مقدمة:
بغية وأد الثورة السورية التي انفجرت في آذار 2011، عمد النظام -بمساعدة أطراف داخلية وخارجية- إلى زجّ سورية داخل دوامة العنف. لكن، ما كان لهذا العنف أن يستمر وينتشر بهذه السرعة، وأن يصبح سمة أساسية للصراع الذي اشتعل، لولا أن في عمق بنية المجتمع السوري ما يساعد على ذلك، وأن له ركائز مختزنة في عمق هذا المجتمع؛ وهذا ما أدركه النظام وعزّزه واستغلّه جيّدًا، وكان ركيزة أساسية له في خطته لإدامة وجوده في السلطة. باختصار: لقد تسبب النظام السوري بزيادة الاحتقان والضغط داخل المجتمع السوري، بسبب سياساته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وقمعه الشديد، واستطاع منع انفلات هذا الضغط أو التعبير عنه، بقوة أجهزته الأمنية، وبسياسة قمع وحشية ضربت المجتمعَ كلّه. وعندما تفاقم الضغط وبدأت بوادر انفجاره الكبير؛ لم يقدّر النظام خطره، وتوهّم أنه قادر على كتمه مرة أخرى، عبر القمع وعبر بوابة تفتيت المجتمع. لكن تكتيكه هذا أشعل فتيل انفجار راح يلتهم سورية بكل ما فيها.
إن قراءة مسار العقد الأخير من تاريخ سورية ومآلاته، على ضوء مرحلة حكم البعث فقط، والتركيز خاصةً على فترة حكم عائلة الأسد، يجعل هذه القراءة ناقصة بالتأكيد، لأن هناك حقائق وأسباب عديدة لا بدّ منها لكي تتضح الصورة، وسيؤدي إغفالها إلى نتائج غير صحيحة. وعلى الرغم من أن هذه الورقة لا تُعنى أساسًا بدراسة الثورة السورية ومقاربة آفاقها وما وصلت إليه، فإنها تحاول -إلى حدٍّ ما- مقاربة ظروفها التاريخية، ومدى تشابهها مع ظروف سابقة عاشتها سورية في مطلع القرن الماضي.
بشكل أساسي، تتناول الورقة بعض جوانب واقع المجتمع السوري في مطلع القرن الماضي، التي تتشابه مع واقعه الراهن، وقد يكون لإضاءة هذا التشابه أهميّة ما، فالتاريخ الذي تتشابه مقدماته قد تتشابه مراحله اللاحقة، وهنا يجب القول، بالتأكيد، إنّ هذه الورقة لا تتصدّى لمقارنة شاملة مفصلة، فهي ستتناول تحديدًا ما يتعلق بثلاثة تشابهات أساسية هي:
- غياب الدولة الوطنية
- الظروف الإقليمية وصراعات النفوذ
- درجة انقسام أو تفكك المجتمع السوري
بقي أن أشير إلى أن القسم الأكبر من المادة التاريخية في هذه الورقة المتعلقة ببدايات القرن الماضي، والتي شكّلت أرضيته الأهم، مأخوذ من كتاب المؤرخ وجيه كوثراني: (بلاد الشام في مطلع القرن العشرين/ السكان والاقتصاد وفلسطين والمشروع الصهيوني، قراءة في وثائق الديبلوماسية الفرنسية)، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الثالثة، بيروت، 2013م.
سورية مطلع القرن العشرين
من المعروف أن لفرنسا أطماعًا قديمة في بلاد الشام، وخصوصًا في الساحل الشرقي للمتوسط، منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى. وعندما جاءت الحرب العالمية الأولى، وعلى ضوء هزيمة الدولة العثمانية، وجدت فرنسا فرصتها المناسبة لإقامة إمبراطورية فرنسية في آسيا، تكون بلاد الشام قاعدتها.
