قيل عن التطرف الكثير، لكن لم يُستفد أحدٌ من القول بحجم المأمول، لأن التطرف عمومًا هو ظاهرة أكثر تعقيدًا مما يظن البعض، ظاهرة نكوصية لا تحمل في أحشائها قوة التقدم التاريخي، كأي ظاهرة نكوصية أخرى.
بعيدًا عن جملة شروط ظهورها، نعود لأسئلة على غاية كبيرة من الأهمية: لماذا أخذ التطرف السياسي في العقدين الأخيرين من القرن العشرين صيغة التطرف الإسلامي؟ ولماذا تعين بجماعات تحمل السلاح المميت ورأسًا مليئًا بأيديولوجيا الخلاص الدينية – الإسلامية؟ وهل يمكن بالفعل التخلص من عذابات الأرض بوصفة من السماء؟
بداية، لابد من التعريج على أن التطرف السياسي هو ظاهرة عالمية، متعدد الأشكال والأساليب والأيديولوجيات، والتطرف تعريفًا، هو التشرنق داخل فكرة خلاصية وحيدة ينام المؤمنين المأسورين داخلها، وتحركهم في عالم الممارسة، مانحة إياهم طاقة روحية غير عادية، وهذه الذاكرة من زاوية معتنقيها هي ذاتها الحقيقة المطلقة، وكل ما عداها زيف وباطل، ولاشك أن فكرة الخلاص فكرة أصيلة في كل أيديولوجيا، ولكن ليس كل أيديولوجيا خلاصية ترى في التطرف السياسي – المادي وسيلة لتحققها، فهي تنشأ في وسط ثقافي محدد تاريخيًا، يحدد بدوره الأساليب العملية لجعلها واقعًا.
من هذه الزاوية، فإن كل الأيديولوجيات العربية انطوت على فكرة الخلاص من مشكلات الأرض، من الأيديولوجيا الشيوعية وفكرة الاشتراكية، مرورًا بالأيديولوجيا القومية وفكرة وحدة الأمة والتحرر الاجتماعي، وانتهاءً بالأيديولوجيا الإسلامية وفكرة الحاكمية لله، ناهيك عن الأيديولوجيا الليبرالية وفكرة الديمقراطية وحرية السوق.
إن أفكار الخلاص هذه، في عالم متعدد يقر بالاختلاف، تفعل فعلها الإيجابي بوصفها تعبيرًا عن اتجاهات اجتماعية واقعية، وما يميز القومي والشيوعي والليبرالي أن مرجعه هو العالم الأرضي، أي أن الأرض منبع أفكاره، ومهما أخذت الأفكار هنا طابعًا منسيًا إيمانيًا، فإنها لا تُنسي معتنقيها أنها ذات مصدر إنساني.
أغلب حالات ظهور التطرف، والحال هذه، إنما تنشأ في إطار التطرف الأيديولوجي – الفكري، دون أن يمنع ذلك ظهور حركات يسارية متطرفة بالمعنى العملي للكلمة، ولكن في نطاق ضيق، وآلية ذلك أن الشيوعي المؤمن إيمانًا لا يرقى إليه الشك بانتصار فكرته، ويجل منها الفكرة الوحيدة لخلاص العالم، يعول على نضال الطبقة العاملة، أو الطبقة العاملة المتحالفة مع الفلاحين والمثقفين الثوريين، وإيمانه بالثورة، ومع أن لديه مفهوم “العنف الثوري” لكنه يبقى ضمن إطار الحركة الشعبية.
بدوره، القومي المؤمن بفكرة الوحدة القومية، مقتنع بقدرة الجماهير الشعبية على تنظيم نفسها لتحقيق هذا الهدف، أما الليبرالي فهو يؤيد قيام علاقات ديمقراطية تسمح له ولقوته الاقتصادية بالهيمنة.
لا شك أن الواقع يشهد حالات من التطرف القومي، ولكن في إطار صراع داخلي بين قوميتين، وفي حالة العرب الذين يشكلون القومية السائدة فإن ظهور تطرف قومي إمكانية مستحيلة.
المشكلة التي ظهرت في الوطن العربي في العقدين الأخيرين، أن الواقع قد هزم جزءًا كبيرًا من طموحات الأيديولوجيات الأرضية، ولما كانت الأيديولوجيا الإسلامية، ذات المرجع الإلهي أيديولوجيا واعدة باستمرار، واليقين الذي وفّرته للمعتنقين بها لا يمكن أن توفره أيديولوجيات انهزمت، فإنها سرعان ما انتصبت فكرة خلاصية شديدة التأثير، ومما ساعد على حضورها هذا مناخ الثقافة الإسلامية السائدة عربيًا.
ولما كانت من شيمة الأيديولوجيا -أية أيديولوجيا- ارتباطها بالممارسة، أي السعي لتحقيق منطلقاتها في الواقع، فإن الإسلام يوفر لهذه الإيديولوجيا عدة عمليات ذات جذر تاريخي غارق في القدم، أهم عناصرها الجهاد.
تقوم فكرة الجهاد إسلاميًا على نشر الدعوة بالقتال أساسًا، وتتحول فكرة الجهاد في الإسلام السياسي إلى ضرورة قيام الدولة الإسلامية بالقوة، ولاشك أن فكرة تغيير المفكر إسلاميًا ذات أساليب متعددة القلب واللسان واليد، ولكن انتصار فكرة التغيير باليد إنما يعود إلى انسداد آفاق تغيير العالم بوسائل أخرى، واستشراء ظاهرة الاستبداد السياسي.
