للأحداث التاريخية الإيجابية دورٌ في الوعي الجمعي المستقبلي للأمم، ولذلك نرى الأمم والمجتمعات الأخرى تحتفل بتلك الأحداث التاريخية الإيجابية، وتجعل منها نقطة انطلاق لنهضتها وتحضّرها؛ بينما نراها تتنكر للأحداث التاريخية السلبية وتحاول نسيانها وتجاوزها.
فحركة الإصلاح الديني بأوروبا في القرن السادس عشر التي قام بها التنويريون، وعلى رأسهم مارتن لوثر، تركت أثرًا كبيرًا في نمط التفكير الأوروبي استمرّ حتى يومنا هذا، علمًا أنّ من آمن بالفكرة البروتستانتية آنذاك كانوا قلّة، وتعرّضوا لاضطهاد كبير من جهة المؤسسة الدينية مع حملة تشهير وتشويه اجتماعية، وأن المنتسبين إلى البروتستانتية بمذاهبها المتعددة، حتى يومنا هذا، لا يزيدون على ثلث المؤمنين بالمسيحية عمومًا.
إن التغيير الذي أحدثته الحركة التنويرية في بنية العقلية الأوروبية، تجاه مفهوم الدين ووظيفته، ما زال ذا أثر بالغ في تلك العقلية، وقد طُوّرَ باتجاه إنساني، باستثمار مفكريهم وفلاسفتهم له، ليؤسسوا نظامًا معرفيًا غَيّر نمط التفكير الأوروبي، من حالة الصراع الدموي، إلى المشترك الإنساني الذي ما لبث أن أنتج حضارتهم المعاصرة.
والحال ذاتها في الولايات المتحدة الأميركية، حيث كان هناك حدث تاريخي غيّر حياة الأميركيين جذريًا، عندما قاد الآباء المؤسسون عام 1776 حربَ الاستقلال، وكان عددهم 56 شخصية، ونجحوا فيها، ووقّعوا على دستور الاستقلال الذي ما تزال الإدارات الأميركية المتعاقبة تعمل من خلاله، لتنتج نمطًا معرفيًا شكّل الشخصية الأميركية، وبقي ذلك الحدث -حتى يومنا هذا- فاعلًا في أسلوب التفكير الأميركي ومتطورًا، من خلال مفكّريهم وفلاسفتهم، وكان الأساسَ الذي نهضت من خلاله الولايات المتحدة، لتصبح فيما بعد الدولة الأولى عالميًا.
أما نحن فماذا دهانا؟!
مع الأسف، لم تستطع أحداث الإصلاح والتجديد التنويرية كلّها التي قام بها روادٌ عبر تاريخنا، أن تكوّن منعطفًا في نمطية التفكير لمجتمعاتنا، بدءًا من تيار المعتزلة في القرن الهجري الثالث، ومرورًا بشخصيات فذة، كابن خلدون، وابن رشد، ورفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وعبد الرزاق السنهوري، ومالك بن نبي، وعلي الوردي، وعلي شريعتي، وسواهم، حيث لم تستطع تلك الشخصيات أن تؤسس حالة انعطاف عن السبيل الذي سلكته الأمة، بل حدث العكس تمامًا، إذ إن الأحداث السلبية هي التي أثرت في فكر المجتمع وسلوكه، لتتأسس عليها ثقافةٌ تمكنت من عقولنا وسلوكنا، منذ وقوعها حتى يومنا هذا، حتى جعلتنا مرتهنين لتلك الأحداث التاريخية السلبية، وصرنا نعيد اجترار الأخطاء عينها، ونمارس القطيعة فيما بيننا! وكأننا حضور لتلك الأحداث التي وقعت منذ ألف وأربعمئة سنة تقريبًا! أي بلاء عقلي وسلوكي هذا؟!
ولو درسنا تاريخنا المترع بصراعات سياسية دموية، وجدنا أن هناك أكثر من حدث تاريخي سلبي، ما يزال ذا أثر في العقلية الإسلامية، فكريًا وسلوكيًا، ليغدو كل منتج سياسي أو ثقافي، في جغرافية المنطقة، ينهل في سياسته من ذاك الحدث، وإن اختلفت الأسماء والمسميات!
