التنوير الديني حالة وعي عقلانية، تؤسس لنهضة المجتمع من خلال إدراك صيرورة التحول التي تعيشها المجتمعات البشرية، وهذا يتطلب فهمًا معاصرًا لدور الدين ووظيفته، وفق المتغيرات الحياتية باتجاهاتها المختلفة، والحراك التنويري يرفض الاعتماد على المعرفة التراثية، ويُعلن انتهاء صلاحية تقديسها، وقد دفع هذا الأمر المرتبطين بالفهم التراثي ارتباطًا (كاثوليكيًا) إلى محاربة التيار التنويري، وتجييش جحافل العوام ضده.
ما دور التنوير؟
يجب على الحركة التنويرية أن تكون جسرًا يربط المسلم ومجتمعه بالفكر والقيم الحضارية المعاصرة، ليكون التدين الإنساني، بما احتوى من قيم وثقافة وحضارة عظيمة، قادرًا على البقاء والاستمرار في مواجهة التطورات والتحديات التي تفرزها سيرورة التبدل التي يعاندها العقل الديني المقيد تراثيًا.
فالتنوير يربط المسلم والمجتمع، بالفكر والقيم الحضارية الحداثية المعاصرة، ليكون مجتمعنا -بما يمتلك من إرثٍ حضاري- قادرًا على البقاء والاستمرار والنهضة في مواجهة تطورات المعاصرة وتحدياتها التي يفرزها الواقع.
وبما أنّ مجتمعاتنا تعاني معضلةَ عدمِ القدرةِ على معايشة المعاصرة، وفهم متطلبات الحداثة، وثقافة دولة المواطنة، ولكونها مجتمعات (ثيولوجية) تعتمد النص الديني محركًا ودافعًا لها للعمل والتغيير، وهذا النص ما يزال مرهونًا ومقيدًا بالمعرفة التراثية؛ فلا بد من حراك تنويري يقدح في العقل شرارة الإبداع، من أجل نهضة حضارية تستحقها بلادنا بعد كمون انحطاطي دام قرونًا.
هذا يعني أن التنوير الذي ندعو إليه يجب أن ينتج حركة إصلاح ونهضة حضارية في مجالات الحياة كلها، في الاقتصاد كما في الدين، في الاجتماع كما في السياسة، في فقه الأولويات كما في فقه التعاملات الدولية، وفي الحرية كما في الأخلاق.
إنّ التنوير المنشود يطالب العقل الديني بالعمل من أجل قضيتين أساسيتين لتحقيقهما، هما الحرية والعدالة الاجتماعية لأبناء المجتمع جميعهم، أيًا كان انتماؤهم الأيديولوجي، إذ إنّ هاتين القضيتين السبب في كل ثورة قامت، ولو استعرضنا تاريخيًا كل دعوة للإصلاح أو كل ثورة قامت، لتبين لنا أنّ العدالة الاجتماعية والحرية كانتا السبب الباعث لها.
إن التنوير الذي نريده، حتى نحقق خطوتنا الحضارية الأولى، يشبه كثيرًا الصناعة التحويلية لفكر الفرد والمجتمع وسلوكهما من خلال نقلهما من الجمود إلى الحركة، ومن التخلف إلى التقدم، ومن الهامشيّة إلى الفاعلية، ليقرأ النص قراءة معاصرة تعيد انبعاث مقاصده الإنسانية، وتبعد عنه ثقافة الإلغائية واستعداء الآخر، وتُنهي ثقافة القطيعة لتحيي ثقافة التشاركية بين أبناء المجتمع كلهم.
مهمات تنويرية ملحة!
عندما تغدو المعرفة الدينية المجتَهَدة بشريًا سببَ الانحطاط والتخلف، ومخاصمة للعلم وقانون السببية؛ لا بد من صدمة التنوير وشرارته، حتى تبدأ عملية البحث عن مخرج من عتمة التخلف والانحطاط باتجاه نهضة حضارية معاصرة لا تستلب هويتنا وشخصيتنا.
هناك مهمات تنويرية ملحة لا بد من إنجازها، منها:
- المراجعات هي الخطوة الأولى في طريق التنوير الشاق، فمن خلالها نستطيع أن نضع أيدينا على الداء لنَصِفَ الدواء، ومن خلالها نعرف عللنا وأخطاءنا، والأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، إنها أشبه بعملية الاستغفار التي يمارسها المؤمن يوميًا من دون كلل أو ملل. ولا يمكن أن تكون المراجعات جادة إنْ لم يكن هناك نقد جاد لكيفية عمل العقل التي أسسها التراث وباتت مُسلَّمة مقدسة ممنوع نقدها.
- حركة التنوير التي نحن بصددها تعتمد القرآن مُلهمًا، والتقدم العلمي والمعرفي سبيلًا، والمعاصرة والحداثة منطلقًا، لتتولد نظرية معرفية تحرك العقلَ المُعَطلَ، حتى ينتج إبداعًا في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعلاقة مع الآخر. هذا يعني أن التنوير الذي ندعو إليه، في مجال فهم الإسلام، يجب أن ينتج حركة إصلاح ونهضة حضارية في مجالات الحياة كلها. وينزع القداسة الموهومة عن الاجتهادات البشرية الملحقة بالنص الأصلي.
