يعرف السوريون أن كلّ الإجراءات العسكرية المنهجية التي اتخذها النظام السوري، تجاه السوريين المتظاهرين من أجل الحرية، كانت نتيجتها التهجير القسري لملايين السوريين إلى الخارج، إضافة إلى التهجير القسري الذي نتج عن طريق الهدن والمصالحات التي فُرضت على المدن والبلدات الثائرة على هذا النظام، التي أجبرتهم على ترك منازلهم وأملاكهم، وعلى الهجرة إلى أصقاع العام كافة، وقد عبّر أحد السوريين عن هذه الهدن والمصالحات بقوله: “كان علينا إمّا أن نرحل أو نموت”، ولم يكن هناك خيار ثالث.
وقد مارس النظام السوري أيضًا إجراءات ذات طابع قانوني وغير عنفي، كما تبدو، وهي تصبّ في مجال التهجير القسري، مثل المراسيم المتعلقة بإحداث مناطق تنظيمية في دمشق وريفها، كذلك إجراءات حرق السجلات المدنية والعقارية وسجلات المحاكم في بعض المدن السورية، بهدف إهدار حقوق السوريين في ممتلكاتهم.
أما الإجراءات الأكثر خطورة في التهجير القسري، فهي تتعلق بالسياسة التي يتّبعها النظام، في منع وعرقلة عودة المهجرين والنازحين إلى مناطقهم، بعد أن انتهت فيها الأعمال العسكرية، وتقييدها بموافقات أمنية شبه مستحيلة تطول إجراءاتها أحيانًا أعوامًا، وحين تتم، يحظى بها الموالون أو ذوو عناصر الدفاع الوطني أو العسكريون، بالدرجة الأولى.
لقد شهدت سورية في سنوات الحرب تهجيرًا قسريًا متعمدًا من قبل النظام السوري، كما لم يشهده صراع مسلح آخر في أي دولة في العالم، وعلى ذلك؛ يتحمّل هذا النظام المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كل عمليات التهجير، بحكم إصراره على الحلّ العسكري، بدلًا من الاستجابة لمطالب السوريين بالحوار باتجاه الحل السياسي، ويمكن تسميته بالتهجير القسري الأول الناتج عن الأعمال العسكرية من قبل النظام السوري وحلفائه.
أما التهجير القسري الثاني والجديد، فيمكن ملاحظته في مرحلة ما بعد سيطرة النظام السوري على معظم الأراضي السورية، عسكريًا، حيث تابع النظام السوري عمليات التهجير القسرية للمواطنين السوريين، بأشكالها الاقتصادية والمعيشية، وشملت السوريين كافة حتى الموالين له، من خلال السياسة المنهجية في تهجير السوريين إلى الخارج، والعمل على زيادة تدهور مستوى الحياة المعيشية للسوريين إلى حدّ الجوع لدى بعضهم.
في البداية، أُجبر بعض السوريين على بيع بعض المدّخرات، وأخذ القروض، متأملين أن تكون فترة الأزمة المعيشية مؤقتة، ويعود كل شيء على ما يرام، استنادًا إلى تصريحات وزراء النظام في بداية الأزمات المعيشية، على أنها عابرة وسيتم تجاوزها خلال أيام معدودة، أما في الواقع فإن الوضع المعيشي ازداد تفاقمًا، واضطر بعضهم إلى القيام بأعمال متعددة، بل قام بعضهم بإخراج الأطفال من المدارس، للعمل ومساعدة عائلاتهم.
في الأشهر الأخيرة من عام 2021، لمس السوريون كافة الأزمات المعيشية الخانقة المنهجية التي يقوم بها النظام، في ما يتعلق بأبسط مستويات المعيشة، حيث لم تعد تتوفر الخدمات الأساسية والمواد الغذائية الرئيسة للمواطن: كهرباء، مياه، غاز، خبز، سكر، زيت، والمحروقات…. إلخ، إضافة إلى تراجع كبير في قيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي، أدى إلى ارتفاع شديد في الأسعار، وإلى ضيق سبل العيش وجعل الحياة في سورية بالغة الصعوبة، حيث لم يعد متوسّط دخل الموظف السوري في مؤسسات الدولة يكفي لمعيشة أيام معدودة. ويمثل انخفاض مستوى الدخل للفرد أهمّ المقاييس المستخدمة في قياس مستوى الحرمان، الذي يتجلّى في ضعف القدرة على إشباع الحاجات الأساسية كالغذاء، وتدني الأوضاع الصحية والمستوى التعليمي، وتدني الأحوال المعيشية والحياة الكريمة بشكل عام.
