كانت كليّة التربية في جامعة دمشق من الكليّات التي تقع تحت الرقابة المباشرة لقمّة السلطة، وكان لها نصيب في معظم الوزارات التي يتم تشكيلها في أقبية المخابرات منذ مطلع التسعينيات، وكان التسابق على المناصب محمومًا، وخاصة على منصب العمادة، فهو المقدمة للوصول إلى الوزارة.
ذات يوم، صادفت الزميلة (د. صالحة سنقر)، وهي عميد سابق، وتربطني بها علاقة ودية. وكان سلامها في ذلك اليوم أكثر حرارة من المعتاد، ودعتني لتناول القهوة، فاعتذرتُ منها لضيق الوقت، إلا أنها ألحّت وأغرتني بالقول إنها نشرت كتابًا جديدًا، وترغب في أن تقدّم لي نسخة منه، فتفاءلت خيرًا، لأن اختصاصها يقع في ميدان الطفولة، وكنتُ أتوق إلى الاطلاع على إنجاز أو مؤلف في هذا المجال. وافقتها، ودخلنا مكتبها لتناول القهوة، وبانتظار ذلك، استلّت كتيّبًا من القطع الصغير، وأعطتني إياه. سرعان ما شعرت بالصدمة عند قراءة العنوان: “ملامح تربوية في خطابات القائد حافظ الأسد“! شكرتها على هذا الإنجاز المميز! وتوقّعت لها مستقبلًا زاهرًا مكللًا بالوزارة، وهذا ما حدث بعد حين.
أصبح النفاق والتملّق وتمجيد الأسد إلى درجة التقديس من المعايير الأساسية للوصول إلى المناصب العليا، حيث نجد شريحة واسعة من “المثقفين” الانتهازيين، في تنافس حاد لتمجيد “سيد الوطن”، وفي إنشاء خطابات المديح وتمجيد الطاغية، حتى تظن أنه أصبح فوق البشر، يحمل خصائص الألوهية.
بعد ذلك، فتح طريق العمادة لعليّ سعد، الذي استوزر فيما بعد، وسبقه إلى ذلك عميد سابق للكلية د. محمود السيد الذي أصبح وزيرًا للتربية، قبل أن يزيحه علي سعد إلى وزارة الثقافة، ليتسلم هو وزارة التربية، فتقربه من بشار ابن الرئيس (الذي أصبح رئيسًا) رفع من ثقله وأصرّ على وزارة التربية، فاستوجب ذلك إزاحة د. محمود السيد عن وزارة التربية إلى وزارة الثقافة.
في منتصف التسعينيات، كان غالبية الزملاء في الكلية من الساحل السوري، وقد أصبح حضورهم في الكلية لافتًا، عند المقارنة بما كان عليه الأمر في منتصف السبعينيات. وغالبيتهم يتصفون بالبساطة والمودة، وهم من أصول شعبية ريفية طيبة المعشر. كانت عمادة الكلية في معظم الأحيان تعود لأحدهم، وكانت تدور بينهم صراعات وتناقضات، عندما تصطدم المصالح…. ولا غرابة في ذلك في فترةٍ ما، فيما بعد أصبح رؤساء الجامعات الأربع من ذلك اللون. ولا شك في أن هذا الوضع يجعل البقية يشعرون بالإقصاء والتهميش والاغتراب، وبأنهم مواطنون من درجة متدنية! فالهيمنة الطائفية على كل شيء بدت فاقعة، ولا تخطئها عين.
رعاية رئيس المستقبل
كان جاري وزميلي د. علي سعد الذي احتفل بهزيمة العراق وتدميره عام 1991 يتعمّد الحديث في السياسة أو في الدعاية السياسية. وقد أطلق لحيته حدادًا على “الشهيد الباسل”، ويبدو أنه كان يرى مستقبله إلى جانب الباسل في الواجهة المدنية. وبعد فترة وجيزة من موت باسل، بدأ يحدثنا عن الدكتور بشار الأسد الذي كان في الظلّ قبل موت أخيه.
