تهتمّ التربية الحديثة بنموّ الطفل وتطوّر قدراته منذ المراحل الأولى للحياة، حيث تكتسب المرحلة السابقة لمراحل التربية النظامية المدرسية أهميّة خاصة؛ إذ يصل الطفل إلى المدرسة بعد أن يكون قد قطع شوطًا طويلًا في النمو الجسمي والمعرفي.

ويستوجب الاهتمام بهذه المرحلة بلورة تصورات واضحة عن الطفولة، وعن موقع الطفل ومكانته وحقوقه الأساسية، وعن الشروط المادية والمعنوية التي توفر له أفضل فرص النمو والتفتح. وإنّ إحداث أيّ تغيير جوهري، في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لا بدّ أن يأخذ بالحسبان أهميـة المراحل الأولى من حياة الفرد؛ إذ تتعذر التنمية الحقيقية إذا لم تعطَ الطفولة حقها من الرعاية والاهتمام. وإن الحديث عن الطفل ومشكلاته وحقوقه ومكانته يضعُنا جميعًا أمام مسؤولية كبرى تتعلق بالمستقبل، أي كيف نطمح أن نكون، فذلك يرتبط إلى حدّ بعيد بإعداد الطفولة إعدادًا مناسبًا يؤهلها لبناء المستقبل، ومواجهة تحديات العصر.

الأسرة والطفل

إن موقف الأسرة والمجتمع من قضية الطفل ما هو إلا محصلة طبيعية للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتظهر الحاجة في وقتنا الحالي إلى استنهاض التربية، وإعادة صياغة التفكير الجمعي حول الطفولة وحاجاتها ومكانتها وحقوقها والشروط التربوية المناسبة لنموّها. ويجب على المؤسسات التربوية المعنية بالطفولة المبكرة، خصوصًا الأسرة، أن تجعل الحوار قاعدة في التعامل مع الصغار، حيث أصبح التفاعل القائم على الحوار من الأسس المهمة التي تتيح للطفل النمو المناسب، كما يجب تجنب الأساليب القمعية وتجنب إصدار الأوامر والنواهي، والتقليل من القيود وجعلها في حدودها الدنيا.

طبعت الأساليب التسلطية سلوك الأسرة العربية بطابعها منذ قرون، ولم تعد مناسبة في هذا العصر، بل أصبحت تعرقل نمو الطفل وتطوره. ولا بد من مراجعة شاملة وإعادة النظر في المعتقدات وفي الأسس الثقافية المتعلقة بطرق التعامل مع الطفل وأساليب التفاعل معه في مواقف الحياة اليومية، بما يتوافق مع المعطيات الحديثة للعلوم النفسية والتربوية..

يحتاج الطفل إلى الحرية، حرية الحركة في المكان المناسب، حرية التعبير، حرية اللعب، حرية طرح الأسئلة، حرية التعرّف إلى العالم الخارجي، وحرية التفاعل مع الآخرين. فالطفولة لا تحتاج إلى التشدد ولا إلى كثير من القيود. ولا تنمو الطفولة نموًا سويًا إلا في إطار من الحرية والمحبة والفرح والتفاؤل. فالتوتر والعقاب والضرب أمورٌ تضر بالطفل وبنموه، وتمنع تفتحه وتطور قدراته المختلفة.

وتجدر الإشارة إلى أهمية إشاعة لغة الحوار في إطار الأسرة، وفي علاقة الأهل مع الأبناء، وفي التفاعل بين الإخوة والأخوات. وتبيّن بعض الملاحظات غياب لغة الحوار في الأسرة في مجتمعاتنا؛ فالسلطة تقوم على التراتبية العمرية، حيث يتربع الأب على قمة هذه السلطة، وتكاد تقتصر هذه العلاقات على الأوامر والنواهي: “هذا عيبٌ وذاك حرام”…..

