مقدمة:

تقليديًا، عُدّت التربية منظومة محافظة، تتعاطى المحتوى الثقافي المُجرّب، والراسخ، وتُسيّرها غاية محددة تتمثل بحفظ التراث الثقافي ونقله عبر الأجيال المتعاقبة، من خلال المناهج التعليمية؛ فالتربية، عند هذا المستوى، تُعيد إنتاج التراث الثقافي، ومن ثم تعيد إنتاج الأجيال عبر الزمن.

لقد ظلّت التربية ردحًا طويلًا من الزمن منفصلةً عن ميدان الثقافة ودينامياتها المتغيّرة، وظلّ المثقفون ينظرون إليها على أنها ليست أكثر من خدمة ينظمها المجتمع ويديرها لتربية الأجيال على التراث بمفهومه التقليدي (المعارف والقيم والعقائد والعادات والتقاليد)، بغية حفظ المجتمع وصيانه وحدته الثقافية وحمايته من التقلبات والتغييرات التي يمكن أن تهدد كيانه.

أما اليوم، فإن الفلسفات المعاصرة  تعدّ التربية ميدانًا مهمًّا يمكن أن يُسهم في عمليات تطوير المجتمعات عبر تجديد فلسفته التربوية وغاياتها، وتوجيهها نحو تكوين الإنسان الجديد، الذي يتمتع بقدرات عقلية ومعرفية ووجدانية وسلوكية والمزود بأدوات التفكير العلمي – النقدي، وبدوافع الإنجاز والابتكار.

تستهدف هذه المقالة تسليط الضوء على منظومة التربية بقصد استكشاف مدى قدرتها على تجاوز أدوارها التقليدية المتمثلة بحفظ التراث الثقافي ونقله إلى الأجيال المتعاقبة، والإسهام في عمليات تطوير الانسان والمجتمع.

أولًا- ما الثقافة the culture؟

الثقافة مفهوم مركب، بل هو مفهوم معقد، وقد صاغ الباحثون والمفكرون للثقافة تعريفات عديدة انطلاقًا من خلفيات معرفية متنوعة: إنتروبولوجية، اجتماعية، فلسفية… إلخ. وسوف نسوق بعضًا منها لنخلص إلى تعرُّف مكوناتها وبعض خصائصها.

من تعريفات الثقافة أنها ذاك “الكلّ المركب الذي يشتمل على المعرفة والفنون والمعتقدات والأخلاق والقانون والعُرف، وغير ذلك من الإمكانات والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوًا في مجتمع”[1]. وهي “ذلك الكل المركب الـذي يـتـألـف مـن كـل مـا نفكّر فيه، أو نقوم بعمله أو نتملكه، كأعضاء في مجتمع “[2]. أو هي “البرمجة الجماعية للعقل” التي تميز مجتمعًا معينًا عن الآخر، بحسب غيرت هوفستد Gerard Hendrik (Geert) Hofstede عالم النفس الهولندي[3]. وعرضها مارك شميت Mark Schmit ببساطة أكثر، من خلال وصفها بأنها “الطريقة التي نؤدي بها الأشياء هنا”.[4]

وبالطبع، يمكن إضافة التعريف الأنثروبولوجي المعروف الذي يرى أن الثقافة هي “ما يفعله الناس، أفرادًا ومجموعات، بالإضافة إلى ما ينتجونه نتيجة لما يفعلونه”. وبصورة أخرى، يمكن وصف الثقافة بأنها المجموعات الفريدة من القيم والمعتقدات والمواقف والتوقعات، إضافة إلى اللغات والرموز والعادات والسلوكات ومنتجاتها، فهي تتضمن جانبين: جانب معنوي وجانب مادي[5].

تضم الثقافة عناصر معنوية، كالفكر والمعتقدات والمعارف، وعناصر مادية؛ فالتكنولوجيا عناصر ثقافية، ومائدة الطعام والأزياء عناصر ثقافية، وكذلك أنماط الاستجابات السلوكية تجاه مواقف الحياة المختلفة.

