القُربان اسم قديم مستخدم في اللغات السامية؛ قيل بأن أصله سرياني من “قوربونو/ قوربانا”، وهو ما يُضَحَّى ويُتَقَرَّبُ به إلى إلهٍ ما؛ يُقدّم عادة للقوى التي يعتقد البشر بأنها تتدخل في حياتهم. وأصنافه كثيرة لدى الشعوب، فمنه ما يُقدَّم ذبيحةً، أو حرقًا، ومنه ما يكون بشرًا، كالأطفال الذين كان الفينيقيون يقدمونهم ذبحًا أو حرقًا للإله (بعل)، وكان أهل إسبارطة من قدامى اليونان، يضحّون بالأطفال الضعفاء كقرابين للآلهة للتخلّص منهم. وأما الفراعنة فكانوا يقدمون أجمل فتياتهم قربانًا للنِيل، عندما يفيض حتى يهدأ! وهذا يعني أن القربان نُسكٌ يُقدّم للآلهة منذ القِدم.
القربان والأديان الإبراهيمية؟
قامت الأديان الإبراهيمية بأنسنة البشر؛ ومنحَت الإنسان القدسية التي هدرتها المجتمعات الوثنية من قبلُ، وأهمّ ما سنّته الإبراهيمية أنها حرّرت الإنسان من أن يكون قربانًا حتى لله؛ واستبدلت فداءه بالحيوان القربان، من خلال رمزية فداء إسماعيل بكبش، حينما أراد إبراهيم عليه السلام التضحية به قربانًا لله.
أول خرقٍ للسنّة الإبراهيمية، والعودة للقربان البشري، حدث ما بين سنة 66 و73 ق.م، أثناء مناهضة اليهود للرومان، حيث قامت جماعة يهودية متطرفة تدعى “السيكارى”، تحصنت في قلعة “ماسادا”، باعتماد أساليب غير معهودة في القتال، من حرق المكتبات، وهدم القصور، وتدمير مصادر المياه، وارتكاب المجازر بحق سكان القرى المجاورة، واغتيال العديد من القادة بعمليات انتحارية. ويخبرنا التاريخ أنَّ فرقة “الحشاشين” التي تزعمها (حسن الصبَّاح) واتخذت من قلعة (ألموت) حصنًا لها في القرن الحادي عشر ميلادي، استخدمت الإنسان القربان بعمليات انتحارية ضد الأمراء.
من أين جاءت فكرة الإنسان القربان في عصرنا؟
لم يعرف العصر الحديث ثقافة الإنسان القربان نتيجة تطور العقل إنسانيًا، باستثناء حالات فردية، بدراستها يتبين أنها ناتجة عن اليأس من الاستمرار بالحياة، وتبقى أهمّ ظاهرة في العصر الحديث هي ظاهرة الطيارين اليابانيين (الكاميكاز) الذين نفدت ذخيرتهم فانتحروا بطائراتهم على السفن الأميركية، نهاية الحرب العالمية الثانية.
وبالمفهوم الذي تمارسه بعض تنظيمات الإسلام السياسي اليوم؛ فإن الفكرة ليست عربيّة بل جاءت من إيران، وجاء في تقرير نشره موقع “روسيا اليوم” في (21-7-2017) أن “أول عملية انتحارية وقعت في الشرق الأوسط كانت في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1980، نفذها صبيّ إيراني يبلغ من العمر 13 عامًا، إذ هاجم دبابة عراقية، في مدينة خرمشهر جنوب غرب إيران، بعد أن لفّ قنبلة يدوية على وسطه وتسلل تحت الدبابة؛ وتسببت العملية الانتحارية في إعطابها”.
وهناك الحادثة التي قامت بها اللبنانية (سناء محيدلي) المنتمية إلى الحزب القومي السوري، ابنة الـ 18 ربيعًا، في نيسان/ أبريل 1985، عندما اقتحمت، بسيارة مفخخة، تجمعًا لآليات إسرائيلية على معبر(جزين) مفجرًة نفسها وسط التجمع الذي كان ينظم المرحلة الثانية من الانسحاب من القطاع الشرقي لجنوب لبنان!