لا يمكن ترسيخ القيم الديمقراطية في المجتمع، إذا لم يحدث ذلك في إطار الأسرة أولًا، وهذا يستوجب العمل على تثقيف الأسرة عبر التربية ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، بحيث تصبح لغة الحوار اللغة السائدة في إطار الاسرة. إنها الخطوة الأولى في تثبيت دعائم الديمقراطية ودولة المواطنة القائمة على الحرية والمساواة واحترام حقوق الإنسان، خصوصًا حقوق المرأة وحقوق الطفل، وترسيخ قيم المواطنة واحترام الدستور.

لقد أصبحت الديمقراطية ركيزة مهمة من ركائز التربية الحديثة، داخل الأسرة وخارجها؛ فالعلاقة التي تقوم على الحوار، وتنظر إلى الطفل على أنه شخص قائم بذاته، تنمّي شخصيته، وتنشط تطوير قدراته المعرفية واللغوية، وتفتح أمامه آفاقًا رحبة للنمو من مختلف الجوانب؛ فالعلاقة التربوية القائمة على الحوار تجعل الطفل معنيًا بما يدور حوله، فاعلًا في هذا العالم ومؤثرًا فيه؛ إذ يتعود تدريجيًا تحمّل المسؤولية، وتنمو لديه الثقة بالنفـس. ويعوّد الحوار الطفلَ ضبط السلوك وتبادل الأدوار، وينمي عنده قدرات التواصل ومهارات التبادل مع الآخرين. وهذا يمكّنه من دخول الحياة الاجتماعية من بابها الواسع، واثقًا من نفسه متفائلًا، نشطًا في دوره، وباحثًا عن تحديد مكانته. وليست الديمقراطية مسألة سياسية فحسب، بل مسألة تربوية أيضًا، يجب أن تبدأ في البيت، في المراحل الأولى من نمو الطفل وفي علاقاته الأولى مع الأسرة، “فالحوار يولد العقول”. ما أحوجنا إلى تطوير مهارات الحوار عند الصغار والكبـار، بين الأهل وبين الطفل وبين المربّين والتلاميذ. فالحوار ضرورة تربوية، وهو بالنسبة إلى الطفل حاجة من حاجات نموّه وتفتحه، تضعه على طريق الإبداع.

دور الأم في المراحل المبكرة من نمو الطفل

“الأم مدرسة إذا أعددتها.. أعددتَ شعبًا طيّبَ الأعراق” الشاعر حافظ إبراهيم

 ينمو الدماغ عند الطفل متسارعًا في الثمانية عشر شهرًا الأولى بعد الولادة، ينمو بسرعة لن يبلغها فيما بعد، فالمثيرات المتنوعة التي يتعرض لها الصغير، في هذه الفترة، تؤثر تأثيرًا مهمًا في تنشيط هذا النمو وإثرائه، وتكون الأم في هذه المرحلة النمائية المصدر الأساسي لهذه المثيرات. لقد أصبح من الواضح أن كل ما تفعله الأم في المراحل الأولى من حياة الطفل يؤثر تأثيرًا مهمًا في نموّه النفسي البيولوجي[1].

يرتبط نجاح التحولات المجتمعية الكبرى المنشودة، بتمكين المرأة ومشاركتها في مختلف ميادين الحياة، خصوصًا في ميدان التربية، وتبقى الديمقراطية ناقصة عرجاء، إذا لم تتمكن المرأة من نيل حقوقها الأساسية، ومن توفر فرص النمو والتفتح عبر نظام تربوي يفتح أمامها الفرص المتكافئة وآفاق المشاركة الفاعلة في مختلف مناحي حياة المجتمع. نجاح المرأة في دورها التربوي يرتبط، إلى حد بعيد، بمساندة الرجل وموقفه القائم على المساواة والشراكة الحقيقية في كل ما يتعلق بالتربية، في إطار اجتماعي مناسب يعزز قيم المساواة والشراكة والفرص المتكافئة، دون تمييز، ويضع حدًا للنظرة الدونية الذكورية التقليدية التي اختزلت دور المرأة.

 تضطلع الأم بدور أساسي في تنشئة الطفل، فالتنشئة القائمة على المحبة والحوار والديمقراطية والتسامح تعزز شعور الطفل بالأمان والثقة بالعالم. نمو الطفل في جوّ مفعم بالمحبة والحنان يفعل فعله الكبير في تنمية ثقته بنفسه وقدرته على مواجهة شروط الحياة، السمحة والقاسية على السواء، بينما تؤدي معاملة الطفل بتشدد ونفور وكراهية إلى التعاسة والشقاء، وتجعله ينظر إلى العالم نظرة قاتمة متشائمة.