أيضًا، تسبب اكتشاف النفط في منطقتنا العربية التي كانت خاضعة للسيطرة العثمانية في إسراع الدول الاستعمارية إلى السيطرة على هذه المناطق. وقادت المصالح الاقتصادية الاستعمارية إلى نشوء كل الكيانات السياسية القائمة الآن بصيغتها الحالية، لكن من الضروري القول إن هذه الكيانات أنشئت بدلالة عصبيات قبلية ودينية، والأهم أنه أسند إلى زعامات هذه الكيانات دور وظيفي، وهو حماية وتأمين هذه الثروة الاقتصادية لصالح الدول الاستعمارية.
تلاقت مصالح بريطانيا وفرنسا في هذه المنطقة مع مصالح روسيا القيصرية في تلك الفترة، على ضرورة هزيمة تركيا وتقاسم مناطقها. فروسيا أيضًا لها مصالحها الاستراتيجية، لأنها تريد ضمان الملاحة ضمن المضائق المائية التركية لتصبح الملاحة إلى شواطئها الجنوبية عبر البحر الأسود مؤمنة، وتريد أيضًا وضع القدس وفلسطين تحت نفوذها، لمكانتها الدينية المقدسة لدى الكنيسة الأرثوذكسية.
لكن الثورة الروسية التي أنهت حكم القياصرة سنة 1917 سهّلت الاتفاق بين فرنسا وبريطانيا، إذ لم تعد روسيا الغارقة في تداعيات وصول البلاشفة إلى الحكم قادرةً على فرض شروطها. وهذا ما دفع الطرفين إلى مفاوضات تقاسم أكثر سهولة، فاتفقا على تقاسم المنطقة على أسس جديدة، كان أهم ركائزها تنكّر بريطانيا للوعود التي قدّمتها إلى الشريف حسين في دولته العربية (يمكن مراجعة مراسلات حسين-مكماهون)، وتوقيع الاتفاق الشهير المعروف باسم اتفاقية (سايكس-بيكو).
بالعودة إلى الانتداب الفرنسي على سورية، فقد كانت الدراسات والأبحاث الفرنسية التي أُجريت قبل الانتداب تتركّز حول الأهمية الكبرى، جيوسياسيًا وجيواقتصاديًا، لبلاد الشام، بالنسبة إلى فرنسا. لكن ما يلفت الانتباه أكثر من غيره في هذه الدراسات هو أنها استندت في خطة سيطرتها على عدة مرتكزات، كان أهمها تركيبة السكان في سورية، وانتماءاتهم الدينية والمذهبية والإثنية، ثم توزعهم في البيئات المدينية والريفية والجبلية، وطبيعة مجتمعاتهم ونخبهم وأحوالهم الاقتصادية. بعبارة أخرى: كل ما يتعلق بالسكان على مختلف الصعد.
سخّرت فرنسا دراساتها هذه لخدمة برامج سيطرتها، ولترسيخ الخصائص الطائفية للسكان، عبر تشكيل أطر سياسية لها -“دول” أو أقاليم، أو أطر مؤسسية / إدارية ضمن دولة واحدة- وبخلق هذه الأطر، سعت فرنسا إلى تعميق وخلق مرتكزات اجتماعية وسياسية وإدارية محلية توافق التجمعات البشرية التي تحمل خصائص دينية أو إثنية أو قبلية. بعبارة مكثّفة جدًا: كانت السياسات الاستعمارية لبريطانيا وفرنسا تقوم على دعامة أساسية هي غياب الاندماج المجتمعي في المناطق التي سيطرت عليها، وغياب الدولة الوطنية لهذه المجتمعات. وبتكثيف شديد أيضًا: كانت خطة الاحتلال الفرنسي لضبط المجتمع السوري تقوم على تجزئة جيوسياسية، ركيزتها الأساسية هي الخصوصيات الطائفية.