الإسلام السياسي والعودة إلى الإنسان القربان!
في العقود الأخيرة، عادت ظاهرة الإنسان القربان مرة جديدة من خلال العمليات الانتحارية؛ حتى أصبحت ظاهرة ممدوحة عند كثير من المسلمين؛ بسبب الظلم الذي لحق بالفلسطينيين، ولكن باستخدام تنظيم القاعدة لها باتت سلوكًا وحشيًا، تَبْرَأُ منه رسالات السماء والعقلاء جميعًا، خصوصًا بعد إحيائهم لثقافة الإنسان القربان من خلال العمليات الانتحارية؛ حتى أصبحت المجتمعات الغربية تخاف البريءَ منّا الذي جاء لاجئًا إليها، وهذا كله بسبب جناية الإسلام السياسي على الإسلام والمسلمين والعالم.
وعلى الرغم من أن العرب لم يكونوا أول من ابتدع فكرة الإنسان القربان، فإن هناك بالفعل مسؤولية تاريخية خطرة تقع على عاتقهم، بسبب التنظيمات الإسلاموية المتطرفة التي أحيَت هذه الثقافة، والعلماء الذين شرعنوا العمليات الانتحارية، إذ حاولوا الربط بين القضايا السياسية أو مفهوم المقاومة، وجواز تلك العمليات بمنطق الضرورة للفلسطينيين.
لكن ذلك لم يكن ليثني كثيرًا من المنظمات الجهادية خارج فلسطين، فقد وجدت نفسها تعيش منطق الضرورة أيضًا، وهكذا أصبحت الأمة الإسلامية أمام مفارقة تاريخية، فتحت باب الإرهاب على العالم كله، من خلال جعل الشخص قربانًا يفجر نفسه لقتل الآخرين. ما يعني أننا بتنا أمام أزمة ثقافية خطرة، لم ندركها إلا بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وما أعقبها من ظاهرة فوبيا الإسلام، ثم ظهور تنظيم (داعش) والعمليات التي نفذها في أماكن عدة.
إن ثقافة الإنسان القربان التي ظل يشجع عليها الإسلام السياسي، على مدار عقود؛ تمثلت بانتكاسة أخرى حينما أقنع الفقهاءُ المتدينين أن الإنسان في خدمة الدين! وهذا ليس صحيحًا؛ ففلسفة الأديان وتشريعاتها ومقاصدها تؤكد أن الدين في خدمة الإنسان والعكس خطأ.
ولكن كيف تأسست هذه الجناية؟
الإسلام السياسي عاد بالمجتمعات الإنسانية القهقرى، ليعيد ثقافة الإنسان القربان، كافرًا بالسُنّة الإبراهيمية، عندما أفتى بأن لا مانع من أن يُقدّم الإنسان نفسه قربانًا، من خلال التفجير والتقتيل والعمليات الانتحارية، انتقامًا من خصومه! ولتعود السلطة المسلوبة منه بعد سقوط الخلافة!
بدأت المأساة الفعلية لثقافة الإنسان القربان؛ عندما أرادوا نسبَ العمليات الانتحارية إلى الإسلام ذاته، في محاولة منهم إلى إيجاد أصل شرعي لهذه العمليات لأجل تسويغها، ظنًا منهم أنها السلاح الأمثل الذي سيحقق النصر لهم.
موقف الذين أباحوا هذه الثقافة نجده قد بُني على افتراضٍ، مفاده أن هذه العمليات ستغير مجريات (السياسة) لا الواقع، وتعيد الأمجاد الغابرة، وجعلوا منها أعظم الجهاد في سبيل الله، وبجنايتهم هذه، وضعوا الإسلام في مواجهة مع الغرب، وبرروا للقوى المستكبرة حملاتِها الحربية ضد مجتمعات مسلمة بذريعة الإرهاب؛ فمسألة العمليات الانتحارية، وإطلاق تسمية (العمليات الاستشهادية) عليها، كان العلامة الفارقة في الردة عن السنة الإبراهيمية، والعودة إلى وثنية الإنسان القربان.
