الصِّيانة ضد الابتذال، والأصل في الابتذال التسطيح والتكرار، ومن ثم نزع القيمة؛ فالمُبتذل يُمتهن ولا يُصان. ولا يكون المُبتَذَل (المفعول) من دون مُبتَذِل (فاعل)، وهذا الأخير يقوم بجهدٍ في التسطيح والتكرار من دون ابتكار أو إبداع.
انطلاقًا من هذا المعنى، وبالنظر إلى عشرات المشاريع المتشابهة التي تعمل تحت عنوان الوطنية السورية، يمكن للسوري بسهولة أن يرى حجم الابتذال الذي آلت إليه مفاهيم كبرى في هذا الحقل الوطني، وأهمها مفهوم المشروع الوطني السوري، وما يدور في فلكه من مفهوماتٍ مهمة مثل “المجلس الوطني”، و”المؤتمر الوطني”، و”العهد الوطني”، و”الميثاق الوطني”، و”المواطنة”، إلى ما هنالك من مصطلحات كثيرة.
“صيانة المشروع الوطني السوري” هي محاولة متواضعة لتقديم مادة أوليَّة تساهم في وقف هذا الابتذال، وتشكّل مُقترحًا يصبّ ضمن الجهود الرامية إلى صون المشروع الوطني السوري، بوصفه خلاصًا لكل السوريين. وتأتي هذه المساهمة في أربعة أجزاء، وهذا هو الجزء الأول، وعنوانه البصيرة، والثاني سيكون حول الفهم، والثالث في التنظيم، ويأتي الرابع للتحليل والاستنتاج والاستخلاص وربط المواد النظرية المقترحة بالمسائل العملية. وتنطلق هذه المحاولة بمجملها من الذات السورية، تتكلم عنها وتتوجه إليها، وتأمل أن تقوم بتحفيز العقل السوري ليقترب من ذاته أكثر: يفهمها بشكلٍ أعمق، ويشخص عيوبها بدقةٍ أكبر.
لدينا في سورية اليوم ما يكفي من الأسباب لنفهم لماذا يسقط السياسيون في امتحان الفكر، ولكن الأمر ليس بهذا الوضوح، إذا عكسنا السؤال ليصبح لماذا يسقط المفكرون في امتحان السياسة؟ ويصبح السؤال أصعب إذا حددناه أكثر: لماذا يسقط المفكرون السياسيون وعلماء الاجتماع السياسي في امتحانات السياسة؟ ويتوالد من رحم هذه التأملات المثيرة للاستفهام أسئلة تحمل مفارقاتٍ أكثر غرابة، ومنها: لماذا يسقط الفيلسوف أحيانًا، وهو -كما يدل عليه اسمه- “مُحبٌ للحكمة”، بـفخّ “الصبيانية” الاجتماعية والسياسية، وهي المترافقة بالضرورة مع افتقار الحكمة؟ ولماذا تتنحى الصفات العقلانية للأفراد أمام عصبية الطائفة والإثنية والقبيلة وتندمج في دوامات الفانتازيا والجنون العصبوي؟
الظواهر التي جعلتنا نثير حزمةَ التساؤلات هذه ليست جديدة، مثلًا كان يقول عمر الخيام إن “أقطاب العلم في محفل الحكماء كانوا يتلألؤون كمنارات، ولكنهم لم يعلموا كيف يجدون طريقهم في الظلام”. وباستحضار مقولة الخيام هذه إنما نُمهِّد لميلنا إلى ربط هذه التساؤلات بنوعية العلاقة بين النظري والعملي، والأدق أن نقول بين الفكر والواقع. وإذا حقَّ لنا منهجيًا أن نفهم السير في الظلام الذي تكلم فيه الخيام من خلال أمثلةٍ أنموذجية، فسيكون السير في حقل السياسة السورية واحدًا من أكثرها مطابقةً لما نريد فهمه. وليس مرد أنموذجيته إلى وعورة مسالكه وغموض دروبه -وهي كذلك- بل إلى توقيت هذا المسير في حلكة ظلامٍ لا ينجلي، وإلى تدني مستوى المراكمة اللازمة لتعلُّم آلية البحث عن الطريق في الظلام.