في كل الأحوال، لم تكن إمكانية تقاسم المنطقة كلّها ووضعها تحت الانتداب أو النفوذ البريطاني والفرنسي لتتحقق، لولا ظروف الحرب العالمية الأولى التي انتهت بانتصار واضح لطرف على طرف آخر. ولعل من سوء الأقدار أو حُسنها أن يتحدد مصير سورية لاحقًا على ضوء حرب عالمية ثانية، وكأن هذه البلاد التي تحتلّ موقعًا جغرافيًا فائق الأهمية، والتي لم يمنحها تاريخها الحديث فرصة أن تكون قوية بما يكفي، أو أن تكون لها قيادة وطنية تجعل من هذا الموقع نقطة قوة لصالح شعوبها، بدلًا من أن يكون بوابة لتحكم الآخرين بها، لا بدّ لها من انتظار انتهاء حروب الآخرين كي تعرف مصيرها!
يمكننا هنا أن نورد سريعًا تفارقًا مهمًّا في السياسة بين بريطانيا في استراتيجيتها الاستعمارية للمنطقة العربية، وبين الاستراتيجية الفرنسية. ولعلّ إيضاح هذا التفارق يمكّننا بشكل ما من الإضاءة على استراتيجيات ربّما لا تزال حاضرة في سياسات هاتين الدولتين. ففي حين كانت بريطانيا ترى أن توحيد المنطقة العربية في المشرق العربي في إطار دولة أو خلافة هو الأفضل، شريطة أن يكون هذا التوحّد قائمًا على الخصوصية الإسلامية الغالبة، وترى أن سيطرتها على المرجعية الدينية لهذه الدولة أو الخلافة من شأنه أن يرسخ تبعية هذا الكيان لها طويلًا ويُسهّل التحكم فيه، ذهبت فرنسا في اتجاه آخر، هو خلق مرتكزات لها عبر الأقليات، ودعم خصوصياتها الدينية وتعزيزها.
هل يمكننا القول إن الظرف السوري الراهن الآن يشبه، إلى حد كبير، الظرف الذي كانت عليه البلاد قبل قرن من الزمان؟! قد يبدو هذا ظالمًا ومتجنّيًا، لكن قراءة الواقع الراهن قد تعطي الفكرة شيئًا من المشروعية، وربما من الحقيقة. قد يصدمنا القول إن الظرف السوري الراهن يشبه كثيرًا الجانب الأكثر قتامة للظرف الذي كان قبل قرن، والذي كان يحمل حينها جوانب يمكن أن تصنف كمقدمات مهمّة لقيام دولة حديثة، لكنها أُهدرت ولم تعد قائمة اليوم.
قد يكون شكل المعارك والصراعات المشتعلة اليوم مختلفًا عن تلك المعارك التي دارت في الحربين العالميتين الأولى والثانية، لكنها قد لا تقلّ ضراوة بعد قرن من تطوّر أدوات الحروب وتطور وسائلها. فإلى جانب المعارك العسكرية، هناك معارك اقتصادية واستخباراتية ومعلوماتية مستعرة لا تقلّ عنها ضراوة، وانعكاسات هذه الصراعات على منطقتنا واضحة. وسورية في قلب هذا الاستقطاب العالمي، والصراع حولها يحتدم بصيغ متعددة، سواء أكان ذلك عبر الاحتلالات المباشرة لها أم عبر محاولة أطراف كثيرة خلق ركائز لها فيها. ففي سورية اليوم، صراعات متعددة ومنفصلة، تتوزع على مستويات عدة، بين أطراف داخلية، أو بين أطراف داخلية مع أطراف خارجية، أو بين أطراف خارجية لها أدواتها الداخلية. هذه الصراعات لا تزال قائمة، ولا يبدو أنها ستنتهي قريبًا.
قد تبدو المقارنات التي تجريها هذه الورقة، بين وضعين سوريين يفصلهما ما يزيد على قرن، نظريةً إلى حد كبير، وهذا صحيح، لأن الوثائق التي نحتاج إليها لإجراء مقارنات كهذه يُمكن أن تتوفر عن فترة مطلع القرن السابق، لكنها بالتأكيد ليست متوفرة عن اللحظة الراهنة. على أن هناك ما يشبه الوضوح في معطيات عامة تُعاش يوميًا يمكن الاتكاء عليها إلى حد ما؛ لكن هذا بالتأكيد لا ينفي أن هناك ضعفًا في المادة التوثيقية.
