مدخل

في العام 2013، أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) إنشاء الإدارة الذاتية لحكم المناطق التي يسيطر عليها في شمال شرق سورية، وبعد أن ظهر التحالف الدولي لمحاربة “داعش” في العراق وسورية، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في عام 2014؛ شكّل التحالف المذكور (قوات سوريا الديمقراطية/ قسد) لمحاربة هذا التنظيم الإرهابي على الأرض عام 2015، إضافة إلى تشكيل جناحها السياسي الذي يدعى (مجلس سوريا الديمقراطية/ مسد)، وتتبع لها قوات “الأسايش”، كقوات أمن داخلي.

كان تشكيل “قوات سوريا الديمقراطية” من مكوّنات سكان الجزيرة ككل، لكن بقيادة كردية[1]، وتوسّع نطاق الإدارة الذاتية في معظم منطقة شرق نهر الفرات، وشمل كامل محافظة الحسكة وما يقع من محافظتي الرقة ودير الزور شرقي نهر الفرات، إضافة إلى منطقة منبج غربي نهر الفرات، وتشكّل تلك المناطق نحو ربع مساحة سورية، وقد أضعف ذلك التوسع دورَ حزب PYD وقواته، حيث لا تتوفر أعداد كافية من قوات PYD لفرض سيطرة محكمة على المنطقة، وبذلك ضعف دور حزب العمال الكردستاني PKK الذي يعدّ PYD امتدادًا سوريًا له، الأمر الذي أحدث صراعًا مكتومًا بين الحزب المذكور و(قسد) المدعومة من التحالف الدولي[2]، كما أضعف العلاقة بين حزب PYD والنظام السوري، العلاقة التي تأسست على التنسيق مع الحزب قبل أن تظهر (قسد) على الساحة.

لعبة شدّ الحبال

نظرًا لأن النظام لم يكن قادرًا على تحقيق مكاسب عسكرية ضد قوات (قسد) المدعومة من التحالف الدولي، فقد عوّض عن ذلك باستخدام لغة التخوين، واتهم (قسد) بالعمالة للولايات المتحدة، بينما ردّت (قسد) باتهام النظام بالتهرّب من مسؤولياته لحل أزمة البلاد[3]، ولم تخفف هذه الاتهامات المتبادلة من علاقات المصلحة التي تربط بين الطرفين، وعلى رأسها تهريب النفط عبر شركة القاطرجي[4]، وتغاضي الولايات المتحدة عن ذلك. لكن النظام صار يعتمد على حليفه الروسي لتحقيق اختراقات في الجزيرة، ولا سيّما أن الطرف الروسي من مصلحته التمدد في هذه المنطقة، على حساب النفوذ الأميركي، ومن مصلحته أيضًا توسيع نفوذ النظام شرق الفرات على حساب PYD و(قسد).

ومع أن النظام السوري لم يتوقف عن محاولات التصعيد الداخلية في الجزيرة، بالاعتماد على مؤيديه هناك من بعض القوى العشائرية، أو على أطرافها بالاعتماد على حليفيه الروسي والإيراني، فإن إمكانية استرجاعه لمنطقة الجزيرة أصبحت محض حلم، والأمر بات متوقفًا على تحقيق حلّ سياسي شامل، بما يتضمنه ذلك من توافق باقي القوى الدولية المؤثرة في المشهد السوري. فالعقبة الكأداء أمام النظام وحلفائه هي الذراع العسكرية الأميركية التي لقنت حليفه الروسي في عام 2018 درسًا لا يمكن أن ينساه، حين قصفت الطائرات الأميركية قوات “فاغنر” الروسية غير النظامية، عند تقدّمها برفقة عناصر موالية للنظام نحو حقل (كونيكو) للنفط والغاز قرب مدينة دير الزور، وقد أدى ذلك القصف إلى مقتل وجرح مئاتٍ منهم.