يرى لنتون Linton، في كتابه (الأساس الثقافي للشخصية) أن عناصر الثقافة ثلاثة هي: العموميات والخصوصيات والبدائل. وقصد بعموميات الثقافة تلك المشتركات بين غالبية أفراد المجتمع، كاللغة والعادات والتقالـيد السائدة وطريقة المأكل والملبس وأساليب التحية وأنواع العلاقات الاجتماعية الأساسية. وتتمثل الخصوصيات في العناصر الثقافية التي توجه سلوك فئة معينة من فئات المجتمع: مهنية، طبقية، دينية… إلخ. أما البدائل، فتمثلها العناصر الثقافية الجديدة، سواء كانت وافدة على المجتمع، أم ناشئة من تطوره وتطور تفاعلات أفراده[6].

ويرى آخرون أنه يمكننا التمييز بين مصطلحات ثلاثة: التحيّز الثقافي، ويشير إلى القيم والمعتقدات المشتركة بين الناس، ثم العلاقات الاجتماعية، وتـعـرف بـأنـهـا أنمـاط الـعـلاقـات الشخصية بين الأفراد، ومن التركيبة الحية للعلاقات الاجتماعية والتحيز الثقافي، يمكن الحديث عن نمط الحياة، وهو الناتج الكلي المركب من الانحيازات الثقافية والعلاقات الاجتماعية[7].

تساعد الثقافة في التمييز بين فرد وآخر، وبين جماعة وأخرى، وبين مجتمع وآخر، بل إن الثقافة هي التي تميز الجنس البشري عن غيره من الأجناس، لأن الثقافة هي التـي تـؤكـد الـصـفـة الإنـسـانـيـة فـي الجـنـس البشري، وتمتاز كل ثقافة بقيمها، وعلى أساس المتشابهات من تلك القيم، أمكن تجميعها في فئات ثقافية كبرى، بلغت عشرة. ترتبط كلٌّ منها بجملة من العوامل التي تشمل الجغرافيا واللغة والدين والتاريخ.

ومع تنوع الثقافات العالمية وتشابكها في العصر الحديث، وازدياد حاجة البشر إلى التعامل مع بعضهم، أولى الباحثون اهتمامهم لدراسة الثقافات المختلفة، ورصد الاختلافات والتشابهات بينها، وعمل المسوح الواسعة لدى شعوب كثيرة، وأفضى ذلك إلى تميزها، بحسب قيمها الأكثر وضوحًا؛ فكان علم الذكاء الثقافي .[8]

وفي الوقت ذاته، تنمو ثقافة عالمية/ كونية، تتسع وتمتد على مساحات أوسع فأوسع، مع ضرورة الانتباه إلى عدم السماح لها بالحلول مكان أي ثقافة محلية، مهما كان حجمها على الخريطة الثقافية، لأن العقل البشري يزداد اقتناعًا بأنه لا يمكن الاستغناء عن أي ثقافة، بالقدر الذي يدفع البشرية إلى عدم الاستغناء عن أي نوع حيوي؛ فالتنوع هو الأصل في الطبيعة والمجتمع.

“يحدث التغيّر الاجتماعي وتقدّم المجتمع من خلال زيادة العناصر المتغيرة في الثقافة، وهي التي تسمّى “البديلات”، وهي عناصر تتصف بالحركية والتغيير السريع، مقارنة بالعموميات أو الخصوصيات الثقافية، فعندما تظهر هذه العناصر، سواء أكانت نابعة من المجتمع نفسه أم وافدة من مجتمع آخر، يجري قبولها، فتندرج تحت العموميات أو الخصوصيات. وعندما تزداد العناصر المتغيرة، بالنسبة إلى العموميات، يزداد التغير الاجتماعي”[9]، ومن ثم تزداد الحاجة إلى ضرورة إعادة النظر في الثقافة، كمنظومة، ما يعيد إليها وحدتها واتساقها من جديد.

وفي نهاية الأمر، يحدث التغيير الاجتماعي عبر تغير أنماط الحياة التي هي حاصل تفاعل التحيزات الثقافية والعلاقات الشخصية بين أفراد المجتمع، نتيجة العلاقات بين الأنماط الثقافية المختلفة وتجاورها وتأثرها فيما بينها.

ثانيًا- ما التربية The Education ؟

“التربية منظومة ثقافية تنطوي على تعليم أعضاء المجتمع وتعلّمِهم، صغارًا وكبارًا، مجموعة من المعارف والمهارات والاتجاهات والقيم والمعتقدات وسواها من عناصر الثقافة الإنسانية، وذلك بهدف تنمية شخصياتهم تنمية متوازنة متكاملة، وإعدادهم للحياة والمحافظة على المجتمع وتطويره وتحسين نوعية الحياة فيه”[10].