سورية بين قرنين
رُسمت الحدود في بلاد الشام مطلعَ القرن الماضي، بناءً على مصالح الدول المستعمِرة، ولم تهتم بالاعتبارات السكانية أو الجغرافية أو حتى الاقتصادية التي تحترم حقوق شعوب المنطقة. وعليه، فإن سياسات الدولتين الاستعماريتين تبدّلت مرارًا، وكانت الجغرافيا هي الانعكاس المباشر لهذه المصالح. ففرنسا التي لم تكن من مؤيدي وعد بلفور في البداية، لاعتبارات خاصة بها، عادت وأعلنت على لسان وزير خارجيتها آنذاك (بيشون)، بتاريخ 9 شباط/ فبراير 1918، “أن فرنسا تتفق مع بريطانيا في شأن فلسطين، فيما يتعلق بمسألة اليهود”(1).
باختصار: أوصل التفاوض بين بريطانيا وفرنسا ودول أخرى إلى مقررات مؤتمر “سان ريمو”(2)، في 25 نيسان/ أبريل 1920، وحددت صيغ الانتدابات على سورية والعراق وفلسطين، فأصبحت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وتضمن صكّ انتدابها مسؤوليتها عن تهيئة الظروف السياسية والإدارية والاقتصادية التي تُمكّن من إنشاء الوطن القومي لليهود.
أوجه التشابه الأهم بين المرحلتين:
أولًا: غياب الدولة الوطنية. عندما تقرّر وضع سورية تحت الانتداب الفرنسي، لم يكن هناك دولة وطنية سورية مكتملة التشكل، وكان لهذا أسبابه الموضوعية في ظلّ انتقال سورية بين احتلالين عثماني وفرنسي بدايات القرن السابق، لكننا اليوم أمام “دولة” مسخ، تمارس دور الدولة في الجباية وفي القمع فقط، لكنها لا تمارس دورها في تمثيل الشعب أو الدفاع عنه وعن حقوقه، فهي تمثل السلطة، وبتعبير أدق: العائلة الحاكمة، وهي تهدر حقوق السوريين وثرواتهم وتتاجر بها، وتفرّط في السيادة السورية، ومع هذا، فإن كثيرًا من السوريين يذهبون، في معرض دفاعهم عن رفضهم الانخراط في الثورة السورية أو حيادهم حيالها، إلى الحديث عن خوفهم من انهيار الدولة، دون أن يكلّفوا أنفسهم دراسة بنية الدولة القائمة، وإلى أي حد يمكن اعتبارها دولة، وهل هي قابلة للحياة أصلًا؟ فالدولة الحديثة تبدأ أساسًا حين تتعدد أوجه السلطة فيها، وتنتظم في ضوابط متفق عليها، وتكف عن التجسد في شخص، وبذلك؛ لا تتأثر بتبدل الأشخاص مهما كان حضورهم قويًا. وإذا كانت لكل دولة سلطةً، فليست كل سلطةٍ دولة، ولا يصحّ دائمًا القول عن كيانات -مهما بدت متماسكة في مرحلة ما- إنها دول. وهذا ينطبق كثيرا على سورية؛ فالدولة السورية التي بدأ تشكلها الجنيني في مرحلة الاستعمار، واستمر إلى ما بعد الاستقلال قليلًا، جاء الحكم العسكري ليجهضها، وتصبح الدولة مجرد سلطة بيد الحزب أو العائلة أو الفرد. وبسبب غياب الدولة في سورية، استطاعت الهويات الطائفية أو الإثنية أو غيرها أن تحلّ محل الهوية الوطنية، وأصبحت فكرة الوطنية تقاس على مقاس الجماعات الصغرى، وليس على مقاس الفضاء السياسي والاجتماعي العام.
