية مشتركة. والثالثة القضية الكردية والتي تحولت إلى إشكالية مازالت ترافق الثورة حتى الآن. وكان للإشكالية الأولى والثانية دورٌ أساس في المسارات المعقدة للقضية الكردية. وهي قضية لاتهمّ الكرد بمفردهم، إنّما هي قضية الشعب السوري وثورته بجميع تنوعاته القومية والإثنية.
ويراد من هذه الورقة مقاربة الإشكالية الكردية في الثورة السورية وتفكيك عناصرها الداخلية والخارجية، والعلاقة العربية-الكردية، عبر الإجابة عن مجموعة من الأسئلة بقصد ترتيب الأفكار والتوصل إلى بعض المخارج للإشكالية المطروحة مثل: هل يوجد قضية شعب كردي في سوريّة؟ كيف كانت العلاقة العربية-الكردية خلال مسار الثورة على المستوى السياسي والميداني، وما مستقبل هذه العلاقة؟ الفدرالية في سوريّة، والاعتراضات عليها؟ وأخيرًا، مقاربة لرؤية واضحة وحل ديمقراطي للقضية الكردية.
أولًا: مقدمة من التاريخ
ليس من المجدي في العصر الحالي، في منطقة الشرق الاوسط- وفي العالم كلّه إلى حدّ كبير- البحث في التاريخ القديم عن الاصول التاريخية لشعب ما من الشعوب الراهنة، ونقائه العرقي، وارتباطه ببقعة جغرافية محددة، وحقه التاريخي في هذه الأرض، أو تلك؛ وذلك بسبب التنقل الدائم للجماعات أو الشعوب للبحث عن المكان الملائم للعيش، والغزوات والحروب الداخلية والخارجية، خلال آلاف السنين، ما أدى إلى اندثار العديد من الحضارات، وقيام حضارات جديدة نشأت على أنقاض القديمة، مثل: حضارة السومريين والأشوريين والبابليين والفينيقيين والفراعنة واليونانيين والرومان والآراميين.. الخ. حيث يمكن القول إن تاريخ المجتمعات أشبه بالطبقات الجيولوجية المتراكمة تاريخيًّا، وهو نتيجة تفاعل وصراع، وامتزاج، وهدم وبناء، في عملية مستمرة لم تتوقّف إلى حد كبير إلا مع رسم الحدود القومية، منذ أواسط القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
ويمكن القول ومن التاريخ القريب والبعيد: إن العرب والكرد والسريان والأشوريين والتركمان لم يهبطوا على هذه الأرض في بلاد الشام من كواكب أخرى. والمكتبة العربية والكردية زاخرة بالمراجع التاريخية التي تؤكد هذا الوجود التاريخي والتعايش المشترك في هذه المنطقة منذ آلاف السنين. ولن نتوقف عند البحث التاريخي القديم، لأنه بحث طويل وخارج موضوعنا أوّلًا، وثانيًا، كي نتجاوز التنقيب التاريخي، وتطويعه لأجل أهداف سياسية راهنة شوفينية وضيقة. وتكفي الإشارة إلى التاريخ الحديث الذي يؤكد توضّع الشعوب الراهن في المنطقة، مقدمةً تاريخية للموضوع المدروس.
في القرن التاسع عشر كان شمالي سوريّة والعراق مسرحًا للعشائر العربية والكردية والتركمانية، والأشوريين السريان. وكان التداخل بين هذه العشائر كبيرًا، مع وجود أغلبية عربية في أكثر المناطق، وأغلبية كردية أو أشورية أو تركمانية في مناطق أخرى. وهذا الوجود والتوزع هو استمرار للعصور السابقة.
والذي يهمّنا من التاريخ القديم والحديث في موضوعنا هو القرن العشرين، وتفكيك الإمبراطورية العثمانية على يد قوات الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الاولى، بموجب “معاهدة سيفر 1920” التي أعطت الشعوب الناطقة بغير اللغة التركية حقّ الانفصال، وتأسيس دولها المستقلة، وفق مبدأ ويلسون الشهير “حق الشعوب في تقرير مصيرها”. وجرى رسم الحدود للدول القومية الناشئة، بين العراق وتركيا بموجب اتفاقية أنقرة 1925، ضمّ بموجبها الموصل إلى العراق، وبين تركيا وسوريّة بعد ضمّ تركيا لواء إسكندرون بموجب تآمر تركي-فرنسي عام 1939.
وبعد معاهدة لوزان 1923، والتي ألغت معاهدة سيفر، وترسيم الحدود، وتقسيم سايكس وبيكو بلاد الشام إلى فلسطين ولبنان وسوريّة والعراق، وانتدابها من جانب فرنسا وبريطانيا، وجد الكرد أنفسهم موزّعين بين الدول الأربع المتجاورة وهي: سوريّة والعراق وتركيا وإيران. حيث أصرّ الوفد التركي في مفاوضات لوزان على عدم وجود شعب كردي يرغب في الاستقلال، وأن مسألة الكرد مسألة داخلية لا يجوز التدخل فيها. وكما انتهى حلم العرب في تأسيس الدولة القومية العربية الموحدة، كذلك انتهى الحلم الكردي بتأسيس دولتهم القومية الموحدة.
فالكرد شعب أصيل في المنطقة مثل الشعب العربي، والتركي، والفارسي، له قوميته ولغته الخاصة به وثقافته وتراثه الذي يميزه عن الشعوب الاخرى. والمشترك الديني الإسلامي لا يغيّر من حقيقة تمايزه القومي، مثل الشعب التركي والفارسي والباكستاني.. إلخ الذين اعتنقوا الإسلام دينًا، وحافظوا على لغتهم الأم. وهذه ليست وجهة نظر، إنّما هي حقيقة مثبتة في جميع كتب التاريخ الحديث. ومن ثمّ فإنّ الحديث عن أن الكرد هم “أتراك الجبال” وفق المنظور التركي، أو “بدو الفرس” في الصيغة الايرانية، أو ان أصل الكرد من العرب كما يقول “ابن عبد البر” في كتابه (القصد والأمم) وغيره، أو أن الكرد هم “عرب سوريون” وفق المنظور البعثي العربي السوري، والذي يعبر عن موقع الكرد في الوعي السياسي للأنظمة في الدول الأربع، هو حديث غير واقعي وشوفيني، يساهم في بروز شوفينيات مضادّة، وحروب أهلية لا تنتهي.