1- هي منظومة، لأنها تتمتع بخصائص أية منظومة اجتماعية، فالتربية تتجسد في مؤسسات هي كيانات مركبة من مكونات عدّة متفاعلة وظيفيًا فيما بينها، ولكل مكون فيها عناصره، فلكل منظومة تربوية مدخلاتها inputs ، وتجري داخلها عمليات process ينتج عنها مُخرجات outputs وتتبعها عملية تغذية راجعة feedback وسياق وبيئة تستمد منها مدخلاتها وتحدد طبيعة عملياتها وتتلقى مخرجاتها. انظر الشكل

مكونات المنظومة التربوية

تضم مدخلات المنظومة التربوية العناصر الداخلة في العملية التعليمية، ويُعَدُّ الطلاب أهمّ عناصرها، إضافة إلى المعلمين والأهداف التعليمية والمحتوى التعليمي (المناهج التعليمية والطرائق والأساليب التعليمية)، وإضافة إلى البيئة التعليمية ببعديها المادي والاجتماعي – النفسي، فضلًا عن الإدارة والتمويل… إلخ، وجميع المداخل هي عناصر مصدرها المجتمع المحلي والمجتمع الانساني، لذا فمواصفاتها ترتبط بخصائص المجتمع ومدى جودة مكوناته.

ويُقصد بالعمليات التعليمية تلك الخبرات التي يكتسب المتعلمون في سيرورتها المعارف والقيم والمهارات، وهي تجري داخل غرفة الصف أو خارجها أو خارج المدرسة. وترتبط هذه العمليات بالمدخلات جميعها وتستند إليها، ويبرز فيها خصوصًا محتوى التعليم وأساليب التدريس والتقويم وتقنياتها ووجود المباني الملائمة لنجاح هذه العمليات.

منظومة التربية مفتوحة، كباقي المنظومات المجتمعية الواقعية، أي إنها وثيقة الصلة بتأثيرات الوسط الاجتماعي. لذا فإن معرفتها لا يمكن أن تتحقق إلاّ بمراعاة المؤثرات الخارجية فيها، وردة فعل منظومة التربية على تلك المؤثرات. وعناصر الوسط الاجتماعي هي تلك المتغيرات التي تنشأ وتتغير خارج النظام التعليمي، وتؤدي إلى تغير حتمي في مسار النظام، من دون أن يكون للنظام قدرة على التأثير فيها بصورة مباشرة.

إنها متغيرات مهمة يلزم أن تكون محلًا للدراسة المستمرة من النظام التعليمي لإدراك أثرها فيه، فنجاح النظام التعليمي أو فشله في تحقيق أهدافه مرهون بقدرته على خلق درجة عالية من التواؤم بين عملياته من جهة، والوسط الاجتماعي الذي يعمل وسطه من جهة أخرى.

تتأثر العمليات التعليمية بالمناخ الثقافي الذي يسود المؤسسة التعليمية، فقد يكون الضبط هو نمط العلاقة بين الإدارة والمعلّمين من جهة، وبين المعلمين والطلاب من جهة أخرى. وقد تسود العلاقة الإنسانية والتشاركية بين جميع أعضاء المؤسسة، ويرافقها النقاش والحوار وأساليب التدريس وطرائقها.

ويقصد بمخرجات النظام التعليمي الحصيلة الكمية والنوعية لمدخلات النظام التربوي وعمليات التعليم والتعلّم والتقويم. ويُعبّر عنها كميًّا من خلال عدد المتخرجين ونسبتهم إلى الملتحقين، ونوعيًا في مستوى المعارف والمهارات والصفات النفسية الأخرى التي اكتسبوها ومدى ملاءمتها وكفايتها للقيام بالمهمات الحياتية.

وتمثل التغذية الراجعة استجابة النظام التي يمكن أن تخبرنا عن مدى نجاعة العملية التعليمية: نقاط قوتها وكذلك ضعفها، ما يسمح للتربويين بتقدير حاجات النظام للإصلاح أو للمساندة.