ولقد اعتمدوا في فتواهم تلك على واقعتين تاريخيتين: الأولى للصحابي البراء بن مالك؛ أثناء استعصاء الحِصن عليهم في معركة اليمامة؛ والثانية حادثة الغلام المسيحي والملك، المذكورة في تفسير سورة البروج! بالرغم من أنّ الحادثتين -حتى لو صحّتا- تبقيان فرديتين، لكونهما شاذتين عن الخط العام، ويُطلق على هذه الحال في أصول الفقه (واقعة حال) أي لا يجوز اعتبارها سُنّةً، حتى تبقى حياة الإنسان مقدسة ومصانة.
كانت تلك جناية الإسلام السياسي، وأكبر خطر يواجه البشرية اليوم؛ إذ إنه بثقافة الإنسان القربان المتمثلة بالعمليات الانتحارية أرعب المجتمعات البشرية، وحدَّ من حريتها في التطور والرفاهية؛ فالخوف من الانتحاريين أوجب على العالم القيام بإجراءات أمنية قلصت مساحة الحرية في التنقل والرفاهية.
إن ثقافة الإنسان القربان التي ظل يشجع عليها الإسلام السياسي، على مدار عقود؛ تمثلت بانتكاسة أخرى حينما أقنع الفقهاءُ المتدينين أن الإنسان في خدمة الدين! وهذا ليس صحيحًا؛ ففلسفة الأديان وتشريعاتها ومقاصدها تؤكد أن الدين في خدمة الإنسان والعكس خطأ.
وبناءً على تلك الثقافتين الخاطئتين (الإنسان القربان والإنسان في خدمة الدين) كانت ردَّةُ الإسلام السياسي عن السُنة الإبراهيمية! وجنايته، إذ قدَّم المئات من أبنائنا قرابين وضحايا، لكي تعود الحاكمية الإلهية التي ابتدعها أبو الأعلى المودودي، وسوّقها سيد قطب؛ وعملت السلفية الجهادية على ترويجها في الموجة الثانية للأصولية التي قادتها في العقود الأخيرة. دون أي اهتمام بنتائجها من القرابين البشرية والدمار والإرهاب؛ لفرض وجهة نظرهم السياسية للإسلام؛ فوقعت عشرات العمليات الانتحارية التي أرعبت العالم، من خلال العودة إلى الإنسان القربان. ودخل الشرق البائس رغم أنفه في معارك فاشلة وخاسرة، فقَدنا خلالها ثقة العالم، وكان الخاسر الأكبر سمعة الإسلام، وانتهاك قدسية الإنسان الممنوحة له سماويًا.
من تاريخ الإنسان القربان في الإسلام السياسي
من هذه الرؤية، انطلقت السلفية الجهادية متمثلةً في البداية بتنظيم القاعدة حتى (داعش)، لترسيخ ثقافة الإنسان القربان واقعًا، من خلال عمليات في أرض الآخر عن طريق قربان إسلاموي، ينفذ هذه المهمة مضحيًا بنفسه، لكي يؤلم العدو بخسائر كبيرة! وقد بدأت تلك الثقافة بتفجيرات مرعبة طالت دول الخليج العربي، أشهرها تفجير الخُبر بالسعودية في 25 تموز/ يوليو 1996، حيث استُهدف مجمع سكني يأوي جنودًا أجانب، بالقرب من شركة (أرامكو) في الظهران، بشاحنة مفخخة يقودها قربان إسلاموي. ثم وقع تفجيرا السفارتين الأميركيتين، في دار السلام (تانزانيا) ونيروبي (كينيا) في وقت واحد، 7 آب/ أغسطس 1998، بالتزامن مع الذكرى السنوية الثامنة لقدوم القوات الأميركية إلى الخليج. ثم جاء تفجير مجمع المحيّا 2003 الذي تقطن فيه مجموعات غربية وعربية غرب العاصمة الرياض، بسيارة مفخخة، وكانت حصيلته (18 قتيلًا و122جريحًا) وباتت ثقافة الإنسان القربان عملًا مباركًا شعبويًا؛ فأخذت عمليات التفجير طابعًا وحشيًا لم تألفه المجتمعات من قبلُ، وبلغت المواجهة مداها عندما ارتكبت الحادثة الأشهر المتمثلة بأحداث أيلول/ سبتمبر 2001، ومن ثم تفجيرات مدريد 2004، ولندن عام 2005.