ثانيًا: غياب الاندماج الوطني والمجتمعي، إذا كان لهذا الغياب ما يفسّره في مطلع القرن الماضي. ويمكن ردّه إلى الحكم العثماني وشكل الدولة السلطانية التي حكمت المنطقة قرونًا، وأقصد بالدولة السلطانية ركيزتها الأهمّ أي علاقة الحاكم بالمحكوم، حيث يصبح الشعب عبدًا والحاكم سيدًا فوق الجميع، ويكون الجميع خاضعًا لسلطته القاهرة. أو كما يقول ابن خلدون “إنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية ويجبي الأموال، ويبعث البعوث ويحمي الثغور، ولا تكون فوق يده قوة قاهرة”. ظل هذا المبدأ في جوهره حاضرًا في عمق الدول التي تشكّلت لاحقًا، بغض النظر عن تسمياتها وراياتها المعلنة. هذا التفكك المجتمعي، أو غياب الاندماج الوطني، نراه اليوم على نحو أشدّ وضوحًا، لا بل ربّما كان في مطلع القرن الماضي قابلًا للتشكّل صعودًا باتجاه الهوية الوطنية، لكنه بات اليوم أقلّ قابلية. وهذا ما نستطيع رؤيته عند المقارنة بين الزمنين. كان موقف عموم السوريين في مواجهة الاحتلال الفرنسي واضحًا، إذ استطاعت قوى المجتمع السوري، في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، أن تُسقط مشاريع التقسيم. لكن إسقاطها تلك المشاريع كان مستندًا إلى مشروع وطني صاعد صوب دولة حديثة في طور التشكل، لها دستورها وقوانينها، وفيها نخبها وأحزابها، وفيها طبقة وسطى فاعلة. أما اليوم، فالسوريون منقسمون في تأييدهم الاحتلالات المتعددة على أرضهم، والمشروع الوطني بالغ الضعف، وقد لا يستطيع مواجهة أي تفتيت قادم. ولم تعد في سورية نخب فاعلة ولا أحزاب ولا دستور ولا قوانين. ولم تعد فيها طبقة وسطى لها برامجها وتطلعاتها. ولنا في تجارب الصومال والعراق وأفغانستان أمثلة بالغة الدلالة؛ إذ لا يزال العراق، رغم مضي عقدين على نهاية حكم البعث فيه، عاجزًا عن خلق المشروع الوطني، بل هو يزداد تفتتًا. وكذلك الصومال، وأفغانستان، واليمن ولبنان… وغيرها.
ثالثًا: تجِدُ صيغة الإمبراطوريات التي كانت سائدة مطلع القرن الماضي، وجاء التطور الاقتصادي العالمي ومتطلباته فأنهاها خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، مَن يحاول بعثها اليوم، وإذا كان للتاريخ دروسه الساخرة، فإن أشد الدروس سخرية اليوم هو ما يتجلى في الحمّى المستعرة لبعث ثلاث إمبراطوريات بائدة، ترى كلٌّ منها في منطقتنا مجالَ نفوذ لها، وهي الإمبراطورية الفارسية التي تُقاد اليوم من قبل “الولي الفقيه”، والإمبراطورية الروسية التي تكمن رؤيتها في تنظيرات الفيلسوف الروسي “ألكسندر دوغين”(3) ويقاتل من أجلها “قيصر” روسيا الحالي “بوتين”، والثالثة هي الإمبراطورية العثمانية التي يُحاوَل بعثها في القومية التركية.