2- هي منظومة تؤدي وظائف تعليمية ذات طبيعة ثقافية:

يتّجه عمل المنظومة التربوية نحو أعضاء المجتمع -صغارًا وكبارًا- لإكسابهم مجموعة من المعارف والمهارات والاتجاهات والقيم والمعتقدات وسواها من عناصر الثقافة الإنسانية، وذلك بهدف تنمية شخصياتهم تنمية متوازنة متكاملة وإعدادهم للحياة والمحافظة على المجتمع وتطويره وتحسين نوعية الحياة فيه[11]. وتبرز وظائفها الثقافية من خلال:

 تبسيط التراث الثقافي، وتقديمه للمتعلمين وفق نظام تدريجي يتلاءم وقدرات المتعلمين وخصائصهم. إن تبسيط الثقافة عملية مهمة، لأنه يصعب على المتعلمين وبخاصة الصغار منهم استيعاب نُظم الحياة المعقدة والمتشابكة، والمعارف المعبرة عنها، فلو تم تقديم تلك المعارف والمعلومات، كما هي بتعقيداتها وتشابكاتها، فإن الطفل لن يستوعبها، وقد يشعر بالضياع. لذلك تقوم أجهزة التربية المتخصصة بعملية تبسيط تلك المعارف وتفكيك نُظمها المعقدة وتقديمها إلى المتعلمين بصورة متدرجة، انطلاقًا من المفاهيم البسيطة إلى المعقدة، ومن المفاهيم الملموسة إلى المجردة، ومن القريبة إلى البعيدة، من خلال مناهج صفية ولا صفية تصاعدية عبر عدد من المراحل التعليمية، ما يمكِّن التلاميذ من الاستجابة لها والتفاعل معها.

  • تنقية وتطهير التراث الثقافي: ترى التربية أن عليها واجبَ حماية المتعلمين، وخصوصًا الصغار، من بعض الأخطار الناتجة عن تعرضهم بصورة مباشرة لما هو متاح من معارف ومعلومات وقيم، بعضها غثٌ وبعضها سمينٌ، سواء حدث ذلك من خلال الفضاء الواقعي و/أو الافتراضي، وكذلك تنقية ما يضمه التراث بعاداته وتقاليده وأعرافه من تناقضات، بعضها ما زال يحمل قيمة ايجابية، فيما تصيب بعضَها الآخر علل وسلبيات تغدو حينها بائدة لا تصلح لمجاراة الحياة والتطورات في نظمها المختلفة. لذا يؤدي النظام التعليمي دورًا مهمًا، من خلال تنقية ما سيتم تقديمه إلى المتعلمين كمحتوى وأنشطة عبر حذف كل ما هو غير ملائم.
  • نقل الثقافة: التربية مسؤولة عن نقل العموميات، أو ما يمكن أن يسمى بـ “اللب الثقافي”، بما تضمه من المشتركات بين غالبية أفراد المجتمع، كاللغة والعادات والتقالـيد السائدة وطريقة المأكل والملبس وأساليب التحية وأنواع للعلاقات الاجتماعية الأساسية بعد تنقيتها. وفي مراحل تعليمية لاحقة وضمن فروع تخصصية تنقل خصوصيات العناصر الثقافية تلك التي توجه سلوك فئات معينة من المجتمع: مهنية، طبقية…إلخ.

    3- التربية منظومة ثقافية نشطة: تؤدّي وظائفها من خلال المناهج التربوية المختلفة التي تتضمّن مجالات متنوعة، يهدف بعضها إلى تنمية شخصية الفرد عبر مجالات التربية الجسدية والعقلية والانفعالية والفاعلة والحركية، فيما تتجه مجالات أخرى لتنمية المجتمع وتأهيل الأفراد للعيش فيه والتكيّف معه، في مجالات التربية السكانية والأسرية والدينية والمعرفية والاقتصادية والمهنية والتقنية والمدنية والوطنية والسياسية والأخلاقية والجمالية والفنية والرياضية وسواها[12].

4- الوظائف الثقافية المتقدمة للتربية:

هنا، نعيد طرح السؤال المعني بدور التربية التجديدي: “هل يمكن لمنظومة التربية، بما تتمتع به من خصائص، وبما تملك من قدرات وآليات، التعاطي مع المعرفة وعناصر الثقافة المختلفة، من منظور تقدّمي يتعدى وظيفتيها الثقافيتين التقليديتين: الحفظ والنقل، والوصول إلى مستوى أرفع من النشاط عنوانه الإسهام في تغيير المجتمع وتطويره عبر تجاوز العناصر الثقافية التي ثَبت عدم صلاحيتها وتلاؤمها مع متطلبات الحداثة والتطوير؟