كثير من المسلمين لا يجدون أية صعوبة في تبرير تطرفهم الجهادي استنادًا إلى النص القرآني، إذ كما ينطوي النص على آيات التسامح، الصبر وتحريم القتل والانفتاح ورفض التقليد والإعلاء من شأن العقل، ينطوي أيضًا على آيات تحض على الجهاد، جهاد الكافرين والموت في سبيل الله.
إن انتصار اللحظة الثانية في الأيديولوجيا الإسلامية العنفية سببها تلك الفكرة التي راحت تشيع في أوساط كثير من المسلمين الأيديولوجيين بأن عصرنا العربي الراهن هو عصر جاهلية، وأن الذي يحول دون انتصار الدولة الإسلامية جمهور الكافرين، بدءًا من هم في هرم السلطة السياسية، مرورًا بالعلمانيين والمتغربين والملحدين، وانتهاءً بالغرب العدو الأساسي للإسلام، ومن هنا يعتقد بعض الإسلاميين السياسيين أن الجهاد والجهاد وحده كفيل بالقضاء على هذه الفئات التي حادت عن جادة الصواب، وهذا يحتاج إلى مجاهدين يضحون بالنفس.
لكن المجتمع هو في نهاية المطاف مجتمع إسلامي، ومن الصعب إدراجه لا في خانة الأعداء ولا في عمليات القتل ولا في التنظيم السري اللاشرعي، ولهذا فإن حلقات ضيقة سرعان ما تجد نفسها معزولة عن محيطها الإسلامي، وتُحوّلها عقيدتها العنفية إلى جماعات قتل، ولأن هذه الجماعات السرية القليلة العدد تواجه دول خبير في القمع، فإنها كلما ازدادت عنفًا ازدادت الدولة من سياستها الاقتلاعية لهذه الجماعات، ولقد دللت التجربة التاريخية للجماعات العنفية المغلقة أن أجلها قصير جدًا، ولكنها في استخدام عنفها تُقوّي من سلطة الدولة، على عكس ما تعتقد، فتزيد الدولة خبرة فوق خبرة في قدرتها الأمنية لتطال المجتمع ككل.
إن التناقض بين الحركات العنفية الإسلامية والسلطة في الوطن العربي ليس تناقضًا مثمرًا، وإنما هو تناقض عقيم جدًا، فالتطرف الإسلامي الذي يدفع ثمنًا مجانيًا ليس باستطاعته إعادة التاريخ القهقرى، لأنه بالأصل متناقض مع منطق التاريخ ذاته، وخاصة في لحظات التغير السريعة التي تعكس حركة التاريخ الآن، وفي المقابل، إن الدولة – السلطة هي الأخرى ضد منطق التاريخ الذي يبرز تناقضها الصارخ مع مستوى تطور الحياة الاجتماعية والسياسية ومع الحاجات العميقة للسكان.
وهكذا فالصراع صراع بين حدّين منهزمين تاريخيًا، وأكبر دليل على هذا الحكم هو أنهما ضد الحرية، فيما الدولة تُصادر أغلب أشكال التعبير الحرة يفرض التطرف الإسلامي نفسه على بعض الاتجاهات الإسلامية السلمية، فتسعى هذه الاتجاهات عبر بعض المؤسسات القائمة إلى منع أي تفكير جدّي عقلاني في شؤون الدين، والتي تختلف عما قاله السلف “الصالح”.
نتيجة لعدم فهم أسباب الظاهرة الإسلامية المتطورة – العنفية ينبري بعض المثقفين لتوحيد الإسلام بوصفه دينًا مع العنف والتطرف، وهذا تفكيرا ميكانيكي لا يمتلك الحد الأدنى من الدقة، فهل يمكن توحيد بعض الحركات المتطرفة المسيحية مثلًا بالمسيحية؟ وهل يمكن أن نعتبر تطرف بعض الأرمن وانتقامهم من الأتراك صفة شاملة للقومية الأرمنية؟ أو تطرف بعض الأكراد صفة لك الأكراد؟ هذا لاشك أمر لا يمكن قبوله منطقيًا وعقليًا.
إن الإسلام ليس سببًا حقيقيًا للتطرف، ولا يمكن فهم التطرف استنادًا إلى طبيعة الإسلام، بل إن الشروط الاجتماعية – السياسية التي تطبع المنطقة بطابع العجز والقمع والفقر هي التي خلقت أساس التطرف الديني، فمن قلب الإسلام ظهر الكواكبي وعبده وعلي عبد الرازق وخالد محمد خالد وسيدالقمني ومحمد شحرور وغيرهم كثر، والشروط التي عاشتها المنطقة في الخمسينيات دفعت مصطفى السباعي للحديث عن اشتراكية الإسلام، ولهذا فالأصولية المعاصرة تعادي هؤلاء جميعًا.
النقيض للخطاب العنفي الإسلامي ليس خطابًا نقيضًا للإسلام بوصفه دينًا وثقافة ملايين من الناس، بل خطابًا نقيضًا لكل أشكال التطرف الواقعة والممكنة، كما أن السلوك العملي في مواجهة العنف السياسي الأصولي يمكن في بديل سياسي ديمقراطي، ولا نستطيع أن نكون لا مبالين تجاه ما يجري، فأفضل أشكال الاندراج في معمعة الصراع إنما تكمن في طرح البديل المتجاوز.