ماذا فعلت بنا معركة صفين؟
لن أتحدث عن الأحداث التاريخية السلبية كلّها في هذه الورقة، فهي كثيرة، مع الأسف، لكني سأتوقف عند حدث تاريخي سلبي، ما يزال يقسم مجتمعنا بعد أربعة عشر قرنًا، كما لو أنه حدث البارحة! إنها (موقعة صفين) التاريخية التي مازالت تتحكّم في انقسامات المجتمع الإسلامي حتى يومنا هذا، كما تتحكم في ثقافته! وقد أطلقتُ على تلك الحالة اسم “الثقافة الصفينية“.
والثقافة الصفينية نتاج موقعة صفين التي وقعت بين جيشي علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، سنة 37 هـ، لأسباب سياسية، وهي تعدُّ العلامة الفارقة في ثقافتنا وسلوكنا ونكسة العقلانية حتى هذا اليوم.
فلو درسنا الآثار المعرفية والتوجهات السياسية الفاعلة والانقسامات المجتمعية، فسنجدها لم تخرج عن التقسيم (الصفيني) منذ ذلك الحدث حتى اليوم؛ إذ أسست لانقسام عمودي في مجتمعاتنا، وأبقت هذا الانقسام قائمًا وساخنًا. فولَّدت العقل الطائفي المنغلق الذي يُعدُّ من أهم أسباب التخلف، وأسست لفِقه الدم، ودائمًا كانت وقودًا من النوع الممتاز، لأي خلاف بين أبناء المجتمع، قديمًا وحديثًا.
ما التيارات التي أنتجتها معركة صفين؟
هناك أربعة تيارات كانت نتاج موقعة صفين، والغريب أنَّ مجتمعاتنا -غالبًا- ما تزال تصطفّ حتى يومنا هذا تلك الاصطفافات الصفينية ذاتها، وعلى الرغم من الاختلاف في مسمى الاصطفاف، فإنَّ الجوهر عينه لم يخرج كثيرًا عن الثقافة الصفينية، وهذه التيارات هي:
التيار الأول: الانتهازية السياسية
تمثَّلَ هذا التيار آنذاك ذاك بالبيت الأموي الذي انتصر بعد صفين في المعركة السياسية، وأسس لثقافة الانتهازية السياسية، وابتدع أسوأ ما في تاريخنا السياسي، وهو نظام التوريث السلطوي، وبات له حتى يومنا هذا أنصارٌ ومؤيدون ما يزالون يرون في تلك الانتهازية أمرًا مشروعًا ومبررًا لسلوكهم غير الأخلاقي، وساهمت الثقافة الصفنية في تأسيس تيار مشيخي موجود في كل بلداننا، يشرعن “فقه المتغلب”، ويرى في أيّ حراك اجتماعي، يطالب بحقوقه التي سلبها من استولى على السلطة بالغلبة، أمرًا محرّمًا، بذريعة الخوف من الفتنة (الفوضى الخلاقة).
هذا التيّار تلاعب بالدين كما تلاعب بالسلطة، فكي يشرعن وجوده السلطوي قال بعقيدة الجبر والقضاء والقدر، وأنّ وجوده على رأس السلطة إنما هو “قدر الله” الذي يجب أن لا ينازعهم فيه أحد، فتأسس ذلك الاعتقاد بعد كلمة عثمان بن عفان، ورفضه لمطالب الحراك الاجتماعي نتيجة استيلاء أقاربه على مفاصل الحكم، لتظهر مقولته الشهيرة (كيف أخلع قميصًا ألبسنيه الله)، مخالفًا بذلك العهد الذي أوصله إلى السلطة، وتعهّد به أمام المُحَكم عبد الرحمن بن عوف، بالمضي على سُنّة الشيخين (أبي بكر وعمر) اللذين أكدا في بيانهما الأول، بعد استلامها السلطة، أن مشروعيتهم مستمدة من المجتمع، لا من الله، وأن للمجتمع أن يقيلهم، إن أحدثا اعوجاجًا سلطويًا.