نحن إذًا نحاول أن نفهم مسألة ذاتية، تخص الذين اختاروا السيرَ في هذا الحقل المُظلم؛ فإذا كانت وعورة الدروب صنيعة الموضوع، والظلام صنيعة الزمان والظروف الموضوعية؛ فإن المقدرة على السير في الظلام مَلكةٌ ذاتيةٌ تحيل على الذهنية والمهارة والإبداع (سواء كانت الذات فردية أو جمعية). ولنتذكر أن حقل السياسة السورية الوطنية هو الأحلك، حيث تقع عليه كل آليات وظروف التظليم، بشكل مباشر أو غير مباشر. وهؤلاء الذين ما زالوا يُصرُّون على السير في هذا الحقل المُظلم، وإن لم يتعلموا ذلك؛ إنهم من دون شك يمتلكون كثيرًا من الشجاعة والمخزون الأخلاقي وحبّ الآخرين والغيرية والتفاني.
في الحقول المُظلمة، لا يحتاج السيرُ إلى البصر بل إلى البصيرة، وهذه الأخيرة فنٌ يقتضي عملًا مشتركًا لثلاثة مفهومات، نسميها معًا ثلاثية البصيرة: (ذكاء، فكر، وعي). ولنلاحظ أن عمل كل مفهومٍ في هذه الثلاثية يقتضي العمل الكامل للبقية. تشكل هذه الثلاثية البصيرة، لأنها ولّادةٌ للتصور، وعندما تتصوَّر الحقلَ فإنك -وإن كنت لا تبصره- تراه. التصور بتعبيرات إدغار موران هو “توليدٌ يقوم به الفكر البشري لتشكيل مُبتكر يؤلف وحدة منتظمة”، ويجمع التصور القدرة على تشكيل صورة ذهنية وإنتاج صورة مادية، ويوظف الخيال وإستراتيجيات الذكاء، وتكون العبقرية هي “فن التصور”. هكذا يكون وضع برنامج لحزب، أو لحكومة، وتطوير عمل فني، أو مخطط عمراني، أو اختراع آلة، أو الإخراج المسرحي والسينمائي، عملًا تصوريًا. فإذا اهتدى المشروع السوري إلى تكوين تصوّر لحقل السياسة السورية؛ صار قادرًا على السير بمفرده، وعندئذ يثق بقدراته فلا يعوّل على جهةٍ خارجية لتأخذ بيده. ما إن تعمل ثلاثية البصيرة حتى يتشكل التصور، وما إن يتشكل التصور حتى يُسهم في توقف ابتذال المشروع الوطني، والمفهومات الوطنية المتعلقة به، مثل مؤتمر وطني، ومشروع جامع، ومجلس وطني، إلى ما هنالك. عملية الابتذال جعلت كل هذه المفهومات المهمة مبتذلةً، ولذلك فُقدت ثقة عموم السوريين بها، وبأصحابها، ومن ثم بالسياسة بمجملها. والمصيبة أنها مفهوماتٌ تتكرر باستمرارٍ باستخدام الذهنية نفسها، فتصنع من القديم المجرب حلقاتٍ جديدة لا أمل فيها. هذه هي ذهنية الابتذال، وهكذا تُبتذل السياسة. وهذا يفسر سقوط المفكر والفيلسوف وأصحاب العقول النيرة في امتحان السياسة في سورية، إنها نقص البصيرة، الذي يؤدي بالضرورة إلى نقص الإبداع والابتكار، ومن ثم إلى ابتذال كل شيء في الواقع. ولذلك يصبح التغيير في الذهنية، والانتقال من ذهنية الابتذال إلى ذهنية التصور، شرطَ التقدم الأولي والمبدئي للمشروع الوطني السوري. وهنا تلعب ثلاثية البصيرة دروها في هذا التغيير، ولذلك نحاول مقاربة عناصرها، كل على حدة[1].
