من المؤكد أن العلماء في كل القطاعات سيهتمون -مستقبلًا- بدراسة الفترة التي أمضت فيها جلّ شعوب البشرية نهارها وليلها في انعزال شبه تام عن الاحتكاك المجتمعي، حيث فرضت معظم الدول الحجر الاجتماعي أو الصحي على رعاياها وزوّارها في أثناء سيطرة جائحة كوفيد 19، على إثر مفاجأة هذا الوباء غير المعروف الذي تأخّرت أكثر الدول تقدمًا في إيجاد سبلٍ لعلاجه الأولي، ومن غير المطروح، إلا في بلاد الكذب والاستبداد، إنتاج أدوية شافية له قبل نهاية العام.
ستراوح اهتمامات العلماء والمشتغلين في البحث العلمي، بين حقول مختلفة ومتنوعة. أولّها ربما يكون الوباء نفسه وأخواته وسبل الوقاية منه وعلاجه. ويقتضي ذلك، من ضمن ما يقتضيه، إعادة النظر في دور الدولة الذي كان لغيابه المستند إلى ليبرالية متوحشة دورٌ سلبي في عملية إدارة الصراع مع الفيروس، توضّحت بجلاء من دون أي التباس خلال الأشهر الصعبة الماضية. ومن شبه المؤكد أن الاستثمارات الحكومية ستتضاعف في الحقل الطبي والجرثومي، بعيدًا عن الانغلاق في أبحاث مخابر الأدوية حصرًا، وقد بيّنت الأزمة أن تفضيلها على البحث الحكومي قد أفضى إلى كارثة. وسيحظى القطاع الصحي أيضًا بحصة كبيرة من الأبحاث العلمية، للوصول إلى فهم الأسباب الكامنة وراء عجزه النسبي الذي ظهر، خصوصًا في الأيام والأسابيع الأولى لانتشار الوباء. ومن شبه الحتمي أيضًا أن هذا البحث سيدفع العاملين عليه إلى فتح ملف دور الدولة وتهميشها المستمر منذ عقود لحساب القطاع الخاص المحلي والدولي، وهو الذي أظهر عجزه شبه الكامل عن مواجهة هذه الأزمة بكل أبعادها.
ويبدو أن الاقتصاد سيأخذ مكانته الواسعة لمقاربة النتائج وتقييم العلاج الفوري ومتوسط المدى وطويله، وقد أقدمت على ذلك بعض الدول بشكل فردي، كفرنسا وألمانيا، كل على حدة، أو بشكل إقليمي متعاضدة مع دول قريبة في المنهج والتوجه، كما حصل مع الخطة الاقتصادية الإنقاذية للاتحاد الأوروبي التي أُقرت في آب/ أغسطس الحالي. وسيتوقف الباحثون عند إدارة الأزمة ماليًا، وكيفية التحضير لمستقبل يتوقع أن يكون حافلًا بأزمات مشابهة نتيجة لتقهقر الفسحة التي يعيش عليها البشر، ولا يتوقفون عن تلويثها وامتصاص خيراتها وتصحير سهولها وتجفيف أنهارها واقتلاع غاباتها ومعاشرة فيروساتها. كما سيعكف الباحثون في حقل العلوم السياسية والعلاقات الدولية على الغوص في بحار ثرية بثمار العلم المتجدّد، حيث أخرجت هذه الأزمة، غير المنتهية، الكثير من نظريات العلاقات الدولية من إطارها التقليدي، إما لترمي به عرض الحائط وإما لتعزّز معقوليتها وقابليتها للتطوير المحاكي للواقع المستنبط من الممارسة العملية. وأخيرًا، وليس آخرًا، سيحظى تعادل وتعديل موازين القوى، بين دولٍ ومحاور، بالاهتمام الواسع الذي ربما سيؤدي إلى اجتراع نظريات سياسية جديدة.