ربما تحتاج فكرة الدولة أو صِيغها الملتبسة في منطقتنا خلال القرن الماضي إلى قدر أكبر من التفصيل. ويمكن القول إنه خلال المئة عام الماضية، وبعد انهيار السلطنة العثمانية، مرت منطقة المشرق العربي بمراحل تكاد تكون مشتركة في معظمها؛ إذ حاولت الدول الاستعمارية (فرنسا وبريطانيا) بناء دول ليبرالية حديثة، بدلًا من الدولة السلطانية العثمانية، التي رسّخت حاكمًا (راعيا) يقود مجتمعًا (رعية) غير مندمج، مكوّن من جماعات مصنّفة وفق تصنيفات ما قبل وطنية. هذا السعي الاستعماري لم يكن سببه إلا ضرورة مصالح المستعمرين، لكنه كان يؤسس لقيام دولة. وهنا بدأت مرحلة تمكن تسميتها إلى حد ما المرحلة الليبرالية التي بدأت تتشكل فيها بدايات دولةٍ، لها برلمانها وأحزابها، ولها نخبها السياسية، وفيها تعليم مدني علماني؛ أي أنها كانت مرحلة جنينية لتشكّل الدولة والمجتمع، لكن هذه المرحلة لم تستكمل، وتم قطعها بسبب الحرب العالمية الثانية ونتائجها، فقد دخلت المنطقة مرحلتها الثانية، التي ترافقت عالميًا مع ما عُرف بـ “الحرب الباردة”، والتي دفعت إلى واجهة هذه الدول أنظمة تبنت “الاشتراكية” في معظمها. لكن كل ما فعلته أنظمة هذه المرحلة كان قطع عملية النمو في هذه المجتمعات، وإيقاف سيرورته الاندماجية، أي أن مسار اندماج المجتمع في دولة وطنية تم إيقافه وتحويل مساره، لتأتي المرحلة الثالثة، التي يمكن مجازًا اعتبار انهيار الاتحاد السوفييتي بدايتها، مرحلة اتسمت بانهيار الدول المسماة “اشتراكية”، وهي في عمقها تكاد تتطابق مع بنية الدولة السلطانية العثمانية، ويُمكن تسميتها بالسلطانية المحدثة المقنّعة، فأعادت المجتمع إلى تفكّكه وعدم انسجامه، وأحيت مجموعاته ما قبل الوطنية.
بتكثيف شديد لكل ما سبق بعبارة واحدة، يمكن القول: إن فكرة بعث الإمبراطوريات أو القوميات البائدة، من قبل أطراف خارجية طامعة تتقاطع مصالحها وأحلامها الإمبراطورية في منطقتنا، وتترافق هذه الأحلام مع هشاشة الاندماج الوطني لمجتمعاتنا وغياب الدولة الوطنية، هو الكارثة التي قد ترسم مصير المنطقة لفترة طويلة قادمة، خصوصًا أنّ خطط هذه الإمبراطوريات المنبعثة تتقاطع جميعها في استثمار الانقسام المجتمعي الحاصل اليوم، وتحديدًا في تصنيفات ما قبل الدولة لمجتمعاتنا، سواء الطائفية أو المذهبية أو القومية أو الإثنية.
يمكننا اليوم تلمّس تعثّر قيام الدولة بوضوح، في كلٍّ من سورية والعراق واليمن وليبيا والصومال وأفغانستان وغيرها، فهذه الدول التي صُنفت على أنها “اشتراكية” وربما “علمانية”، يومًا ما، هي في جوهرها دول سلطانية، يحكمها طغاة، أجهضوا صيغة الدولة الدستورية القانونية، وأعادوا مجتمعاتهم إلى ظرفها الذي عرفته في مطلع القرن الماضي، أي إلى بنية الدولة السلطانية التي ترى في أفرادها رعايا لا مواطنين.
الخلاصة
جاءت ثورات الربيع العربي في سياق تاريخي غير موات؛ فالظرف العالمي يمكن اختصاره بمحاولة أطراف عدة كسر حالة الجمود التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي وتوّجت أميركا قطبًا عالميًا وحيدًا. هذه القطبية التي استندت إلى قوة عسكرية واقتصادية، هي الأكبر عالميًا، استندت أيضًا إلى نظام اقتصادي عالمي فرضته أميركا وأتاح لها أن تستولي على نسب عالية من اقتصادات الدول الأخرى. وكان من المؤكّد أن قوى اقتصادية وعسكرية صاعدة مثل الصين، أو قوى تحاول استعادة سطوتها ونفوذها مثل تركيا وإيران وروسيا وغيرها، سوف تصطدم بالهيمنة الأميركية. أما الظرف الخاص لهذه الثورات، فيمكن تكثيفه بفشل الدولة “السلطانية” في إدارة مجتمعاتها، وانهيارها. لكن الكارثة الأدهى كامنة في أن انسداد أفق الدولة “السلطانية” وانهيارها أتى بعد أن تمكّنت هذه الدولة من تحطيم مجتمعاتها، وإعادتها إلى الوضع الاجتماعي المنقسم والمتشظي المحكوم بثقافات غير وطنية كلّها ذات مرجعيات ما قبل وطنية. وهذا ما أدى إلى بروز أصحاب المشاريع المرتكزة على المذهبية أو الطائفية أو غيرها، والتي هي بمجملها مشاريع تمنع قيام المشروع الوطني. هذا ما نلمسه بوضوح في الواقع السوري الراهن، إذ لم يستطع السوريون، بعد ما يزيد على ثلاثة عشر عامًا من ثورتهم، تشكيل مشروع وطني جامع له وزنه. فالمشاريع الثلاثة (4) التي تظهر اليوم في الصراع السوري هي مشاريع خاصة غير قادرة على أن تكون مشاريع عامة جامعة للسوريين.