شكّل موت الباسل (1994) كارثة للنظام، وبفقده غاب وليّ العهد الذي تم إعداده وتهيئة الظروف المحلية والإقليمية لتوريثه جمهورية الأسد الأب. مات “ولي العهد” على طريق المطار، حيث كان في طريق سفر لمراجعة حساباته في النمسا التي بلغت 13 مليار دولار، في حين كان مرتّبنا الشهري، أي مرتب الأستاذ الجامعي، أقل من 200 دولار. كان على الشعب السوري أن يُجبر على الحداد على “شهيد الوطن”، فتقفل المحال أيامًا. وفي الذكرى السنوية لهذا “الشهيد”، تُمنع الموسيقى في المطاعم والمنتزهات.
تذكر مصادر عديدة أن بشار الأسد كان مهمّشًا في إطار العائلة، ولم يكن يتمتع بما يمكن أن يجعل منه رجل دولة، نتيجة ضعف واعتلال في بنيته العصبية، فهو وُلد قبل الأوان، ووُضع في حاضنة في مشفى المجتهد، بعد أن تم استبعاد أحد الصغار (مما يعني موته) الذي كان في تلك الحاضنة الوحيدة، تحت ضغوط والده وزير الدفاع في ذلك الوقت. لكن موت أخيه جعله الخيار الوحيد من سلالة حافظ “المقدسة”، وقال عبد الحليم خدام لاحقًا إنه كان في بريطانيا للعلاج، تحت غطاء متابعة الدراسة، قبل عودته إلى سورية بعد موت أخيه.
بدأ علي سعد الترويج لبشار على أنه سيدخل الحداثة؛ فهو رجل “التحديث والتطوير” وإدخال الكومبيوتر والمعلوماتية على نظام أصبح على درجة خطيرة من التخلف والترهل، ضاق كثيرًا على السوريين، بحيث لم يعد بإمكانهم استنشاق الهواء الطلق، وكان يُقدّم بشار على أنه البطل الذي سيقهر الفساد في الدولة وفي المجتمع…. لم نأخذ هذا الكلام على محمل الجد، فهناك رجال كثر للنظام في الدولة وفي الحزب، نظام يقدم نفسه على أنه نظام “تقدمي علماني”، وهناك نواب لرئيس الجمهورية، فهل يعقل الإتيان برجل لا علاقة له بما يدور من حوله، ليشغل منصب رئيس بسلطات مطلقة؟
هل يمكن أن يبلغ نظام الأسد البعثي التقدمي الاشتراكي هذا المستوى من الانحطاط في توريث الجمهورية؟ فهو نظام يدعي العلمانية، فأين العلمانية من التوريث؟ أم أنها تعني ارتداء ربطة العنق؟ وتعني أن تتسوق زوجة الرئيس من أفخم محلات الألبسة والمجوهرات؟
لكن بدا أن المسألة جدية، إذ كانت إرادة الأسد بتوريث السلطة وتأسيس ملكية عائلية شديدة الوضوح، وكان أول كبش فداء هو محمود الزعبي، رئيس وزراء الأسد، حيث تم تحميله مسؤولية انتشار الفساد. شكّل اغتيال الزعبي “المسؤول عن الفساد” تمهيدًا لقدوم بشار الذي “سيكافح الفساد”. أخطر ما يعرفه الزعبي هو رصيد “شهيد الوطن” باسل في بنوك فيننا، حيث كلّف بتسوية الأمر، في محاولة استعادة بعض أموال “الباسل” (نصفها) بعد تزوير تزويجه في محاولة لحصول “زوجة الباسل” على نصيبها من ثروته. هكذا يُحرم الشعب السوري من ثرواته، ويعيش معاناة الحصول على مقوّمات العيش الكريم، نتيجة نهب النظام وأزلامه لثروات البلاد، وتحويلها إلى أرقام تضيع في البنوك “الإمبريالية” التي صدعوا رؤوسنا بمعاداتها.
يبدو أن آل الأسد أصبحوا ينظرون إلى سورية وشعبها وثرواتها كغنيمة حرب تعود لهم، يتصرفون بها ويوزعون “المكرمات” حسب ما يرونه مناسبًا. وثبت بعد التوريث مقاومة النظام ورئيسه الشاب “المتعلم في لندن” لأي تغيير، وأنه لا يريد الإصلاح، ولا يريد الاقتراب من دولة المواطنة أو القانون أو المساواة بين جميع أبناء الوطن. تأكد ذلك عبر سلوك النظام بعد الثورة السورية في عام 2011، إذ رفض الاعتراف بالآخر، ورفض مطالب السوريين بالإصلاح والشراكة في تقرير مصيرهم ومستقبلهم. حيث ردّ على هذه المطالب: الأسد أو لا أحد، والأسد أو نحرق البلد، واتهم كل من طالب بالحرية بالإرهاب.