إذا اتفقنا على ما سبق، وإذا اعترفنا بأن الكرد شعب أصيل في المنطقة، نكون قد مشينا نصف الطريق في الحوار، فنحن إذًا، أمام قضية شعب مُضطَهد وزعته القوى الاستعمارية في دول عدة. وبذلك يصبح الاعتراف واجبًا في حق هذا الشعب تقرير مصيره ونيل حريته، وفق المواثيق الدولية وكما حصل مع جميع الشعوب في العالم بتقرير مصيرهم. وتكون الخطوة التالية هي البحث عن الشروط الملموسة والملائمة لتجسيد هذا الحق، بشرط امتلاكنا الإرادة الحرة.
ثانيًا: في المسار التاريخي المعاصر
-1-
إنّ توزّع الكرد في الدول الأربعة جعل منهم أقليات قومية في هذه الدول. وقد وقفت جميع هذه الدول ضد نيل الكرد حقوقهم القومية. وكانت عمليات “التتريك” و”التعريب” و”التفريس” للكرد التي مارستها الأنظمة متشابهة في الأهداف، أي طمس الهوية القومية الكردية ودمجها مع الأغلبية. والقضية الكردية في الأساس هي نتاج الدولة القومية الاستبدادية التي رسمت حدودها بعد الحرب العالمية الأولى. فمنذ أن رسم الترك والفرس والعرب في سوريّة والعراق الحدود، وقالوا: هذا وطني. وجد الكرد أنفسهم من دون وطن. وأن يكون شعب من دون وطن، فهذا يعني وجود قضية كبرى يجب العمل على إيجاد الحلول لها.
ومن الطبيعي أن يناضل الكرد لنيل حقوقهم القومية، وخاصة بعد تنامي الوعي القومي في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، وإحساس الكرد بالغبن بعد اتفاقية لوزان، وفقدانهم الأمل بإنشاء دولة كردية مستقلة. وأصبحت القضية الكردية متعلقة ومتشابكة بمواقف الدول الأربعة المذكورة وبمصالحها، فكانت انتفاضة “سعيد بيران” في تركيا آذار/ مارس 1925، ولم تستمر إلّا أشهرًا قليلة، تُوّجت بإعدام قائد الثورة ورفاقه، وصولًا إلى الكفاح المسلح الذي أعلنه حزب pkk منذ ثمانينيات القرن الماضي، والمستمر حتى الآن. وكذلك في إيران تُوِّج نضال الكرد بإقامة جمهورية “مهاباد” في 1946، لكنها لم تدُم أكثر من عام. وفي العراق، بدأت ثورة الشيخ “محمود الحفيد البرزنجي” بالسيطرة على السليمانية وبعض المناطق الكردية في 1919، ورفض الكرد الاستفتاء على الحكومة العراقية وتنصيب الملك فيصل. إلّا أن البريطانيين تخلّوا عن وعودهم للكرد بإقامة حكم ذاتي، وبالتعاون مع الحكومة العراقية جرى سحق الثورة في 1931، وأُسدِل الستار عن أول محاولة كردية للاستقلال.
وقد واجهت المملكة العراقية منذ تشكلها 1920 القضية الكردية، والتي وصفها الملك فيصل بأنه “لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خالية من أيّ فكرة وطنية واحدة، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية لا تجمع بينهم جامعة”.”([1]) الشيعة في الجنوب، والسنة في الشمال الغربي، والأكراد في الشمال الشرقي. ومع أن “الأغوات الأكراد شكّلوا مع البكوات والمشايخ العرب، الشريحة الأهم من طبقة ملاكي الأراضي خلال العهد الملكي والذين سيطروا حتى العام 1958” إلا أن الكرد لم يتوقفوا عن مطالبتهم بحقوقهم القومية منذ قيام المملكة، وقد شنت القوات العراقية العديد من الحملات العسكرية ضد معاقل “مصطفى البرزاني” في 1932 و1945، وبعد قيام الجمهورية شن عبد الكريم قاسم حملة عسكرية عام 1961.
وبعد استلام حزب البعث السلطة، وإقرار الدستور العراقي الموقّت الصادر في 1970، بأن “الشعب العراقي يتكوّن من قوميّتين رئيستين: القومية العربية، والقومية الكردية، ويقرّ الدستور حقوق الشعب الكردي القومية والحقوق المشروعة للأقليات كافة. وأيضًا، عدّ اللغة الكردية، اللغة الرسمية الثانية إلى جانب العربية في المناطق الكردية” إضافة إلى أن “العراق جزء من الأمة العربية”، و”أرض العراق وحدة لا تتجزأ”( [2])، ودعم إيران للحركة الكردية في العراق، ما أجبر الحكومة العراقية على توقيع اتفاقية مع الكرد عام 1974، وعُدّل الدستور ليمنح الكرد الحكم الذاتي. إلا أن الصراع لم يتوقف لأن الحكم الذاتي لم يحقق الحقوق القومية للكرد. واستمرت الحملات العسكرية ضد الكرد بما فيه استخدام السلاح الكيماوي في حلبجة 1988. وكان الكرد يطمحون إلى قيام كيان فدرالي كما صوّت عليه البرلمان الكردستاني في 1992، ونال موافقة المعارضة العراقية قبل إسقاط النظام ([3]). وجاءت الفرصة للكرد بعد الاحتلال الأميركي للعراق في 2003، وإسقاط النظام، لتحقيق هذه الفيدرالية، والاعتراف بها كما جاء في دستور (2005). لكن الصراع مازال مستمرًا حول المناطق المتنازع عليها مثل كركوك الغنية بالنفط، وغيرها، وحول القوانين الناظمة للفدرالية الجديدة.
