تونس استثناء، قبل الربيع العربي وبعده، ويظهر ذلك من خلال تأثير القوانين المدنية على حياة التونسيين، وبخاصة النساء؛ حيث لم تخالف هذه القوانين الشريعة الإسلامية بقدر ما كيّفتها مع روح العصر، وساعدت تونس في التقدم خطوة مهمة على طريق فصل الدين عن المجال السياسي وعلمنة مؤسسات الدولة، وتم ذلك من خلال إجراءات حكومية دشّنها الرئيس السابق، الحبيب بو رقيبة.
يظهر ذلك التأثير بوضوح من خلال المقارنة مع جارتي تونس في الشرق والغرب، ليبيا والجزائر، مع أن هذه البلدان الثلاثة كانت قد عاشت في ظروفٍ تاريخية متشابهة، من ناحية خضوعها للحكم العثماني والاستعمار الأوروبي من بعده، واحتوائها على التركيبة الديموغرافية نفسها تقريبًا، المتمثلة بالسكان الأصليين من البربر، والقبائل العربية التي هاجرت من شبه الجزيرة العربية في القرن الحادي عشر الميلادي، وانتشرت في شمال أفريقيا وتركت لنا ملحمة أدبية عُرفت بـ “تغريبة بني هلال”.
وتجلّى الاستثناء التونسي، بعد انطلاق ثورات الربيع العربي، من خلال القدرة على تجاوز أحداثه الأليمة بأقل الخسائر، والبدء بإجراءات الانتقال السياسي الديمقراطي، بخلاف ليبيا واليمن وسورية، التي ما زالت تشهد أحداثًا مأسوية، ومصر التي استغل فيها العسكر مبكرًا النقمةَ الشعبية لجزء كبير من المصريين على حكم الإخوان المسلمين، وقاموا بمصادرة الديمقراطية الوليدة عام 2013.
لكن الإجراءات الأخيرة التي اتخذها الرئيس التونسي، قيس سعيِّد، بتعطيل عمل مؤسستي رئاسة الوزراء والبرلمان، بالاستناد إلى المادة 80 من الدستور، طرحت مسألة نجاح عملية الانتقال الديمقراطي على بساط البحث، حتى إمكانية الإطاحة بالاستثناء التونسي ذاته، ومن هنا، يمكن فهم الاهتمام الواسع بهذه الإجراءات. فهل ما حدث هو مجرد إجراء دستوري يهدف إلى مواجهة العطالة السياسية في مؤسسات الحكم، وإصلاح الوضع الاقتصادي المتردي، أم أنه انقلاب على الديمقراطية، قد يدفع العسكر إلى تولي مقاليد السلطة في هذا البلد، في محاكاة لما حدث في مصر؟
ثمة بعض الشبه في ما آلت إليه الأوضاع في تونس حاليًا، وما حدث في مصر عام 2013 في عهد الرئيس المصري الإخواني المنتخب، محمد مرسي؛ أي كحالة انقسام شعبية حول الممارسة السياسية للإسلام السياسي في البلدين. لكن الحالة التونسية وطريقة إخراجها مختلفة، لحدّ الآن على الأقل، فقد حدث انقلاب عسكري كلاسيكي في مصر، في حين استند الرئيس التونسي إلى مادة دستورية (المادة 80) لفرض حالة استثنائية، تمثلت بتجميد عمل البرلمان ومجلس الوزراء لمدة شهر قابلة للتمديد، بمعنى إعطاء صلاحيات واسعة للمؤسسة الرئاسية، بدعم واضح من مؤسستي الجيش والأمن. يأخذ معارضو هذا الإجراء على الرئيس عدم استشارة رئيسي الحكومة والبرلمان، كما تقضي هذه المادة، لكن الرئيس التونسي قال في مقابلة صحفية (30 تموز/ يوليو) بأنه فعل ذلك.