كرّر علي سعد لي مقولات “مكافحة الفساد” قائلًا: “الدكتور بشار سيضع حدًا للفساد خلال فترة قصيرة”. كنتُ أقابله بصمت، لأني أعرف أنه يريد أن يستفزني. لكن تكرار ذلك دفعني إلى الإجابة قائلًا: “إذا تمكّن الدكتور بشار من الإبقاء على مستوى الفساد على وضعه الحالي، فهو يستحق أن نرفع له القبعة! ولكن أخشى أن يزداد الأمر سوءًا، فالمشكلة ليست بالشخص بقدر ما هي في خصائص النظام وطبيعته”.
تعيين علي سعد عميدًا لكلية التربية
تم تعيين علي سعد عميدًا! كانت الخصومة بيننا قد ترسخت، أنا شخصيًا لم أقدّم له التهاني، كما هو معتاد. بعد مدة ليست قصيرة صادفته على الدرج، وبعد أن تبادلنا التحية، قلت له: “مبروك العمادة”. الآن، تمارس السلطة من موقعها الحقيقي، قبلها كنتَ تتدخل في كل صغيرة وكبيرة في الكلية، كنت “تتسلبط سلبطة”….. بتعبير آخر: أعلى خيلك اركب.
أضاف هذا التعيين إلى علي سعد، مكسبًا “قوميًا” جديدًا ومكرمة من “ابن الرئيس”، بعد إنجاز المكسب الأول، في الحصول على سيارة من القصر الجمهوري. بدا يتصرّف بغطرسة وغرور، بعد شعوره بأنه أصبح من أصحاب “الحظوة” المقربين جدًا من العائلة الحاكمة، لا يتورّع عن التصريح بأن كل الوزراء ورؤساء الجامعات يقدّمون له الدعم، ويستمر في تمجيد الأسرة الحاكمة، ويسبّح بحمد “الدكتور بشار” صباح مساء.
ابن الرئيس في كلية التربية
بعد عام 1995، بدأت تتكرر زيارات بشار إلى الكلية. وكان العميد الجديد يدفع باتجاه تأسيس جمعية العلوم التربوية والنفسية التي تكونت بسرعة لافتة، بالرغم من أن الحصول على ترخيص أي جمعية يحتاج إلى سنوات وتحقيقات ومماطلات لا تُحتمل. ولدت الجمعية بسرعة قياسية، وبدأت تنهال عليها الأموال، بحيث تمكنت من عقد “المؤتمرات العلمية” ودعوة أكاديميين من العالم العربي، وكان بشار دائم الحضور في هذه المناسبات. كان الهدف إشهاره في الأوساط العلمية العربية والترويج له كرئيس للبلاد ورث المملكة التي أسسها والده.
اعتذرت عن المشاركة في أي نشاط “علمي” أو مؤتمر أو ندوة، كان ينظمها العميد الجديد بهدف الترويج لرئاسة بشار. إلا أن كثيرًا من الزملاء انطلقوا متحمسين لهذه الفرصة الثمينة في تحقيق الطموح بالصعود، واغتنام الفرص. اتخذت موقفًا “غير متعاون” مع النواة التي تشكلت حول ابن الرئيس، كان يصعب علي أن أتصرف غير ذلك، بالرغم من معرفتي بأن هذا الموقف سيترتب عليه متاعب كثيرة. كنت أشعر بالامتعاض والقرف من كلّ ما يجري. كيف يتسابق الناس على “المكاسب الأنانية الرخيصة”، متجاهلين كلّ ما يدور من حولهم من قهر وظلم وفساد.