يُستنتج من التجربة العراقية أن التعايش التاريخي بين الكرد والعرب، تحول الى صراع منذ بداية تشكل الدولة القومية ذات الذهنية الشوفينية، وتوضح الدور البريطاني في إجهاض ثورات الشعوب التوّاقة إلى التحرر. وتبيّن أن حق الشعوب في تقرير مصيرها لا يتحقق كهبة او زكاة من أحد، إنما يرسم مساره نضال الشعوب ودماء الشهداء التي تفتح الطريق نحو الحرية.
-2-
في سوريّة، وخلال الانتداب الفرنسي لم تواجه سوريّة قضية كردية، كما هو في العراق، بسبب الأعداد القليلة للكرد(8-10%) من عدد السكان، وكانت ساحة الصراع متفجرة في تركيا والعراق. وربما كانت الإشارة الوحيدة -في حدود معرفتي- التي تشير إلى الكرد والترك وعدّهم خطرًا على الوطن جاءت من “محمد كرد علي” (1876-1953)، وهو المولود من أب كردي من السليمانية في العراق، وأم شركسية، والمدافع عن العروبة، في رسالته الموجهة إلى رئيس الحكومة حين كان وزيرًا للتربية والمعارف 1931، وخلال زيارته مدينة القامشلي، ورؤيته أن وجود الأكراد في أماكن حدود كردستان ستؤدي إلى “مشكلات سياسية تؤدي الى اقتطاع الجزيرة أو معظمها من جسم الدولة السورية، لأن الأكراد إذا عجزوا اليوم عن تأليف دولتهم، فالأيّام كفيلة بأن تنيلهم مطالبهم إذا ظلّوا على التناغي بحقهم والإشادة بقوميّتهم” ولذلك يقترح “إعطاءهم أرضًا من أملاك الدولة في أرجاء حمص وحلب.. بعيدًا عن حدود كردستان”. بقصد أن “يُمزجوا بالعرب في القرى الواقعة في أواسط البلاد وليس على حدودها”. ([4])
وبعد الاستقلال، وتنامي الشعور القومي العربي، ونشوء الأحزاب الأيديولوجية، الإسلامية والقوميّة والشيوعية، بدأ الأكراد بتلمس تمايزهم القومي، بانتساب النخب الكردية إلى الحزب الشيوعي الذي يدعي دفاعه عن الأقليات، ثم تشكيل أول حزب كردي (حزب الأكراد الديمقراطيين السوريين1957)، معبّرًا عن الكرد، ومطالبا بحقوقهم القومية ضمن نظام ديمقراطي. وقد تعرّض الكرد لاضطهاد قومي تاريخي. وكانت أولى الضربات العربية للكرد هي إحصاء 1962، والذي نزع الجنسية عن 20 في المئة من الكرد، بحجة أنهم من المهاجرين الأجانب، وحرمانهم من حقوقهم بوصفهم مواطنين في التعليم والصحة والعمل.. إلخ. ثم بعد سيطرة حزب البعث على السلطة، ومشروع الحزام العربي، وتعريب أسماء القرى والبلدات الكردية، ومنع استخدام اللغة الكردية في دوائر الدولة، وعدم قبول الكرد في الكليات العسكرية إلا في حالات نادرة، والاعتقالات التي طالت الناشطين السياسيّين، وخاصة بعد انتفاضة 2004..إلخ. وعلى الرغم من جميع أنواع الاضطهاد إلا أنّ الكرد في سوريّة لم يلجؤوا إلى الكفاح المسلّح كما هو في العراق وتركيا وإيران.
ولم تكن الاحزاب الكردية المعارضة قبل الثورة أفضل من العربية السورية، وهي جميعها ميكرويّة (متناهية في الصغر) ومشتّتة. وجميعها لا يملك برنامجًا للثورة. وحين اجتمعت الأحزاب الكردية والعربية في إعلان دمشق 2005، بهدف تشكيل قطب وطني ديمقراطي، كانت تطالب النظام بالإصلاح الديمقراطي، ولم يكن في منظورها أن ثورة يمكن أن تحدث في سوريّة. ومن ثمّة، لم يكن عند الجميع تصور ما حول المسألة الكردية.
-3-
مع الانطلاقة العفوية للثورة آذار/ مارس 2011، شارك أبناء الشعب الكردي في التظاهرات السلميّة، وألّفوا التنسيقيات، وتشاركوا مع التنسيقيّات التي انتشرت في جميع المدن السورية. لكن هذه المشاركة كما هي الحال عند السوريين جميعًا، جاءت من الشباب الجديد، ووقفت الأحزاب السياسية على الرصيف، عدا بعض الكوادر الذين شاركوا بصفتهم الفردية وليست الحزبية، وبعض الأحزاب مثل تيار المستقبل والذي دفع الثمن باغتيال النظام لقائده “مشعل تمو”، الذي صرّح للجمهور بعد إفراج السلطة عنه بالعبارة المشهورة “ابصقوا في وجه جلاديكم”.
وكما عمل النظام على انقسام المجتمع طائفيًا، كذلك عمل على تحييد الكرد. وبعد أقل من شهر من انطلاقة الثورة صدر المرسوم رقم 49 في 7 نيسان/ أبريل 2011، ليعيد الجنسية للكرد المحرومين منها منذ 1962، وأفرج عن المعتقلين الكرد، وسُمِح لحزب “الاتحاد الديمقراطي-PYD”، وهو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي(PKK)، ليعاود نشاطه السياسي، بعد أن كان محظورًا منذ تشكّله في 2003. وكان النظام حريصًا على ألّا يستفزّ الكرد في تظاهراتهم بعدم قمعها بالرصاص كما حصل في انتفاضة 2004 الكردية، وكما هي الحال في باقي المدن. وكان واضحًا التمايز بين التظاهرات في القامشلي وعامودا، وحي الاكراد في دمشق التي كانت ترفع علم الثورة وتعلن انضمامها إليها، والتظاهرات التي كان ينظمها الـ pyd في عفرين، والأشرفية والشيخ مقصود في مدينة حلب، والتي كانت ترفع علم الحزب، وصور “أوجلان”، ما يشير إلى المشروع الكردي الخاص به.