خلفية التصعيد ومجرياته

استغل حزب PYD أزمة النظام لانتزاع دور ومكاسب، وذلك منذ نيسان/ أبريل 2011 عندما ذهب آصف شوكت إلى جبال قنديل، والتقى قوات PKK هناك، واتفقوا على تعزيز دور PYD لضبط الشارع الكردي، كي لا يشارك في الثورة، وقدّم النظام السلاح والمال والمقار والسياسات لـ PYD الذي قام بواجبه خير قيام. ومع تدهور وضع النظام، كان PYD يوسع نفوذه في الجزيرة، على حساب نفوذ قوات النظام التي لم يكن لها حول ولا قوة، وأعلنت قيادة الحزب “الإدارة الذاتية”، وفرض الحزب على المنطقة سياساته وبرامجه المستقلة عن النظام، ومع نجاح PYD في التحالف مع الأميركان والحرب التي خاضها ضد تنظيم (داعش) بدعم التحالف الدولي، أصبح الحزب قوة مستقلة تحاور النظام بندية، ولكن تصريحات الأميركان، بأنهم سيغادرون المنطقة، اضطرت الحزب إلى التقرب من النظام الذي بقيت العلاقة به قوية، ولكن كل يميل مع قوة الرياح التي تهبّ مرة لصالح PYD، ومرة في غير صالحه، وقد خلق هذا الوضع حيرة لدى حزب PYD، فجهّز نفسه لسيناريوهات بقاء الأميركان، أو انسحابهم وتركه وحيدًا، مما يعني عودته لأحضان النظام وقبوله ما يعرض عليه، وذلك لأن تركيا لن تسمح بقيام كيان كردي لـ PKK  على حدودها. ولكن تركيا أيضًا ترى أن من مصلحتها انسحاب الأميركان من منطقة شرق الفرات وعودة المنطقة للسيطرة الروسية فعلًا، وسيطرة النظام اسمًا، وحينئذ سيتحالف PYD مع الروس بقوة، إذ سيستبدلون بالأميركان التحالف مع الروس، وسيكون هذا من مصلحة الروس، لأنه يعزز وجودهم في مواجهة الإيرانيين.

التصعيد الذي انتهى في الآونة الأخيرة، بين النظام وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، لم يكن الأول من نوعه منذ أن انسحبت قوات النظام من المنطقة الشمالية الشرقية لصالح قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) في تموز/ يوليو 2012، وإن كان الأخطر من نوعه. وكان الاتفاق غير المعلن بين الطرفين قد تضمّن احتفاظ النظام بمربّعين أمنيين في مدينتي الحسكة والقامشلي، وبعض المؤسسات الحكومية والأحياء المجاورة لهما، علاوة على مطار القامشلي.

وتعود جذور التصعيد الأخير بين النظام و(قسد) إلى خلفية التهديدات التركية منذ شهرين، باقتحام بلدة (عين عيسى) الإستراتيجية، الواقعة على الطريق الدولية M4 التي تربط بين حلب والقامشلي، وبمحاولة (قسد) الاستنجاد بالنظام وحليفه الروسي، لمواجهة تركيا والفصائل السورية المتحالفة معها، وخلال المفاوضات بين الطرفين، برعاية روسية، أصرّ النظام على السيطرة على البلدة، بينما أرادت قوات (قسد) أن تعسكر قوات النظام خارجها، ولا تتدخل في إدارتها[5]. وفي أفضل الحالات، ربما كان يمكن أن يحدث تبادل في السيطرة؛ حيث يسيطر النظام على بلدة (عين عيسى) مقابل تخليه عن مربعاته الأمنية وما يرتبط بها لصالح (قسد). تلا ذلك، قبيل نهاية العام الماضي، تصريح لقائد قوات (قسد) مظلوم عبدي، لقناة “روناهي”، تحدث فيه بأن هناك مرحلة جديدة ستمرّ بها منطقة شمال شرق سورية، وبأن “على الشعب الدفاع عن ثورته ومكتسباته”.

أعقب فشل المفاوضات بين قوات النظام و(قسد) في بلدة (عين عيسى) حدوث مناوشات، لم تلبث أن امتدت إلى مدينتي القامشلي والحسكة، حيث قامت قوات (الأسايش) بحصار المربّعين الأمنيين في المدينتين، وردّت قوات النظام بتضييق الخناق على جيب (تل رفعت) ومخيمات الشهباء للاجئي عفرين فيه، وعلى أطراف حييّ الشيخ مقصود والأشرفية في حلب، حيث تسيطر (قسد). وفي خطوةٍ تصعيدية أخرى، قام النظام بتحريض الموالين له في الحسكة، ومعظمهم خلايا نائمة من قوات الدفاع الوطني، على التظاهر، فقابلتهم قوات الأسايش بإطلاق النار، وأدى ذلك إلى مقتل متظاهر وجرح خمسة آخرين.

