سؤال البحث
تبلور في القرن التاسع عشر سؤال: “تجاوز الرأسمالية”؛ بوصفها نظامًا يقوم على “استغلال الإنسان للإنسان”، وكان أبرز منظّري ذلك القرن “كارل ماركس” الذي كتب أهمّ كتبه، بل أحد أهم الكتب التي عرفها التاريخ إلى يومنا هذا. إنّه كتاب “رأس المال” الغنيّ عن التعريف. وكان قد ساد الحركة الاشتراكية “الشيوعية” العالمية، الداعية إلى تجاوز “القضاء” على الرأسمالية اتجاهان: أوّلهما دعا إلى تجاوز الرأسمالية من داخلها عبر تطور تدرّجي، بينما مثّل الاتجاه الثاني اعتقاد ماركس وأنصاره باستحالة ذلك، إذ كان يرى أنّ كل “المنظومات الاقتصادية الاجتماعية” السابقة للرأسمالية قد ولدت من رحم المنظومة التي سبقتها، فولادة نظام الرق كانت من قلب المشاعية، ونظام الإقطاع من قلب الرق، والنظام الرأسمالي من قلب الإقطاعية؛ لأن الطبقات المسيطرة في المنظومة السابقة كانت نفسها تقود الانتقال، ولمصلحتها. أما الانتقال من الاشتراكية إلى الرأسمالية فالأمر يختلف؛ لأنّ من يقود الانتقال – في هذه الحالة – ليست الطبقات القابضة على السلطة والثروة في الرأسمالية نفسها، بل هي الطبقة العاملة عدوة الرأسمالية؛ لذا لن تسمح الرأسمالية بعملية الانتقال -هذه – وهي المحتكرة مقدّرات البلاد والدولة ومؤسساتها، من جيش وشرطة وكنيسة، فضلًا عن الاقتصاد؛ لذا كان ماركس يرى أن تجاوز الرأسمالية لا بدّ من أن يتمّ بعملية قيصرية، بثورة تقودها “البروليتاريا” التي وعت ذاتها، ولا تخسر في الثورة إلّا قيودها.
وجدت أفكار ماركس تحقيقها في روسيا سنة 1917، بعد أن انتصرت ثورتها الشيوعية، بادئة أول تجربة “اشتراكية” في التاريخ، ما لبثت أن توسّعت كنتيجة للحرب العالمية الثانية؛ فانبثق المعسكر الاشتراكي، ولم تمضِ سوى سنوات أربع حتى انتصرت الثورة الشيوعية في أكثر بلدان العالم سكانًا (الصين) سنة 1949، تبعتها دول عديدة من العالم الثالث؛ لتتحول الاشتراكية- بذلك- إلى معسكر عالمي كبير، يواجه معسكرًا رأسماليًّا يسيطر على مقدّرات العالم، ولتبدأ حرب باردة بين المعسكرين، وَسَمت الحقبة الواقعة ما بين 1945 و1990.
بَيد أنّ المعسكر السوفياتي “الاشتراكي” مافتئ أن خسر المنافسة، وانهار، مخلّفًا ندوبًا في تاريخ البشرية وذاكرة الناس، بعضها حزنًا عليه، وبعضها فرحًا بالتخلص منه.
سنبحث – في ورقتنا هذه – عن ممكنات تجاوز الرأسمالية بشروط. ولننجزَ ذلك؛ لا بد من المرور بتجارب تجاوز الرأسمالية السابقة، وتجارب إصلاح الرأسمالية من داخلها، مستفيدين من تجاربها في تصوّرِ طريقٍ يمكنه أن يفضي إلى تجاوز الرأسمالية، وينحو نحو مجتمع اقتصادي اجتماعي ديمقراطي، يحقق قدرًا عاليًا من العدالة الاجتماعية المتنامية، وسنبحث في الأشكال الممكنة، وفي شروط نجاحها؛ لتنمية بذور نظام اقتصادي اجتماعي بديل، ينمو في رحم النظام القديم، ويلد منه حالًّا محله.