وكما هي الحال في انقسام المعارضة السورية إلى “هيئة التنسيق” التي حجزت مقعدها في الحديقة الخلفية للنظام، و”المجلس الوطني” الذي تشكل في تركيا، مطالبا بالتدخل الدولي لإسقاط النظام. كذلك اتخذت المعارضة الكردية المسار نفسَه. وخلال الأشهر الأولى من عمر الثورة بدأت التجاذبات بين الأحزاب الكردية حول الموقف من الواقع الثوري الجديد. وبدأ انقسام الاحزاب الكردية الى قطبين: الأوّل، “المجلس الوطني الكردي” الذي تأسس في 26 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2011، الذي يميل إلى الثورة من جهة، والثاني، حزب الـ pyd الذي يميل الى النظام من جهة أخرى. ومع تبلور الخيارات بين القطبين، اتجه الـ pyd نحو “هيئة التنسيق” ليقدّم نفسه بصفته معارضة، ثم علق وجوده في الهيئة منذ أوائل 2016، بسبب الخلاف حول الانضمام إلى الهيئة العليا للمفاوضات، وموقف الهيئة الرافض للإدارة الذاتية. وفي الوقت ذاته اتجه نحو النظام مستندًا في سياسته إلى المبدأ البراغماتي-المكيافيلي، ومستلهمًا التجربة العراقية التي عملت على فرض الأمر الواقع بالقوة في وصولها إلى تأسيس إقليم كردستان العراق، ومستفيدًا من دعم الـ pkk التركي بالأموال والسلاح والمقاتلين. وبالتنسيق مع النظام تسلّموا جميع المقرّات المدنية والعسكرية، وأعلن الإدارة الذاتية للمناطق الكردية في عفرين وعين العرب والجزيرة. ثم فيما بعد إعلانه لمشروع فدرالية “روج آفا”. وقد أحكم الـ pyd بعد تشكيل “وحدات حماية الشعب- ypg”، قبضته الأمنيّة في المناطق الكردية، مستخدمًا جميع وسائل الترهيب، والقتل والاغتيال لأي معارضة مهما كان نوعها، وفق طريقة النظام وأساليبه. كما عمل أيضًا، على وأد صوت الثورة، وتدريجيًّا إلى أن اختفت نهائيًا في المناطق الكردية، تقريبًا مع نهاية عام 2013.
وأمّا القطب الآخر فقد لجأ الى التخيلات والسجالات مع المعارضة السورية حول “اللامركزية السياسية”، والفدرالية، وشعار “حق الشعب الكردي في تقرير مصيره” الذي رفضه المجلس الوطني السوري (تأسّس2 تشرين الأوّل/ أكتوبر2011)، ثم فيما بعد الائتلاف (تأسّس 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 الذين حصروا الحقوق القومية باللامركزية الإدارية، و”باللغة وممارسة التقاليد والطقوس الخاصة” ضمن إطار دولة المواطنة. ومع ذلك حين انتهت حوارات المجلس الوطني الكردي ومراهناته على مشاركته الـ pyd، في إدارة المناطق الكردية، بسبب إصرار هذا الأخير التفرّد في السيطرة، على الرغم من محاولات أربيل للمصالحة بين القطبين، وجد المجلس نفسه داخل الائتلاف في أواخر2013، على الرغم من عدم اعتراف هذا الأخير بالحقوق الكردية كما يرغب المجلس الكردي. وآخر احتجاجات المجلس الكردي كانت على “الهيئة العليا للمفاوضات” ووثيقة الإطار التنفيذي في مؤتمر لندن لأن الوثيقة “تلغي حقيقة التعدد القومي.. وتتجاهل الاعتراف وضمان حقوق الشعب الكردي القومية واللغوية والسياسية” كما ورد في بيان المجلس الوطني الكردي في 9 أيلول/ سبتمبر 2016.
وكانت الفرصة الوحيدة التي فوتها الجميع، كردًا وعربًا والتي كان من الممكن أن تجتمع على أساسها تنوعات المعارضة كافّة، هي وثائق القاهرة والتي أصدرها مؤتمر المعارضة في القاهرة 3 تموز/ يوليو 2012، بمن فيهم الكرد، حيث تقرّ الوثائق المذكورة بأن الدولة المنشودة، دولة المواطنة “تعدّ القومية الكردية -وكذلك السريانية والتركمانية- جزءًا أصيلًا من الشعب السوري، وتقر بهويتها وحقوقها القومية المشروعة وفق العهود والمواثيق الدولية”.
تشير الصراعات الكردية-العربية على المستوى السياسي إلى أن ذهنية الإسلام السياسي، وبخاصة “الإخوان المسلمين” والمسيطرين على الائتلاف، وبعض القومجيين العرب، لم تخرج عن دائرة الاستبداد العربي والعثماني القديم. يُضاف إلى ذلك أن الائتلاف يعيش في حضن تركيا التي ترفض الاعتراف بالحقوق القومية للكرد، وهي في صراع مفتوح معهم خلال القرن الماضي والمستمر حتى الآن. كما تشير أيضًا الى أنّ انتزاع الاعتراف بالحقوق لا يكون بالاستجداء، أو بالشعارات، أو المناظرات. فالمعارضة العراقية قبل سقوط صدام، لم تقدم للكرد اعترافها بالفدرالية كإحسان أو زكاة، إنّما لأن الحركة الكردية كانت متماسكة وقوية عسكريًّا وسياسيًّا، وتملك إرثًا نضاليًّا طويلًا، استطاعت أن تفرض نفسها على المعارضة والنظام وانتزاع حقوق الشعب الكردي. أمّا المجلس الوطني الكردي السوري فهو لا يملك أيّ قوة على الأرض سياسيّة أو عسكريّة، وكذلك الائتلاف، وكما يقال في العامية “طنجرة ولقت غطاها”. وبالتأكيد، فإنّ فاقد الشيء لا يعطيه. كما أن الائتلاف لم يكن يوما هيئة ثورية، ويملك رؤية ثورية تحررية تعترف بحقوق الشعوب وحريتها.