نجد أن الذكاء فن إستراتيجي، والفكر فنٌ تحاوري، والوعي فن تفكيري. والترابط البنيوي بين هذه العناصر الثلاثة واضحٌ هنا أيضًا، فعمل كل واحد فيها يشترط أن يعمل الاثنان الباقيان، وتعمل هذه الثلاثية بمبدأ الكل أو اللاشيء.
1) الذكاء: هو إستراتيجية، تؤدي مُمارستها بشكلها المُعقد والمُتجدد إلى تحولها إلى فن، ولأنها إستراتيجية فإنها تحشد أفضل الطاقات الفردية، كي تتصدى للايقينيات والصعوبات وتغيرات المهمّة التي يجب إنجازها. وككل الفنون، لا يخضع الذكاء لوصفات مسبقة أو برامج تنفيذ جامدة أو أيديولوجيات متخشبة، وأصحاب هذه السمات الصلبة يجب أن يتخلوا عنها قبل أن يبادروا -كعادتهم- بمشروع وطني جديد، إذا أرادوه ناجحًا.
وللذاكرة أهمية خاصة في حديث الذكاء، وهي ضرورية للمراكمة، ولذلك فإن الذاكرة السيئة لا تناسب المشروع الوطني، بل يجب أن يكون الفرد قادرًا على استحضار الماضي في ذهنه عند الضرورة: يستذكر ويعتبر ويحلل ويربط ويراكم. ويتضمن الذكاء بالضرورة تطوير المقدرة على استخلاص العبر من الوقائع التي أصبحت ماضيًا يقبع في الذاكرة، فتتغير منهجية التفكير وتتطور.
2) الفكر: على الرغم من أن الفكر يتضمن عملياتٍ دون اللغة ودون الوعي وفوق المنطق، فإنه -ككل نشاطات العقل- محمولٌ على اللغة، والمنطق، والوعي. ويعمل الفكر على تحويل الشيء المعروف إلى شيءٍ مُتصوَر، وهو يستخدم التجريد تمهيدًا للتعيين أو لإعادة التعيين. الفكر يرسم الحدود ثم يعمل على تجاوزها، فيوسعها، أخذًا معه البصيرة إلى تعمق. والفكر يرفض التناقض ويحاربه، ولكنه يضطلع به في الوقت نفسه، ويتغذى عليه عن طريق تشكيل دينامية حوارية مُمتدة لا تتوقف. الفكر مُضطرب، ولكنه ينتج التصور الذي يهدّئ الاضطراب، والتصور ينتج الفكر، وبذلك ينتج اضطرابًا جديدًا، وهكذا تستمر هذه الجدلية في العمل من دون توقف، منتجةً أفكارًا ومشاريع قابلة للتنفيذ وحاملة تطورها من ذاتها. الفكر يجد الحلول للثنائيات التي تبدو من دونه متناقضة، ومن تناقضها يستمد حياته، ثم يضطلع بالتجسير بينها في وحدة جدلية. إليه تُنقل كل هيمنة من هيمنات العمليات المتناقضة، ولذلك فإن الفكر عماد الإبداع، ومن ثم هو عماد الأوطان، لأنه يدير الخلاف ويتغذى به ويبني عليه الحرية والقانون والتعاقد. وفي سورية ثنائيات لا يمكن التعامل معها من دون الفكر، منها على سبيل المثال لا الحصر: (عروبة وكردية)، (علمانية وإسلام)، (مركزية وفدرالية)، (أنوثة وذكورة)، (أكثرية وأقلية)، (مركز وأطراف)، (أمن وحرية)، (داخل وخارج)، (سَلام ودفاع عن النفس)، (خاص وعام)، إلى ما هنالك.
