يضع النظام السوري لمساته الأخيرة على العملية الانتخابية الرئاسية التي لا تمتّ إلى الديمقراطية والانتخابات الحرة والنزيهة بِصلة؛ حيث يترشح وارث السلطة بشار الأسد والمتربع على كرسي الرئاسة منذ العام 2000، في انتخابات صورية معدّة ومصمّمة من طرف أجهزة واقعة -بحكم التشريعات السورية النافذة- تحت سلطته وسيطرته المباشرة. هذا وتعدّ الانتخابات وسيلة لتحقيق تداول السلطة الذي لم تعرفه سورية منذ تبوء حافظ الأسد للسلطة في العام 1971 ومن خلفه ابنه بشار الأسد، وقد أدّى ذلك إلى احتكار الأسدَين لمنصب الرئاسة لأكثر من خمسة عقود، بما لا يدع مجالًا للشك في أنّ مصطلحات “الجمهورية” و”الديمقراطية” و”التعددية السياسية” و”سلامة الإجراءات الانتخابية ونزاهتها” و”ممارسة السلطة ديمقراطيًا عبر الاقتراع”، الواردة في دساتير سورية، ليست أكثر من حبرًا على ورق.
تحتاج الانتخابات الحرّة والنزيهة إلى تشكيل هيئة مستقلة وحيادية للإشراف على العملية الانتخابية، غير أنّ قانون الانتخابات العامة السوري لعام 2014 قد أعطى “اللجنة القضائية العليا” مهمّة إدارة انتخاب رئيس الجمهورية تحت إشراف المحكمة الدستورية العليا (المادة 10). وإنّ تشكيل هذه اللجنة واقع بحكم المادة 8 من هذا القانون تحت سيطرة بشار الأسد، فهو الذي يُصدر مرسومًا بتشكيلها بعد تسمية أعضائها من طرف “مجلس القضاء الأعلى” الذي يترأسه أيضًا الأسد، بموجب المادة 133 من دستور عام 2012. وتقع “المحكمة الدستورية العليا” تحت قبضة بشار الأسد الذي يُسمّي أعضاءها بمرسوم، وذلك بحسب المادة 141 من الدستور السوري الحالي، ويؤدي هؤلاء القسَم أمامه بمقتضى المادة 145 من هذا الدستور. وقد أكّدت المادة 146 من الدستور السوري أن المحكمة الدستورية العليا تختص بانتخاب رئيس الجمهورية وتنظيم الإجراءات الخاصة بذلك، وتختص أيضًا بمحاكمة رئيس الجمهورية في حالة الخيانة العظمى التي لا ينصّ عليها صراحة قانون العقوبات السوري.
يتدخل أيضًا بشار الأسد، عبر وزير داخلية نظامه، في سيرورة العملية الانتخابية بما يضمن له السيطرة الكاملة على مسارها ونتائجها؛ حيث تخوّل المادة 123 من قانون الانتخابات وزارةَ الداخلية بتأمين مستلزمات انتخاب رئيس الجمهورية، وبفرز عدد من العاملين للعمل تحت إشراف اللجان الانتخابية أثناء العملية الانتخابية، وهي مسؤولة أيضًا عن تأمين الحماية اللازمة للانتخابات (المادة 121)، وقد أتمتها (المادة 122) بوضع يدها على كل المستندات المتعلقة بانتخاب رئيس الجمهورية (المادة 125). وتتدخل وزارة الداخلية أيضًا في إعداد السجل الانتخابي (المادة 28) الذي يستبعد شريحة كبيرة من السوريين، تبعًا لشروط غير موضوعية. فعلى سبيل المثال، تنصّ المواد 70-71-72، من التعليمات التنفيذية لقانون الانتخابات العامة، على أن يُتاح حق التصويت في الانتخابات الرئاسية للمقيمين في الخارج، شريطة ألا يكون ثمة مانع قانوني يحول دون ممارستهم لذلك، وأن يكون جواز السفر صالحًا وممهورًا بختم الخروج من أي منفذ حدودي سوري، مع العلم أنّ قسمًا كبيرًا من السوريين هُجّروا، خلال العقد الماضي، مغادرين من منافذ حدودية خارجة عن سيطرة النظام، ومنهم من حُرمَ حق تجديد جواز سفره، أو من حُكم عليه من طرف الجهاز القضائي المسيّس. كما يتم الاقتراع في السفارات السورية، وهي المعروفة بعدم استقلاليتها وعمالتها المباشرة لنظام الحكم، بما لا يترك أي مجال للشك في تحكّمها في النتائج.