كانت هذه التجاذبات السياسية الشعاراتية أشبه بالحوارات التي تدور في الغرف المغلقة، في مرحلة العمل السرّي. لأنها في الأساس منفصلة عن واقع الصراع الفعلي على الارض، وهو الأخطر. حيث يتقاسم ساحة الصراع: النظام، وقوات الـ pyd، مع قوات سوريّة الديمقراطية، والفصائل العسكرية الإسلامية، والدولة الإسلامية، مع الرعاية الاقليمية والدولية لهذه القوى. ولكلّ قوةٍ من هذه القوى مشروعها الخاص، ويقع المشروع الكردي يقع بين جميع المتناقضات الموجودة في الساحة وفي صراع كلّي او جزئي معها. ويعبر الـ pyd، عن الموقف الشوفيني، الشبيه بالموقف العربي الذي يقف ضد الحقوق القومية للكرد. وفي محاولة من الـ pyd التأسيس لـ “كردستان الغربية” كما يسميها، عمل على السيطرة على الشمال السوري المحاذي للحدود الجنوبية التركية. والأعداء هم الدولة الاسلامية، والفصائل المعارضة، وتركيا. وقد سيطر على جميع المناطق الكردية، وحتى العربية من مثل تل أبيض، ومنبج، وتل رفعت، وغيرها. وبالسيطرة على المناطق العربية وتهجير السكان، أدخل المنطقة في بوابة صراع عربي-كردي تقوده الفصائل الإسلامية المعارضة ومن ضمنها داعش، من جهة، و”قوات حماية الشعب” و”قوات سوريّة الديمقراطية” بقيادة الـ pyd، ومن خلفه الـ pkk من جهة ثانية، وبرعاية أميركية. وقد كان لعرض الـ pyd جثامين شهداء “الجيش الحر” على سطح شاحنة في عفرين بعد احتلال تل رفعت آثارٌ لن ينساها العرب في المستقبل.
من جهة ثانية يتجسد الصراع العربي-الكردي في العلاقة بين النظام والـ pyd. وكما ذكرنا سابقًا، عمل النظام وحزب الـ pyd على إيجاد قواسم ومصالح مشتركة، من مثل الإدارة الذاتية للمناطق الكردية، وتقاسم السلطة في مدن مثل الحسكة في الجزيرة، وتعاون اقتصادي في حقول الرميلان النفطية، وتعاون عسكري، والاشتراك في عمليات عسكرية ضد فصائل المعارضة، كما حصل في حلب والريف الشمالي.. إلخ. لكن هذا التحالف لا يعني أن المشروع الكردي متطابق مع مشروع النظام. فالنظام مازال بعقليته القديمة الاستبدادية يسعى للحسم العسكري وإعادة سوريّة كما كانت، وتحالفه مع الكرد موقّت، وقد يأتي دور الكرد في أي مرحلة مستقبلية يشعر فيها النظام بقدرته على استعادة ما قدمه للكرد سابقًا. ورفض النظام لفدرالية “روج آفا”، والاشتباكات بين النظام ووحدات حماية الشعب pyg، في القامشلي نيسان2016، تشير إلى أن هذا التحالف موقّت، إذ تدشن هذه الاشتباكات لمرحلة صراع عربي-كردي، في الجزيرة قد تفضي إلى تقسيم المنطقة من جديد. فالنظام يعمل على تجنيد العرب والعشائر ضمن ميليشيات “الدفاع الوطني” ضد الكرد وميليشيات الـ pyd.
بقي أن نقول إن الدعم الأميركي للـ pyd و”وحدات حماية الشعب” يزيد من حدة التناقض بين العرب والكرد. على الرغم من أن الأتراك قطعوا الاتصال بين غرب الفرات وشرقه، ومازالوا في انتظار الضوء الأخضر الأميركي للدخول إلى الباب ثم منبج لاستكمال عملية “درع الفرات” التركية. إلا أنّ خطَر الصراع العربي التركي في خط بيانيّ متصاعد. وسيتحدّد أكثر بعد تحرير الرقة ومن سيشارك في التحرير والتحكم فيها.
ثالثًا: الفدرالية
إنّ انفجار المجتمع السوري وانقساماته على المستويات القومية والمذهبية كافّة، يدفعنا إلى الإجابة عن بعض الأسئلة حول سوريّة المستقبل، بعد أن أصبح واضحًا أن النظام المركزي الاستبدادي لم يعد ممكنًا من الوجهة التاريخية والواقعية، على الرغم من استمرار محاولات النظام اليائسة بالعودة إليه عبر الحسم العسكري. والاتّحاد الفدرالي، هو أحد الأشكال المطروحة، كحلّ للقضية الكردية.
- من الضروري في البداية التفريق بين الفدرالية والكونفدرالية. فالفدرالية بالتعريف الشائع تعني “اتحاد اختياري، أي التعايش المشترك بين الشعوب والأقليات، أو بين الشعب الواحد في أقاليم متعددة”. وهناك تعريف آخر أكثر شمولًا، “الدولة الفدرالية، هي دولة واحدة تتضمن كيانات دستورية متعددة، لكلّ منها نظامها القانوني الخاص واستقلالها الذاتي والسياسي، وهي بذلك عبارة عن نظام دستوري وسياسيّ مركّب”. والأمثلة كثيرة مثل: الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وسويسرا، والإمارات العربية المتحدة. ” والاتحاد الاختياري هو أحد ممارسات حق تقرير المصير المنصوص عليه في العهود والمواثيق الدولية لحقوق الانسان، وميثاق الأمم المتحدة”.
أمّا الكونفدرالية فهي اتحاد اختياري بين دول مستقلة تتمتع بشخصية مستقلة، تديرها هيئات مشتركة، تتكون من ممثلين عن الدول المكونة للاتحاد. مثل الاتحاد السوفيتي السابق (اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية)، والاتحاد الاوروبي.