هل تحوّلت الجمهورية إلى ملكية؟ عندما شاهدتُ بشار، للمرة الأولى في كلية التربية، صدمت، ولاحظت استجاباته وحركاته المفاجئة، فهي تؤشر إلى اضطراب عميق في الشخصية. قلت: “يا إلهي، هل يُعقل أن يصبح هذا رئيسًا لبلد عظيم اسمه سورية؟! فقط لأنه ابن حافظ الأسد؟!”. كنت أشعر بالاشمئزاز من هذا المشهد برمته. التقرب من ابن الرئيس يعني الموافقة على تحوّل الجمهورية إلى ملكية، يعني الاعتراف بمملكة آل الأسد والاستمرار في مملكة الرعب التي عرفناها لمدة ربع قرن. كنت أشعر بالاشمئزاز أيضًا عند رؤية كثير من الدكاترة الذين لا يفوّتون فرصة للتقرب من رئيس المستقبل.
نحن ومراكز الرعب جيران
في الطريق من كليّة التربية (بالقرب من كلية الآداب في المزة)، نحو بيتي في جرمانا، كان يمتلكني شعور بالرعب والعار، عندما يمرّ الطريق بمحاذاة ثلاثة فروع أمنية ومراكز للتعذيب والاعتقال، وكل فرع منها يحتل حجمًا مهولًا، وهي جميعها من إنجازات الأسد الأب: أوّلها يبعد مئات الأمتار عن الكلية، على امتداد الأوتوستراد، قبل الانعطاف نحو الجمارك؛ والثاني بعد تجاوز دوار كفر سوسة باتجاه المجتهد؛ وثالثها فرع فلسطين، قبل الوصول إلى طريق المطار. كنت أعيش معاناة من هم داخل هذه المعتقلات الرهيبة. كيف لنا أن نعيش وسط كل هذا العار، حيث يتم سحق الكرامة الإنسانية وهدر أبسط حقوق البشر، لا لشيء إلا لاختلاف في الرأي أو لوشاية كاذبة أو حتى لتصفية حسابات لا علاقة لها بالشأن العام؟! كنت أفكر بالمثقف الستيني الذي عُذّب لدرجة لم يعد يطيق معها الحياة، فحاول الانتحار. وبذلك الشاب طالب الدراسات العليا الذي غُيب مدة شهر وخضع لكل أشكال التعذيب، بسبب وشاية بأنه مزّق صورة “الرئيس”، ولم يشفع له وجود هذه الصورة في غرفة نومه!
كيف يمكن أن تكون جزءًا من هذه الوحشية؟ كيف يمكن التجاور بين الحياة الجامعية الطبيعية، وسط مراكز الرعب والتعذيب التي تحيط بها؟ كيف يمكن لأستاذ الجامعة التعايش مع كل هذا الفساد وكل هذا الانحدار في القيم البشرية؟
في هذا الطريق، نمتُ وكبرتُ، وتضخّمت الفروع الأمنية وتوحشت وابتلعت الدولة والمجتمع، في حين بقي مشفى المجتهد (المشفى الوطني) على حاله، لم يُوسّع مترًا واحدًا. لم يعد هناك أدنى اهتمام بالتربية أو بالصحة أو بتقديم الخدمات الأساسية اللائقة للناس، أصبحت البلاد في خدمة الأسد، وعليها أن تتشرف به وبسلالته. لم يعد بحاجة إلى أن يطلب تأييد الشعب، فلدى نظامه من القوة ووسائل القمع ما يكفي لترويض البلاد والعباد في سورية ولبنان.
تمكن النظام من عسكرة المجتمع، وحوّل الدولة إلى دولة بوليسية، الكل يتجسس على الكل، وأطبق على كلّ أشكال الحريات. لم يعد الكلام مسموحًا سوى التمجيد بالأب القائد الملهم، فهو المعلّم الأول، والقاضي الأول، والطالب الأول، والأول في كل شيء، وهو الذي يقرر كل شيء وإلى الأبد. كانت حياة السوريين كئيبة، يبدو ذلك جليًّا في الشوارع وأماكن العمل… لا تتكلم، للجدران آذان.. أنت في “سوريا الأسد”. تم اختزال البلاد بالأسد. وعاشت البلاد في ظل طغيان لا مثيل له في عالمنا المعاصر.