ماذا يلزم كي ترتقي المنظومة التربوية من مستوى المساعد أو المُيسّر لاستهلاك الثقافة، إلى مستوى المشارك في تطويرها وإنتاجها إلى جانب القوى المجتمعية الأخرى؟

قد تكون أفضل إجابة عن السؤال الكبير هي إعادة طرحه عبر مزيد من الأسئلة التفصيلية التي يمكن أن تكون محاولة لتفكيك السؤال الرئيس، موجهة بدقة أكثر، عميقة ومباشرة مثل:

– ما الفلسفة التربوية التي تستجيب لحاجات العصر الراهن؟ وما أهمّ خصائص السياسة/ السياسات التربوية المتصلة بديمقراطية التعليم، وتوزيعه على مختلف الفئات المجتمعية؟ ما مواصفات الإنسان الذي تطمح إليه التربية، أهو محافظ أم منفتح، أهو يقيني أم متشكك ناقد؟ وما الغايات العليا للتربية وأهدافها؟ وما المضامين التعليمية التي يُعتقد أنها تلبي متطلبات العصر الذي نعيشه، باعتباره عصرًا يكتنفه الغموض واللاتعيين وعدم اليقين؟ وما المهارات التي تلبي حاجات متعلمي القرن الراهن، قرن الثورة العلمية التقنية المتسارعة؟ وما المعايير التي يلزم الركون إليها بغية ضمان بلوغ المتعلمين القدرات الشخصية بكامل أبعادها؟

وأيضًا، ما الطرائق والأساليب التعليمية/ التعلّمية الكفيلة بتحويل المتعلّم من متلقٍ للمعرفة وحافظ لها ومستهلك، إلى شريك في إبداعها ومعالجتها وتقويمها وإعادة إنتاجها؟ ما البيئة التعليمية المادية التي تتيح للمتعلم إمكانية العمل الخلاق؟ ما القيم الإنسانية التي يجب أن تعم الفضاء التعليمي الخلاق؟

– فلسفة تربوية تتيح تفتح العقل، تشجع التفكير النقدي، تتيح وجود بيئات تعليمية متقدمة توفر أفضل شروط تفاعل مدخلات المنظومة التعليمية.

– سياسة تربوية تتبنى مبدأ ديمقراطية التعليم، وضمان نشر خدمات المعرفة على أوسع نطاق، والتمسك بمبادئ العدالة والإنصاف وتكافؤ الفرص بين السكان من دون استثناء على أسس جندرية أو طبقية أو إثنية… إلخ، فضلًا عن مراعاة تنويع التعليم وتفريعه، كي يتمكن كل فرد في المجتمع من بلوغ مراده، وإشباع حاجاته المعرفية والعلمية، سياسة تنبذ احتكار الثقافة والمعرفة بين أيدي فئات من النخب المحددة.

– تربية تتبنى استراتيجيات تعليمية قائمة على البحث والتجريب، والحوار وحلّ المشكلات وتحقيق المشروعات البحثية المستنبطة من الواقع المعاش، وجاذبة لاهتمامات المتعلمين وتنشيط التعرف على العناصر الجديدة/ البدائل، سواء كانت ناشئة من تطور ثقافة المجتمع المحلي، أو وافدة من نظم ثقافية أخرى، لفهمها ونقاشها والحوار معها بحثًا عن المشتركات فيما بينها.

– تبني مناهج تعليمية مفتوحة على التعديلات المستمرة منفتحة على القضايا الاقتصادية- الاجتماعية- الإيكولوجية… إلخ الكبرى، على سبيل المثال: التغيير المناخي، التنمية المستدامة، حقوق الإنسان، مراعاة الشبكات الحية وحمايتها، الطاقة.. التنوع الحيوي، العدالة الاجتماعية… الخ.

– إحداث تحولات عميقة في بنى التعليم العالي، تتحول معها المنظومة التعليمية من مجرد تابع ومستقبل لمخرجات مؤسسات البحث العلمي واتحادات المبدعين والمخترعين، إلى شريك ومُسهم فيها عبر مراكز البحث والتطوير الملحقة بالمعاهد والكليات التطبيقية. إذن، لا مندوحة من تحوّل التعليم العالي إلى حاضنة لرعاية المبدعين وإلى منتج للأفكار الخلاقة.