والفروقات بين الفدرالية والكونفدرالية كثيرة منها:
في الفدرالية، يوجد رئيس واحد وحكومة مركزية واحدة، وهي السلطة الوحيدة المخولة بإعلان الحرب والسلام، وتمثيل دبلوماسي واحد في الخارج، والجنسية واحدة لجميع المواطنين، ولا يحق لأي اقليم الانفصال.
أما في الكونفدرالية، فلا توجد حكومة مركزية، إنما هيئات مشتركة تضم مندوبين من جميع الدول، ولكل دولة الحق في إعلان الحرب والسلام، والتمثيل الخارجي الخاص بها، ويحق لكل دولة الانفصال في اي وقت، والجنسية متعددة بتعدد الدول وكل مواطن يتبع جنسية بلده، وأي خرق للقانون من جانب أي دولة تتحمل نتائجه بمفردها، في حين تتحمله الحكومة المركزية في الفدرالية. والحرب بين الدول في الكونفدرالية تُوصف بالحرب الدولية، أما الحرب بين الأقاليم في الفدرالية فتُوصف بالحرب الأهلية. وهناك أشكال وسيطة بين الفدرالية والكونفدرالية، قد تكون أقرب الى الأولى أو الثانية. والأمثلة كثيرة في الهند وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
كما أن تشكّل الفدرالية أو الكونفدرالية لا يكون بوصفة جاهزة، والتوصيف النظري السابق نتاج خبرة وتجارب شعوب لفترات طويلة، قد تمتد إلى مئات السنين، تخللها كثير من مراحل الصراعات والحروب والسلام. وقد تكون الفدرالية هي الحل في مرحلة ما، كما حصل في العراق، بعد تأسيس إقليم كردستان، في إثر الغزو الأميركي للعراق وانهيار النظام المركزي الاستبدادي. وهي فدرالية الأمر الواقع فرضها الأكراد بانتزاع استقلالهم، وبمساعدة الغزو الأميركي. وهذه الفدرالية مهددة بالانفراط بسبب الصراع المستمر بين الدولة المركزية والإقليم، على الأرض والثروة، واتّهام الإقليم الدائم برغبته في الانفصال عن المركز، وتأسيسه دولة مستقلة. إنها التجربة الأولى في المنطقة لشعب يناضل منذ قرن للحصول على حريته، ولابد لها أن تعبر المخاض نحو التوحّد الاختياري، بعد التخلص التدريجي من الذهنية القومجية الشوفينية.
ولنتوقف عند أهم الاعتراضات على الفدرالية بقصد المزيد من التوضيح:
- أوّل الاعتراضات هو أنّ الفدرالية تعني تقسيم سوريّة. وثانيها، أنّ الفدرالية تأتي لتوحيد المُجزَّأ، وليس تفكيك الموحّد، وسوريّة هي دولة موحّدة أوَّلًا، وهي جزء من الكل أيّ الوطن العربي، أو كما يسمّيها بعضهم “الأمّة العربية” فهل نجزِّئ المجزّأ أيضًا؟ وثالثها، أنّ الاعتراف بالحق القومي للكرد وفدراليتهم، سيجرُّنا إلى الاعتراف بالقوميات الأخرى من مثل الأرمن والتركمان والأشوريين-السريان، وفي هذه الحالة تتفكّك سوريّة تمامًا. وهناك اعتراض يدعو إلى تأجيل النقاش حول الفدرالية والدستور وغيرهما إلى ما بعد إسقاط النظام، حتى نتجنب الآثار السلبية لهذا النوع من المناقشات على الصراع الدائر الآن، إضافة إلى ضرورة الاستفتاء الشعبيّ على هذه المسائل لإقرارها دستوريًّا. وتعبر الاعتراضات المذكورة عن رفض مُسبق للفدرالية، لأسباب مختلفة منها:
أوّلًا: لأن الفدرالية لا تعني التقسيم، كما يُروج المناهضون لها. إنّها خطوة نحو التوحد على أسس جديدة، متجاوزة الاستبداد. والفدرالية شكل من أشكال اللامركزية الإدارية والسياسية لتسيير شؤون الوطن. على الرغم من أن الانفصال يمكن أن يحصل في ظروف معينة في الفدرالية. لكن الانفصال هو الاستثناء وليس القاعدة.
ثانيًا: الأمة العربية غير موجودة في الواقع، كما أنها لم تكن موجودة تاريخيًا بوصفها أمة عربية موحدة. وفي حال تحولت جميعها أو قسم منها في المستقبل إلى دول ديمقراطية وأرادت التوحد فدراليًا، أو كونفدراليًا، فإن هذا لا يمنع وجود صيغة جديدة للفدراليات الأصغر. وقد جمّعت قسرًا القوميات المختلفة في حدود سوريّة التي رسمها سايكس وبيكو، وهذا التجميع القسريّ لابدّ له من أن يتفكك. وتأتي الفدرالية بوصفها حلًّا لإشكالية التنوع القومي، والارتقاء من التجمع القسري، إلى التوحد الاختياري الحرّ.
ثالثًا: إقحام الأرمن والتركمان والسريان لا مبرر له. لأن جميع هذه الاقليات لم تطالب يوما بالحقوق القومية التي قد تصل إلى الحكم الذاتي أو الفدرالية. فالأرمن موجودون في غير أرضهم التاريخية التي هي أرمينيا، وأعدادهم قليلة ومحصورة تقريبًا في مدينة حلب. والتركمان والأشوريين مبعثرون جغرافيًا وأغلبهم اندمجوا مع العرب. لكن هذا لا يعني أنهم محرومون من حقوقهم الخاصة، مثل، إحياء ثقافتهم، ووجود مدارس خاصة بهم، للمحافظة على لغتهم إلى جانب اللغة المركزية.. إلخ. وحسب الواقع الملموس يمكن حل إشكالية التعايش المشترك على قاعدة الحرية وحقوق الانسان وحقوق الأقليات الصغيرة، كما هو منصوص عليها في المواثيق الدولية.
