فضلًا عمّا أكدناه مرارًا من أن التكفير سلوك مأزومين يعيشون في عالم ذهني منفصل عن الواقع ومحكومين بأوهام، أطلق عليها فرنسيس بيكون اسم “أوهام المسرح”؛ بمعنى تحول عقولهم إلى خشبة مسرح يمثل عليها الأدوار أبطال من زمن مختلف، وأن هؤلاء مسجونون في أزمنة وأمكنة إقليدية لا صلة لها بواقع الزمان والمكان المعاصرين، فإن للتكفير علّة أخرى تتمثل في جهل من يمارسونه بواقع أبعاد الوجود واختزالهم لها في بعد واحد.
وعلى الرغم من محاولات معقولة في الفكر الإسلامي المعاصر، لتجفيف منابع التكفير من قبيل اجتهاد محمد مهدي شمس الدين الذي يصنف غير المؤمنين إلى صنفين: المقصر وهو الذي بلغته الدعوة وعقلها وجحدها؛ والقاصر وهو الذي لم تبلغه الدعوة، أو بلغته ولم يعقلها، فلا يحكم عليه الإسلام بالهلاك الأبدي بل قد يكون اعتقاده سببًا في نجاته (انظر عبد الغني عماد، الإسلاميون بين الثورة والدولة، 2013)؛ فإننا نجد في تراثنا ما نزعم أنه أجدر بالنظر من هذه المحاولات، ومثالنا أن أبا حامد الغزالي، الذي اتهمه بعض دجالي الفكر العربي بالتسبب في استقالة العقل، قد سبق في كتابه “فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة” المحاولات المعاصرة التي يغلب على بعضها صبغة التلفيق أو التملق لأصحاب المنظومات اللادينية من أجل تقديم إسلام يروق لهم.
ولعل زبدة كتاب فيصل التفرقة تكمن في تصنيف أبي حامد لمستويات الوجود إلى خمسة مستويات: (انظر أبو حامد الغزالي، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، 2017).
الوجود الذاتي: وهو الوجود الحقيقي الثابت خارج الحس والعقل، والذي يأخذ الحس والعقل عنه صورة، فيسمى أخذه إدراكًا. وهذا كوجود السموات والأرض، والحيوان، والنبات، وهو ظاهر بل هو المعروف الذي لا يعرف الأكثرون للوجود معنى سواه.
والوجود الحسي: وهو ما يتمثل في القوة الباصرة (مثلًا والمراد إحدى الحواس) من العين، مما لا وجود له خارج العين، فيكون موجودًا في الحس، ويختص به الحاس، ولا يشاركه غيره، وذلك (كالحلم) الذي يشاهده النائم، بل (الخيال) كما يشاهده المريض المتيقظ، إذ قد تتمثل له صورة، ولا وجود لها خارج حسّه، حتى يشاهده كما شاهد سائر الموجودات الخارجة عن حسّه.
والوجود الخيالي: وهو صورة هذه المحسوسات إذا غابت عن الحس، فإنك تقدر على أن تخترع في خيالك صورة (فيل) و(فرس) وإن كنت مغمضًا عينيك، حتى كأنك تشاهده، وهو موجود بكمال صورته في دماغك لا في الخارج.
والوجود العقلي: وهو أن يكون للشيء روح، وحقيقة، ومعنى. فيتلقى العقل مجرد معناه دون أن يثبت صورته في خيال، أو حس، أو خارج، كاليد مثلًا فإن لها: صورة محسوسة ومتخيلة. ولها معنًى هو حقيقتها، وهي القدرة على البطش. والقدرة على البطش هي اليد العقلية. وللقلم صورة، ولكن حقيقته ما تنقش به العلوم، وها ما يتلقاه العقل من غير أن يكون مقرونًا بصورة (قصب) و(خشب) وغير ذلك من الصور الخيالية والحسية.
والوجود الشبهي: وهو أن لا يكون نفس الشيء موجودًا، لا بصورته ولا بحقيقته، لا في الخارج، ولا في الحس، ولا في الخيال، ولا في العقل.
