يعود ظهور الأحزاب -بأشكالها المعروفة- إلى أوروبا القرن التاسع عشر، حيث نمت الظاهرة الحزبية مستفيدة من تطور الهيئات والمؤسسات التشريعية، وقيام النظم الانتخابية والتمثيلية. ومن ملاحظة ظهور الأحزاب في العالم الأوروبي، يمكن القول إن تلك الأحزاب انقسمت إلى قسمَين: أحزاب نشأت داخل الهيئات التشريعية والندوات البرلمانية؛ وأحزاب ظهرت خارج تلك الهيئات وتمثلها عادة الأحزاب ذات التوجه الاشتراكي. وقد انعكس هذا الاختلاف على البنية التنظيمية لكلا النمطَين من الأحزاب.
أشار أكثر من باحث إلى أن الأحزاب الأوروبية ذات التوجه الاشتراكي، على الرغم من نقدها الدين بوصفه منظومة فكرية، وقعَت في خطيئة استلهام البنية التنظيمية في الكهنوت المسيحي، وبخاصة الكهنوت الكاثوليكي، وانعكس هذا لاحقًا على الماركسية نفسها في الدول التي قامت بتطبيقها؛ فتحولت الماركسية، بفعل هذه الآلية التنظيمية شديدة الهرمية، إلى “دِين أرضي”، وقامت على أساس هذا التماثل “عبادة الشخصية”، بوصفها صورة لعبادة الإله المتعالي في المنظومة الدينية.
مع بداية تشكل الدولة العربية الحديثة، وبخاصة مع خروج البلاد العربية من الحكم العثماني، ووقوعها تحت الانتدابين الفرنسي والإنجليزي؛ قامت أنظمة جديدة حاولت تمثل المؤسسات الغربية، والقيم الغربية في حقوق الإنسان وفصل الدين عن الدولة، فظهرت الأحزاب اللبرالية والأحزاب ذات التوجه الاشتراكي، وكلا النمطين استلهم الأحزاب الغربية في مبادئه وآليات عمله، ويمكن القول أيضًا: إن ظهور الأحزاب العربية يماثل إلى حدٍّ ما النشأة الأوروبية لتلك الأحزاب، إذ نشأت الأحزاب اللبرالية داخل الهيئات التشريعية، والأحزاب الاشتراكية خارجها.
وعلى الرغم من الرغبة في تكريس الفصل بين الدين والدولة، وبناء دولة حديثة، بقي الاعتراف بالبنى الأهلية والطائفية حاضرًا، حيث خُصّصت مقاعد للأقليات، وللعشائر البدوية، ولم يكن هذا الاعتراف بالاختلافات الطائفية والمجتمعية نقيصةً، في نظر المؤسسين الأوائل للكيان السوري؛ فقد كانت التباينات حقيقة مجتمعية لا يجوز مطلقًا التعالي عليها وتجاهلها، وانسحب الأمر على الأندية الثقافية والرياضية التي كان التقسيم الطائفي فيها أكثر وضوحًا؛ فنادي الجلاء الحلبي كان يُطلق عليه سابقًا “نادي الشبيبة الكاثوليكية”، في حين كان نادي اليرموك يسمّى نادي “الهومنتمن”، وقد أسسه أرمنُ حلب، بينما مثّل النادي الأهلي الطبقة الوسطى الحلبية، قبل أن يتحوّل اسمه إلى نادي الاتحاد. هذا، بينما غلب الطابع الكردي والمسيحي على النادي العربي الذي صار اسمه لاحقًا نادي الحرية.
إذا كان ذلك الانعكاس الديني قد وجد طُرقًا ينفذ من خلالها إلى البنية الحزبية في العالم الغربي، فإن الأمر سيكون أكثر سهولة في بلد مثل سورية؛ حيث ظلّت العلاقات التقليدية ثاوية في اللاشعور الجمعي، وبخاصة أن عملية التحديث حاولت استلهام النماذج الحداثية الغربية على نحو مبتسر، دون أن تعي أن القطيعة النهائية، بين البنى التقليدية وجهاز الدولة، لم تتحقق في العالم الغربي إلا بفعل سيرورة تاريخية، لا تتوفر أبدًا في السياق العربي.
أدت زيادة منسوب الخطاب القومي، والتي نراها ماثلة في تغيير التسميات السابقة، بحيث فرضت أسماء لا تمتّ بِصلة إلى التركيبة الديموغرافية لأعضاء النادي ولاعبيه ومشجعيه (نادي اليرموك حالة صارخة)، إلى نكوص على التحوّل السياسي التدريجي، وعلى الاعتراف بالاختلافات الطائفية والمذهبية والمناطقية، ونتج عن ذلك “ردة قومية” تمثلت في التعالي على الواقع الاجتماعي، بمشكلاته وقضاياه المذهبية والطائفية، وحاولت هذه “الردة القومية” أن تجد مرجعية لها في نظام معرفي غربي، متجاهلة أن المخيال الاجتماعي هو الذي يسيّر الفعل السياسي والاجتماعي ويوجهه؛ لأن هذا المخيال يتشكل من مبادئ ورموز وقيم تعدّ حقلًا للإيمان والاعتقاد. وقد أخفقت هذه الردة القومية بسبب حالة النكران، إذ بقيت الأندية الرياضية والأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية تدور في شرنقاتها الطائفية، حتى الآن. من هذه الزاوية الضيقة، تسللت الطائفية، وأصبحت نظامًا اجتماعيًا وسياسيًا تمارسه السلطة، ولكنها في الوقت نفسه تتهم كل من يشير إليه، بـ “العمل على إضعاف الشعور الوطني”، وهي تُهمة تودي بصاحبها إلى السجن في أحسن الحالات؛ ذلك أن الإشارة إلى الطائفية وتعرية خطابها لا تروق لسلطة طائفية بامتياز، تسترت بحزب البعث وجعلته واجهة لأقلويتها.