- تغيير البنية الفكرية في التعامل مع المعلومة التي نتلقاها آتية من التراث أو رجل الدين، فنحن نتعامل مع المعلومة بوصفها مُسَلَّمة ثابتة، على الرغم من كونها منتجًا بشريًا محضًا قابلًا للخطأ والصواب، وهذا يختلف مع المنهج القرآني، فالقرآن الكريم عندما قدم الإيمان بالله لم يفرضه مُسَلَّمًا به، إنما دعا إلى الاستدلال وإعمال العقل واستخدام المنهج العلمي في التوحيد الذي هو قضية القمة، إذ قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه} (محمد:19)
- الحرية لأبناء المجتمع كلهم، كي يعبروا عن آرائهم وأفكارهم ضمن أصول حرية الرأي وضوابطها، والإسلام لا يخاف الحقيقة، ولكن هناك من الإسلاميين من يخاف منها، لخوفه على معرفته الناقصة وعلى مصالحه وعلى مسلماته المملوءة بالأخطاء، أن تهتز فلا يستطيع الدفاع عنها.
نحن بحاجة إلى وقفة موضوعية مع موروثنا لنقد ما هو سلبي فيه، والتقدم ببحوث جادة، تطرح رؤاها وبرامجها لتقدم المجتمع ونهضته، أما إنْ بقينا صامتين وراضين بما نحن فيه ومباركين الماضي بسلبياته ومقدسين الموروث بكل ما فيه، من دون السماح بتمحيصه أو نقده، فإننا لن نتقدم ولن نتطور، وسنبقى نجتر هزائمنا ونمارس (اللطميات) على مآسينا، ونلعن الظلام من دون أن نوقد شمعة تنير لنا سبيل الخلاص.
من أجل ذلك كله، من أجل الإنسان والحرية والعدالة الاجتماعية ولإحياء ثقافة التشاركية بيننا وإنهاء ثقافة القطيعة، ومن أجل تدين يقدس الإنسان ولا يكفره ولا يذبحه ولا يستعبده؛ نريد أن يكون التنوير فريضة غير مُحارَبة.
عندما تغدو المعرفة الدينية المجتَهَدة بشريًا سببَ الانحطاط والتخلف، ومخاصمة للعلم وقانون السببية؛ لا بد من صدمة التنوير وشرارته.
فروقات مهمة لفهم رسالة التنوير؟
هناك فروقات مهمة يجب أن نلحظها في مسيرة التنوير:
الأولى: لنحذرْ من ربط فكرة التنوير بفرد واحد، لأن مفهوم الفردية لا يعول اليوم عليه كثيرًا، فعصرنا هذا ليس عصر الأفراد، بل عصر المؤسسات والتكتلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وبقاء الأمل معقودًا على المجدد الفرد، مسألة فيها مثالية عالية، واستجرار لفهم عصور سالفة انتهت صلاحيتها، فلا مهدي سيخرج ولا مسيح سينزل، والعالم تقوده المؤسسات لا الأفراد.
الثانية: لا تشابه بين العقلانية والتنوير، ولكن هناك تكامل بينهما في إنتاج المعرفة والوعي، نعم: إن العقلانية هي نشاط ذهني للإحاطة بالمعرفة وإدراكها والوعي بمتطلباتها من أجل نهضة وتقدم ونمو بات ضرورة للمجتمع، لكن التنوير يعني الإحاطة بالدلالات المعرفية والثقافية والاجتماعية وحتى السياسية لإيجاد حلول حقيقية لا ترقيعية لها، حتى يبدأ المجتمع نهضة ثقافية وفكرية وعلمية، باتت ضرورة ملحة له من خلال إرهاصات التنوير ومقدماته، ولهذا نقول: إن التنوير فريضة.
الثالثة: هناك فارق دقيق بين التجديد والتنوير، فالتجديد يجري إصلاحات على فهم نص جرى الاجتهاد فيه من قبل، أما التنوير فيتعامل مع النص مباشرة، وكأنه تنّزّل عليه اليوم، غير مهتم بالقيود والفهوم التراثية السابقة وسلطتها على العقل. ليعيد إنتاج فهم جديد معاصر وإبداع للنص متناسب مع المعارف المعاصرة والمستجدات العلمية والاجتماعية والسياسية أي مع الحداثة بكل ما تعني من معنى.
الرابعة: التنوير يعالج المشكلة بجرأة وشجاعة من دون خوف من وهم القيود السلفية، وغير مقيد بصنميات المعرفة التراثية، لذلك تجد الخصومة شديدة له.
ختامًا
إن التنوير هو الصناعة الثقيلة الحقيقية وليست صناعة الحديد والصلب، لأنه يعيد صناعة الإنسان وصوغه متسلحًا بالوعي والمعرفة والثقافة، حتى يكون المجتمع منتجًا ويحقق قفزته الحضارية وتدور عجلة التنمية، فكل تنمية لا تبدأ بالإنسان هي تنمية واهمة ومتهافتة. فالفكر التنويري صناعة ثقيلة ودقيقة لن يستوعبه أصحاب الفكر التقليدي بسهولة، لذلك يخاصمونه بشدة لأنه زلزل مسلماتهم.
واليوم، أمامنا فرصة تاريخية يقدّمها الحراك الاجتماعي من خلال ظاهرة الربيع العربي، حتى نخاطب شبابنا ليتسلحوا بالخيار التنويري استنادًا إلى قناعة عقلانية، فإن لم نقدّم منهجًا جديدًا في تعاملنا مع النص الديني، يكون متصالحًا مع العصر والإنسانية، فإننا نقود هذا الجيل الذي ضحى كثيرًا إلى هزيمة جديدة، وجمود ثان، قد يؤخر نهضة المجتمع فكريًا وسلوكيًا، ومن ثَمَّ حضاريًا، عقودًا طويلة، وهذا ما نخشاه إن غاب منهج العقلانية عن الممارسة.