وبناء على هذا التصنيف لدرجات الوجود عند أبي حامد الغزالي؛ يعدّ أي تنزيل لأقوال صاحب الشرع على إحدى هذه الدرجات مسيّجًا لصاحبه بسياج يمنع تكفيره؛ لأن تنزيله على أحدها لا يعدو أن يكون اتباعًا لقوانين التأويل وهي قوانين تشتق من درجات الوجود ولا تفرض بإرادة مؤوّل على غيره.
إن الفهم منتوج بشري، وهو -بحكم بشريته- نسبي بطبيعته، وهذا الفهم يتنوع في أشكاله، بحسب العلاقة التي تربط بين الفاهم ومستوى من مستويات الوجود الخمسة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن أشد معارضي التأويل لا يستطيعون إنكاره؛ لأن النص لا يكون نصًا ما لم يقبل التأويل، فهو المصفاة التي يصفّي من خلالها المتلقي ما يتلقاه وفق موسوعته المعرفية الثقافية.
إذا كان سبق أبي حامد هذا -في فتحه للتأويل على مصاريعه بدالة مستويات الوجود- قد حدث على الرغم من انغلاقه في منظومته المنطقية على منطق أرسطي عقيم، لم يستطع أن يتخلص من وهم عموميته؛ فإن المنطق الحجاجي الذي ازدهر اليوم، وفي صميمه مفهوم التداول والأخذ بالحسبان سياق الخطاب وظروف المتكلم والمتلقي، يمكن أن يساهم في البناء على سبق أبي حامد لفتح أوسع لإمكانات التأويل.
وإذا كانت مستويات الوجود التي استطاع أبو حامد أن يبصرها، على الرغم من الأفق القروسطي الذي كان يتحرك في إطاره؛ فإن العالم الرحب ذا الدهاء العميق الذي فتحته أمامنا اليوم كشوف العلوم المعاصرة، والذي أصبح الاحتمال سمة ماهوية له وليست ناتجة عن قصور أدوات الباحث، يمكن أن يساهم في جعلنا نشتق درجات أخرى للوجود تتكامل مع المنطق المعاصر لكي نشيد على سبق أبي حامد الغزالي تعددية في الفهوم تسدّ المنافذ في وجه التطرف الذي ينذر بمسخ حضارتنا ولا يكتفي بسفك دمائنا، وتغلق الباب أمام بعض أدعياء التنوير الذين يحاولون إفراغ التراث من محتواه في محاولات بائسة لاسترضاء من يشعرون تجاههم بالنقص، وهذا ما يتمظهر أحيانًا في رفضهم للتكفير، جملةً وتفصيلًا، مع أنه من الممكن جدًا نزع الحمولة السلبية عن كلمة كافر، والاتفاق على أنها لا تعني أكثر من إنكار المغاير لي في ديني لمعتقدي الديني وإنكاري لمعتقده الديني، مع إمكانية الاتفاق على قيم أخلاقية وإنسانية تمثل قواسم مشتركة بيننا وتمكننا من التلاقي والتعاون. وقد سبق لسفراء النبي أن سنوا سنة الحوار مع المخالف، وخلق اتفاق خارج الصراع، عندما اقتنع ملك الحبشة النجاشي بقدسية الدين الجديد الذي يمجد العذراء والمسيح، وهما القاسم المشترك بين المسلمين والمسيحيين. كما سبق لنبي الإسلام أن سنّ سنة منح القيمة الأخلاقية قدرًا متجاوزًا للخلاف العقدي، عندما عامل بنات حاتم الطائي اللواتي جئنه سبايا معاملة خاصة، تقديرًا لخصلة الكرم التي تميز بها أبوهنّ.
فالمطلوب للحوار احترام الآخر، وليس قبول معتقده، والمطلوب للتواصل فهم ضرورة الاختلاف، وليس فوضى التفسير التي تضيع الحدود بين الأوهام والحقائق، والمطلوب لصياغة خطاب إنساني شامل هو إدراك نسبية المعرفة البشرية، وليس تبني نزعة نسبوية لا ترسم تخومًا بين العلم والجهل وبين الجد والهزل.