وتأجيل النقاش حول الفدرالية وغيرها إلى ما بعد سقوط النظام هي محاولة للهروب إلى الأمام. وهو نفاق سياسي مكشوف. وبالعكس من الضروري فتح أوسع حوار حول مسائل الثورة السورية، وحول الاشكال المتصورة لسوريّة المستقبل. ومن ضمن هذه المسائل: الدستور المقترح، والمسألة الكردية. وليس بالضرورة أن تُفضي هذه الحوارات إلى ترسيمة معينة سيتم فرضها على الشعب في المستقبل. لأن الواقع الملموس والمآل الذي سيفرزه الصراع الراهن، هو الذي يحدد الأشكال الملموسة لشكل الدولة والدستور وغيرهما. المهم أن نشارك في هذه الحوارات ومنذ الآن بذهنية مفتوحة، غير عصبوية وغير شوفينية. والانفتاح على جميع الحلول التي تحفظ وحدة الوطن والشعب والدولة القادمة، والتي تستجيب بالوقت نفسه لحقوق جميع التنوعات القومية والإثنية في المجتمع السوري.
وفدرالية “روج آفا-Rojava”، أي فدرالية شعوب شمال سوريّة كما أعلنها حزب الـ pyd في حزيران الماضي. والتي تشمل الشمال السوري بعمق 40 كم، والممتدة من دبريك وحتى شاطئ المتوسط. وهي فدرالية “مؤسسة على مفهوم جغرافي واللا مركزية السياسية والإدارية ضمن سوريّة الموحدة”، وقد لاقت هذه الفدرالية الرفض من أعداء الكرد وأصدقائهم. حيث رفضها النظام والمعارضة الإسلامية والقومية العربية وفق ذهنيّتهم الأيديولوجيا الفاشية. كما رفضها الأصدقاء ومن ضمنهم “المجلس الوطني الكردي” لعدم موضوعيتها.
حيث لا يوجد في الشمال السوري، الذي يسكنه مزيج من العرب وجميع الأقليات، إشكالية مع المركز، حيث تكون الفدرالية الجغرافية حلًّا لها. الإشكالية فحسب، مع الكرد الذين يشكلون أغلبية قومية في عفرين وكوباني والقامشلي، وهي مدن مبعثرة جغرافيا لا يمكن أن تضمها فدرالية موحدة. ولذلك فأيّ حكم ذاتي أو فدرالي يجب ألّا تتعارض مع حقوق السكان الآخرين. وهذا يعني رفض التهجير أو التغيير الديموغرافي الذي يحاول الـ pyd فرضه على السكان، كما يحصل في تل أبيض ومنبج وعدد من البلدات في الشمال السوري. إلّا أنّ الـ pyd بعقليته الشوفينية، وبإستراتيجيته، يعدّ أن كل الشمال السوري من ضمن كردستان الكبرى.
إنّ فدرالية “روج آفا” جغرافيّة شكلًا، وكرديّة مضمونًا، بفعل الهيمنة الكردية العسكرية والسياسية الاستبدادية، ولابد أن تنفجر في أيّ لحظة بسبب مستقبل الصراع الدائر وتحولاته. إلّا أن رفض استبداد “وحدة حماية الشعب” الكردية، ومحاربته لأنه موجود في محور الأعداء مع النظام، ورفض فدراليته، لا يعني رفض الفدرالية واللامركزية. حيث يمكن الدعوة إلى فدرالية جديدة متّفق عليها أوّلًا مع الطبقة السياسية الكردية، وبالتوافق مع الدولة المركزية الجديدة، بما يضمن حقوق الشعب عامة وحقوق الكرد خاصة.
من الوجهة المبدئية وفي جميع الأحوال، سواء بقيت سوريّة دولة مركزية أو تحولت إلى دولة اتحادية، من حق الكرد أن يكون لهم كيان سياسي قوميّ في مناطق وجودهم الكثيف. حيث يمكن أن يكون حكما ذاتيًّا، أو جزءًا فدراليًا ضمن دولة متحدة، أو أيّ تجسيد آخر، مع التأكيد من جانب الجميع على الوضع الملموس للكرد في سوريّة، وألّا يكون هذا الجزء ملحقًا بالكيانات الكردية في تركيا والعراق. إن الفدرالية الأصيلة المطلوبة هي فدرالية قومية كردية مستندة إلى الواقع الملموس للكرد، وليس فدرالية جغرافية ملفقة مبنيّة على الإكراه والسيطرة العسكرية، وتهجير السكان الأصليّين.
خاتمة: بعض الاستنتاجات
- مما سبق يمكن القول، إن فقدان الثقة بين العرب والكرد-أخُصّ الطبقة السياسية والعسكرية المهيمنة- والرغبة في الانتقام والثأر، هي السمة الواضحة للصراع العربي-الكردي على الأرض. وهذا الصراع مرشّح للتصاعد في اتجاهات أكثر دموية. كما أنه لا توجد حلول سحرية فورية. لكن يمكن وضع بعض الأسس الأوّلية لاستعادة الثقة بين الطرفين منها:
أ- الاعتراف بأن الكرد شعب أصيل في المنطقة ومن ضمنها سوريّة. وأن يتجاوز السوريون حجة النظام القائلة بأن الكرد في سوريّة هم مهاجرون من تركيا، لأن الحقيقة بسيطة وهي أن هذه الهجرات التي تمت بعد الحرب العالمية الاولى هي هجرات ضمن البيت الواحد. ومن ثمّ، يجب ان يكون مبدأ حق تقرير المصير هو الأساس النظري الذي يرتكز إليه حل القضية الكردية. وهو هدف أساس من أهداف الثورة السورية.