(قسد): خطوة غير محسوبة

لا يمكن فصل تصريحات “عبدي” الأخيرة عن التغيير الحاصل في الإدارة الأميركية، بعد فوز الرئيس جو بايدن في الانتخابات الرئاسية، وما أعقب ذلك من تعيين بريت ماكفورك، كمستشار في مجلس الأمن القومي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، المعروف عنه دعمه لقوات (قسد) من خلال دوره كمنسق للمعارك ضد (داعش) في العراق وسورية، حين شغل منصب مبعوث التحالف الدولي بين عامي 2015 و2018، لكنه استقال بعد قرار الرئيس الأميركي السابق ترامب بالانسحاب من سورية، وكان ذلك أحد أسباب عملية “نبع السلام” التركية، والسيطرة على مدينتي رأس العين وتلّ أبيض، ومناطق مجاورة لهما[6].

ربما استبق “عبدي” إعلان الخطط الأميركية في سورية، وتوقع أن تفضي هذه الخطط إلى تغيير جذري في المعادلة القائمة في الجزيرة لصالح الولايات المتحدة، ما يمكّن قوات (قسد) من إنهاء حالة “الستاتيكو” القائمة منذ منتصف العام 2012، وإنهاء مشكلة المربّعين الأمنيين في القامشلي والحسكة وتوابعهما، كهدف عسكري سهل للغاية. وكان تردد السياسة الأميركية في عهد الرئيس ترامب قد تسبّب في حصول تقارب بين (قسد) من جهة، والنظام وداعمه الروسي من جهة ثانية، لمواجهة الخطر التركي، وسمحت (قسد) بوجود ومرور الدوريات الروسية في أكثر من منطقة، فضلًا عن دخول الروس عن طريق مطار القامشلي الذي تسيطر عليه قوات النظام، بموجب تفاهمات 2012 مع حزب PYD.

وبالتوازي مع تصريحات “عبدي”، أعلن مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، في 4 كانون الثاني/ يناير 2021، أن هدف “الإدارة الذاتية” في عام 2021 يتمثل “في مشروع مشترك مع المعارضة، وكافة أطراف الحل في سورية”، من دون إيراد تفاصيل[7]. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، عقد “المؤتمر الوطني لأبناء الجزيرة والفرات”، بدعوة من (مسد)، من أجل تمتين الجبهة الداخلية في منطقة الإدارة الذاتية، وهي رسالة موجهة إلى الروس وإلى النظام أيضًا.

العودة إلى نقطة الصفر

انتهى الحصار المتبادل في 2 شباط/ فبراير 2021، بعد اتفاق بين (قسد) والنظام، برعاية روسية، وأصدرت قوات (الأسايش) بيانًا اتهمت فيه النظام بمحاولة “ضرب الاستقرار في مناطق الإدارة الذاتية”[8]، وأعلنت السماح بدخول المواد كافة إلى مناطق سيطرته في الحسكة والقامشلي. لكن انتهاء الأزمة الحالية لا يعني انتهاء المشكلة، ويبدو أن ما جرى تداوله حول وجود وثيقة مسرّبة عن اتفاق أميركي روسي، يقضي بإحلال قوات روسية مكان قوات النظام في أماكن وجودها في الجزيرة، قد أفقد النظامَ صوابه؛ إذ نقل موقع (تلفزيون سوريا)، 30 كانون الثاني/ يناير 2021، عن ناشطين، تأكيدهم وجود مثل هذه الوثيقة واطلاعهم عليها[9].