إن سياسة انعدام هذه الخدمات الرئيسية، وخاصة الكهرباء والمحروقات، أدت إلى نتائج كارثية تتعلق بعدم إمكانية قيام المزارعين بزراعة المحاصيل وتربية الدواجن والمواشي، وهذا مما يخفض مستوى الإنتاج الزراعي أكثر، ويزيد ارتفاع الأسعار، ومن ثم يديم أزمة مستوى المعيشة التي أدت إلى بيع أراضيهم الزراعية بأثمان بخسة، والهجرة بها إلى الخارج، كذلك إجهاض المواسم السياحية في العديد من الأرياف السورية التي كانت تعتمد عليها كمصدر رزق ومعيشية لآلاف الأسر السورية، كذلك لجوء معظم السوريين في الريف إلى قطع الأشجار، بهدف تأمين الدفء في ظل انعدام مادة المازوت، وسيؤدي ذلك إلى كارثة بيئية، بسبب فقدان الثروة الحراجية.
هذا الوضع الاقتصادي المعيشي الكارثي، الذي نعتقد أنه من صناعة النظام بشكل منهجي، أدى إلى ازدحام السوريين أمام مؤسسات الهجرة والجوازات، بغية الحصول على جوازات سفر إلى الخارج، بعد أن باعوا كل ممتلكاتهم حتى منازلهم التي تأويهم، بأسعار منخفضة، حيث تداولت وسائل الإعلام أنباء عن حجوز مقاعد الرحلات الجوية بين دمشق والقاهرة مدة شهرين للأمام، وكذلك إلى العراق ودول الخليج، بل حتى إن بعض الأطباء السوريين هاجروا إلى الصومال، للبحث عن مناطق وبلدان أقلّ كلفة معيشية، حيث ترسخت لدى السوريين المهاجرين كافة قناعةٌ بعدم إمكانية تحسّن حياتهم المعيشية، في ظل استمرار هذا النظام، وستزداد الأمور صعوبة أكثر من الوقت الحالي في المستقبل، لأنها بفعل سياسة اقتصادية منهجية من قبل النظام السوري، بهدف تهجير أكبر عدد من السوريين إلى الخارج.
هذه السياسة المنهجية تلحظ في منح الفرص التجارية والاقتصادية لأعداد محدودة من التجار والصناعيين القريبين جدًا من دائرة النظام، وبالتحديد من أسماء الأسد، في الاستيراد وتأسيس الشركات التجارية والصناعية، وهذا ما دفع آلاف التجار والصناعيين السوريين، وخاصة الدمشقيين، إلى الخروج إلى الخارج، وخاصة مصر، والعمل هناك.
تُعدّ الأزمة المعيشية التي وصلت إليها سورية كارثية، وقد أعلن البنك الدولي أن نسبة 87 بالمئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وبالتالي الوصول إلى مرحلة الجوع الحقيقي. التي لم يصل إليها السوريون، عندما كانت المعارضة العسكرية تحاصر دمشق بين 2012-2015. وهذا مما ولّد جوًّا من اليأس والإحباط، لا سيما مع حالة انسداد الأفق وانعدام الفرص في استثمار الطاقات، وغياب أي مؤشرات للتحسن، وهو ما يعمّق لدى بعض السوريين الشعور باليأس واستحالة تحسين الواقع، خاصة عند وجود مقارنة مستمرة مع دول خاضت تجربة الحرب السورية، مثل العراق وليبيا والصومال، التي تستقبل السوريين بكل اختصاصاتهم المهنية والعلمية، ويعملون فيها، وهذا يعني أن كذب النظام لم يعد له آذان صاغية عند معظم السوريين.
لم تعد أكاذيب النظام تنطلي على السوريين كافة، حتى المواليين منهم، من أن سورية تعيش حربًا كونية، وأن عليهم التحمل والصبر وغير ذلك من أكاذيب. خاصة في ظلّ الدعم الملاحظ واللامحدود من قبل للنظام لدائرة ضيقة ومحدودة من أمراء الحرب السورية وأثريائها، الذين وجد فيهم رأس النظام فرصة لإعادة هيكلة الهرم الاقتصادي السوري، بصورة تسمح للأسد باستعادة نفوذه الاقتصادي المتهالك نتيجة الحرب السورية، المستند إلى ثلاثية التعفيش والمعابر والتهريب. تلك الثلاثية التي كانت تتطلب شركاء أمثال أمراء الحرب (حسام قاطرجي، أبو علي خضور، سامر الفوز… وغيرهم) تحت قيادة أسماء الأسد مباشرة، يديرون الجانب التجاري من ذلك الاقتصاد، حيث تتحقق مصالحه الاقتصادية، وهو ما أدى إلى هجرة آلاف التجار والصناعيين والمهنيين السوريين إلى خارج سورية، وهو ما يرغب فيه النظام السوري.
هذا التهجير الجديد المنهجي ذو الطابع الاقتصادي المعيشي موجّه إلى من بقي من السوريين الذين قد يشكلون خطرًا على النظام، كما يفكّر هذا النظام، والهدف الرئيس من ذلك هو التأسيس لمجتمع سوري متجانس، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، يناسب النظام السوري القادم، بحيث يكون هذا المجتمع الجديد عاجزًا عن القيام بثورة ثانية، يدرك النظام السوري جيدًا أنها قادمة لا محالة، في ظلّ استمراره في السلطة، خاصة أن الحديث عنها بدأ يعلو من سياسيين كانوا موالين له في حربه ضد ثورة 2011.