 إن إعداد الأم والأب لهذا الدور التربوي، وتنمية قدراتهما والارتقاء بمهاراتهما الفكرية والثقافية والاجتماعية، يعني الارتقاء في تنشئة جيل سوي مستنير، وذلك يستوجب إدراك المجتمع بمختلف مؤسساته الرسمية والأهلية لأهمية هذا الدور، ويستوجب أيضًا توفير الخطط والإمكانات لتحقيق أفضل الشروط لإعداد البنات والصبيان وتنمية قدراتهم ومهارتهم، وإعدادهم إعدادًا مناسبًا، فالتقدم التربوي الحقيقي يبدأ من هذه النقطة، لأن البناء التربوي السليم في المراحل اللاحقة يستند إلى المرحلة السابقة أي مرحلة الطفولة المبكرة، ولكي يكون البناء سليمًا، لا بد من أن يكون الأساس سليمًا أيضًا.

إن أهمية الدور التربوي للأم، وتأثيره الخطير في نمو الطفل، من مختلف الجوانب العقلية والاجتماعية والانفعالية، يجب أن يحملنا على التفكير في وضع الفتاة في مجتمعاتنا، فهي أمُّ المستقبل والمربية الأولى، تأخذ هذه المسألة بعدًا خطيرًا، بعد التغريبة السورية، فعدد الأميّات يرتفع عامًا بعد عام، ويشكّل ذلك مخاطر جسيمة على وضع الأسرة وكفاءتها ومدى قدرتها على توفير الشروط المناسبة لنمو الطفل وتربيته، إن خطورة التقصير في الرعاية الصحية والتعليمية لأطفال اليوم، والتأثير السلبي للأميّة التي تنال الإناث بشكل خاص، سيترك آثاره في العقود القادمة، ويهدد بتقويض الجهود المبذولة في ميدان العمل التربوي في مختلف مراحل التعليم، ويحد من قدرة المجتمع على مواجهة تحدّيات المستقبل.

دور الروضة في نمو الطفل

 يجمع علماء النفس والمربّون على أهمية مرحلة ما قبل المدرسة في حياة الطفل؛ لأنها الركيزة التي يستند إليها العمل التربوي المستقبلي، فالاهتمام بالطفولة الأولى يجب أن يكون الخطوة الأساسية في العمل التربوي، لأن تعثر التربية في المراحل اللاحقة يرجع غالبًا إلى إهمال مرحلة ما قبل المدرسة[2].

 وعلى الرغم من التوسع في الرياض التي تستقبل الأطفال بين الثالثة والسادسة من العمر، فإن التربية قبل المدرسية لم تتخذ طابعًا رسميًا إلزاميًا، ولم تأخذ مكانها في اهتمامات المخططين للعملية التربوية، ولا تزال تحتل هامشًا هزيلًا في اهتمامات المسؤولين التربويين. والمبرر الأساسي لهذا القصور الخطير هو عدم توافر الإمكانات المادية[3]. إلا أن هذا المبرر المعلن يخفي حقيقة مهمة، وهي ضعف إدراك أهمية التربية السابقة للمرحلة المدرسية.

 ويضاف إلى هذا القصور في تطوير التربية قبل المدرسية، وفي تعميم رياض الأطفال، أن الروضة لا تزال غير واضحة المعالم، وينظر إليها -خطأ- على أنها حالة مصغرة للمدرسة الابتدائية. وبدلًا من إشاعة الحرية والتقليل من القيود، غالبًا ما يُفرض على الأطفال قواعد صارمة ونظام شبه عسكري يقوم على الإملاء والتسلط، في حين يحتاج الطفل إلى الحرية، حرية الحركة وحرية التعبير وطرح الأسئلة وحرية التفاعل مع الأقران، فالحرية بالنسبة إلى الطفل، في هذه المرحلة النمائية، حاجة من حاجات النمو العقلي والاجتماعي والانفعالي.