إن ضمان تأسيس نظام تعليمي/ تعلّمي جيدالنوعية هو أحد أعمدة التنمية المستدامة، يُسهم في تحقيق النجاح في كثير من الأهداف الأخرى. فالتعليم يساعد في القضاء على الفقر، وتقليص الفجوة الجندرية، وزيادة المساواة، وزيادة معدلات الإبداع والابتكار، وتحسين جودة الصحة وتحقيق الرفاه الاجتماعي. وعلى هذه الخلفية، ينظر إلى التعليم على أنه ركن أساسي في تحقيق مجتمع المعرفة، على اعتبار أن هذا المجتمع هو الطريق الحقيقي نحو بناء التنمية المستدامة[13].

في المحصلة، نروم نظامًا تعليميًا ذا نوعية جديدة[14]. لا بدّ من حدوث تحولات عميقة في الأنموذج التعليمي الراهن، والانتقال إلى أنموذج جديد يمكن تسميته “بالتعليم العميق”، ومن أهم متطلباته:

1- إحداث تحوّل على مستوى الإدراك: لا بد من مغادرة منظومة معرفية هي من بقايا فلسفات سادت خلال القرن المنصرم، تعتمد توكيد الذات، والعقلانية، والتحليلية والخطية، مقابل تبني الحدسية والتركيبية والسياقية وغير الخطية/ التفاعلية- الجدلية.

2- تحوّل في القيم: لا بد من إدارة الظهر لقيم تبجل الاستهلاك والتبذير والهدر، وتشجع على المنافسة والاعتقاد بالكم والهيمنة، مقابل التمسك بقيم التكامل والصيانة والتعاون والكيف والشراكة.

3- تحول في السلوك: يُفترض أن يتبع التحوّل في الإدراك وفي القيم تحوّلًا في السلوك الإنساني، ليكون أكثر تعبيرًا عن المسؤولية عن الطبيعة ومواردها المختلفة وعن جميع الكائنات الحية، وأكثر احترامًا لقوانين الأيكولوجيا، وللآخرين، مهما كانت هوياتهم وخصائصهم.

إنها منظومة فكرية قيمية سلوكية جديدة، يمكن أن تلبّي متطلبات العصر، وهي قادرة على نقل المنظومة التعليمية/ التربوية من مستوى المهام التقليدية المحافظة، إلى مستويات جديدة كفيلة ببناء الإنسان القادر على الاستجابة لتلك المتطلبات بنجاح.


[1] E. Taylor. Primitive Culture London : John Murray 1871) نقلًا عن مجموعة من الكتاب” نظرية الثقافة، عالم المعرفة، الكويت 1997 ص 9

[2] R. Bierstedt. The Social Order. New York: Mc Graw Hill.(1963)

[3] اشتهر هوفستد بأبحاثه المتعددة في ثقافات المجتمعات من حول العالم، وابتكاره لنظرية الأبعاد الثقافية.

[4] Mark Schmit, SHRM-SCP. Cultural Intelligence: The Essential Intelligence for the 21st Century, Executive Director SHRM Foundation, (2015).

[5] المعلولي، ريمون: الذكاء الثقافي ونهج توضيح القيم- اعرف نفسك” مركز حرمون للدراسات المعاصرة. 6 كانون الثاني/ يناير 2021.

[6] لنتون، رالف، الأساس الثقافي للشخصية، أنظر الرابط https://bit.ly/3UWZ3JE

[7] مجموعة من الكتاب، نظرية الثقافة، عالم المعرفة، الكويت، 1997

[8] Livermore, David: Cultural Intelligence Center, LLC East Lansing, Michigan. Published by Cultural Intelligence Center) 2013)

[9] سناء خولي، التغير الاجتماعي والتحديث، (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية 1985)، ص65

[10] أنطون رحمة، المرجع السابق

[11] أنطون رحمة، المرجع السابق،

[12] رحمة، أنطون، التربية وفلسفة التربية، دمشق: وزارة التعليم العالي، الجامعة الافتراضية، (2006)،

[13] الأمم المتحدة، بناء مجتمعات المعرفة في المنطقة العربية – اللغة العربية بوابة المعرفة، اليونسكو 2019

[14] – كابرا، فريتجوف: شبكة الحياة، فهم علمي جديد للمنظومات الحية، ترجمة معين رومية، دمشق، الهيئة العامة للكتاب السوريين (2008).