بقراءة هذا الواقع المحلّي، على ضوء ما يجري اليوم في العالم من محاولات أطراف عديدة كسر القطبية الواحدة في العالم، واحتدام الصراع في كل أوجهه العسكرية والاقتصادية والاستخباراتية والمعلوماتية، نرى أنه يدفع إلى استنتاج أن الأيديولوجيات المفتِّتة للمشروع الوطني الذي كان واحدًا من احتمالات الثورة السورية سوف تكون الأقوى، ربما لفترة طويلة، إذا لم ينحسم الصراع الأساسي العالمي المشتعل حاليًا باتجاه إنهاء نموذج الدولة السلطانية وحلم بعث الإمبراطوريات البائدة. وعلى الرغم من أن انتصار الدولة الليبرالية، أو الدولة المعاصرة بصيغتها المقرّة في مواثيق الأمم المتحدة، وبنموذجها المنفتح، قد لا يُشكّل خلاصًا سريعًا لمجتمعاتنا، فإنه يضع هذه المجتمعات، مرة أخرى، على سكة الاندماج المجتمعي وقيام المشاريع الوطنية الجامعة.
اليوم، تبدو سورية، ومنطقتنا عامةً، على مفترق طرق، ومصيرها مرهون إلى حد كبير بالكيفية التي ستستقر عليها عليها خريطة جديدة تصنعها مصالح القوى المتصارعة، بعد حسم الصراع الدولي والإقليمي. لكن النهوض الحضاري والسياسي سيظل مرتبطًا إلى حد كبير بقدرة السوريين على المضي في اتجاه مشروع الدولة الوطنية أولًا، وبقدرة هذا المشروع على تحقيق الاندماج المجتمعي ثانيًا.
الهوامش:
(1) في لقاء جمع “ستيفان بيشون” وزير خارجية فرنسا آنذاك، بـ “سوكولوف”، وهو عضو رئيسي في المنظمة الصهيونية العالمية المتمركزة في كولون (ألمانيا) يوم 9 شباط/ فبراير 1918، لم يرض “سوكولوف” بعبارة المستوطنة (Settlement) اليهودية في فلسطين، التي وردت على لسان “بيشون”، وطلب عبارة واضحة من الفرنسيين تتماشى مع الآمال الصهيونية. وبعد التأمل والتروي خلال بضعة أيام، طلب “سوكولوف” مجددًا تغيير تعبير “مستوطنة”، واستبداله بالعبارة التي وردت في التصريح البريطاني، وهي “وطن قومي يهودي”. وبرر “سوكولوف” ذلك بأهمية التصريح والتعبير لدى اليهود الأميركيين. وقد استجاب “بيشون” لهذا الطلب، وأصدر يوم 14 شباط/ فبراير تصريحًا أكد فيه الموقف الفرنسي، واستعمل فيه تعبير “الوطن القومي” (Foyer National) الذي طلبه منه “سوكولوف”، وجاء تصريح “بيشون”، في صيغة رسالة موجهة إلى “سوكولوف”، معلنًا له فيها أن بيانًا صحفيًا قد صدر عن الحكومة الفرنسية بالمعنى المذكور.