إن الفكر -كما يبدو واضحًا في السياق- لا يعيش من دون تحاورٍ تفكيري، وهو نقيض التحاور التكفيري. الأول مقارب والثاني أيديولوجي؛ والأول كوني والثاني محلي، والأول يبسط أفكاره فيُغير ويتغير، والثاني يبشر بأفكاره فيتمترس ويفرض، الأول ديمقراطي والثاني شمولي.
الفكر -بهذا المعني التحاوري- يستند إلى الحوار، لأنه تمثيلٌ رائع لإرادة البحث التعاوني عن الحقيقة وأبٌ شرعي لها. فما إن يحقق الفكر شرطه التحاوري حتى يستمد مادته الأساسية من فعل الاعتراف بكرامة الآخر، ذلك لأنه يقوم بترسيخ التحاور -بوصفه نهجًا أصيلًا- للوصول إلى حلولٍ للمشكلات التي تواجه الاندماج الوطني؛ فالمشاركة الوطنية لكي تكون ديمقراطية، يجب أن تكون مبنية على نظرية حوارية أساسها الفكر.
الفكر التحاوري فكرٌ تواصلي، يتوالد من عقلية تواصلية، تفتح آفاقًا حقيقة للوصول إلى حالة التوافق والتفاهم. وتحتوي مقاربة الفكر دائمًا قيمةً أخلاقيةً عالية، لما لها من طابعٍ إنساني، ولما تتضمنه من إجماعٍ على ما يسميه هايبرماس “مزاعم الصدق” (validity claim) المدعمة بالحجج والبراهين العقلانية خلال عملية الحوار.
لا بد من أن يقوم المشروع الوطني السوري على الابتكار والإبداع، اللذين يتجاوزان الأشكال والقواعد القائمة، ويتخطيان الأطر التقليدية المتمترسة التي تكرر نفسها باستمرار، ويحيلاننا على فرادة الشخصيات وعبقرية الطروحات.
والفكر التواصلي -بهذا المعنى- شرطٌ من شروط قابلية الاجتماع السياسي، فهو مؤسسٌ للحوار البنّاء والإنساني، ومن ثم بالضرورة أداة لتنظيم المجتمع، ويمكن أن نقول إنه واحد من أهمّ شروط المجتمع الحر المُنظم بطريقة عقلانية، أي إنه واحد من أهم شروط قيام (إبداع) الوطن نفسه. من خلال الفكر التحاوري، يتم تأصيل وترسيخ ضرورة مبدأ الحوار القادر على النظر إلى الذات وإلى الآخر، بوصفها غايات بحد ذاتها، وبحسب كانط فإن “كل مخلوق عاقل يجب أن يكون غايةً بحد ذاته (end in itself)، وليس مجرد وسيلة متوفرة يستخدمها الآخرون لتحقيق رغباتهم”[2]. يقودنا هذا كله إلى مفهوم الكرامة، فعلى مستوى الأهداف النهائية، أو مملكة الغايات بتعبيرات كانط، يمكن أن نتفق معه حول الحقيقة الآتية: “في مملكة الغايات، يكون لكل الأشياء سعرٌ أو كرامة؛ أما الذي له سعرٌ فيمكن استبداله بشيء آخر له القيمة نفسها، وبالمقابل، فإن الذي يتسامى فوق تسعير نفسه، ولا يعترف بأي معادل لذاته، هو الذي له كرامة”[3]. والكرامة، في المجال العام، هي الشعور الداخلي باستحقاق الاحترام. هذا الشعور هو الذي يظهر في نوعية وطبيعة سلوكنا في المجال العمومي، فالثقة والهدوء والتصالح مع هذا المجال هي مؤشرات لوجود هذا الشعور بالكرامة، أما الهروب من المجال العام، والمرور به سريعًا للعودة ثانية إلى التكور على الذات في دائرة الراحة الجزئية الخاصة، فهو مؤشر على نقص هذا الشعور. وفي الغالب، يكثر الحديث حول الكرامة في مثل هذه الحالات، وازدياد هذا الحديث على المستوى النظري ناتجٌ عن نقصها، على مستوى العمل والسلوك، الذي ينتج بدروه عن نقصٍ في الشعور بأن قناعاتنا -في الوقت الذي نعيشه- تستحق حقًا الاحترام. ويتشكل معنى الكرامة هذا على قاعدة أخلاقية تشاركية، تنتمي إلى فضاء عمومي معين، يمدنا بالشعور بالأمان، والانتماء، بقدر ما يمدنا بالشعور بالمشاركة في السلطة، والسيادة، والسيطرة، والحصانة تجاه السلطة، والفخر، وغيرها من المفهومات التي تجعل الفرد يشعر بكرامته ويعتز بها، من ثم، يهدأ هذا الجزء من شخصيته، فيجد ما يكفي من القدرة للتركيز على الجماليات وطرق الرفاه والسعادة.