ثم جاء دور (داعش) لتتابع ثقافة الإنسان القربان في أوروبا، بعد أن نكّلت بالسوريين ذبحًا وتشريدًا، فقامت بنقل معركتها إلى قلب أوروبا، حتى تكسب متعاطفين معها كارهين للغرب من ذوي الهوى السلفي الجهادي، فوقعت هجمات باريس في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، عندما اقتحموا خلالها مسرح (باتاكلان) حيث فجّر ثلاثة من المهاجمين أنفسهم، بعد معركة كانت الأكثر دموية في فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية.
ثم واصلت جهادها المزعوم في بلجيكا، من خلال سلسلة تفجيرات في 22 آذار/ مارس 2016، حيث وقع في مطار بروكسل الدولي تفجيران، وتفجير ثالث في محطة مترو(مالبيك) ببروكسل، والغريب أنّ التفجيرات وقعت بعد يوم من إلقاء القبض على صلاح عبد السلام المشتبه به الرئيس في هجمات باريس التي تبنتها (داعش).
الخلاصة
من خلال كل ما تقدم؛ نلاحظ أن كل ما وقع سابقًا -بكل حيثياته- ينمُّ عن عدم وعي ديني وسياسي، فلو أردنا أن نقوِّم ذلك فسنجده استباحة لحق الحياة الذي منحه الخالق سبحانه وتعالى للبشر كلهم، وانفراد بالقرار الإسلامي من خلال فئة تذرعت بمنطق الضرورة دون أن تعبأ بأرواح الأبرياء الذين سيذهبون ضحية هذه الفهم اللاإنساني، ولا يقيمون وزنًا لمآل فعلهم هذا، من إساءة للإسلام والمسلمين في كل مكان، فضلًا عن الخراب والدمار الذي أصاب البلدان الإسلامية نتيجة هذه الثقافة المرعبة؛ فكانوا السبب الرئيس بدعم ظاهرة الإسلام فوبيا، ومنحوا الأنظمة الاستبدادية ذريعة التخلص من المعارضة، لتتراجع الحقوق والحريات في مجتمعاتنا أكثر.
وبما أن القاعدة الفقهية تقول: الأمور بمقاصدها، والضرر يزال؛ فإن شرعنة ثقافة الإنسان القربان مرفوضة أخلاقيًا وإنسانيًا، ودينيًا أيضًا، لأنها ردة على الإبراهيمية، وهي نوع من أنواع استباحة الجنس البشري بهمجية، بذرائع دينية ذات بعد سلطوي. وهي جناية يتحمّل إثمها الإسلام السياسي بشكل أو آخر.
لا يستوي السراج والظلام
رؤوية ودراسة موضوعيه موفقه ورائعه
شكرا استاذ احمد الرمح
وليبق قلمك سراجا في هذه الغياهب والغابات النتنه
القرابين البشرية على مدار التاريخ لم تتوقف ولو للحظة واحدة ، وانما اتخذت أشكالا وأبعادا متعددة ، وكانت تخدم أهدافا محددة ،ومنها ما نشهده اليوم حيث تجاوزت البعد العقدي المجرد لتأخذ بعداً سياسياً ممتزجاً بالدين ، ولن تختفي هذه الظاهرة لأنها مرتبطة بالأيديولوجيا وجودا وعدما
مقال مهم ورائع استاذ أحمد
بوركت جهودك ومساهماتك