كما سيعكف الباحثون في المجال الثقافي والفني على دراسة التغيرات في السياسات الثقافية المرتبطة بأجواء ما بعد الوباء، وما تبعه من تقييد تلقائي للإبداع في معناه الجماهيري، وتمكنه من المقاومة والاستدامة نتيجة الاستفادة غير المباشرة، وغير المرغوب فيها حتمًا، من فترة الحجر التي تسمح بالالتفات إلى العوالم الداخلية إبداعًا دون حسابات جماهيرية، وبالابتعاد عن مسألة المتلقي وتعقيداتها.
إذًا، سيشمل البحث العلمي، في الدول المتقدمة عمومًا، وفي بعض الدول التي تسعى في سبيل التقدم الحقيقي، كما يرد توصيفها غربًا بالمنبثقة، كلَّ جوانب الحياة المادية واللامادية، في إطار برامج بحثية ستدوم عقودًا، ويجري تمويلها بشكل تشاركي يكون للدولة حصة الأسد فيه، كما لن يبتعد الرأسمال الخاص عن الاهتمام بالبحث العلمي، عبر مفهوم المسؤولية الاجتماعية، لعوائده طويلة الأمد المرتجاة.
كل ما سبق مُنتظر ومرغوب، أما ما لم يكن منتظرًا، فهو أن تسمح فترة الحجر التي طالت، قبل أن تتكرر ربما قريبًا، بالمساعدة بشكل إيجابي جدًا في تنشيط البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية على الأقل. فإلى جانب الواجب المفروض على مخابر الأدوية لاستنباط لقاح ودواء في أسرع وقت، نشطت مخابر العلوم الاجتماعية، وخصوصًا تلك التي تعتمد البحث التشاركي. وما أعنيه بالبحث التشاركي ذاك الذي يعتمد في صياغة مخرجاته على إحصاء ردّات فعل أو حصر تجارب أو استطلاع معارف مجموعة منتخبة من الناس يتشاركون مع هدف البحث العلمي، للوصول إلى أدق النتائج التي يمكن ربطها بالتجربة الحياتية دون الاكتفاء بالجانب النظري للبحث العلمي.
وقد سجلت المشاريع البحثية التشاركية في أثناء الحجر، وهي تعتمد على جيوش من البشر الجالسين في منازلهم، كما الباحثين، إقبالًا كبيرًا على الشبكة العنكبوتية، حيث تكاثرت مواقعها أو توسّع ما كان قائمًا منها، وزودت بكل الطرائق الحديثة للتعامل والتفاعل. وقد شكّلت هذه الحالة ثروة لا تقدر بثمن للباحثين الذين كانوا قبلًا مضطرين إما إلى إجراء مقابلات شخصية لا يمكن أن يتعدى عددها المئات، وإما إلى الغوص في آلاف الوثائق ومقاطعة عشرات الآلاف من المعلومات للحصول على نتائج. في حين يمكنهم، من خلال البحث التشاركي، أن يحصلوا عليها في ساعات أو أيام معدودة، شريطة وضوح فكرة البحث الأساس في أذهانهم ووجود منهجية علمية واضحة تعتمد أساسًا للسير بالبحث نحو مخرجاته.
وفي البلاد العربية، حيث ما زال حقل البحث العلمي مقيدًا عمومًا وشبه مجمّد، لأسباب بنيوية ومتوقعة، يبدو أنّ ما ورد لا ينطبق إلا على بعض المراكز الرائدة في مجال العلوم الاجتماعية دون التطبيقية، التي استطاعت أن تتأقلم بسرعة وبفاعلية مع الوضع الاستثنائي لفترة الحجر، واستغلت أدوات تقنيات التواصل الحديثة في إغناء وإثراء الفكر النقدي المساعد في عملية تزويد البحث العلمي بإشكاليات بحثية مؤسسة. وبأخذ المسار المتعثّر للبحث العلمي العربي عمومًا، بالحسبان، يبدو أن فترة الحجر التي سبقت، أو التي ربما ستلي، لم ولن تغيّر من الحال المعطلة شيئًا.