الطرفان، النظام و(قسد)، مقيّدان بالطرفين اللذين يدعمانهما، لذا من الصعب حدوث تغيير في نمط العلاقة أو المعادلة القائمة، ما لم يحصل تغيير سياسي مهم في موقف الولايات المتحدة والاتحاد الروسي، كأن يتخلى أحدهما عن حليفه، أو يحصل اتفاق بينهما على تغيير الوضع القائم، من خلال حلّ سياسي. كما لم يخرج بيان أستانا 15، 18 شباط/ فبراير 2021، عن تكرار لأزمة سابقة بشأن شمال شرق سورية، تتلخص بعبارة الحفاظ على حدود سورية، ومحاربة النزعات الانفصالية. ويعكس ذلك موقفي روسيا وتركيا.

ولعل في بقاء الوضع على حاله مصلحةً للطرفين في هذه المرحلة، بخاصة في ما يتعلق بحاجة النظام إلى النفط وحاجة (قسد) إلى ثمنه، ولا سيّما أن الولايات المتحدة تغضّ النظر عن هذا الموضوع ولا تدرجه، عمليًا، في العقوبات المطبقة على النظام بموجب قانون قيصر. ومن المستبعد الوصول إلى أي توافق ينتج عنه تقديم التزامات سياسية متبادلة، كأن يعترف النظام بـ (قسد)، أو أن تسمح (قسد) بتمدد النظام في مناطق نفوذها، إداريًا على الأقل، ما يسمح له بادعاء السيادة على مناطق سيطرتها، الأمر الذي يعزز موقفه في الانتخابات الرئاسية الصورية، هذا الصيف؛ إذ إن موقف كل من النظام و(قسد) -كما ذكر أعلاه- مرتبط بموقف الطرف الذي يدعمه، أي الروس والأميركان، وبتفاهماتهما المؤجلة الآن.


[1]  تشير المصادر المختلفة إلى أن أكثر من 60 بالمئة من عناصر (قسد) هم من العرب والأقليات القومية الأخرى من غير الأكراد في الجزيرة السورية. وقيادة الأكراد لقوات (قسد) تبررها الخبرة التنظيمية السابقة والروح الأيديولوجية الواحدة وامتلاك السلاح والمال والسيطرة عليها، إضافة إلى الخبرة القتالية التي حصلوا عليها من المعارك ضد القوات التركية في جبال قنديل، حيث كان المتطوعون الأكراد السوريون يذهبون لتلقي دورات تدريبية. وقد تعزز دورها القيادي بالدعم الأميركي، حيث وجد الأميركان في هذا التنظيم المنضبط قوةً فعالة لمحاربة (داعش)، مقابل فصائل الجيش السوري الحر المعارض المنقسم إلى العديد من الفصائل المستقلة والمفتقدة لقيادة مركزية.

[2]  أشار أحد مصادر وثيقة الاطلاع إلى وجود تيارين في حزب PYD: أحدهما عقائدي يتبع حزب PKK، وآخر مرتبط بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومدعوم أميركيًا، وهو سوري الهوى، بمعنى أنه يرى ضرورة الارتباط مع سورية الأم، بغض النظر عن النظام والمعارضة، ومن أهم ممثليه الجنرال مظلوم عبدي (قائد قوات قسد) وإلهام أحمد (رئيسة الهيئة التنفيذية لمجلس سورية الديمقراطية، مسد).  

[3] http://bit.ly/3e9neBu

[4]  لا تقتصر أعمال شركة القاطرجي على تهريب النفط، وقد تحدث بعض المطلعين عن وجود مهمات أخرى، منها حاليًا تهريب الطحين من العراق بمساعدة “الحشد الشعبي” في العراق، ومن ثم نقله إلى سورية بواسطة الشركة المذكورة.

[5] https://www.noonpost.com/content/39691

[6] من أسباب التراخي الأميركي في مواجهة تركيا والسماح لها بالتوغل في الجزيرة السورية التي تعدّ تحت الحماية الأميركية، عدمُ رضا الإدارة الأميركية عن استمرار نفوذ حزب العمال الكردستاني المصنف كمنظمة إرهابية، في منطقة سيطرة الإدارة الذاتية، وما يخلقه ذلك الأمر من مشاكل على صعيد العلاقة مع تركيا أو على صعيد العلاقة الحساسة بين المكونين العربي والكردي في الجزيرة السورية.

[7] http://bit.ly/3e77D5u

[8] http://bit.ly/3kNnOpV

[9] http://bit.ly/3e9nr7K