 إن ملاحظة ما يجري داخل رياض الأطفال تُبيّن للوهلة الأولى التطبيق التربوي غير المناسب الذي لا يتفق وحاجات الطفل، في هذه المرحلة المهمة من مراحل النمو. وكثيرًا ما يكتظّ الأطفال في الصفوف، وخارج الصفوف، ولا يؤخذ بعين الاعتبار أهمية المكان الرحب الذي يسمح للطفل بممارسة نشاطاته المختلفة، داخل الصف، أو خارجه. ويجب ألا يكون الهدف في الروضة الحفظ والتلقين، بل يجب أن تكون غرفة الصف أشبه بورشة مليئة بالأدوات والألعاب، تنبض بالحيوية والنشاط، بحيث تتيح للأطفال ممارسة نشاطات متنوعة تمكنهم من العمل بأيديهم، ومن تفحص الأشياء واكتشافها بأنفسهم. فنمو الدماغ يرتبط، إلى حد بعيد، بتنمية المهارات اليدوية. ولا بد من التأكيد على أهمية هذه المهارات في هذه المرحلة من حياة الطفل، ومقاومة نظرة المجتمع السلبية إلى العمل اليدوي.

 إن استخدام المناهج التعليمية التي تركز على المهارات الأساسية، في المراحل المبكرة من حياة الطفل، يؤدي إلى نتائج سلبية تفوق النتائج الإيجابية؛ فقد تؤدي بعض أساليب التعلم إلى عرقلة النمو العقلي، لأنها تشجع التعلم السطحي للاستجابات البسيطة، ولا تمكّن الطفل من فهم حقيقي، ولا تنمّي قدراته على حلّ المشكلات. وإن الاهتمام بالمناشط الحرّة التي تنطلق من اهتمامات الطفل وحاجاته، بتجريب الأدوات وبتفحص الألعاب وممارسة بعض الأدوار مع الأتراب، يؤدي إلى نتائج أفضل من استخدام الطرائق التقليدية. وتجدر الإشارة إلى أهمية التفاعل بين الطفل والمربية في الروضة؛ حيث إن إشاعة جو المودة والحوار، وشعور الطفل بمحبة معلمته له، واحترامها لقدراته، وإصغائها لما يقول، يعزز الثقة والطمأنينة عنده، ويجعل العمل التربوي مثمرًا وفعالًا.

المراحل المدرسية وتأثيرها في تمثل القيم الديمقراطية

في المدرسة الابتدائية، يتعلم الطفل المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب، ويكتسب خبرات ومهارات ومعلومات في مختلف ميادين الحياة. وإذا أخفق الطفل، وجب طرح الأسئلة حول طرق التعليم أو المنهج أو الوسائل أو بيئة الصف. في التربية الحديثة، العيب لا يمكن أن يكون عند التلميذ، بل عند المدرسة وأساليبها. وترى التربية الحديثة أن لكل طفل طاقة إبداعية في جهة ما أو في مجال ما، وعلى المدرسة أن تكتشف ذلك، وتوفر السبل لمساعدته في اكتشاف جوانب التميز لديه وتوجيهه حتى يتمكن من توظيفها في ميدان يناسبه، ويحقق ذاته ويظهر تفوقه وإبداعه، ليجد مكانه المناسب في شروط من العدالة والحرية وتكافؤ الفرص.

تعدّ المدرسة المختبر الحقيقي لتمثل قيم المواطنة والتعرف إلى الدستور وإلى طبيعة العلاقة بين السلطات الثلاث: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية. وتتناقض التربية الحديثة مع الاستبداد؛ فالتربية الحقيقية تقوم على الحرية، حرية التعبير وحرية التفكير. وتسند التربية الحديثة إلى الحوار والتفاعل المتبادل بين مختلف الأطراف المعنية في العمل التربوي، بعيدًا عن العقلية التسلطية التي طبعت المدرسة بطابعها في زمن الاستبداد. ويجب أن يتدرب التلاميذ على ممارسة الديمقراطية ومعرفة حقوقهم وواجباتهم وانتخاب عريف للصف كل شهر، كي يتعوّدوا التداول السلمي للسلطة، بتحقيق إرادة الشركاء في غرفة الصف عن طريق صندوق الاقتراع.