وتغوَّل معاوية، بعد أن آلت إليه السلطة في تلك الجبرية، بقوله: “الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما أخذت فلي، وما تركته للناس فبالفضل مني”. وهكذا استمرت عقيدة الجبر، وتغلغلت في الثقافة الإسلامية، لتولد مفاهيم معوجة للقضاء والقدر، تؤمن بها أغلبية مجتمعاتنا المعاصرة، وهي ليست إلا نتاج الثقافة الصفينية، ومن حاول بيان بطلانها، قتلوه شرَّ قتلة، وما غيلان الدمشقي إلا أحد شهداء معارضة تلك الجبرية.
التيار الثاني: أدعياء الحق الإلهي
إذ يرون أنفسهم الأحق بقيادة المجتمع، دينيًا وسياسيًا، بسبب وجود نصوص منسوبة إلى الرسول الكريم، تمنحهم الحق الإلهي بالوصاية على المجتمع والسلطة، مثّلهم في صفّين علي بن أبي طالب، ويمثلهم اليوم الاتجاه الشيعي المدعوم من إيران الثيوقراطية، الذي ينسب نفسه إلى بيت النبوة! وبذريعة الحق الإلهي، تستولي إيران اليوم -عبر مخالبها- على أربع دول عربية، لها فيها أحزاب وتيارات تؤمن بتلك الوصاية! وتمارس القهر والاستبداد والتقتيل والتشريد، وباتت نظرية “الولي الفقيه” تمد هذا التيارات والأحزاب بكل أشكال الدعم المالي والعسكري والإعلامي، حتى أصبحوا دولة داخل الدولة، “حزب الله” مثالًا؟! فضلًا عن المشروعية المقدّسة التي يتحركون من خلالها.
التيار الثالث: تيار العنف الدموي
هذا التيار مثَّله في موقعة صفين الخوارج، ثم عالج ظهورَهم علي بن أبي طالب، في موقعة النهروان بمذبحة، إذ قتل جيشهم بالكامل، ويبلغ تعداده 15 ألفًا مقاتلًا على أقلّ تقدير، ولم ينجُ منهم إلا تسعة رجال. ثم عاد هذا التيار ليتوالد في كل أزمة بقوة في المجتمع، مستغلًا نصوصًا منسوبة إلى النبي تُبيح دم المخالف، وبقي هذا النموذج يظهر في أزمات الأمة، حتى وجدنا آخر نماذجه القبيحة متمثلًا بتنظيم (داعش) وعنفها الدموي الفاحش، وأصبح لهذا التيار زعماؤه السياسيون وفقهاؤه ومنظروه.
التيار الرابع: تيار المتطهرين
مثّله آنذاك سعد بن أبي وقاص، ومَن معه من الذين رفضوا الانخراط في صراع عليّ ومعاوية، ولم يؤمنوا بالعنف كوسيلة للتغيير وحسم القضايا الخلافية، وهؤلاء أسسوا مفهوم الاعتزال، قبل واصل بن عطاء، وظلّوا تيارًا عقلانيًا في الأزمات، وتمثله اليوم شريحة واسعة من العلمانيين، ترى في هذه النزاعات طفولة دينية وعبثًا يؤخر نهضة الأمة.
تلكم التيارات الأربعة نشأت عن الخلاف السياسي بين علي ومعاوية، وأسّست للثقافة الصفينية، وعندما ننظر بتدبر إلى مجتمعاتنا اليوم، نجد أن هذه الثقافة ما تزال حيّة، من خلال ذريّة الصفينيين الأوائل، وأنها ما تزال فاعلة وذات دور مهم في انتكاسة العقل الإسلامي وتخلّفه. وكما أن هناك مرضًا يصيب الجسم اسمه “فقر الدم”، هناك مرض عقلي اسمه “فقر الإبداع”، وكما أن هناك مرضًا اسمه “هشاشة العظام”، هناك خلل عقلي اسمه “هشاشة التفكير”، وكما أن هناك مرضًا اسمه “سوء تغذية”، هناك مرض عقلي اسمه “سوء إدارة الأزمة”.