وها هو نص “بيشون”: (كما اتفقنا عليه خلال محادثاتنا، يوم السبت التاسع من هذا الشهر، فإن حكومة الجمهورية (الفرنسية)، بالنظر إلى تحديد وجهة نظرها نحو الآمال الصهيونية العازمة على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد نشرت مذكرة في الصحافة. وإني إذ أقدم إليك هذا النص، فإني أغتنم الفرصة لتهنئتكم على إخلاصكم المتفاني الذي تابعتم به إنجاز آمال إخوانكم في الدين، ثم لأشكركم على الحماس الذي أظهرتموه لتقديم مشاعر التعاطف التي لقيتها جهودكم في بلدان الوفاق، وبالخصوص في فرنسا).
تصريح “ستيفان بيشون”، وزارة الخارجية في باريس، الأرشيف السياسي، حرب 1914-1918م. المسألة اليهودية، م 5، ص. 19، من س. بيشون إلى ن. سوكولو، 14 فبراير 1918.
(2) مؤتمر سان ريمو 1920 هو مؤتمر صلح، وقع في مدينة سان ريمو الإيطالية عام 1920، وكان سبب عقد هذا المؤتمر هو فشل مؤتمر فرساي عام 1919، حيث اجتمعت الدول الأوروبية في إيطاليا، وفيه تم التوقيع على فرض الانتداب البريطاني والفرنسي على الشرق الأوسط.
قرارات مؤتمر سان-ريمو:
– وضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي.
– وضع العراق وشرقي الأردن وفلسطين تحت الانتداب البريطاني.
– تنازل فرنسا عن الموصل، وتقسيم النفط بين بريطانيا وفرنسا، بحيث يكون لبريطانيا 75 % ولفرنسا 25 %، وأن تسمح لبريطانيا بمد أنابيب بترول عبر الأراضي السورية.
(3) ألكسندر دوغين: باحث سياسي وصف بـأنه “عقل بوتين”، هو مؤرّخ وأستاذ علم الاجتماع في جامعة موسكو سابقًا، والمستشار السياسي والعسكري للكرملين، وفيلسوف القومية الروسية المتطرفة، ويعتبره بعضهم في الغرب “أخطر فيلسوف في العالم”. ويرى “دوغين” أن هناك ثلاث نظريات سياسية أثّرت على العالم في العصر الحديث، وهي الليبرالية والشيوعية والفاشية. ووفقًا له فإن الولايات المتحدة هي زعيمة الليبرالية في العالم التي توفر الحرية الفردية والسوق الحرة، وقد انتصرت الليبرالية على الفاشية عام 1945، وعلى الشيوعية عام 1991، إلا أنها من وجهة نظره تواجه أزمة قاتلة حاليًا، وتواجه الموت المحتوم، لأنها تحاول “تحرير نفسها من التفكير العقلي وقيود العقل”، التي ينظر لها الليبراليون على أنها “فاشية في ذاتها”.
ويرى “دوغين” أن النظريات الثلاثة ميّتة، ويطرح “النظرية السياسية الرابعة”، التي لا تركز على الفرد أو العرق أو القومية، وإنما ترتكز على الوعي الذاتي الإنساني، الذي همشته التكنولوجيا، ونظرًا لأن الوعي الذاتي يختلف من فرد لآخر، ومن ثقافة لأخرى، فإن العالم لا بد أن يكون متعدد الأقطاب، بدلًا من قوة عظمى واحدة هي الولايات المتحدة.
(4) حتى الآن، يمكن الحديث عن ثلاثة مشاريع، وربما تصحّ تسمية هذه المشاريع بـ “الحالات”، أكثر منها مشاريع، فهي كلّها تابعة ومرتبطة، الحالة الأولى هي الحالة المسماة “الإدارة الذاتية”؛ والثانية هي الفصائل الإسلامية المسلحة؛ والثالثة هي ما تبقّى من الجيش السوري، وتلحق به ميليشيات طائفية تناصر السلطة، ونسبة كبيرة من عناصرها غير سوريين.