وبغض النظر عن هذه التفاصيل، فإن المشكلة السياسية القائمة في منطقتنا ما زالت تتمثل في صعوبة عملية الانتقال السياسي، الناجمة عن صراع “القط والفأر” بين العسكر والإسلاميين، فلا العسكر أثبتوا أنهم جادون في القيام بدورهم الوطني بعيدًا عن السياسة، ولا الإسلاميون برهنوا أنهم مخلصون لعملية الانتقال الديمقراطي وعلمنة الدولة، بأن ينحازوا إلى مصالح أوطانهم، بعيدًا عن ارتباطهم بالقوى الإقليمية الداعمة للإسلام السياسي.
يكمن جزء مهم من المشكلة في غموض توجهات الحركات الإسلامية، المستندة إلى عواطف دينية شعبية يمكن تجييشها بسهولة، أكثر من كونها قائمة على برامج اقتصادية – اجتماعية، وفي ميلها إلى العنف أو عدم القطع مع ممارسته، وهذا ما يجعلها مستولدة لحركات سلفية جهادية. حتى حركة النهضة، الوجه الإسلامي الأكثر عصرية، لم تسلم من اتهامات خصومها السياسيين، بالمسؤولية الجزئية عن بعض حالات الاغتيال السياسي في تونس بعد الثورة، فضلًا عن قيام أحد نوّابها أخيرًا بالاعتداء على زميلته تحت قبة البرلمان.
وتكتنف الضبابية أيضًا الحالة التنظيمية للحركات الإسلامية، كونها غير مؤطّرة ومُهيكلة كأحزاب، فهي مجرد “جماعات” أو “حركات”، ما يسهل تحوّلها الأميبي واستيلاد جماعات أخرى تابعة لها ومنفذة لسياساتها، ولكن يمكن التنصل من أفعالها حين الضرورة. لنتذكر تنصل الإخوان المسلمين السوريين من العنف الطائفي الذي مارسته الطليعة المقاتلة، إبان أحداث نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وكذلك تشكيلهم، بعد الثورة، لمجموعات إسلامية من أجل ضمان هيمنتهم على المجلس الوطني والائتلاف من بعده. كما اختصر الإسلاميون في بلدان الربيع العربي مفهوم الثورة، إلى مجرد انقلاب قد يُفضي بهم إلى تولي مقاليد السلطات، وفصلوه على مقاس مصالحهم العقيدية، ما جعل خصومهم السياسيين يستنجدون بالعسكر، لا من أجل إحداث تغيير إيجابي في الواقع، بل من أجل إعادة الاستقرار إليه وحسب.
فهل التزمت حركات الإسلام السياسي يومًا بفصل الدين عن الممارسة السياسية؟ وهل عبّرت بوضوح عن أجنداتها وإخلاصها لأوطانها؟ وهل يقدّم لنا الماضي والحاضر أمثلةً عن تجارب حكم إيجابية لأحزاب عقائدية، دينية أو غير دينية؟ إن الإجابات الموضوعية عن مثل هذه الأسئلة هي ما يُزيل الشكوك حول نيّات الحركات الإسلامية في الهيمنة على السلطة، ويسحب الحجة من العسكر، الجاهزين للانقضاض على العملية الديمقراطية، وبدعمٍ شعبي لا يُستهان به؟
وبالعودة إلى التطورات الأخيرة في تونس، نجد أن من المبكر الحُكم على مآل الإجراء الرئاسي التونسي، هل سينتهي بانقلابٍ على الديمقراطية أم لا! فقد برهنت المؤسسة العسكرية على دورها الوطني، منذ الإطاحة بالرئيس بن علي، بما في ذلك حماية الحدود ومكافحة الإرهاب والوقوف على الحياد في الصراعات السياسية المحتدمة منذ عشر سنوات، لكن المؤسسة الأمنية القوية والداعمة لخطوة الرئيس التونسي يمكن أن تستغلّ حالة الارتباك السياسي الحاصلة حاليًا للوصول إلى السلطة، ولو أنّ ذلك ما يزال مستبعدًا، بوجود مثل هذا الوعي الوطني والديمقراطي والدور المهم للمجتمع المدني التونسي.