كان حزب البعث، كحال الأحزاب العربية الشمولية، صدًى للأحزاب الاشتراكية الغربية في بنيتها وطريقة تنظيمها الداخلية؛ ويلاحظ المتتبع لنظام حزب البعث الداخلي، وللتغيرات العميقة التي شملت هذا النظام، أنه تطوَّر باتجاه هيكلية تشبه إلى حد بعيد التنظيم والتراتبية الموجودة في الكهنوت المسيحي، ولا سيما الكاثوليكي منه؛ فالمنتسب إلى حزب البعث يمرّ بمرحلة “النَّصير”، ثم مرحلة “العضو العامل”. وللأنصار حلقة يشرف عليها عضوٌ تعيّنه الفرقة التي يجتمع فيها عدد معين من الأعضاء العاملين، ويرأسها أمين الفرقة. تأتي بعد ذلك الشعبة التي تتكون من عدد من الفرق، ثم الفرع… حتى نصل إلى الأمين العام. وللوصول إلى أي منصب، لا بد من مرور عدد من السنين على العضوية العاملة، تُقدّر أحيانًا بعشر سنوات…إلى آخر ما هنالك من اشتراطات تؤكد تحوّل الحزب إلى جهاز شديد التنظيم والهرمية.
وإضافة إلى هذه الهرمية الكهنوتية، تُظهر البنية التنظيمية لحزب البعث منذ البداية أنه ليس جماعة مدينية حداثية، سواء في عضويتها أو في نمط الانتساب إليها أو في اللوائح الداخلية التي تنظم عملها، وأنّه أقرب إلى الجماعات الكهنوتية المغلقة. وهذا يعني منذ البداية وجود انفصال بين الطروحات الفكرية واللاشعور السياسي، فالمخيال الاجتماعي للجماعة البشرية التي شكلت حزب البعث كان مخيالًا طائفيًا، ونظرة واحدة إلى أدبيات الحزب تكفي لترينا أن البطولات والمآثر والشخصيات الفاعلة في التاريخ العربي- الإسلامي، وفق رؤية الحزب، تتكون من شخصيات وجماعات، توصف بالمروق والزندقة، كحركة القرامطة (تحول القرامطة إلى عشيرة ما زالت بعض فروعها موجودة في المنطقة الشرقية من سورية حتى الآن) التي أصبحت الإشارة إليها، كواحدة من التجارب الاشتراكية المبكرة في التاريخ الإسلامي، لازمة من لوازم البحث عن جذور إسلامية للاشتراكية المعاصرة.
يفسّر هذا المخيال الاجتماعي ميل الحزب إلى التمدد في الأوساط الريفية التي يهيمن فيها الغيبي والغامض واللاعقلاني. ولهذا كان تأثير الجماعات الأهلية في الحزب أشدّ من تأثير أفكاره وطروحاته التقدمية فيها؛ حيث شهد الحزبُ تحوّلًا نحو سيادة نزوع أقلوي، يخالف الشعارات المرفوعة ويتوسل بالكتمان والسرية، أفرغ الحزب من أفكاره “التقدمية”، وحوّله إلى منظمة أهلية، زالت الحواجز فيها بين التنظيم والعلاقات الشخصية، أي ما يطلق عليه عادة “ترييف الحزب”.
مع العلوية السياسية وسيطرتها على الدولة، بعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، أضيفَ عامل جديد إلى البنية الكهنوتية، هو ثنائية “الظاهر” و”الباطن”، التي طبعت كلّ شيء في سورية. ومنذ ذلك التاريخ حتى وقتنا الحالي، ثمة دولة ظاهرة أمامنا يجدها المواطن في المؤسسات الحكومية المختلفة، ولكنه يعرف أن “الدولة على الحقيقة” تقبع في أجهزة الأمن المختلفة. جاء هذا بعد أن تحول حزب البعث ذاته إلى “ظاهر” يخفي “الباطن” الذي هو أيضًا الأجهزة الأمنية “الطائفية”.
إن نكران الواقع الاجتماعي والطائفي، الذي جاء بسبب زيادة حدة الخطاب القومي، أدى إلى تغطية الوعي الطائفي تحت ستار تنظيمات وهيئات تتوسل في مبادئها بشعارات التحديث والعقلانية، ولكن بنيتها المضمرة تستند إلى جذور وممارسات طائفية، يشكّل مخيال الجماعات الأهلية الضيّق مجالَ رؤيتها للواقع الاجتماعي والسياسي وبناء الدولة؛ وهو ما حوّل الدولة السورية إلى دولة طائفية غير معلنة، كما الحال في لبنان، حيث لكل طائفة حصة من السلطة، وحدود لا تستطيع تجاوزها؛ أما في سورية، فإن بلاغة الخطاب القومي حالت دون تكريس الطائفية على نحو رسمي، الأمر الذي أدى إلى استغلالها على النحو الذي نرى نتائجه الكارثية أمامنا الآن.