أدركت المجموعة المحيطة بمشروع الرئيس الوريث حقيقة موقف عدم التعاون، وقرأت “سلبية الموقف” جيدًا. وبدأت التفكير بالرحيل بعيدًا، فالوجود في هذا الجوّ محفوف بالمخاطر، فكل من لا يصفّق للأسد ولورثته هو موضع شك ومراقبة، غادرتُ إلى الكويت في رحلة استمرت 10 سنوات.
كان زميلي في المكتب المجاور (علي سعد) يتولى الدعاية لابن الرئيس والترويج لمشاريعه المستقبلية، وفي مقدمتها مكافحة الفساد. في كل يوم، يروي “مفخرة” في هذا المجال، وبعد أيام رأيته يأتي إلى الكلية بسيارة جديدة! استغربتُ الأمر فهو يتقاضى المرتب الذي أتقاضاه نفسه، وكان علينا أن نعدّ للعشرة قبل التفكير بشراء قميص! فبعد عشر سنوات خدمة في عضوية هيئة التدريس؛ أتذكر أن آخر مرتب لي مع كل التعويضات كان في نهاية شباط/ فبراير 1999 ولم يتجاوز 9500 ل س! أي أقل بقليل من 200 دولار أميركي! يستحيل على أمثالنا شراء سيارة بالملايين. علمت بعد حين أن السيارة هي هدية من القصر الجمهوري من ابن الرئيس! أدركتُ أن هذا الحدث هو عنوان مكافحة الفساد، الذي حطّم رؤوسنا بالحديث عنه. خصوصًا إذا استمر هذا النهج في تحقيق المكاسب “القومية” وتوزيع السيارات والشقق السكنية على الأزلام والمحاسيب.
بدأ (علي سعد) يأتي إلى الكلية بالسيارة الجديدة، لا يركنها في المواقف المخصصة لذلك، بل أمام الدرج العريض في مدخل الكلية الجديدة في البرامكة، ويقوم اثنان من مستخدمي الكلية بحفلة التنظيف والتلميع، على رؤوس الأشهاد، وعلى مرأى الجميع، طلابًا وأساتذة.
تحوّلت كلية التربية من صرح علمي ثقافي حضاري، يقوم بتأهيل المدرسين والمعلمين على أسس تربوية صحيحة، أسس الديمقراطية والمساواة وعدم التمييز، تحوّلت عن دورها، شكلًا ومضمونًا، بعدما اخترقتها أجهزة المخابرات التي أفسدت دورها. وأصبحت كلية التربية تشبه ثكنة عسكرية، فكرًا وسلوكًا، بدلًا من تقديم نموذج سلوكي للمربّين، يقوم على الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، يلتزم النزاهة ونظافة الكف وعدم استغلال دوائر الدولة للحصول على خدمات شخصية، أصبحت تقدّم النموذج العسكري الأسدي في استغلال الجنود في تأدية الخدمات الشخصية للعمل في المزارع والبيوت وتقديم الخدمات المختلفة، بدلًا من خدمة الوطن. كيف يمكن لرجل مربّ أن يطلب من مستخدمي الكلية تنظيف سيارته الخاصة؟! كنتُ أشعر بالصدمة والدهشة من مثل هذه التصرفات، في حين ينظر إليها كثيرون على أنها “عادية”!
طرد محاسب الكلية
اختفى الشاب المحاسب، وافتقدته حقًا، فهو دمث الأخلاق ومحترم ومتفان في عمله، ويحمل إجازة جامعية. غيابه أثارني، فسألت أين هذا الشاب؟ لم أره في المحاسبة منذ مدة؛ صدمتُ عندما أجاب أحدهم بأن “العميد” علي سعد طرده! لماذا؟ لأنه رفض الذهاب لشراء الحلويات للسيد العميد ليحتفي بمنصبه الجديد. هل أصبح الموظف أشبه بعبدٍ في مزرعة يُطرد لأتفه الأسباب؟ أهكذا تكون حصانة الموظف؟
بعد تعيين علي سعد عميدًا لكلية التربية، أصبح لديه “مرافقة”، كنت أشعر بالدهشة لوجود هؤلاء الغرباء عن الكلية، وتذكرني تصرفاتهم بتصرفات حراس المراكز الأمنية المجاورة لكلية الآداب.