ويجب أن يقوم التعليم على العقلانية وتنمية التفكير العقلاني. حيث لا يمكن أن يقتصر دور التعلم على الحفظ والتلقين وحشو المعلومات، ويجب أن يتطلع إلى تنمية التفكير والمحاكمة والقدرة على حل المشكلات، وتنمية مهارات الإبداع والتفكير النقدي. كما يجب أن يتضمن أيضًا تنمية القدرة على ضبط النفس وقبول الاختلاف، من أجل تعميق ثقافة قبول الآخر المختلف، وترسيخ قيم المحبة والتسامح والسلام.

إن دور التربية هو قيادة الطفل ليفكّر في العالم من حوله، بواسطة جملته العصبية، وقيادته لبناء ذكائه، كما يقول بياجيه، ومساعدته عبر اللعب أو العمل في محيط مناسب لدوافعه الداخلية واهتماماته. وتجدر الإشارة إلى مساهمة العلوم المعرفية المتصلة بالدماغ الذي يتعلم، إذ تفتح هذه العلوم، في أيامنا هذه، آفاقًا واسعة للتربية. ويجب تعريف الأطفال بالدماغ، فهو أداتهم اليومية، وهذا ما يسمى بالنيروبيداغوجيا (التربية العصبية) أي هذا الفرع من العلوم الذي يتضمن المعارف الأساسية المتعلقة بالجهاز العصبي المركزي، فمدرسة اليوم تسمّى “مدرسة الدماغ”، فهو العضو البيولوجي للتعلم، ومن الأهمية بمكان أن يتم التركيز على أساليب تنمية الدماغ والتعرف إلى الشروط المناسبة لتطوره[4].

أصبح اكتشاف الدماغ ممكنًا، بالنسبة إلى التلاميذ، بفضل التقدم الكبير للعلوم المعرفية الجديدة وتطور تقنية التصوير الدماغي في بداية هذا القرن. وتجب إضافة اللوحة الرقمية والحاسوب إلى وسائل المدرسة واستخدام الشاشة في التعلّم. ويجب تجهيز غرفة الصف بكل الوسائل السمعية البصرية وكل الأدوات اللازمة للعمل التعليمي. إضافة إلى المختبرات الحديثة التي تتيح فرص التعلم عن طريق العمل والتجريب.

ولا شك في أن تطور علوم النمو المعرفي والتصوير الدماغي والثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، بعد ثورة الطباعة سابقًا، يفتح صفحة جديدة مضاعفة في تاريخ المدرسة.

ربط المدرسة بالحياة

من أهم مبادئ التربية الحديثة أن يكتشف الطفل البيئة من حوله، ويتعرف إلى معطياتها وجوانب قوتها. ولا تزال المدرسة داخل الأسوار لم تخرج بالطفل إلى معترك الحياة، ولم تربطه بقضايا مجتمعه الاقتصادية أو الثقافية، فهي منفصلة عن الحياة… على سبيل المثال: درسنا المرحلة الثانوية في مدينة أثرية رائعة، لم تفعل المدرسة شيئًا لنتعرف على أوابدها… لا تعرف أجيالنا أن التراث الثقافي الأثري في سورية يشكّل ثروة أهمّ من النفط والغاز، حيث يتميز تراثنا بالتنوع الفريد، نظرًا لتعاقب كثير من الحضارات التي نشأت في سورية وتركت تراثًا معماريًا وفنيًا وأدبيًا متميزًا… لا يوجد ربط بين المدرسة والحياة.

إعداد المعلم

إعداد المعلّم على درجة كبيرة من الأهمية، ولدينا الإمكانات لتحقيق ذلك وفق المعايير الحديثة؛ فالمعلم هو المحرك الرئيس للعمل التربوي. وأصبح من الواضح، عند اختيار المعلم، ضرورة الأخذ في الاعتبار بعض المعايير والقواعد. وكثيرًا ما تحدد السلطات التربوية بعض الخصائص التي ترى ضرورة توفرها عند المعلم؛ فالخصائص الشخصية والمهارات التربوية والعلمية، إضافة إلى بعض السمات العامة، تأخذ أهمية خاصة في تحديد معايير اختيار الأفراد لمهنة التعليم.