بالإضافة إلى سيطرة بشار الأسد على السلطتين التنفيذية والقضائية، كما تبيّن أعلاه، يعتدي أيضًا على السلطة التشريعية، من خلال توليه سلطة التشريع (المادتين 112-123 من الدستور السوري)، حتى إن له الحق في حلّ مجلس الشعب، بقرار (المادة 111 من الدستور). أمّا عن دور مجلس الشعب في الانتخابات الرئاسية، فقد جاءَ في المادة 85 من الدستور السوري أن “طلب الترشيح لا يُقبل إلا إذا كان طالب الترشيح حاصلًا على تأييد خطي لترشيحه، من خمسة وثلاثين عضوًا على الأقل من أعضاء مجلس الشعب، ولا يجوز لعضو مجلس الشعب أن يمنح تأييده إلا لمرشح واحد”. كما ينصّ النظام الداخلي لمجلس الشعب، في مادته 244، على أن للمجلس إسقاط العضوية عن أحد أعضائه، في حال “إهانة الدولة أو رئيسها أو علمها”. وهكذا لا يتحكم الأسد في فرض تأييد إعادة ترشيحه فحسب، بل في اختيار “منافسيه” أيضًا، وذلك في ظلّ سيطرة نظامه السياسي على أعضاء مجلس الشعب الموالين، وأغلبهم منتمون إلى حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يشغل الأسد نفسه منصب أمينه العام، أو إلى أحزاب أخرى موالية.
يأتي أخيرًا الدور التقليدي للأجهزة الأمنية المتشعبة والمتفرعة والمتنافسة بينها لإظهار الولاء للأسد، ولا سيّما من خلال قمع المواطنين والتنكيل بهم. وتتولى هذه الأجهزة ترغيب المواطنين وترهيبهم للاقتراع في الاستفتاءات والانتخابات الرئاسية. ولن تتوانى وأعوانها عن ممارسة الضغوطات المباشرة وغير المباشرة، لإجبار المواطنين على المشاركة في الاقتراع ومراقبة الأصوات خلال العملية القادمة.
هل يعني ما سبق أنّ بشار الأسد سيفوز حتمًا بولاية رئاسية جديدة، وأنّ غير ذلك سيجعل هذه الانتخابات حرة ونزيهة؟ قد يكون هناك مخطط دولي مدروس لإنجاح أحد منافسيه، وفي هذه الحالة، لن تعبّر الانتخابات عن إرادة الشعب، بل ستكون نتائجها مفروضة، كحال مرشحيها، ويبقى هذه الأمر مستبعدًا، حيث تدلّ جميع المؤشرات على إبقاء بشار الأسد في سدّة الرئاسة، لاستمراره في تنفيذ الدور المنوط به من طرف القوى الدولية والإقليمية التي تسيطر وتحكم سورية اليوم. كما توجب الانتخابات الديمقراطية ألّا يكون هناك تمييز بين المواطنين في قبول الترشيحات، وهذا الأمر غير متحقق، وذلك لتحكّم مجلس الشعب والمحكمة الدستورية العليا في تأييد وقبول الترشيحات، ولوجود أوجه تمييز أخرى، كمنع غير المسلم من الترشح للرئاسة (المادة 3 من الدستور) والمتزوجين من غير سوريات، وغير المقيمين في سورية لمدة لا تقل عن عشر سنوات إقامة دائمة متصلة (المادة 84 من الدستور).
يحتاج الوضع السوري إلى تهيئة الأجواء المناسبة للانتخابات بما يشمل كفّ يد رئيس الجمهورية، بوصفه ممثلًا للسلطة التنفيذية، عن الاعتداء على وظائف واختصاصات السلطتين التشريعية والقضائية، فضلًا عن إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وإخضاعها لرقابة مدنيّة، واحترام حقوق المواطنين في التعبير عن الرأي وتشكيل الأحزاب والجمعيات، واستئصال كل أوجه التمييز بينهم. لأن الانتخابات جزء من الديمقراطية، أمّا تلك التي تنظّمها الأنظمة الدكتاتورية، كما في سورية اليوم، فهي عبارة عن “مسرحية” تفتقر إلى أدنى مقومات العدالة والنزاهة والتنافسية. وإنّ انتخابات كهذي في سورية لا يمكن أن تسبق التسوية السياسية التي تضمن تطبيق أركان العدالة الانتقالية، ولا سيّما الكشف عن مصير المفقودين والمعتقلين وتعويض الضحايا أو أسرهم، وضمان حدّ أدنى من محاسبة المجرمين، ليتم تحقيق المصالحة الوطنية والانتقال السياسي.