ذات يوم، كنت أشرف على الامتحانات في مدرج كبير، وهناك مجموعة من الموظفين والأساتذة يراقبون المدرج، وتسير الأمور على ما يرام. فلاحظت أحدهم يقف عند باب المدرج، ويُجري مسحًا بصريًا للمدرج بطريقة استفزازية. استغربت هذا الموقف، ولكنه قبل أن أفكر بالتصرف غادر المكان. سألت أحد الزملاء إذا كان يعرف هذا الشخص، فتوقّع أن يكون من “المرافقة “! تمنيت أن يعود ثانية. فعلًا، لم يتأخر قبل أن يعود ويقف قرب الباب، ويبدأ بتفحص المدرج غير مكترث بي أنا رئيس القاعة، ولا بأحد. ناديته طالبًا منه الاقتراب، وسألته أن يعرّف بنفسه، فقال مرافقة العميد (علي سعد)! قلتُ له بعصبية وغضب: “اغرب عن وجهي، ولا تقترب ثانية من قاعة الامتحان”…. فخرج مطأطئًا ولم أره بعد ذلك.
بدأ علي سعد يقدّم نفسه كحامل لمشروع تحديث للتربية! وكنتُ على يقين بأنه لن يحدّث إلا فرش مكتبه! إذ لا يوجد في مخيلته نموذج تربوي سوى نموذج شاوشيسكو، حيث أمضى 4 سنوات للحصول على شهادة دكتوراه، وقبلها كان متفرغًا في مكاتب الحزب، ولا تتعدى ثقافته النشرات الصادرة عن عبد الله الأحمر الأمين العام المساعد. وبالفعل، بعد فترة وجيزة، استبدل الأثاث، ووضع كرسيًا “يليق” بكبار التربويين! وبدلًا من جهاز تكييف واحد، أصبح في مكتبه اثنان، في حين لا يوجد في مكاتب الأساتذة لا تكييف ولا حتى مراوح. نظام يسير باتجاه الانقسام الحاد، في جميع المستويات، بين الطبقة الحاكمة وما عداها، وبدأ أي محتل لكرسي صغير يقلّد أعلى الهرم بسلطته وعجرفته ونظرته إلى المنصب، كإقطاعية شخصية لا صلة لها بالمجتمع.
بدأ العميد الجديد بتكريس كل اهتمامه برئيس المستقبل، وبدأت الدعوة الموسعة للندوات “العلمية”، وتم التركيز على أهل الخليج، إضافة إلى بعض الأكاديميين من دول عربية أخرى. يتم الحجز لهؤلاء في الفنادق الفخمة: الشام أو شيراتون، وكانت الوجبات تحجز في أغلى المطاعم، كانت جمعية العلوم النفسية والتربوية تتولى تمويل هذه المؤتمرات. شعرنا بالدهشة من هذا السخاء، في حين لم يتوفر في هذه الكلية ورق أبيض للكتابة. معظم “البحوث العلمية” المقدّمة لهذه الندوات لم تكن ذات قيمة، وكانت مثيرة للسخرية، كان الهدف هو تقديم ابن الرئيس الذي يداوم على حضور هذه الندوات، وتشكيل صورة إيجابية عنه وعن “اهتمامه” بالعلم والعلماء، والترويج لذلك إعلاميًا، على الساحة المحلية والعربية.
بعد أن أمضى 4 سنوات في عمادة كلية التربية، تمكن علي سعد من تقوية علاقاته ببشار، موحيًا له بأنه سيكون أداته المناسبة في مجال تربية الأجيال على “حبّ القائد الشاب”، ونجح في الحصول على “المكسب القومي الثالث”، باحتلال وزارة التربية مدة تزيد عن 8 سنوات، في الحكومة التي قادت البلاد نحو الكارثة، وأدت إلى انفجار الثورة السورية المباركة في آذار عام 2011.
شعر زميلنا بغرور السلطة، وبدأ يسبّح ويمجّد الدكتور بشار، ويستخفّ بكل مسؤولي الجامعة حتى بوزيرة التعليم العالي. وبدأ يوحي للجميع بأنه أصبح صاحب سطوة ونفوذ، فوزير التربية يذعن لما يطلب، ورئيس الجامعة كذلك، وفلان أيضًا…. يبدو أنه لم يعد يعبّر وزيرة التعليم العالي، وشعر بأنه أقوى منها واستخفّ بها، وأثار غضبها. وذات مساء، اتصلت بي وزيرة التربية د. صالحة سنقر ليلًا، للمرة الأولى وعلى عجل، تقول لي: “أرغب في ترشيحك لرئاسة الوفد السوري إلى مؤتمر تربوي أورومتوسطي في اللكسمبرغ؛ فهل أنت موافق؟”. قلتُ لها: “أنا حاضر، ويسعدني المشاركة في هذا المؤتمر”.