وليس غريبًا أن يقودنا الفكر إلى مفهوم الحوار، ومن ثَم إلى الحرية والكرامة، ومن المفيد التذكير بأن الحرية والكرامة هما مطلب السوريين والأساس الذي خرجوا من أجله. ولنتذكر بأن الفكر سيحشد جميع طاقاته لمجابهة الأحداث المعقدة التي تعترضنا وتؤثر في بعضها بشكلٍ متزامن وجزافي، وبأنه سيوظف قواه النقدية والإبداعية لإعادة تصور المبادئ التي توجه تصوراته الخاصة. وفن التفكير هو فن تحاوري للتصور، ويقتضي وجود عقل إستراتيجي ذي مقدرات تنظيمية استثنائية، وعبقري في أعلى حالاته الإبداعية.
بهذا المعنى؛ يصبح المشروع الوطني المنشود خارجَ دائرة الابتذال السائد، بل يصبح فتحًا معرفيًا يتضمن الابتكار، والابتكار فكرة استخدمها جاد الكريم جباعي، في مقولته الرائعة “ابتكار سورية”، ومن الممكن أن نضيف إليها الإبداع. ففي فكرة الابتكار دلالةٌ على الدهاء والذكاء، وفي فكرة الإبداع دلالةٌ على القدرة التنظيمية التوليفية. فالابتكار للفن الإستراتيجي، والإبداع للتصور. ثم نلتقي مع مقاربة إدغار موران المهمة: “لأن التمرين التحاوري للفكر ينطلق من الفن، ولأن تحقيقه في التصور ينطلق من الإبداع؛ فإن الابتكار والإبداع متضمنان في الفكر”. والإبداعات الأكثر إبداعًا هي تلك التي تتصور مفهوماتٍ جديدة، وتشكل منظوماتٍ جديدة من الأفكار النظرية، وهي التي تأتي بمبدأ في المفهومية يتجاوز المبادئ والقواعد التي تتحكم في النظريات.