 تُجمع كثير من الدراسات الحديثة على ضرورة إعادة النظر في شروط قبول المعلمين، بحيث تتوفر فيهم بعض الخصائص الشخصية المناسبة الجسمية والعقلية والانفعالية والاجتماعية. كما يجب أن تجتذب برامج إعداد المعلمين أفضل الطلبة، ممن لديهم دافعية إيجابية قوية نحو مهنة التدريس وإحساس قوي بالالتزام، إذ إن التحصيل الأكاديمي وحده لا يضمن كفاءة المعلمين.

ويجب أن يتم تأهيل المعلم وفق أحدث الأساليب العلمية والتربوية، بحيث يتمكن من القيام بدوره والنهوض برسالته في بناء أجيال المستقبل. ويجب أن يكون المعلم قدوة حسنة للتلاميذ، بسلوكه وتصرفاته، وأن يكون محبًّا لمهنته، ومحبًّا للأطفال عامة، ولتلامذته بوجه خاص، شديد الاهتمام بهم، وأن يتقبلهم كما هم، لا كما يتصورهم، وأن يكون مؤمنًا برسالته التنويرية، يشعر شعورًا عميقًا بخطورة دوره في حمل رسالة العلم والتربية والتنوير والرغبة الأكيدة في الارتقاء والنهضة بمجتمعه وأمّته.

يجسد المعلم من خلال سلوكه اليومي، في تعامله مع التلاميذ ومع الزملاء، القيمَ الإنسانية النبيلة.. قيم العدل والحرية والمساواة.. قيم الديمقراطية القائمة على المساواة في دولة القانون والمواطنة. ويستطيع المعلّم -من خلال سلوكه وتعامله- تمكين التلاميذ من لغة الحوار ومن التفاعل المثمر والاحترام المتبادل.

خاتمة

يتضّح مما سبق أهمية البناء التربوي في تشكيل الأرضية المناسبة للنظام الديمقراطي. وكيف يمكن تنمية المعارف المتعلقة بالمفاهيم الأساسية للديمقراطية؟ وكيف يمكن للتربية المساهمة في تشكيل السلوك المنسجم مع القيم الديمقراطية؟ لا يمكن أن تحدث هذه النقلة النوعية، في المجتمع الذي اعتاد الرضوخ للاستبداد وللأنظمة السلطانية، بين ليلة وضحاها. إنما تحدث هذه النقلة عبر ثورة ثقافية تشارك فيها التربية والإعلام ومنظمات المجتمع المدني، عبر سياق تربوي ثقافي يجعل هذا الانتقال ممكنًا، من خلال الاهتمام في ترسيخ القيم الديمقراطية في مختلف المراحل النمائية للطفل.

 إن تشكيل قاعدة مجتمعية مناسبة للنظام الديمقراطي يستلزم بناء نظام تربوي حداثي، يُعِد الفرد لمثل هذا التحوّل الكبير؛ فالديمقراطية ليست مسألة سياسية فحسب، بل مسألة تربوية بامتياز.

المراجع

عبد الدائم، عبد الله. 1988، التربية قبل المدرسية ودورها في تكوين شخصية الطفل، الطفولة العربية، 14، 5 – 8.

قنطار، فايز. 1991، تطور سلوك الاتصال عند الطفل في مرحلة ما قبل المدرسة، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، الكويت.

قنطار، فايز. 1992، الأمومة: نمو العلاقة بين الطفل والأم، عالم المعرفة (166)، المجلس الوطني للثقافة

 والفنون والآداب، الكويت.

Houdé Olivier, 2018, L’école de cerveau, Mardaga, Bruxelles


[1]قنطار، 1992 ـ

[2] قنطار، 1991، ص: 129

[3] (عبد الدائم، 1988)

[4] Houdé Olivier، 2018، L’école de cerveau