كان ذلك الاثنين مساءً، واتفقنا على أن أكون جاهزًا للسفر يوم الخميس! وتساءلت: ما الذي دفع السيدة الوزيرة لترشيحي؟ ثم علمت أنها استندت إلى معيار إتقان لغات أجنبية، وإلى معيار آخر وهو مدى تناقضي مع العميد الجديد الذي لا يتوقف عن تجاوزها وعدم احترام سلطتها، فأرادت أن تثأر منه بابتعاث ألدّ خصومه، وهكذا وقع اختيارها عليّ. وعرفتُ لاحقًا أنها أرادت تحدّي العميد الجديد بتكليفي بمهمة مميزة، أي إرسال أشد خصومه إلى مؤتمر دولي مهم، من دون استشارته وإعلامه.
التحضير للمؤتمر
بدأت التحضير على عجل، نظرًا لاقتراب الموعد، ذهبتُ أولًا إلى وزارة التعليم العالي لأستوضح عن طبيعة المؤتمر وموضوعاته، وهل هناك تعليمات معينة أو قضايا معينة تهمّ البلد لنتمكن من طرحها….. ولكني صُدمت من بلادة المعنيين بالأمر، لا شيء… لماذا نذهب؟ ما الهدف؟؟؟ هل هناك تعليمات محددة؟ لم أتمكن من الحصول على جملة مفيدة! قيل لي في وزارة التعليم العالي، هناك مدير “التخطيط ” في وزارة التربية، سيكون برفقتك، وأنت رئيس الوفد! هذا كلّ ما تمكنت من معرفته، وسط تلك الآلية البيروقراطية واللامبالاة وعدم الحس بالمسؤولية. ولحسن الحظ، تمكّنت من الحصول، من السفارة البلجيكية التي أعطتنا الفيزا، على بعض المعلومات عن المؤتمر، وحصلت على بعض المنشورات المتعلقة بمحاوره وأهدافه.
ذهبتُ إلى وزارة التربية، علّني أستطيع معرفة بعض المعلومات…. ولكني لم أحظ بشيء، علمًا أن هذه الوزارة لديها قسم متخصص في العلاقات التربوية الدولية والمنظمات الدولية المعنية بالتربية، كيونيسيف ويونيسكو. اتصلت بالشخص المعني بعضوية الوفد، فقال: “رحلة دكتور حط بالخرج…. منحضر وبس”! “لكن أرجوك يجب أن نبقى معًا، فأنا لا أعرف ولا لغة أجنبية، وإذا تركتني وحدي فسأضيع في المطارات”!
بعد هذه التجربة، مع وزارتين من أهمّ وزارات الدولة السورية (وزارة التربية ووزارة التعليم العالي)، أدركتُ أن البلد تسير على “التوكل”، وأنها تُدار كالمضافة أو الديوانية بطريقة ارتجالية، تمامًا كما يتم تعيين الوزراء استنادًا إلى موقفهم من العائلة الحاكمة وعلاقتهم بأجهزة الاستخبارات، ومشاركتهم في حلقات الدبكة للاحتفاء بـ “تجديد البيعة للقائد”، من دون النظر إلى الاعتبارات الأخرى. أدركت أنه لا توجد رؤية أو استراتيجية للتفاعل مع العالم، وأننا نفتقر إلى مؤسسات دولة حقيقية. لم تكن المصلحة العليا هي التي تحكم تصرّف الأجهزة المختلفة، بل كيفية وصول الصورة إلى الطاغية، فهو الذي يُحيي ويُميت، وهو الذي يُقدّم المناصب والمكرمات، وهكذا تضيع البلاد وتغرق في تخلفها وتصاب بالعقم وعدم الفاعلية، وتعجز عن حلّ أبسط المشكلات.