3) الوعي: الوعي أيضًا تفنن، هو تفنن تفكيري: الوعي بجميع أشكاله هو نتيجة تفكير وهو مُنتِجُ تفكير. ولا تكون هذه المقاربة صالحة، من دون ضبطٍ واضح لدلالة كلمة “التفكير” فيها. فنقول: التفكير هو ازدواجية بين المُفكِر والُمفَكَر فيه، هو عودة العقل إلى نفسه عن طريق اللغة؛ العودة التي تعني التأثير الرجعي للفكر في الفكر، ومن ثم التفكير في الذات القادرة على التأثير الرجعي في الذات. ويكون الوعي تفننٌ بالازدواجية بين المُفكِر (الذات)، والموضوع (المُفكَر به)، ولذلك هو ذاتي يحيل على موضوعي، وذلك لأن هذه الازدواجية تُمكِّن الفاعل من أن يعالج بموضوعية جميع نشاطاته النفسية، وجميع تصرفاته الذاتية. وهذا تمرين مستمر في انفصال الذات عن ذاتها من أجل نقدها وتطويرها، يتيح للعقل النظر إلى ذاته من فوق، من دون الكف عن البقاء داخلها. الوعي -بهذا المعنى- صورة يلتقطها العقل لذاته من فوق، في سياق تطويرها وإصلاح عيوبها. وهذا التصوير المستمر هو الذي يتيح للعقل إمكانية التمعن بذاته، ومن ثم معرفتها أكثر، أي يتيح للفكر إمكانية أن يضع ذاته موضوعًا له أثناء حركته، فتتعدل المعرفة والفكر والفعل بفضل تكوين الوعي. وهذه الآلية تؤدي إلى تمايز الوعي إلى نوعين: الوعي المعرفي (الوعي بالموضوع)، ووعي الذات (المعرفة التمعنية للذات). ويبدو أن سقوط المُفكر الفاهم موضوعَه في امتحان السياسية ليس إلا نقصًا في النوع الثاني من الوعي، وهو وعي الذات؛ فتطور الوعي المعرفي لا يؤدي بالضرورة إلى وعي الذات والعكس أيضًا صحيح.
لا تكتمل هذه الفكرة حول الوعي الذاتي من دون وضع علامة تحذيرية كبيرة لتجنب الوقوع في المحظور، ونضع هذه العلامة كالآتي: الوعي بالذات مضادٌ لمركزية الأنا، لأن الوعي موضوعي والأخيرة مغرقة في الذاتية ومفسدة لكل وعي؛ فالوعي هو اقترابٌ أفضل من الذات موضوعيًا، بقدر ما هو ابتعادٌ عنها منهجيًا.
تعمل العناصر السابقة (الذكاء، الفكر، الوعي) بترابط وانسجام ووحدة، لتنتج البصيرة الضرورية لصيانة المشروع الوطني السوري ولوقف ابتذال السياسة في سورية بالعموم. فالفكر يحتاج إلى الفن والإستراتيجية المعرفية، أي الذكاء. ويحتاج الذكاء إلى الفكر في كل نشاطاته، ولا يعمل بنجاعةٍ من دون تنمية المقدرة على التصور. ويحتاج الوعي إلى أن يتحكم فيه الذكاء، كما يحتاج الذكاء إلى تكوين وعي، وكما يحتاج الفكر إلى الوعي، والوعي إلى التفكير.
يؤدي هذا العمل المشترك إلى الانتقال من أحكام الوهم والخيال في تكوين المشروع الوطني، إلى البصيرة العقلانية النافذة القادرة على الرؤية الثاقبة.
وفق كل ما سبق؛ نجد أن المشروع الوطني السوري لا بد من أن يقوم على الابتكار والإبداع، اللذين يتجاوزان الأشكال والقواعد القائمة، ويتخطيان الأطر التقليدية المتمترسة التي تكرر نفسها باستمرار، ويحيلاننا على فرادة الشخصيات وعبقرية الطروحات، وعلى أعمق الطاقات الذاتية العقلية والنفسية الخاصة بالسياسيين الأساسيين المبادرين للعمل فيه..
وبالعموم، يفيدنا التاريخ أن هذه الثلاثية (الذكاء والفكر والوعي) لا تصل إلا متأخرة، عندما يحلّ الظلام، ولا أدري أهناك ظلامٌ أحلك من هذا!
الهوامش:
[1] استفدت من مجمل كتابات “إدغار موران”، وخصوصًا كتابه “المنهج” بأجزائه الستة، في مقاربة عناصر هذه الثلاثية التي أسميتها ثلاثية البصيرة.
[2] . kant, Groundwork for metaphysics of Morals, translated to English by Allen W. Wood, (London, Yale university, 2002) p45.
[3] Ibid, P53.