- أن تكفّ المعارضة السورية عن حجب الشمس بالغربال، وترحيل الحلول إلى الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة، بصفتها صاحبة جميع القرارات والحلول، والتي أصبحت في الأفق غير المعلوم في المدى المنظور. وأن تكفّ عن المراوغة والنفاق، بذريعة أنها معارضة مازالت خارج السلطة وليس لديها الآن ما تقدمه للكرد. وكأن القضية الكردية لعبة أو حفنة تراب يمكن أن نقدمها أو نحجبها عنهم. إنّ ترحيل القضية إلى المستقبل يعني عدم الاعتراف بها.
ج- الإدارة الذاتية للمناطق الكردية حق للكرد بغض النظر عن التوقيت، بعد أن اغتصبها النظام السوري العروبي منذ عقود، والآن حصل عليها الكرد بفعل الثورة، وبعد تحرير الجيش الحر للريف الشمالي، وقام النظام بتسليمها للـ pyd مرغمًا، وضمن التكتيك الذي شرحناه سابقًا، فلماذا لم نعترف لهم بهذا الحق؟ وعندما أعلنوا فدرالية “روج آفا”، فلماذا رفضت؟ وإذا رفضت، فلماذا لم نقدم لهم البديل؟ هل لأن الـ pyd حزب استبدادي؟ أم لأنه رفض مشاركة المجلس الوطني الكردي إدارة المناطق، أم لأنه متحالف مع النظام؟ استبدادية الحزب، واحتكاره لإدارة المنطقة لا يلغي مشروعية الإدارة الذاتية، والفدرالية من حيث المبدأ، لأن هذه الاستبدادية هي مشكلة الشعب الكردي سيحلها في المستقبل، ومهمتنا أن نمارس النقد ونقف ضد الممارسات الشوفينية التي يمارسها. والسؤال الذي نوجّهه لأنفسنا، هل الكتائب العسكرية والمؤسسات السياسية مثل الائتلاف وغيره ديمقراطيّة؟ ولماذا فشلنا في تنظيم صفوف الثورة بأن يكون الـ pyd من ضمن صفوفنا بدلًا من أن يكون في صف النظام؟ وكما قد شرحنا سابقًا، إنّ مشروع النظام مختلف عن مشروع الكرد بقيادة الـ pyd.
د- صحيح أنّه من الصعب الآن رسم الشكل الذي يمكن أن يتخذه شكل الدولة الاتحادية في المستقبل، أو اللامركزية السياسية أو الإدارية، أو الفدرالية، لأن ذلك سيخضع للظروف الملموسة بحسب المآل الذي سيؤول إليه الصراع الدائر، وطبيعة الحل العسكري والسياسي الذي ستقوم عليه سوريّة المستقبل. لكن المهم الاعتراف بالحقوق منذ الآن، وحق الكرد خاصة في كيان قومي بغضّ النظر عن الشكل الذي سيأخذه، فدرالية أو حكم ذاتي أو أيّ شكل آخر. وأن نستجيب لكل الحلول المطروحة طالما تحفظ وحدة الوطن، وحقوق الجميع. وأن نرفض قطعًا أيّ فدرالية أو كيان يقوم على قاعدة المذهبية الدينية، لأن ذلك يقف عائقًا أمام التطور الإنساني والحضاري لمجتمعنا.
هـ- أليس من المخجل أن تتفق جميع أشكال المعارضة مع النظام ضد حرية شعب وقضيته التي تعدّ إحدى قضايا الثورة المهمة؟ أليس المطلوب من القوى الثورية التي مازالت تحمل لواء الثورة وأهدافها مراجعة نقدية للمرحلة السابقة ومن ضمنها القضية الكردية، ومسؤوليتنا تجاه الصراع الدموي بين العرب والكرد؟
- إذا كان المطلوب من العرب في سوريّة، أن يتجاوزوا العقلية القومية الشوفينية، وأن يعترفوا بحقوق جميع مكونات الشعب السوري، من دون أن يفقدوا الأمل بحلّ ديمقراطي فدرالي أو كونفدرالي للدول الناطقة بالعربية في المستقبل وهذا حقهم. كذلك من حق الكرد الانتماء إلى الأمة الكردية المشتتة. لكنّ المطلوب من الطرفين، في هذه المرحلة ألّا يغلب الانتماء إلى العروبة أو الكردية، الانتماء إلى الوطنية السورية في صراعها ضد الاستبداد، والانتماء إلى الوطنية السورية، والحوار العربي الكردي، والتوصل الى رؤية مشتركة، هو المقدمة الأولى لإرساء قاعدة للعمل الوطني المشترك، ضد القوى المضادة للثورة، وهو المدخل لتحقيق الكرد حقوقهم ومصالحهم. حتى الوصول إلى بناء دولة ديمقراطية حديثة، دولة (المواطنة) التي تحمي حقوق الجميع.
- من المهم أن نتوقف عند أهم الدروس في تاريخنا المعاصر. وهو أن الاعتماد على الخارج كان كارثة في جميع المقاييس. وألّا نقبل لأنفسنا أن نكون أُلعوبة في يد الأطراف الخارجية كما حصل مع المعارضة العربية والكردية. فالنظام زائل، وأميركا وروسيا وغيرهما سيرحلون أيضًا. ونحن عربًا وكردًا ومن جميع القوميات والإثنيات باقون على هذه الأرض، ومحكومون بالعيش المشترك. وعلينا إيجاد الأسس القوية لهذا العيش المشترك.
- وإذا كانت الطبقة السياسية العربية والكردية لم ترتق إلى مستوى الثورة، فأين دور المثقف العربي والكردي، ودوره في بناء الأرضية المعرفية والثقافية المجتمعية بأنواعها، للعيش المشترك، وترميم ما يخربه السياسيون، وخنادقهم الضيقة؟
[1] (1) حنا بطاطو-العراق-الطبقات الاجتماعية- ص 44-ترجمة عفيف الرزاز-ط1-1990).
[2] http://iraqja.iq/view.8(2)
[3] (3) قراءة في مؤتمرات المعارضة العراقية السابقة: (http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=13366
(4) محمد كرد علي: نصف كردي لصالح اللا كردي-ابراهيم محمود-من مذكرات محمد كرد علي[4] http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=print&sid=20221